بالأمس تم القبض على خلية إرهابية جديدة تدير أعمالها من عاصمة المسلمين الأولى مكة المكرمة وقبلتهم التي يتوجهون لها في كل يوم خمس مرات، وقبلها بأسابيع قلائل تم القبض على خلية أخرى في المدينة المنورة – ثاني أقدس البقاع على وجه الأرض - بنفس الفكر تقريباً ونفس التوجهات لأفرادها، المجموعتان كانتا تمتلكان مخازن للذخيرة والمتفجرات والهواتف المفخخة تكفي للقيام بعملية إرهابية متوسطة الحجم.
قبل هاتين المجموعتين حدثت تفجيرات ضخمة بعاصمة المملكة العربية السعودية، هزت العالم وشغلت الناس، وكان المنفذون أيضاً من المنتمين لجماعات إسلامية سلفية، رغم تبرؤ السلفية منهم، ضحايا تلك التفجيرات كان من المفترض أن يكونوا من الرعايا الأمريكان والبريطانيين، ولكن اتضح فيما بعد أن الضحايا السعوديين لهذه التفجيرات كانوا أكثر من بقية الضحايا المستهدفين.
لا يمكن لعاقل أن يدعي أن هذه المجموعات تشكلت بين عشية وضحاها، ولا يمكن أيضاً ادعاء أن هذه المجموعات خلقت نتاجاً لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فأعضاء هذه المجموعات هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، مع بعض الاستثناءات القليلة هنا وهناك، ومثل هذه الأعمال تتطلب أشخاصاً مؤمنين بفكرهم إلى درجة التعصب والتضحية بالحياة في سبيل ذلك الفكر، وهذا ما لا يتأتى في ظرف سنتين مهماً كان حجم الجهد المبذول لذلك.
ليست الغرابة في هذه التفجيرات، لكن الغرابة ناجمة عن جدتها على المجتمع والدولة السعودية بشكل خاص، فالمملكة العربية السعودية كانت حتى وقت قريب، تعتبر إلى حدٍ ما مرضياً عنها من قبل الجماعات المتطرفة، وما ذلك إلا نتاجاً للفكر الإسلامي السلفي المتشدد الذي تتبناه المملكة ومعها هذه الجماعات، مما يجعل الاثنين في خندق فكري واحد، ولا معنى للخلاف بينهما بأي حال من الأحوال.
ورغم اختلاف طريقة تبني الفكر السلفي بين الجماعات المتطرفة وبين الحكومة السعودية، إلا أن هذا الاختلاف ليس اختلافاً في النوع بل هو اختلاف كيفٍ في المقام الأول، ومردّه هو اختلاف الطبيعة السياسية لكلا المجموعتين، فالمملكة بحكم كونها دولة ذات سيادة وتعاطٍ واسع مع المجتمع الدولي يجعلها مختلفة في التعامل مع الأحداث كثيراً عما يمكن أن تتعامل به الجماعات المتطرفة في مواجهة العالم الخارجي.
كذلك فإن عامل السن له دورُ كبير في جعل الأمور أكثر اختلافاً بين هذه الجماعات والدولة السعودية، فالجماعات المتشددة لا يتعدى عمرها الثمانين عاماً، ولم تظهر على المسرح السياسي إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وما صاحب ذلك السقوط من تشتت فكري ومرجعي لا زالت تعاني منه الأمة الإسلامية إلى وقتنا هذا، أما الدولة السعودية فعمرها يناهز المائتان وخمسون سنة مرت خلالها بتجارب مريرة في صراعها مع العالم من حولها، وسقطت مرتين ثم عادت للحياة من جديد، كذلك تعرضت للغزو في عقر دارها وهدمت عاصمتها (الدرعية) وأحرقت عن بكرة أبيها على يد جيوش محمد علي باشا، وما ذلك إلا نتيجة سياستها العدوانية - الشبيهة بسياسات الجماعات السلفية المتطرفة في وقتنا الحاضر - حيث أنها لم تكن قد بلغت مرحلة النضج في ذلك العهد، وقد قامت جيوش الدولة السعودية في فورتها الأولى بالهجوم انطلاقاً من أرض نجد على المدن المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنعت المحفل المصري من الدخول إلى الأراضي المقدسة، كذلك قامت بنهب كنوز الحجرة النبوية وهدمت القباب والأضرحة في بقيع الغرقد بكل عشوائية دون مراعاة لعقائد الناس في ذلك الزمان.
ورغم أن الدعوة الوهابية هي ثورة إصلاحية في المقام الأول، أتت للقضاء على عبادة الفرد التي كانت – ولا زالت – منتشرة في عالمنا الإسلامي، إلا أنها وكدأب الثورات دائماً، لم تأت مكتملة فكرياً، بل كان بها الكثير من الثغرات التي لم تملأ، فقامت بهدم أسس وثوابت خاطئة للمجتمع لا يختلف اثنان على خطئها، ولكنها لم تقدم البديل المناسب لما قامت بإلغائه، وبما أن كل مجتمع يرتكز على ثوابته خاطئة كانت أم صائبة، فإن هدم هذه الثوابت إن لم يتبعه إحلال لثوابت أخرى تكون مساوية لما تم هدمه، فإن المجتمع لا محالة في طريقه للانهيار أو الثورة على المرتكزات الجديدة.
وأساس الدعوة الوهابية، دعوة قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لإزالة مظاهر الشرك والوثنية التي بدأت في الانتشار في أرض نجد بشكل خاص، حيث عاد الناس إلى بعض مظاهر الشرك الجاهلي مثل التمسح بالأحجار والأشجار طلباً لبركتها والقسم لها والنذر والذبح عندها وما إلى ذلك من مظاهر وثنية ممقوتة. وقد حققت هذه الدعوة نجاحاً كبيراً في بدئها خصوصاً في منطقة نجد التي نشأت بها الدعوة. ولكنها حين بدأت في الانتشار خارج نجد بدأ بعض اللبس الفكري يتسرب إليها خصوصاً مع ما وجدوه من عادات مختلفة وعقائد متعددة في أرض الحجاز والعراق وعمان والخليج العربي.
فمثلاً كانت الدعوة الوهابية في بدءها تعتبر أن كل المحرمات لها نفس الدرجة من الحرمة، بمعنى أن شرب الخمر والزنا والغش والكذب والسرقة والقتل جميعها على ذات الدرجة من السوء، دون أي اعتبار لمقدار الخطيئة، وكان هذا الوضع مقبولاً في المجتمع المعزول في منطقة نجد لأن المجتمع بطبيعته مجتمع بدوي في أغلبه مع بعض الحضارة في مدنه الكبيرة وحواضره التجارية القليلة، لم تكن لديهم مرجعيات فكرية يرجعون إليها مثل سكان الحجاز والأحساء والعراق وعمان، وحين توسعت الدعوة إلى الخارج بدأت التناقض يسري في بنيان الدعوة بسبب هذا اللبس الناجم عن تعدد المرجعيات والخلافات الفكرية الموجودة أصلاً منذ أقدم العصور بين المسلمين أنفسهم.
كذلك فإن من الأخطاء الشنيعة التي وقع فيها أتباع الوهابية أنهم ألغوا جميع المذاهب والطرق والمدارس الدينية سواءً كانت عقدية أو فقهية، مما جعلهم يبدءون من نقطة الصفر، وبعد قليل تخلوا عن هذه الطريقة (البلدوزرية) وبدءوا في اتباع المذهب الحنبلي، وإن كانوا لم يسموه باسمه بل اعتبروا أن الفقه الإسلامي هو الفقه الحنبلي، مع القبول بمضاضة بما عداه من مذاهب بشرط عدم التصريح بها إلا في حالة الضرورة القصوى، وهذا لم يعد موجوداً اليوم، ولكنه كان هو المنهج الرسمي للمذهب الوهابي فيما مضى.
أيضاً فإن المذهب الوهابي ضم بعض العادات العربية عامة والبدوية منها خاصة إلى نسيج المذهب الوهابي، لتصبح بعض عادات وطبائع المجتمع مقدسة ومحرمة الاختراق Taboo، فمثلاً صوت المرأة عورة لدى مجتمع البدو، وخروجها من خيمتها عار ما بعده عار، مما جعل ذلك ينعكس على المذهب الوهابي الذي اعتبر أن صوت المرأة محرمٌ حرمة دينية على الذكور، وهذا موجود إلى يومنا هذا في كتبهم، كذلك فإن وجه المرأة ويديها عورة ومحرم كشفهما للغرباء من غير المحارم، ومصافحة النساء رغم عدم وجود نص صريح ينهى عن المصافحة إلا قوله صلى الله عليه وسلم : (إني لا أصافح النساء) وهذا لا يعد تحريماً، ولكنه سنة على أبعد تقدير. المهم أن هذا المذهب البدوي، قد قام بلصق الكثير مما هو ليس من أصل الدين وضمه إليه، ويمكننا أن نتصور مقدار التناقضات التي يعيشها أتباع هذا المذهب حين يخرجون خارج حدود مملكتهم، بل أن الكثير من مشائخهم اليوم يحرِّم السفر إلى خارج السعودية إلا للضرورة القصوى كالعلاج وما شابه، وكل هذا في انغلاقية ورجعية عجيبة لم تحدث في تاريخ أمة من قبل.
لكن هذا المذهب، على مر السنين، تعرض لهزات موجعة اضطرت الحكام من آل سعود إلى تغيير سياساتهم في الكثير من المرات، منها ما كان مؤصلاً من كتاب الله حرفياً وسنة نبيه، وهذا في الغالب استجابة لضغوط داخلية من جماعات السلفية في داخل البلاد، أو بطرق أخرى ليس لها أصل في الدين وهذا هو الغالب على سياستها، وكما كانت شعرة معاوية تتأرجح بين الشد والجذب، كذلك الحكام من آل سعود يملكون شعرة مثل شعرة معاوية، فحين يتذمر السلفيون في الداخل ترخي لهم هذه الشعرة والحبل تطلقه على الغارب، فنجد جماعات المطوعين (أتباع المذهب الوهابي المتشددين) تجوب الأسواق تضرب الناس وتزجرهم بالسوط والعصا ليقيموا دولة الدين الصحيحة، وحين يشتد التذمر الخارجي تبدأ في تحجيم نفوذهم وتقليم بعض أظفار هذه الجماعات، وبهذه السياسة بين الشد والجذب أمنت المملكة العربية السعودية لها وضعاً ملائماً ومستقراً إلى حد ما، ولكن ما حدث في العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أدى إلى حدوث تغييرات جذرية في هذه المعادلة.
إن ما حدث في الولايات المتحدة أدى بها إلى الضغط على السعودية لتكبح جماح هذه الجماعات المتطرفة، وكلما أنجزت الحكومة شوطاً في ذلك المجال، زاد ضغط الحكومة الأمريكية عليها للبدء في الشوط الذي بعده، فالولايات المتحدة تريد من السعودية أن تراجع على الطريقة الأمريكية الـ (Express) جميع ثوابت المجتمع من وضع المرأة وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الحسبة) إلى التعليم الديني واللا ديني وجميع ركائز المجتمع الوهابي، دون إعطاء أي فرصة للحكام من آل سعود لمراجعة وضعهم أو إرخاء شعرة معاوية للجماعات السلفية في الداخل مما أدى إلى انفجار الوضع في وقت وجيز نسبياً، فصارت السعودية نفسها هدفاً لهذه الجماعات لأن الجماعات المتطرفة شعرت بأن هذا الضغط عليها سيؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاء وجودها.
المهم في الموضوع، أن تفجيرات الرياض لن تكون الأخيرة كما لم تكن الأولى، والحرب التي أشعلت السعودية نارها على المتطرفين سوف لن تخمد بسهولة، فهي حرب مع نسبة مقدرة من المجتمع السعودي الذي يؤمن بالمذهب الوهابي طريقاً ومنفذاً له للخلاص من الجحيم، لذا ينبغي أن تخوض حربها هذه بكل روية دون استجابة للاستعجال الأمريكي المجحف وألا تزيد الضغط كي لا تنقطع الشعرة، فهذا هو الأجدى، والمذهب الوهابي رغم قسوته وشدته إلى أنه يظل محاولة للإصلاح جيدة، نجحت في شيء وأخفقت في أشياء أخرى، ولكن المهم أن يتغير مستقبلاً إلى صيغة معقولة تسمح للدولة التي تحتضنه أن تخرجه إلى النور دون خجل أو خوف من عواقب هذا الاحتضان.
15/06/2003 مـ