|
( عرب الأهوار ، الضيف والشاهد ( 2
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1740 - 2006 / 11 / 20 - 09:42
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
والحق أن ثيسجر قابل أبي الذي أدى مناسك الحج في مكة عام 1949م، وجدي الذي أداها أواخر الثلاثينيات ، ومع هذا لم يذكر اسميهما في كتابه ، إنما ذكر أسماء ثلاثة حجاج غيرهما فقط. وهو بعد ذلك لم يتلمس سبب كثرة الحجيج الى خراسان في إيران حيث مرقد الأمام الرضا (ع) ، وسبب قلتهم حيث مكة ، مع أن السبب واضح وجلي وهو وعورة الطريق الى مكة ، وقلة ما في يد عرب الأهوار من مال. فعن وعورة الطريق هذه انقل هنا ما سمعته عن أبي الذي استأجر هو ونفر من الحجاج سيارة ذات جسد خشبي ، وضعوا على ظهرها أكثر من لوح حديدي ، فحين تغوص عجلاتها في رمال الصحراء يترجلون منها ، ويقومون بمد تلك الألواح تحت عجلاتها ، وبهذه الطريقة الشاقة ، وبحر الصحراء اللاهب ، وبوحشة الطريق ، وعدم الدراية الكافية به ، يصلون الى البيت العتيق.
أما الطريق الى إيران فكانت معمورة ، وإجرة الترحال رخيصة ، فعن شط العرب ، أو عن هور الحويزة تعبر اليها بدراهم معدودة ، حيث المدن الإيرانية الحدودية ، مثل عبدان وغيرها ، ومن هناك الى مشهد "خراسان" بالقطار أو بالسيارة.
لقد زار جدي مرقد الأمام الرضا في مشهد غير ما مرة في الخمسينيات ، وهو الذي أدى مناسك الحج في مكة أواخر الثلاثينيات ، بينما لم يقم أبي بزيارة الى مرقد الأمام الرضا طوال حياته ، لكنه أدى مناسك الحج في مكة كما ذكرت. ولو قدر لثيسجر أن يزور الأهوار ثانية لوجد أن لقب "حاج" أكثر شيوعا فيها الآن من لقب " زائر" الذي يلحق الرجل من عرب الاهوار حين يقوم بزيارة مرقد الأمام الرضا في خراسان من إيران.
بعد المباراة المشار إليها ، وبعد تناول العشاء ، وعلى رنين " الهاون " * تجمع أفراد من عشيرتنا ، ومن العشائر المجاورة احتفاءً بالضيف القادم من شمال الأرض ، وفي وسط الجانب الأيسر من المضيف ، وقريبا من الموقد الذي يتوسطه ، جلس ولفريد ثيسجر، وهو ذات المكان الذي حرص أبي على أن يجلس فيه محسن بدر الرميض ، شيخ بني مالك فيما بعد ، وذلك حين جاءنا وحشد من أفراد قبيلته ، وعلى ظهور الخيل ، معزيا بوفاة جدي ، ويبدو أن هذا المكان يليق بمن له مكانة خاصة عند عرب الأهوار.
دخل ثيسجر في حديث مع الحضور، وكان الحديث يدور على شاكلة سؤال وجواب. الحضور يسأل ، والضيف يجيب ، ومن بين الأسئلة التي علقت في الذاكرة سؤال عبد الرزاق خوّاف ، وهو من عمومتي يقول :
هل تؤمنون بجنة ونار ؟ فأجابه ثيسجر بالإيجاب ، وهز رأسه مرتين.
صباحا ، وفي الساحة الممتدة أمام المضيف التي يطلق عليها اسم " المشول " ** جلست أنا على احد جذوع النخيل الذي يشكل هو وجذعان آخران ثلاثة من أضلعها ، أما الضلع الرابع الشمالي فكان يشكله المضيف نفسه.
كانت الساحة تلك مفروشة بحصران القصب " البواري "، فهي مكان جلوس الضيوف يفترشونها مسندين ظهورهم برغبة على جذوع النخيل تلك ، وذلك حين ينزل ليل الصيف بحره الشديد ، وحين يحلو السمر، ويطيب الحديث تحت سماء غامقة الزرقة مقمرة . من الساحة تلك سمعت جدي يناديني من داخل المضيف ، توجهت إليه ، وجدته واقفا في صدره ، ومعه ثيسجر ، وقد وقف أمامهما " ياون " *** وضعا عليه وسادة. طلب جدي مني أن أجلس على ذلك الياون الذي عوّض عن الكرسي في حقيقة الأمر، وقال: إنّ الرجل الانجليزي سيطهرك " سيختنك "، وإياك أن تُسقط دمعة من عينك ، وما هي إلا دقائق معدودة ، وقد انتهى كلّ شيء.
لقد كنت أنا أول من قام ثيسجر بختنه ذلك الصباح من أطفال عشيرتنا ، وأطفال العشائر المجاورة لنا الذين تقاطروا على مضيفنا من أجل ختانهم . ودونما مقابل كان ثيسجر يؤدي عمله هذا بصدق وإخلاص شديدين ، وإني ما زلت اذكر ذلك الرجل الذي حمل ابنه مساءً ، عائدا به الى مضيفنا ، حيث لم ينقطع نزف الدم عنه بعد ختانه ، فما كان من ثيسجر إلا أن بادر الى شدّ جرحه من جديد ، وأن يخرج نصف دينار من جيبه ، ويقدمه هدية لذلك الطفل ، حينها علق جدي مازحا ، وموجهاً كلامه للطفل : " قل لأمك أن تبعث ديكا للرجل الانجليزي". ويبدو لي أنها كانت عادة عند ثيسجر، حين يصاب طفل بحالة كهذه الحالة ، فهو لا يريد أن يلحق آذى بأحد ، كان يريد أن يظل قريبا الى قلوب أبناء الاهوار رغم الإشاعات التي كان يطلقها موظفو الدولة - كما يقول هو - في المدن التي تقع على مقربة من الأهوار، والتي سرعان ما تأخذ طريقها لسكانها .****
قالوا: إنّ ثيسجر يقوم بمهمة تجسسية لصالح بلده انجلترا ، وكان جواب الناس في الأهوار، علامَ يتجسس ثيسجر ؟ فمفاتيح الدولة بيد الانجليز ، والحكومة ، بما فيها الملك فيصل الثاني ، والوصي عبد الإله ، ورئيس الوزراء نور السعيد ، ما هي إلا أداة بأيديهم ، وهي بذلك تدار من قبل السفارة البريطانية الجاثمة على ضفاف نهر دجلة من بغداد، والى هذه الحقيقة أشار جيفين يونغ إذ يقول:(...وفترة حكم الملك فيصل الثاني الذي نصب على العرش تحت وصاية خاله الأمير عبد الإله، ورئيس وزرائه الداهية نوري السعيد الذي كان يتلقى الأوامر من السفراء البريطانيين الذين كانوا يديرون شؤون البلاد من مقر السفارة البريطانية في بغداد الذي يقع على ضفاف نهر دجلة . ) ***** وهذه الحقيقة يدركها الشعب العراقي ، ويدركها عرب الأهوار الذين كانوا بمقدمة هذا الشعب الذي تعرض لظلمين متلاحقين، ظلم العثمانيين، ومن ثمة ومباشرة ظلم الانجليز، وإني ما زلت أختزن في ذاكرتي صورا رسمتها أمي فيها منذ الصغر، حين حدثتني عن ظلم الباشوات ، ومن ثمّ عن ظلم الجنرالات المتمدنين كما يدعون.
أقول ، علامَ يتجسس ثيسجر إذاً ؟ ما دامت الحكومة العراقية على الأطناب في ألقاب أعمدتها يمتثلون لإرادة الإدارة البريطانية ، ولا يعصونها أمرا ، في حين ظل عرب الأهوار يحتفظون بتلك الصور المروعة للجرائم التي اقترفها مجرمو الحرب من الانجليز بحقهم ، ولا زالت تلك الصور المعتمة تغور في أذهاننا نحن الجيل الثاني ، ومن خلال الأحاديث التي تغذينا منها ، حين كان أهلنا يتلونها علينا في أكثر من مناسبة ، فمن أجل كسر مقاومة عرب الأهوار - قالت لي أمي - قصفت الطائرات الانجليزية أكواخنا على ساكنيها ، ولم تبقَ قرية إلا وقد التهمتها النيران ، وما كان منا ، رجالا ونساءً ، إلا أن نلقي أنفسنا بأحضان مياه الهور، ومن هناك ظل الرجال يقاومون في معركة غير متكافئة ، وبعد أن كسر الانجليز تلك المقاومة أقاموا على صدر قريتنا حصنا ، كنا نطلق عليه : " حجرة الانجليز " ******وبعد أن استتب لهم الأمر موقتا ، انسحبوا من هذا الحصن ، بعدها قام أفراد من العشيرة بتهديمه ، ولم يبقَ منه غير أسه الذي شاهدته بعيني ، وصوره ثيسجر من دون قصد في كتابه عرب الاهوار، الصورة رقم " 85 " ، وكان هو يريد تصوير هول العاصفة التي هبت على شواطئ عشيرة " العمايرة " وقتها ، وسيأتي الحديث عن هذه الصورة لاحقا.
لقد ظلت قلوب عرب الأهوار ، وما زالت تفيض بالكره والبغض للانجليز وعملائهم ، وهذه الحقيقة يعرفها مخططو السياسة الانجليزية ، ولذا عرضوا المنطقة وجنوب العراق عموما لإهمال متعمد خلال فترة الانتداب البريطاني على العراق ، ومن ثمّ خلال فترة الحكم الملكي ، فالحكم الجمهوري ، ما عدا الفترة التي حكم فيها عبد الكريم قاسم ، حيث تهادت السيارة للمرة الأولى على طريق ترابية ، تشق الهور، وتمرّ بين قرى كانت راقدة هنا منذ دهور خلت دون أن تصحو على أزيز محرك ، ودون أن تسمع صوت منبه ، لقد كان هذا حلما جميلا فيما مضى ، بعد ذلك تألقت المصابيح الكهربائية ، وتدفقت مياه الشرب النقية ، وانتشرت المدارس ، والمراكز الصحية.
لقد ظلت ألسن النار المنطلقة من آبار النفط تتصاعد لسنوات طويلة على أطراف الهور، وأمام أنظار عرب الأهوار دون أن يمسهم خير منها ، ومع ذلك فقد كانوا موطن تهمة ، حيث اتهمهم الحكام الذين باعوا أنفسهم للأجنبي من أنهم ينامون على وسائد من الدنانير. = = = = = = = = = = * الهاون : أداة تطحن فيها حبات البن بعد قليها بمقلاة . ** المشول: فصيحها هو المشور . *** الياون أو الجاون : أداة يهرس فيها بعض من أنواع الغلال هرسا خفيفا لإزاحة قشرتها.
**** راجع عرب الأهوار ص 217 . ***** العودة الى الأهوار ص 76 . ****** وبالعامية : حيرة الإنجليز .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد*
-
أطلال الديمقراطية في العراق !
-
اقرؤوا هذه المقالة ثانية !
-
الشاعر الشيوعي يوسف أتيلا : 4
-
الفيدرالية تصعد من وتائر الموت في العراق !
-
وأخيرا بصق بوش عليهم !
-
الفيدرالية شرذمت الكتل قبل أن تشرذم الوطن !
-
الشاعر الشيوعي يوسف أتيلا:3
-
العشائر العراقية ترفض الفدرالية الإيرانية !
-
*في الطريق الى الشماعية
-
المشهداني : سلاحنا القنادر
-
دولة أبو درع
-
( 2 ) József Attila : الشاعر الشيوعي ، يوسف أتيلا
-
المظلوم الذي صار ظالما !
-
هكذا تحدثت كيهان !
-
الشاعر الشيوعي ، يوسف أتيلأ ( Attila József ) - 1 -
-
هدية إيران للمالكي !
-
تبلور الصراع الطبقي في العراق !
-
للنشر والتوزيع ( Visionmedia ) فيشون ميديا
-
إيران تدق عطر منشم بين شيعة العراق *
المزيد.....
-
مشتبه به بقتل فتاة يجتاز اختبار الكذب بقضية باردة.. والحمض ا
...
-
في ظل استمرار الحرب والحصار، الشتاء يضاعف معاناة نازحي غزة و
...
-
قصف إسرائيلي عنيف يزلزل الضاحية الجنوبية لبيروت
-
صدمة في رومانيا.. مؤيد لروسيا ومنتقد للناتو يتصدر الانتخابات
...
-
البيت الابيض: لا تطور يمكن الحديث عنه في اتصالات وقف النار ب
...
-
نائب رئيس البرلمان اللبناني: لا توجد عقبات جدية تحول دون بدء
...
-
استخدمت -القرود- للتعبير عن السود.. حملة توعوية تثير جدلا في
...
-
-بيروت تقابلها تل أبيب-.. مغردون يتفاعلون مع معادلة حزب الله
...
-
مشاهد للجيش الإسرائيلي تظهر ضراوة القتال مع المقاومة بجباليا
...
-
ماذا وراء المعارك الضارية في الخيام بين حزب الله وإسرائيل؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|