|
الاستشراق كضرورة معرفية للتنوير
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 7806 - 2023 / 11 / 25 - 00:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في كتاب النبي الخاتم للشيخ "أبي الحسن الندوي" أحد أقطاب الإخوان المسلمين وزعماء الإسلام السياسي أثنى على دور بعض المستشرقين الذين اعترفوا بصحة وسلامة النص القرآني من التحريف، وقد ذكر بعضهم بالإسم منهم "سير وليم موير" sir William muir و "بالمر" palmer و "لين بول" lane poole و "وهيري" wherry و ا . منجانا A. mangana...وغيرهم، ثم يبني على ذلك نتيجة أنه ما دام المصحف الشريف سليما لم يناله التحريف فهو أصدق في المضمون من الكتاب المقدس الذي مسه التحريف وفق معتقد المسلمين..
سلوك من الندوي يطرح عدة أسئلة: لماذا إذن يحرص شيوخ الجماعات الإسلامية والأصوليين على وصف المستشرقين بالكفار أو المتآمرين على الدين؟..لماذا يصفوهم بأبشع الصفات الذميمة التي وجدت بالقاموس العربي؟..أليس اعتراف الندوي يتضمن قناعة بشرية عند الأصوليين بأن الاستشراق ظاهرة علمية إنسانية بها الصواب والخطأ؟..ألا يتضمن اعتراف الندوي بأن هجومهم الدائم على المستشرقين هو مجرد تحامل على الرأي الآخر أو المنتقد بشكل عام؟..ألا تعني ثورة الجماعات على الاستشراق رفضا في مضمونها للرأي الآخر بالعموم؟..ألا يحوي هذا السرد الذي ضمنه الندوي في صفحتين من الكتاب هما 30، 31 بأن الاستشراق ليس مؤامرة ولكنها محاولة للتعرف على الإسلام من قبل الغرب ليس إلا؟
إن ما فعله الندوي يتكرر في كتب القرضاوي ومحمد الغزالي حيث إذا جرى السياق في الدعوة للإسلام يستشهدون بآراء بعض المستشرقين المنصفين، وإذا جرى السياق للدفاع عن الإسلام يهاجمون الاستشراق عامة ويحملون على كل المستشرقين صفات الكفر والمؤامرة والشيطنة، وهو سلوك يتضمن رفض الجماعات للتعددية الثقافية إلا إذا كانت تعترف بحقهم في السيطرة والهيمنة على العالم بالقوة العسكرية، وتعترف أيضا بوجوب إخضاع وخنوع كل الشعوب والأديان والدول لحكم الإخوان المسلمين والتيار السلفي بالعموم.
ففي الوقت الذي تصرخ فيه الجماعات من عنصرية الغرب وفكرة تفوق الإنسان الأبيض على سائر الأعراق، هي تتبنى معتقدا مشابها وهو فكرة تفوق المسلم السني وبالخصوص من يوافق رأيهم على سائر الأعراق والأديان، فقد جعلوا الإسلام عِرقا عن طريق قولهم بوجوب الخلافة الإسلامية كفرض كفاية، وهي التي تشترط ان يكون الخليفة عربيا من قبيلة قريش، وهي نفس الفكرة التي آمن بها التيار الصهيوني العالمي بأن دولة أرض الميعاد يجب أن يحكمها أميرا من بني إسرائيل، إنها السياسة التي إذا دخلت معتقدا ما أعطته طابعا عسكريا خطيرا ينشر الإرهاب والقتل، وتُخرج الدين من سماحته ورحابته وصفاءه النفسي مع الرب إلى صراعات وجرائم وطوابير طويلة جدا من القتلى والمشردين والمهددين.
فات هؤلاء أن الاستشراق مثلما درس الشرق الأوسط والعرب والمسلمين درس أيضا الصين واليابان والهند كالألماني "ماكس مولر" الذي حل رموز اللغة السنسكريتية القديمة، ولم نعرف في تلك الثقافات أنهم يندفعون لعداء المستشرقين بالشكل الذي نشهده في منطقتنا العربية، وهي ظاهرة تقول بأن هناك عقدة نقص راسخة في الوعي العربي والإسلامي تقول بتفوق الأمم الغربية وأن ما يحركها طابع المؤامرة فقط على المسلمين، لذا فقد امتزجت عبارات المستشرقين دائما في المخيلة العربية والإسلامية مع عبارات الاستعمار والمؤامرة، وهذا هو المستفاد مثلا من كتابات "محمد الغزالي ومحمد عمارة ومالك بن نبي وعبدالوهاب المسيري" حيث خلطوا بين ظاهرتي "الاستشراق والاستعمار" كون ظهورهما على مسرح التاريخ حدث في وقت واحد وبشكل متزامن، فالطبيعي أن يكون هناك ربطا بين الظاهرتين بشكل منطقي.
وبرأيي أن التعبير الأوضح في رفض هؤلاء للاستشراق وتحميله كل مظالم ومآسي المسلمين مثلما يجري تحميل الاستعمار هذه المآسي وفشل المسئولين، يتضمن دفاعا غير مرئي عن ثوابت مذهبية ودينية من صنع البشر هاجمها المستشرقون، فالنقد من خارج الصندوق الذي رافق عمليات الاستشراق لم يمس فقط أصول وثوابت المذهب الضيقة ولكنها مست وتحدثت في صميم الدين نفسه وثوابته الكلية، في ظاهرة علمية يمكن القول أنها كانت استدعاء لمرحلة العصر العباسي التي نشط فيها المترجمون والفلاسفة وزاد الوعي الفكري الديني للنظر إلى المعتقدات برؤية عقلية فلسفية لا نصية روائية، وهي المرحلة التي شهدت ظهور كثير من الملحدين واللادينيين في هذا العصر فيُصبح ظهور الاستشراق سببا في تكرار ظاهرتي الإلحاد واللادينية في مجتمع المسلمين..
وأصل هذا التخوّف عند الجماعات أنهم ينطلقون من فكرة "حراسة الدين" التي ظنوا من خلالها أنهم رؤساء وزعماء للعالم، ومسئولين ومراقبين للضمائر، فيصبح أي رأي مختلف هو مقدمة لانتهاك هذا الضمير وتلك المسئولية التي ولّوها لأنفسهم وزعموا أنها جاءت لهم من الله دونا عن بقية البشر، الذين هم بالطبع في حكم الخاضعين والأتباع، وبما أن الاستشراق كان يركز على هذه الجزئية ويقول بحرية الضمير والفكر فمن الطبيعي أن يمس ذلك جُرحا هائلا في فكر الجماعات رأوا من خلاله أي رأي يتعلق بالمستشرقين خطرا في حد ذاته.
فات هؤلاء أن ظاهرة الاستشراق في القرن 19 جاءت مرافقة للتطور العلمي والصناعي، وهي الحداثة التي خلقت أسئلة في نفس الإنسان عن ماهية الأشياء والوجود والميتافيزيقا..إلخ، كان أكبر تحدي واجهه شيوخ المسلمين هو تطور عقل الإنسان بالاكتشافات العلمية ، وهذا بسبب أن الاكتشاف يثير أسئلة أكثر مما يهتم بالأجوبة، فتناولوا الحداثة بالشق الثاني..أي اعتبروا الحداثة قدمت أجوبة عن المؤامرة والاستعمار والإعجاز العلمي.. ولم ينتبهوا لطبيعة الاكتشاف نفسه أنه إبداع وسبق علمي ضمن محيط جاهل.. وبالتالي يفرض السؤال فورا عن علاقته بالكون والأشياء وطبعا الدين..
الأسئلة التي جاءت بها الحداثة هي التي صنعت موجات الاستشراق والتنوير الحالية، والعقل عندما ينشغل بالسؤال يتطور ويصل لحقائق جديدة كل يوم مما أحدث فارقا مهولا بين عقل الحداثي والتنويري وبين عقل الكاهن والشيخ..فرق بطول مجرة درب التبانة يدركه الأكثر تطورا، أما الشيخ فيراه بعقليته البدائية التي ربما لم تبلغ بعد تطور الإنسان قبل اكتشاف النار، وهذا هو السبب في ظهور بعض مشايخنا - أعزهم الله- ككائنات فضائية تأتي من كواكب متخلفة عن الأرض بآلاف السنين ما زالوا يعيشون بها في عصر السيوف والحمير والعلاج بمخلفات الحيوان.
الكاتب "جيمس هنري برستيد" كتب موسوعته (فجر الضمير) التي افترض فيها إن عمر التوحش الإنساني ملايين السنين لكن عمر ضميره بدأ مع عقله وكتابته للتاريخ، وهذه الفترة لا تزيد عن ٧ آلاف سنة.. وبالتالي نحن نعيش فعليا فترة فجر ضمير الإنسانية التي سوف تتطور حتما لضمير أكبر وأكثر نزاهة وأخلاقا..فربما بعد ١٠٠٠ سنة من الآن تكون البشرية أصبحت كائنات نباتية وتركت ذبح وأكل الحيوان، والسبب أن ضميرهم حينها سوف يمنعهم من التساوي مع كل صفات التوحش السابقة، وهي مرحلة تشبه ما نعيشه حاليا من رفض للعبودية ومخرجاتها ونظائرها التي كانت سائدة في القرون الوسطى ويراها أهل تلك العصور أمرا أخلاقيا،أو في حدها الأدنى لا تتصادم مع روح الدين والأخلاق والمنطق..
إن ظاهرة الاستشراق هي ظاهرة علمية كانت مرافقة للحداثة والتطور العلمي والصناعي في القرن 19، وظهرت أولا في المجتمع الألماني بحكم تحمسه في معرفة كل شعوب الشرق، فذهبوا للشرق الأوسط والأدنى والأقصى، ومثلما تحامل البعض منهم على الإسلام مثلما يرى الأصوليون أنصف الكثير منهم الإسلام، فخلاف من ذكرهم الندوي في كتابه "النبي الخاتم" يوجد من أنصف الحضارة الإسلامية كالدانماركية "زيجريد هونكة" في كتبها "شمس الله تشرق على الغرب" و "جمال على منعطف القيصر" و "الله مختلف تماما" فمن الواضح أن توجهات هذه الكاتبة كانت شغوفة للتواصل مع الشرق، وهذا هو الباعث الأصلي للاستشراق أنه كان (شغوفا لمعرفة الثقافات الشرقية) وعلى غرار هونكة أيضا ظهر من أنصفوا الحضارة الإسلامية، كالفرنسيين "جوستاف لوبون، وجون لابوم، وأندريه ميكيل"..وغيرهم، إضافة لمونتجمري وات وول ديورانت وجوزيف فان داس..وغيرهم
فالذي ميّز المستشرقون أنهم انطلقون من معرفة الإسلام والثقافة العربية من خارج الصندوق، وبالتالي لم يمرضوا بأمراض هذه الشعوب من التقليد والتبعية والجمود فكانت كتاباتهم أكثر حيوية وبريقا وعمقا، وهذا الجانب هو أحد أعمدة الاستشراق بشكل عام، فالحركة الاستشراقية العالمية قامت على أمرين اثنين، الأول: الحرية التي عاشوا من خلالها في رحاب الدولة العلمانية الديمقراطية وهذا أهلهم للحديث بشكل أكثر تحررا دون قيود ومخاوف، والثاني: الدقة والعمق التي من خلالها مارسوا الفلسفة والشك بعصر الأنوار، وهذا الذي يغلب على الاستشراق (الحرية والعمق) وتلك الأحوال كانت غائبة عن مجتمع المسلمين في القرنين 19، 20 وبالتالي نظروا لسلوك هؤلاء المستشرقين نظرة توجس وريبة لم يراعوا فيها ظروف ونشأة وتكوين تلك الظاهرة العلمية التي يمكن وصفها بأنها ظاهرة إنسانية تخطى فيها البشر حواجز الدين والجغرافيا والسياسة لتصبح المعرفة والحقيقة هي الهدف الأول.
كذلك فالاستشراق لم يكن محصورا فقط في النقد أو الطعن في الفكر الديني أو الإيمان بشكل عام، هذه ظاهرة معرفية منها ما كان محصورا في محاولات التعرف على عادات وثقافات الشرق أوسطيين، مثلما كتب المستشرق الإنجليزي "إدوارد لين" كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم مصر ما بين 1833- 1835" وقد كان رحالة في مصر خلال القرن 19 فكتب مشاهداته خلال 3 أعوام في نهايات عصر محمد علي باشا..وكان ممن شهد بوجوده ظاهرة (العبيد البيض) في مصر، وهذا كان معروفا وقتها بأن العبودية لم تكن محصورة في السود بل تجار الرقيق كانوا يذهبون للقوقاز وآسيا الوسطى والبلقان واليونان لاسترقاق وشراء عبيد بيض من سكان تلك المناطق..
بقراءة ما كتبه "إدوارد لين" تلحظ أن العبودية البيضاء اختفت من مصر والشرق الأوسط لصالح عبودية السود بعد هذه الفترة بقليل، أي بعد الحروب الروسية ضد كلاَ من (الفرس والعثمانيين) ودائما كان الروس ينتصرون في تلك المعارك فيكسبون الأرض علاوة على ثورات أهل البلقان واليونان ضد المحتل العثماني..علما بأن روسيا خاضت 6 حروب ضد الفرس والعثمانيين خلال القرنين 18 و 19 م انتصرت فيها كلها، وكسبت أراضي من الدولتين وشعوب كثيرة انضمت لسلطة القيصر..أي التاريخ يشهد بأن الدولتان العثمانية والفارسية كانوا مصدر استرقاق دائم للشعوب البيضاء والسوداء معا، وعندما نجحت روسيا في معاركها ضد الدولتين حرمت شعوب هذه الدول من العبيد البيض في (أرمينيا وأذربيجان والشركس والتركمان وبلغاريا والقرم..ومناطق أخرى)
هذه ميزة كُتّاب الاستشراق أنهم رصدوا مجتمع المسلمين في وقت وعصر لم يكن يتسنى لشيوخ المسلمين أن يتحدثوا في مواضيع حساسة وذات شأن سياسي أو اجتماعي محظور أو غير معروف أو لا يدركه المسلمون آنذاك، فلم يسبق مثلا للمجتمع المصري أن يرصد ثقافة وحركة المصريين مثلما فعله علماء الحملة الفرنسية في موسوعة "وصف مصر" وهي موسوعة شاملة كتبها مستشرقون فرنسيون كانوا متواجدين مع الجيش الفرنسي بهدف التعرف على مصر وشعبها وتاريخها، وكان أبرز مما وجدوه وكان محوريا لدرجة تفسير تاريخ المصريين القدماء به هو اكتشافهم "لحجر رشيد" وفك رموزه اللغوية الذي عن طريق ذلك عرف العالم تاريخ مصر القديم على وجه الدقة، بعدما ظل أكثر من 2000 عام مجهول.
أذكر قاله المستشرق "إدوارد لين" أيضا أن العبيد البيض كانوا يعيشون في منازل الأثرياء لأن ثمنهم المرتفع لا يقدر عليه ذوي الطبقتين الدنيا والمتوسطة..خصوصا النساء، أما العبيد السوء كان ثمنهم منخفض رجالا ونساء، والمسلم وقتها لم يكن يفضل أن يشتري جارية سوداء ليضاجعها بل عبد أسود ليخدمه..عدا بعض الحبشيات ذوي الجمال والدلال المفضل عند المصريين..ولأن لونهم مقارب للشعب النوبي في جنوب مصر خصوصا شعب الأورومو المسلم..ومجرد عرض تلك المعلومات يعطي لنا صورة عن معتقدات المصريين في هذا العصر وهي بالتأكيد صورة مهمة نستطيع من خلالها أن نكتشف طرق تطور العقل المصري وتأثير هذه الصورة على الثقافة المصرية الحديثة.
وقد قرأت مقالا قديما لبرنارد لويس يقول فيه أن مزارع العبيد كانت منتشرة في السودان، حيث يقوم تجار العبيد ببناء مزرعة كمزارع الحيوانات وبمساعدة أعيان السودان ينجحون في أسر واسترقاق آلاف السود – خصوصا من دارفور – ليضعوهم في المزرعة ويجري تسمينهم وبيعهم كعبيد في مصر والشام والعراق..وفي تقديري أن شهادة لويس كانت في وقت انحسار العبودية البيضاء في مصر والشام لغزوات الروس التي حرمتهم من مصادر هذا النوع من الرقيق، فكان يجب تعويض الفارق من السود بكثرة وبنفس المعدل لضمان ثبات الأسعار..وبالعموم الكتاب غني جدا..لكني ركزت على ملمح واحد وهو (العبودية) لكنه يطرح مظاهر أخرى كثيرة لطرق عيش المصريين هذه الفترة..
أذكر مثالا آخر ما فعله المستشرق الفرنسي "بريس دافين" التوفى عام 1879، والذي هاجر إلى مصر في عهد محمد علي باشا وعمل موظفا في دولته، فأحب مصر وشعبها وتمصر قولا وفعلا، وقرر يسمي نفسه.."إدريس أفندي"..وبدأ في دراسة الحضارة المصرية القديمة وكتب فيها مجموعة رسائل إضافة لمذكراته المشهورة "بمذكرات إدريس افندي"، وبجهوده على الأرض حفظ كثيرا من آثار مصر في الصعيد..
أذكر من الحوادث النادرة التي حكاها لو صحت تكشف حجم تخلف وجهل موظفي الدولة، فقد كان الباشا محمد علي يبني معمل للبارود في الأقصر وقرر الناظر قطع حجارة معبد الكرنك ليستعملها في بناء المعمل، ولأن إدريس أفندي كان مسئولا وقتها ويعلم قيمة المعبد الثقافية رفض وصعد الموضوع، وبإصراره تم وقف هدم المعبد..ومن خلال تلك الرواية تبين أن إدريس افندي كان معارضا لمحمد علي ونظام حكمه، وكشف كثيرا من المظالم والحقائق السياسية والاجتماعية في عهده، ولمن يريد معرفة الوجه الآخر- الظالم والمتخلف- لحكم محمد علي يقرأ تلك المذكرات، لأن المشهور أن عصر محمد علي كان علم وتنوير ونهضة..وهو في الغالب كان كذلك، لكن بمذكرات إدريس أفندي يتضح كيف حدث وعلى حساب من؟..وهل فعلا الباشا كان مؤمنا بالعلم أم بصناعة مجد سريع لنفسه؟..وهل كان معارضا لهيمنة وظلم رجال الدين أم كان يوظفهم ضد خصومه؟
من خلال ما تقدم تبين أن الاستشراق لم يكن مشغولا بالدين والميتافيزيقا أو دحض الإيمان مثلما يتخيل أصوليين المسلمين، بل هو حركة معرفية واسعة كانت تبحث عن الرؤية والاستيعاب ضمن حركة علمية أشمل كانت تربط هذه المعارف الشرقية بالتطور الصناعي والعلمي السائد آنذاك، فنرى إذن أن نقاد الاستشراق في الثقافة العربية والإسلامية أخذوا جانبا ضيقا من ظاهرة الاستشراق وعمموها على كل الحركة وأي نشاط لمفكر غربي أو فيلسوف قرر أن يعرف من هو الشرق بعيدا عن صحافته المحلية التي تصور دول العرب والمسلمين بطريقة سلبية، خصوصا بعد شيطنة الإسلام في صحافة الغرب بعد موقعة 11 سبتمبر 2001 حيث وجدنا تيارا استشراقيا أكثر تطرفا وأقل موضوعية ودقة مما مضى يهدف لتناول الإسلام بشكل سياسي أكثر منه معرفي.
وقد ميزت الحالة الراهنة التي تصاعدت فيها قوة داعش والقاعدة صعود تيار استشراقي حديث يطعن في جذور الإسلام نفسه من حيث الجغرافيا واللغة مستفيدا بعلوم حديثة وصل إليها الإنسان كالفيلولوجي والأتيمولوجي والأنثربولوجي..وغيرها، ومن أمثال هؤلاء "دان جيبسون" و"مايكل كوك" و "ولوكسمبرج" مع إحياء أطروحات الدانماركية "باتريشيا كرون" مرة أخرى وإعادة تداول رأيها في جذور الإسلام الجغرافي والتاريخي، وهذه الحالة التي ميزت هؤلاء مختلفة بشكل كبير عن الاستشراق في القرن 19 وأوائل القرن العشرين من أمثال " تيودور نولدكة" و " يوليوس فلولهاوزن" و "جولدتسيهر" و "جوزيف شاخت"..وغيرهم، علما بأن هذه الحركة من موضوعيتها أثرت على مفكري وشيوخ المسلمين ودفعت البعض منهم لمراجعة موقفه الديني بصورة غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي، مثلما أثر جولدتسيهر في وجوزيف شاخت في كتاب مجلة المنار للشيخ رشيد رضا، والذي أدى لجرأة كثير من شيوخ المسلمين للطعن ونقد الحديث والتاريخ بصورة غير مسبوقة..
كذلك أثرت كتابات جولدتسيهر في كتابات محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، ودفعت الكثير من علماء ومفكري المسلمين لإعادة النظر في مفهوم الخلافة الإسلامية وعلاقة الدين الإسلامي به، فالذي فعل ذلك وألهم المخيلة البشرية بالفارق بين الخلافة والإسلام هم مستشرقين ألمانيا، وعلى خطاهم وصل كثير من علماء المسلمين للقول بأن الخلافة هي مرحلة تاريخية انتهت وحكم بشري وتجربة سياسية لا يجوز تعميمها بالمطلق لتصبح ملزمة لكل زمان ومكان، وهي الفكرة التي أدت لموجات نقد دفعت لاحقا بعض المتطرفين لإنشاء جماعات عسكرية تعيد أحلام الخلافة الدينية مرة أخرى فيما نعرفه الآن بحركات الإرهاب "داعش والقاعدة والإخوان" ولولا أن الصدمة الفكرية على هؤلاء كانت كبيرة ما اندفعوا لممارسة العنف كرد فعل تلقائي على انهيار أحد أعظم وأشهر عقائد المسلمين في القرون الوسطى وهي (الخلافة وسلطة المحتسب) ليس بأيدي الغربيين فقط ولكن بأيدي كبار وشيوخ المسلمين آخرهم شيخ الأزهر الذي أفتى عام 2016 بأن الخلافة ليست من أركان الدين وأنها مجرد "تجربة حكم سياسية" ليس إلا..
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول مشروع نتنياهو بالتغيير الثقافي في غزة
-
خطاب حسن نصر الله والدور المتوقع لحزب الله في حرب غزة
-
قراءة في الانتخابات الرئاسية المصرية
-
معنى الحاجة للاحتفال بالمولد النبوي
-
حقيقة سلطة المحتسب وجماعات المطاوعة..القرآن يرد عليهم
-
العرّاف توفيق عكاشة بين الواقع والخرافة
-
الأخلاق في الدين الإسلامي..من سلسلة الرد على الإلحاد
-
الوباء الأمريكي على الشرق الأوسط
-
القرآن براء من السب والشتم
-
الحدوث والخلق في الفكر السلفي
-
عادل إمام ورسائل بين السطور
-
من قصص التكفير في التراث الإسلامي...عجائز نيسابور
-
صراع السلطات الدينية والسياسية..الطلاق الموثق نموذج
-
حين تدعو الدراما إلى الجريمة
-
موقف الإسلام من العبودية
-
الحلف بين الإخوان واليسار..يوسف البدري نموذج
-
الإسلام بين الفقه والحديث..أيهما أولى؟
-
أزمة الفكر الإسلامي..علم الحديث نموذجا
-
خرافة أكل المصريين للحوم البشر في الشدة المستنصرية
-
حقيقة السيد البدوي
المزيد.....
-
بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
-
رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا يعلق على فتوى تعدد الزوجات
...
-
مـامـا جابت بيبي.. حـدث تردد قناة طيور الجنة 2025 نايل وعرب
...
-
بابا الفاتيكان يصر على إدانة الهجوم الاسرائيلي الوحشي على غز
...
-
وفد -إسرائيلي- يصل القاهرة تزامناً مع وجود قادة حماس والجها
...
-
وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل
...
-
استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان
...
-
حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان
...
-
المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
-
حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|