أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا















المزيد.....


حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا


لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل

(Labib Sultan)


الحوار المتمدن-العدد: 7805 - 2023 / 11 / 24 - 13:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


الفلسفة علم قديم قدم الانسان في اقامة اولى المدن والحضارات في التاريخ. انها اداته العقلية لفهم وتفسير الكون والخلق والظواهر الطبيعية والاجتماعية والحياة والموت وعلاقتها مع الانسان، او بين الانسان واخيه الانسان مثل مفاهيم الضمير والمحبة والعنف ، وبين الناس في المجتمعات مثل فهم الاخلاق والمعتقدات، والثقافات، والنظم السياسية، والاقتصادية ، وكلَّ ما يحيط بالانسان.
قرأت مقالة جميلة للاستاذ الباحث عبد الجبار الرفاعي بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة عن علاقة العلم والفلسفة واهمية الفلسفة للعلم وددت للقارئ الاطلاع عليها فهي تحتوي ملخصا حيويا موضوعيا للعلاقة العضوية والحدية بين العلم والفلسفة ، وتمنيت تناولها بشكل امثر تفصيلا عن علاقة الفلسفة باللاهوت والايديولوجيا، ولكن المقالة متناسقة ورائعة ويمكن الاطلاع عليها على الرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=812077

ومقالتي هنا للتوقف اكثر على مناقشة تتناول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا في عصرنا الراهن وعلى ضوء تطور العلوم والمعارف حول الطبيعة والاجتماع والانسان والثورة المعلوماتية..
ولا بد لي من وضع القارئ بالصورة ( المنهج ) التي ساناقش به موضوع هذه العلاقة ، فالفلسفة تلعب دورين في كل منهما. اولهما هو دور الفلسفة داخل كل حقل (العلم، اللاهوت، الايديولوجيا) ، وقد اجاب عنه الاستاذ الرفاعي اجابة رائعة، واقتبس ماكتبه في مقالته اعلاه " ان قراءةُ الفلسفة بأفقٍ أيديولوجي تنتجُ أيديولوجيا، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ لاهوتي تنتجُ لاهوتًا، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ كلامي تنتجُ علمَ كلام، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ اعتقادي تنتجُ عقيدة، قراءةُ الفلسفة بأفقٍ فقهي تنتجُ فقهًا، حتى قراءة الفلسفة بأفق العلم الطبيعي ينتج علمًا. لا ينتج الفلسفةَ إلا التفكيرُ الفلسفي، وقراءةُ الفلسفة بأفقٍ فلسفي".
ان هدفي هنا هو استكشاف هذا الافق الفلسفي ،الذي ورد في نهاية الاقتباس من المقولة الجميلة اعلاه، وهو مايشكل في بحثي كشف هذا الدور الهام الذي لعبته وتلعبه الفلسفة لحد اليوم ( واستطيع الغور فيه من مطالعاتي الفلسفية وما توصلت من فهم لدورها في صياغة المفاهيم الفكرية وفهمنا للعالم) . ساحاول مناقشته لكلا من العلم، واللاهوت، والايدولوجيا منفصلا ، حيث تلعب الفلسفة ادوارا مختلفة في كل منهما، ولكن المشترك في في جميعها ،وكما سنرى ، انها تمثل الجانب الحكموي الأعلى ( الحكموي من مصطلح "الحكمة " كمصطلح عربي قديم استخدمه الفلاسفة العرب مثل الكندي وابن سينا وابن رشد ، هو نفسه المصطلح المعاصر الذي نسميه اليوم "الحضاري" كمصطلح غربي يماثله في القوة والمعنى والحدود)، فالحكموي هو الذي يجمع الغايات الانسانية العليا مثل الضمير والاخلاق والعدل وغيرها من القيم العليا من جهة ، مع العقل والعلم والمعرفة الموضوعية من جهة اخرى ، ويجعلهما متجانسان وليسا متناقضان، كما سنأتي لتبيانه .ان الجانب الحكموي للفلسفة هنا هو سلطتها وسقفها على كل من العلم واللاهوت والايديولوجيا ، وتمثل الموقف العقلي الانساني وقيمه العليا ، أي الذي يجمع بين الانساني والعقلي بان واحد في اقامة المقولة الفلسفية تجاه العلم واللاهوت والايديولوجيا، وهذا هو ما أراه المقصود بعبارة "الأفق الفلسفي" في تناول دور الفلسفة في مناقشة القضايا العلمية واللاهوتية والايديولوجية خارج كل من موضوع بحثها ( اي خارج فلسفة العلوم واللاهوت والافكار المؤدلجة ). دعونا ننظر في دور الفلسفة في اقامة حدودها الحكموية ( اي الغايات الانسانية المتجانسة مع العقل).
1. في علاقة الفلسفة المعاصرة بتطور العلوم
يتم تبادل الادوار بين العلم والفلسفة كمعرفة عقلية عليا داخل كل علم تحاول ان تجد لتطور في العلم مكانا بين القوانين العامة التي تمثل معارفنا الموضوعية اليوم ، فالفلسفة هنا متتبعة ( وليست منتجة للعلم ) ولكنها منتجة للفرص في تقييم التطورات العلمية الجديدة لايجاد روابط بينها وبين القوانين العامة المعروفة ، ربما لايجاد فراغات يحتاج العلم العلم ان يملأها ، او استكشاف تناقضات يحتاج العلم ان يقدم طروحات لتفسيرها مما يخلق فرصا جديدة داخل كل علم او الدفع لايجاد قوانين اعلى لتفسيرها ( مثل فرضية الثقوب السوداء لاينشتين او فرضية اللا تحديد لهايزنبيررغ وكلاهما فيلسوفان في الفيزياء عدا كونهما عالمان ) ومنه نشأت فلسفة علم الفيزياء والرياضيات والسياسة والاقتصاد، الخ. ان دور الفلسفة هنا دورا تقنيا داخل كل علم، فهي ليست علما صرفا بل علما مُقَنوِنا للتطورات في كل علم وربما وتنتج حاجة لبحوث لايجاد الروابط وملئ الفراغات لتطور علمي جديد داخل هذا العلم .
ولكن المهم من الافق الفلسفي هو الجانب الحكموي للفلسفة في علاقتها بالعلوم . ان دورها هو اقامة الاختبار والتقييم والحكم وفق تلاقيها وتجانسها مع الاغراض والغايات الانسانية من خلق المعرفة العلمية النظرية والتطبيقات العلمية. اي ان الفلسفة تضع نفسها السلطة الاخلاقية العليا على اي تطور او تطبيق علمي وتقييمه وفقا للحاجات والاغراض والقيم الانسانية. لنأخذ مثالين معاصرين لتوضيح القضية.
الاول موقف الفلسفة من تطبيقات علم الذكاء الاصطناعي ، فهو يمثل تحديا كبيرا للانسان، كون هذا العلم يركز على اتمتتة استخدام المعرفة في عمل المنظومات، وليس لاتمتتة العمل اليدوي كما طرحته نظريات السيبرنيطيقا منذ منتصف القرن الماضي وتلقاه العالم باعجاب كونه يريح الانسان من العمل الفيزيائي المتعب والمتكرر الممل الذي يقوم به الانسان العامل، ليريحه الروبوت الانتاجي مثلا ( 90 % من العمليات في المصانع الحديثة للسيارات هي مؤتمتة اليا اليوم ) ، وقد قيمته الفلسفة الحكموية انه لصالح الانسان كونه سيفرغه لعمل اكثر مهارة ونفعا ويزيد من الانتاجية والرفاه ، ويدفعه لزيادة تعليمه ، ويشكل ضغطا على الحكومات لتوفير شروط افضل للتحصيل المعرفي والعلمي لدعم التحول الاقتصادي نحو الاتمتة وخلق فرص عمل جديدة في المحتمع المعرفي محل اليدوي. ولكن توجه الاتمتة للمعرفة والخبرة المعرفية، وهذا ماترمي اليه منظومات الذكاء الاصطناعي، سوف لن يمر، كما مرت اتمتة العمل اليدوي دون اعتراض، بل سيواجه معارضة فلسفية حادة اقلها لوضع حدود على هذه المنظومات حيثما وجد انها تتعارض مع الغايات والقيم الانسانية العليا وتنال من حريات وحقوق الانسان نفسه ،بل وربما تشكل خطرا عليه كأن تجعله تحت سيطرة هذه المنظومات او تعرض وجوده وحرياته بل وحياته وقيمه للخطر لا يستطيع احد معرفة المسؤول عنه ، وفعلا بدأت بعض الدول بالعمل على وضع لوائح لهذه الحدود ( مايزال العمل منط سنوات في برلمانات اوربية والولايات المتحدة عليه ) . وهنا مثالا يبرز دور الفلسفة "الحكموية " في وضع هذه اللوائح ومواجهة هذا التطور العلمي القادم بوضع سقوف حكموية عليه وهذه من الامثلة القليلة التي واجهت الفلسفة بصورة حادة تطور العلم ، فهو ولد منها بدعواها لتحرير العقل من الميتافيزيقيا ، وهي التي ستقوم بتأديبه ليكون في خدمة الانسان وليس للسيطرة عليه.
المثال الثاني هو تعاظم دور الفلسفة للحد من طموحات وتطورنظريات وتطبيقات علم الاقتصاد التي وضعت امامها دوما وسائل زيادة الدخل والارباح والانتاج والمستهلكين والاسواق أهم اهدافها، والاقتصاد علما يمس اهم جانب من حياة كل انسان وكل المجتمعات. لقد تطور علم الاقتصاد سريعا مع تطور العلوم والانتقال للمجتمع الصناعي من خلال الاستثمار فيها لزيادة الانتاج والارباح بدلا من ادخار الاموال في الخزنات ومنذ منتصف القرن 19 ، ولم تجد نظريات الاستثمار والتوسع في الانتاج وزيادة الارباح وزيادة الدخل الفردي والقومي العام نقدا فلسفيا جديا ( عدا الماركسية وسنأتي على ادلجة مقولاتها لاحقا) حيث كان الانسان يخوض اهم معركة في تاريخه بالتحول للانتاج الواسع للبضائع الرخيصة للناس من خلال الاستثمار في المرافق الصناعية (وتحقيق ارباحا عالية بدل الادخار تحت الارض وفي الخزائن) ومنه نمو الثروة الشخصية والعامة من خلال الاستثمار في الانتاج الذي توفر لأول مرة على مر العصور بفضل العلم والثورة الصناعية . ان تطور قوانين ونماذج عمل علم الاقتصاد وادارة الانتاج والاستثمارات سارت دوما وابدا وفق مقياسي "التوسع والنمو" في الانتاج والارباح، فهم اسس القانون العام والهدف ألأول لعلم الاقتصاد وهو الذي قاد تطوره، وساد واستمر خلال 150 عاما ( أي منذ انبثاق الثورة الصناعية والى اليوم على نفس هذا المقياس والهدف) . والسؤال الذي تطرحه الفلسفة الحكموية : ماهي السقوف التي يجب وضعها على اقتصاد النمو اليوم وغدا ، وماهي الفرامل التي يجب وضعها امامه لدرء تأثيراتها الأجتماعية والنفسية ( تحول المواطن الى مستهلك والمجتمع الى استهلاكي) ، وماهي عواقبه البيئية ، وغيرها من صراع تخوضه الفلسفة الحكموية مع النماذج والنظريات والطروحات الاقتصادية البحتة التي اهملت الجانب الانساني والبيؤوي من العمل اليوم اكثر من أي وقت مضى ، حيث تمكنت اتمتة الانتاج من زيادة هائلة في الانتاج تفوق الاستهلاك البشري وتسبب تآكلا وتدميرا للبيئة ، وتحول الانسان من انسان مواطن " حقوقي وحر " الى انسان "مستهلك ودافع ضرائب" ضمن مهام اقتصادية لوجوده العام على الارض بعد ان كان لقرون عديدة ينتج مايستطيعه لاطعام اسرته التي تنعم بها ، واليوم هذا العزوف عن تكوين الاسر والانجاب وجعل التسلق الوظيفي اهم اهدافه الوجودية ( لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يفوق عدد العزاب عدد المتزوجين ذوي الاسر بين البالغين من السكان لحرصهم على التسلق الوظيفي الذي يعيقه الانجاب ، ويزداد عدد الكلاب والقطط البيتية على عدد الاطفال عند البالغين ) ..ان الفلسفة الحكموية التي تبحث في الغايات الوجودية للانسان وتطوير قيمه الروحية ومشاعره الانسانية المتواجدة فيه موازاة مع المادية ( القيم الوجدانية والضميرية والروحية عموما لاتقل اهمية عن المادية اهمية خلال حياته وفي تكوين مفهوم سعادة الانسان كما نعلم) .. مازال الانسان والمجتمعات والدول لحد اليوم تركض وراء النمو الاقتصادي ، ولكن اليوم ايضا بدءت العلامات الاجتماعية والبيئية تنذر بضرورة وضع فرامل من منتجات الفلسفة الحكموية في فلسفة النمو الاقتصادي، وهذه معركة كبرى يخوضها الفلاسفة اليوم لوضع السقوف والحواجز امام اهم دافع للتطور الاقتصادي وهو "فلسفة النمو "، وليس اليوم كالامس ، ان ايقافه غير قابل للنقاش ( بايقافه سينهار الاقتصاد) ، فعقلنته ووضعه ضمن ضوابط انسانية هي أهم مهام الفلاسفة اليوم .
لابد هنا ، وبعد مراجعة المثالين اعلاه، من التوقف على مصطلح الفلسفة الحكموية كأداة لتطوير " الحضارة الانسانية " بعمقها الانساني، فالحضارة لاتعني وحدها حضارة التطور العلمي والاقتصادي لوحدهما، بل تعني امكانية تحقيقهما في ظل تكامل مع اهم المفاهيم الانسانية مثل الهدف من الحياة والتواجد الانساني وسعادة ممارسة الانسان لقيمه الضميرية العليا ومشاعره الروحانية ( وليست الدينية فهناك فرقا بين الروحانية والتدين ) . الروحانية هي ممارسة قيم الانسان الروحية والضميرية والاخلاقية والاجتماعية دون خوف من عقاب وليست تزلفا لرضوانه ، بل فلسفة للحياة الجميلة المتجانسة بين العقل والروح. الدين واجبات تجاه الرب للنجاة من عقابه، وهذا هو الفرق بين العبد الحر في ممارسة انسانيته بخياره، والمؤمن المأمور بالنص بما فيه وما عليه ومنها مايعدم حتى انسانيته كالتمييز بينه وبين اخيه المؤمن من دين اخر مثلا.
2. علاقة الفلسفة المعاصرة باللاهوت والاديان
كان الاجتهاد العقلي للفلاسفة قبل عصر النهضة والتنوي هو مراجعتهم للاحكام والمقولات المطلقة لنصوص الاديان وومقولات اللاهوت (في عقلنة الميتافيزيقيا) اما لفهمها بشكل اعمق، اوايجاد مقولات عقلية تدعمها، او لتحييدها واعتبارها تعاليم ظرفية لايجب الاخذ بها ( ولو تم الاخذ بما اقترحته المعتزلة منذ 1300 عام "بدعوتها لوضع العقل فوق النص فاذا تطابقا اخذ به، وان اختلفا اعتبر ظرفيا ولايؤخذ به " لاختفت 90 % من المقولات والنصوص الدينية المقدسة ، واستمر ابن رشد بنفس المنهج في كتابه " فصل المقال مابين الشريعة والحكمة من ارتباط " بعدهم باربعمائة عام . ان عصر النهضة والتنوير طرح بديلا للنص الديني في ادارة شؤون المجتمع ووضع فلسفات الحقوق والحريات والاتيان باحكام اكثر عقلية وعقلانية بديلا للنص ،ومنها قامت الحضارة الحالية ومنهم خرجت مدرسة العلمانية التي جعلت الدين ثقافة روحانية حقا للمواطن وليس لادارة شؤون الدنيا التي يجب تركها للعقل وتطور العلم والمعرفة في ادارة شؤون المجتمع. ان فلسفة التنوير فلسفة حكموية جمعت الغايات والعقل معا ، وكان وسيبقى للفلسفة الحكموية دورين في علاقتها مع الاديان واللاهوت. الاول فصل الروحاني عن المصالح وابعادها عن صراع العقائد في ادارة المجتمع ، والثانية محاولة ايجاد اجوبة عقلانية على اسئلة لم يتمكن العلم من ايجاد اجابات عليها كي لاتتمول لمزاد الميتافيزيقيات والفرضيات اللاهوتية في اجتهادها الفلسفي في تقديم تفسيرات وتأويلات مبنية على النصوص الدينية. وضعت الفلسفة الحكموية سقفا عليها مطالبا باثبات الجانب العقلي اضافة للروحاني اذ انها ترى التجانس بينهما هو من يجعل المقولة اللاهوتية مقبولة ، ومهمة الفلسفة امتحان مايطرحه اللاهوت على توفر هذين المقياسين في طروحاتها الفلسفية " واذا سألت عن الروح فقل انها بعلم ربي " والنبي محمد هنا فيلسوفا لاهوتيا بامتناعه عن الاجابة وبوضع معرفتها على الخالق ، رغم انه امكنه الرجوع الى اية اخرى ولأجاب "انها من نفخ ربي " حيثما يرد في القرآن " ونفخنا فيه من روحنا " ، ، وموقفه هذا خيرا من التلموديين الذين جعلوا روح من يموت من اليهود تعود الى الله لاعادة اهدائها لبشر يهود ، وروح باقي البشر لتتحول الى ارواح لحيوانات كانت مؤقتا في جسم انسان . ان الفلسفة الحكموية العقلانية اقامت على اللاهوت سقفا وحدا ان تأتي باطروحات يتقبلها العقل وهو حدا اقامته المعتزلة والسينوية ( عن الفلسفة المشرقية لأبن سينا وفصوله في حكمة الخلق ) والرشدية في عقلنة النص او تركه ، ولازال هذا الحد قائما الى اليوم لرد خزعبلات الميتافيزيقيا الدينية بالعقل والمنطق والحكمة التي تجمع الروح والعقل معا.

3. علاقة الفلسفة المعاصرة بالايديولوجيات
الايديولوجيا تقدس فكرة او مقولة فلسفية وضعية وكأنها حقيقة مطلقة وتقدسها وتطرحها كأنها تمتلك حقيقة العلم وقوة قوانينه لكل زمان ومكان. ولكن الأهم والأخطر فيها هو اعادة اخراج الفكرة والمقولة شعبويا وباسلوب مبسط للتأثير على الجمهور ومخاطبة مشاعره وعواطفه لتحقيق السيطرة السياسية على الجمهور وجعله " كالقطيع " يتم توجيهه وفق ما يريده المؤدلجون وقادتهم. هذا هو الفرق بين الفكرة والمقولة الفلسفية العامة ، والفكرة والمقولة الايديولوجية. ان الايديولوجيات قامت اساسا لأسباب سياسية ، غرضها السيطرة على الدول والمجتمعات باستخدام مقولات دينية، او قومية، او طبقية ( وهذا لايعني ان الدين والقومية والطبقة هي مفاهيم ايديولوجية ، انما استخدامها غطاء للتحشيد العاطفي الشعبوي في صراع سياسي لغرض السيطرة على الدولة والمجتمع ، وعندها يتم فرضها عقيدة على الدولة وعلى المجتمع ،فالنظم الديكتاتورية هو مايصح تسميته بسيطرة الايديولوجيات . انها دوما تؤدي لنظم حكم ديكتاتورية قامعة تمنع وتقمع في المجتمع اي طروحات اخرى غير "رسمية ". ولا اعتقد ان هناك مفهوما اكثر قربا وفهما ولمسا لمواطننا العربي من هذا مصطلح النظم الايديولوجية ، فانساننا العربي يعيش منذ 70 عاما والى اليوم تحت حكمها وحكوماتها، عكس العالم الاخر ، الذي غادرها الى الدولة "اللاعقائدية " ابتداء من منتصف القرن الماضي بدء بالتخلص منها ونبذها بعد دروس ومجازر الايديولوجيات النازية باسم القومية والماركسية باسم الطبقية ، وقبلهما الدينية . ومجددا فلا القومية ولا الطبقية ولا الدين هي مفاهيم ايديولوجية بل استخدامها لأغراض سياسية واقامة نظم حكم قائمة على عقيدة واحدة هي التي تمثل الايديولوجيا.
لنتناول كلا منها في طروحاتها العامة .
الايديولوجيا الدينية، كما نعلم، تخاطب الجمهور لاقامة شرائع الله ،وتطبيق ما امر به والخضوع لولي الامر خليفته ، وللمرشد الاعلى خضوعا لتعاليم الله ، والتكفيرلمن يخالف او يطالب بحريته في رأيه ، واعتباره مرتدا وخائنا ومخالفا لتعاليم الرب ونبيه وخلفاؤه وأولياء الامر والمرشدين من بعده.
الايديولوجيا القومية ، وكما نعلم ايضا، مفهوما احدث ، تخاطب الجمهور باسم الروح القومية وهددفها هو العمل لاحياء مجد الامة وتقويتها وبناء امبراطوريتها التاريخية وتستعين بالدين حيثما اقتضى الامر، وبتقاليد الامة لبناء حكمها الديكتاتوري ( وتمت هزيمتها في اوربا بعد الهتلرية، والنظم القومية العربية ، ولكنها تعود اليوم رويدا ومن من جديد بشكل مزدوج كما نراه عند اية الله وبوتين وأردوغان ، او عند اليمين القومي المسيحي في دول اوربا واميركا وامريكا اللاتينية ، وسبب عودته يعود لاسباب كثيرة خارج موضوع مقالتنا ويحتاج لبحث منفصل ولكن لكل دولة او مجموعة منها اسبابه الخاصة في التمرد على القيم الليبرالية التي سادت تدريجيا وببطء منذ القرن 19 ولكن اخذت بالصعود والتعمق منذ منتصف القرن الماضي).
الايديولوجيا الماركسية ، حولت افكار ماركس في الصراع الطبقي وازالة الفوارق الطبقية الى مقولات مقدسة تدغدغ مشاعر العامة الفقيرة والكادحة وطرحها كطريق لاقامة دولة يحكمها حزب الطبقة العاملة لتقيم مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية ومجتمع دون طبقات ، ودون اغنياء وفقراء ( بجعل الجميع فقراء كما اثبت الواقع في التطبيق) ومنها اقامت كسابقاتها من الايديولوجيات دولا ديكتاتورية ذات لون واحد وكل من يخالفه عدوا للشعب ( كافرا عند المؤمنين وعدوا للامة عند القومجية) .
ما تشترك به الايديولوجيات هو اقامتها نظما ديكتاتورية للحكم وكل منها يقطع الرقاب للمخالفين بمقولة خيانة مصالح المؤمنين والامة والطبقة، انها ايديولوجيات الولاء التام ، والا قطع الرقاب.
الفلسفة الحكموية بدأت ومنذ عصر التنوير بوضع مفهوم جديد للدولة على اساس احترام كيان الانسان وعقائده وحرياته وتوفير العيش الكريم الامن له ، ومنه تتحقق مصلحة المجموع والمجتمع ككل، عكس الايديولوجيات التي تتكلم بأسم الجماعة بغطاء الدين والقومية والطبقة . عملت الفلسفة الحقوقية الحكموية على تطوير مفاهيم العلوم السياسية بما فيها الدولة والادارة العامة لشؤون المجتمع وعلاقاته ومصالحه المتبادلة على اسس "الانسان المواطن وحقوقه " ومنها تحترم حقوقه الدينية والقومية والطبقية . وطورت مفهوم "الدولة الاعقائدية " اي الدولة التي لا تبنى احدى العقائد على حساب غيرها ، كما ولاتميز بين مواطنيها على اساس الدين والقومية والطبقة والجنس واللون ضمن منهجها في غاياتها الانسانية وصحة طروحاتها العلمية واسنادها العقلية وليس ادواتا للسيطرة على المجتمع. واليوم واقعا لاتجد نظما ايديولوجية في العالم تفرض عقيدة جمعية بعينها الا ربما على عدد اصابع اليد الواحدة معروفة . وهناك لازالت نظما ديكتاتورية ( غير ايديولوجية ) تقوم وتختفي بانقلابات عسكرية واغلبها في بلدان العالم الثالث التي تخوض صراعا لاقامة نظما ديمقراطية مستقرة ، ولكن الايديولوجيات ايضا تلعب دورا في تحريك مطامع العسكر في الحكم ومنه انقلاباتهم تحت يافطات قومية او دينية او طبقية مثلما رأينا في العالم العربي في مصر والسودان والصومال وليبيا وسوريا والعراق واليمن وما زال العساكر يتسوقون من بضائعها لاقامة حكوماتهم الديكتاتورية.
ملخصا ان مهمة الفلسفة الحكموية التي تجمع الغايات الانسانية والعلم هي سقفا وسلطة للعقل والعلم والقيم الانسانية على تطور العلم والاقتصاد وعلى الدين واللاهوت وعلى لجم وانهاء عصر الايديولوجيات والتلاعب بالجمهور . انها الحكموية الانسانية والمعرفة العليا التي عملت وستعمل لصالح الانسان وانقاذه حيثما تعرض للخداع والعبث والركض وراء المصالح المادية او الدجل الايديولوجي. اننا بحاجة للفلسفة طالما نحن احياء نرزق.



#لبيب_سلطان (هاشتاغ)       Labib_Sultan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
- حماس وحزب الله لايمثلون قضية الشعب الفلسطيني بل قضية اية الل ...
- العولمة السياسية وتحديات القرن 21
- قراءة (1) في تحديات القرن الحادي والعشرين
- في نقد الماركسية العربية
- حلول العلم والايديولوجيا للتخلف العربي 2
- المنهج العلمي والايديولوجي لحلول التخلف العربي
- فهم نظرية تعدد الاقطاب وانعكاسها على العالم العربي
- معركة اليمين واليسار في الهجرة الى الشمال
- فهم اليمين واليسار في عالمنا المعاصر
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
- فهم تجربة الصين وأهميتها للعالم العربي (فهم العالم المعاصر ـ ...
- فهم الرأسمالية وعلاقتها بالليبرالية ( فهم العالم المعاصر 2)
- في فهم العالم المعاصر1 علاقة الايديولوجات بالاقتصاد ونظم الح ...
- لائحة اتهام 3
- لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ2
- لائحة اتهام لثلاثة ايديولوجيات دمرت اربعة دول عربية ـ1
- القوانين الثلاثة لبناء الدول المعاصرة والامم الناجحة
- جذورتحول الجمهوريات الثورية الى ميليشياوية
- في علاقة النظم السياسية بنظم الذكاء الاصطناعي


المزيد.....




- الجيش اللبناني يعلن تسلمه 3 معسكرات تابعة لفصائل فلسطينية لب ...
- منظر مذهل في تركيا.. تجمد جزئي لبحيرة في فان يخلق لوحة طبيعي ...
- إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي ...
- ألمانيا تكشف هوية منفذ هجوم سوق الميلاد في ماغديبورغ، وتتوعد ...
- إصابات في إسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ حوثي
- شولتس يتفقد مكان اعتداء الدهس في ماغديبورغ (فيديو+ صور)
- السفارة السورية في الأردن تمنح السوريين تذكرة عودة مجانية إل ...
- الدفاع المدني بغزة: القوات الإسرائيلية تعمد إلى قتل المدنيين ...
- الجيش الروسي يدمر مدرعة عربية الصنع
- -حماس- و-الجهاد- و-الشعبية- تبحث في القاهرة الحرب على غزة وت ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - لبيب سلطان - حول علاقة الفلسفة بالعلم واللاهوت والايديولوجيا