أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد هجرس - الدين والسياسة















المزيد.....


الدين والسياسة


سعد هجرس

الحوار المتمدن-العدد: 1738 - 2006 / 11 / 18 - 11:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ما مصدر القانون .. الله أم الانسان؟
كان هذا هو أول سؤال شغل الفكر السياسى منذ بزوغ الدولة. وهذا السؤال المركزى يبين أن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة قديمة وموضوعها كان مطروحا باستمرار فى كل الحضارات.
وهذا يعنى ان العلاقة بين الدين والسياسة علاقة قديمة ومتجددة فى آن واحد، ولا يختص بها دين معين، بل ان التماهى بين الدينى والسياسى يضرب بجذوره فى تاريخ البشرية، وهو تاريخ حافل بنماذج لا تعد ولا تحصى لتسييس الدين وتديين السياسة.
وهذه النماذج ليست حكرا على الاسلام والثقافة الاسلامية، وإنما نجد لها تجليات عديدة فى الغرب المسيحى الذى عرف الدولة الدينية قرونا طويلة وظل رازحا تحت وطأتها ولم يتخلص من تبعاتها إلا بعد حركة الاصلاح الدينى وعصر التنوير وصولا إلى عصر النهضة حيث تم فصل الدين عن الدولة والمدرسة.
والمفارقة العجيبة هى أن الغرب المسيحى لجا الى ترجمة كتب فيلسوفنا المسلم ابن رشد الذى كانت اسهاماته الفكرية أحد أهم الادبيات التى ساعدت أوروبا فى الانتقال من العصور الوسطى الى عصر النهضة.
والمخجل اننا كنا من أحرق كتب ابن رشد بعد ذلك فى عصور الانحطاط التى حلت بنا!
ورغم وقوع العالم العربى والاسلامى فى براثن عصور الانحطاط فانه لم يعدم ظهور افكار تنادى بفصل الدين عن الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وفى مقابل هذه الأفكار أعلت الجماعات المنتمية للتيار الاسلامى، بتنويعاته المختلفة، من شأن العامل الدينى، واستخدمته لمقاومة الحداثة عموما وليس لمقاومة فكرة الدولة المدنية فقط والاصرار على إلباس الدولة العمامة الاسلامية.
وبطبيعة الحال فان الجدل بين التيارين، التيار الداعى الى اقامة دولة مدنية والتيار الداعى الى التمسك بتلابيب الدولة الدينية، استمر فى تاريخ مصر الحديث، واختلفت حدته بين فترة وأخرى، فكان يضعف احيانا ويقوى أحيانا أخرى، لكنه لم ينقطع ابدا.
بيد أن مصر شهدت موجة صعود عارمة للعامل الديني خاصة بعد هزيمة يونية عام 1967 ووصلت هذه الموجة إلي ذرا غير مسبوقة، وبالذات مع اطلاق الرئيس الراحل أنور السادات لشعاره الشهير "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، وما تبع ذلك من تحالف بينه وبين جماعات الاسلام السياسي وهو التحالف الذي انتهي نهاية تراجيدية دفع فيها السادات حياته علي يد حلفائه الأصوليين.
ورغم أن الشد والجذب بين الدولة والمجتمع من جانب وبين جماعات الإسلام السياسي من جانب اَخر ليس وليد عصر السادات، بل يسبقه بسنوات وعقود فإنه اكتسب معه، وبعده، أبعادا جديدة أعطت العامل الديني قوة دافعة وسيطرة علي البلاد والعباد وتغلغلا في كل كبيرة وصغيرة وهيمنة علي السياسة والاقتصاد والثقافة وجميع الشئون الاجتماعية.
واتخذ هذا العامل الديني أشكالا مختلفة، ومتناقضة، تبدأ »بدروشة« المجتمع، ومظاهر شكلية كالحجاب والزي الإسلامي »واللحية« الخ وتنتهي بجماعة التكفير والهجرة التي تشهر السلاح في وجه الجميع.. مرورا بشركات توظيف الأموال التي أطلق أصحابها لحي هائلة ورفعوا لافتات دينية لتجميل صورة هذه الشركات التي استحلت أموال المودعين وغيرها من الممارسات التي حرصت علي ارتداء المسموح الاسلامية والتي لم تتورع عن تهديد الوحدة الوطنية في كثير من الأحيان واشاعة مناخ من الارهاب الفكري للمجتمع والمثقفين بالذات، وصل إلي حد التفريق بين استاذ جامعي وزوجته بحكم محكمة ومصادرة الكتب بما فيها ألف ليلة وليلة، واغتيال الدكتور فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ومكرم محمد أحمد.
واللافت للنظر ان صعود العامل الديني بهذه الصورة الكاسحة والمتشعبة لم يحدث في مصر فقط، بل ترافق مع صعود مشابه في معظم الدول العربية والاسلامية، فضلا عن ان بزوغ الاصولية الاسلامية كان جزءاً من بزوغ عام لكل الاصوليات الدينية، مسيحية ويهودية وحتي هندوسية وكان هذا المد الأصولي مصاحبا لانهيار الامبراطورية السوفيتية وانتهاء عصر الحرب الباردة وظهور معالم نظام عالمي جديد أحادي القطبية تنفرد بقيادته الولايات المتحدة الأمريكية .
وهنا يجدر بنا أن نفتح قوسا لجملة اعتراضية حول تداعيات انفراد واشنطن بقيادة النظام العالمى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، وتبنيها لاجندة "إمبراطورية" مع صعود المحافظين الجدد إلى قمة السلطة وسيطرتهم على مفاتيح صنع القرار فى الإدارة الأمريكية.
فهناك فوارق مهمة تستحق الاهتمام بين الولايات المتحدة وباقى الدول الغربية الاوروبية فيما يتعلق بمسألة الدين والسياسة.
ذلك انه على عكس الجذور العميقة نسبيا للعلمانية فى أوروبا وما ترتب على ذلك من فصل واضح بين الدين والسياسة نجد أن الادارات الأمريكية المتعاقبة – جمهورية كانت أم ديموقراطية – استخدمت الدين لتحقيق أهدافها السياسية.
وبهذا الصدد يذكرنا الدكتور محمد النابلسى رئيس المركز العربى للدراسات المستقبلية بالعبارة الساخرة التى أطلقها السياسى الفرنسى الداهية كليمنصو فى معرض حديثه عن الرئيس الأمريكى ويلسون إبان التحضيرات لعقد معاهدة فرساى والتى قال فيها إن "مشكلتنا مع الرئيس الأمريكى هى أنه يظن نفسه المسيح". أما سبب هذه العبارة العجيبة فهو أن ويلسون أصر على لعب دور "رسولى" خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها.
ويظهر ذلك من أنه انتخب تحت شعار عدم مشاركة أميركا في الحرب ليعود بعد ذلك فيتورط فيها. وفي تبرير ورطته يقول ويلسون: "... إن الشبان الأميركيين الذين قتلوا في الحرب هم طليعة حرب صليبية جديدة...". وانسجاماً مع هذا السياق الديني أطلق ولسن مبادئه الأربعة عشر ومعها وعوده الوردية للشعب الألماني. ودعوته لإنشاء "عصبة الأمم". وكلها لم تجد طريقها للتنفيذ كما طرحها ويلسون. بل أن ويلسون تحول إلى الهذيان الديني عندما راح يسوق لمعاهدة فرساي التي تعاكس كل طروحاته الرسولية. فالمهم في مثل هذا الهذيان هو الحفاظ على الوضعية الرسولية وليس تحقيق الأهداف النبيلة. وهذا ما حاول ويلسون فعله بتوحده مع المسيح وبلعبه دور "المسيح المنتظر". وانتهى ويلسون فريسة لاضطراب عصبي خطير متابعاً هذيانه، وهو يعرف في الطب النفسي باسم "هذيان الموسوية "(Délire Mosaique)، وكان فرويد قد درس شخصية ويلسون دراسة تحليلية وخلص إلى جملة نتائج نشرها في كتابه "التحليل النفسي للرئيس ويلسون"، الذي ترجم إلى العربية ونشره مركز الدراسات النفسية.
والملفت في الأمر هو درجة التشابه بين ويلسون وبين بوش الابن. والأهم اشتراكهما في هذيان الموسوية وتوابعه المسيحانية. فقد أعلن بوش حربه في أفغانستان على أنها حرب صليبية. ولما ثار العالم الإسلامي على هذا اللفظ تمت ترجمته بصورة محرفة تفتح أبواب الجدل. لكن هذا لم يمنع بوش من متابعة هذيانه الموسوي. فهو قسم العالم إلى أشرار وأخيار ينتمون إلى محور خير أو محور شر ولا وجود لمحاور أخرى!.
وها هو بوش أخيراً يصرح بأن الرب أسر له بأن يحتل أفغانستان والعراق!؟. أي أن سلوك بوش السياسي والعسكري سلوك مرتبط بإرادة الرب .
وواقع الأمر أن الثقافة الأميركية تشجع هذا النوع من الهذيان، فعلى عكس الظاهر العلماني فإن للديانة البروتستانتية أثرها الضاغط في السياسة الأميركية، ويتبدى هذا الأثر بالنقاط التالية:
1-بمراجعة قائمة الرؤساء الأميركيين منذ الاستقلال وحتى اليوم نجدهم جميعاً آريين بروتستانتيين) عدا كنيدي الكاثوليكي الذى تم اغتياله). والدستور الأميركي لا ينص على هذه الحصرية. من هنا نستنتج مقدار الضغوط البروتستانية للحفاظ على هذا المنصب البروتستانتي بدون قانون ملزم.
2- يعتبر الأميركيون أن دستور الآباء الأوائل (الدستور الأميركي) هو التوراة الجديدة. وأن الرئيس الأميركي هو من الرسل المكلفين حماية هذه التوراة. لذلك فهم يحاسبون رؤساءهم بقساوة خلال فترة حكمهم ويهملوهم بعدها.
3- يوازن الأميركيون بين أرضهم الأميركية وبين أرض الميعاد. ويعتبرون أن ثقافتهم تنطوي على أخلاقيات يجب التبشير بها وفرضها على العالم بالقوة إذا أمكن.
4-يجزم الأميركيون بأن البروتستانتية هي التي أنقذت القارة الأوروبية ودفعتها نحو التطور. فقد اعتمدت أوروبا بما فيها الكاثوليكية الأخلاقيات والقيم البروتستانتية لتحقق قفزات تطورها. ناهيك عن "الإحسان" الأميركي في دعم هذا التطور.
5- إن المحاكمة الدينية وفق القيم البروتستانتية تدخل كناخب رئيسي في اختيار الرئيس الأميركي وتحديد مواصفاته والمفاضلة بين المرشحين.
6- إن الرضى الأميركي على الأمم الأخرى يرتبط بمدى رعايتها ليهودها، فهذه الرعاية تمهد وتعجل ظهور المسيح وفق المعتقد البروتستانتي.
7- ديمومة انتشار المذاهب البروتستانتية، وهو دليل إقبال بدونه تذوب هذه المذاهب، يضاف إلى ذلك قدرة هذه المذاهب على إيصال أتباعها إلى رئاسة أميركا، حيث تمكنت الطائفة المشيخية مثلاً من إيصال الرؤساء ويلسون وكارتر، والطائفة الطهرانية من إيصال بوش الأب والابن وقس على ذلك.
8-المساحة الواسعة التي تحتلها الغيبيات في السياسة الأميركية، ويذهل المرء لمعرفة المساحة التي يحتلها التنجيم في السياسة الأميركية.
9- العنصر الديني في الاستراتيجية الأميركية، حيث بدأت الممانعة الأميركية لأوروبا الكاثوليكية ومن بعدها للشيوعية الملحدة وأخيراً للإسلام والكونفوشية، في مقابل سعي أميركي حثيث لفرض الرؤى البروتستانتية تحت مسمى الحقوق والديمقراطية وليبيرالية أميركا.
أضف إلى ذلك مظاهر دينية أخرى كثيرة منتشرة فى تفاصيل الحياة "
الدنيوية" الأمريكية، من أبرزها أن الدولار الأمريكى يكان أن يكون العملة الوحيدة التى تحمل عبارة "نحن نؤمن بالله".
In god we trust
وبعيدا عن الأفكار الأصولية التى تعادى أمريكا لاسباب أيديولوجية يمكننا أن نجد تلخيصا موضوعيا لهذه المسألة برمتها على لسان المفكر اليسارى الأمريكى الشهير ناعوم تشومسكى حيث قال بالنص أن "الولايات المتحدة هى فى الحقيقة واحدة من أكثر الثقافات الأصولية المتطرفة فى العالم، ليس على صعيد الدولة، بل الثقافة".
ونغلق الجملة الاعتراضية لنستنتج منها ان انفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمى، وتبنيها اجندة كونية إمبراطورية، له علاقة مباشرة بموضوعنا، ذلك أن أمريكا بثقافتها "الأصولية المتطرفة" – على حد تعبير تشومسكى – وفى ظل قيادة المحافظين الجدد الذين يضمون أكثر عناصر اليمين الأمريكى تطرفا وعنصرية ومناوأة للعلمانية، وبسياساتها العدوانية الاستعمارية التى ترفع شعارات صليبية فى كثير من الأحيان، تغذى كافة الاصوليات، مسيحية واسلامية ويهودية وهندوسية وغيرها، وتساعد – بالتالى – على بعث الهويات الدينية وإعطائها الأولوية على ما عداها من هويات.
ولعل هذا يقدم بدايات تفسير لكثيرين قال عنهم الدكتور عبد الإله بلقزيز أنهم "يستغربون كيف تستعيد صراعات اليوم عناوين الأمس، وكيف تطل قضايا الهويات والأديان والجدليات الثقافية – على مسرح السياسة وصراعات المصالح الاقتصادية فى العصر الراهن. ومبعث الاستغراب – لدى من يستغرب – أن ديناميات التطور الدافعة نحو الحداثة – كرؤية جديدة للعالم – ونحو التقدم التقنى والصناعى مما يفترض فيها ان تحرر السياسة والمصالح المادية من أى تأثير لعوامل فوق – سياسية - وفوق اجتماعية تتصل بالرموز أو بما هو روحى".
ويرى عبد الاله بلقزيز أن انصار النزعة الداروينية الاجتماعية هم أكثر من يستغربون عودة مسائل الثقافة والدين الى مسرح السياسة والصراع.
لكن هناك استغراب آخر يبديه المدافعون عن الفرضية القائلة بأن العامل الثقافى والروحى هو العامل المحرك للصراع بين المجتمعات والأمم.
أولاء يستغربون لاستغراب الأولين مشددين على أن استعداد الشعوب للدفاع عن هويتها وثقافتها لا يقل عن استعدادها للدفاع عن حقوقها ومصالحها الاقتصادية والسياسية، بل هو يفوقه أهمية وقيمة. فالمجتمع – فى مرآة هذه النظرة الانثروبوثقافية – قد يتحمل العدوان على قوته وحقوق أهاليه المادية، لكنه ليس يقوى على تحمل العدوان على هويته ودينه وثقافته . فهذه القراءة "الثقافوية" ميالة الى القول ان رابطا قويا موجود بين العدوان على الهوية والعدوان على الحقوق والمصالح، وهو ما يبرر الدفاع عن الهوية بوصفه دفاعا عن تلك الحقوق".
ولعلنا نرى مثالا حيا على ذلك فى هذا الاستنفار الذى يحدث فى مواجهة رسوم كاريكاتورية او أفلام سينمائية مسيئة للإسلام أو تصريحات عنصرية لبابا الفاتيكان، بينما يتم دفن الرءوس فى الرمال أمام القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى التى تتعلق بالاستقلال الوطنى والديموقراطية والتحديث والخروج من طوق التبعية والتخلف والفقر.. الخ !!
....
وايا كان تفسير ظاهرة المد الدينى والصعود الكاسح للتيار الإسلامي فى السنوات الأخيرة، فان ما يهمنا فى هذا السياق هو التجربة المصرية ورصد الموقف الراهن من الجدل حول السؤال المركزى الخاص بالدولة المدنية والدولة الدينية.
والواضح ان حل هذه المسألة ينتمى الى صلب وجوهر مهام الثورة البرجوازية، لكن البرجوازية المصرية لم تقم بحلها، بل إنها تميزت بقدر كبير من الانتهازية والمساومة بدرجات مختلفة فى المراحل التاريخية المختلفة من تاريخ مصر الحديث (مع الاعتراف بفترات صحوة ارتفعت فيها شعارات متقدمة مثل "الدين لله والوطن للجميع"، وانتعشت فيها التيارات الليبرالية واليسارية التى تركت بصمات مهمة على الثقافة المصرية والحياة السياسية المصرية).
لكن المنحى المتراجع الذى بدأ فى عهد السادات استمر ليصل الى حد التحالف بين الحزب الحاكم وبين تيارات الإسلام السياسى فى نهاية المطاف.
ورغم ما بين الطرفين من تناقضات فى مسائل عديدة فانهما يتفقان حتى اليوم على مسألتين:
الأولى هى رفض العلمانية
والثانية هى التشبث بالمادة الثانية عن الدستور التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع.
وكانت المفارقة العجيبة هى تصريح رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف الذى قال فيه ان النظام السياسى المصرى علمانى، فقامت الدنيا ولم تقعد، حتى أدلى الدكتور مفيد شهاب بتصريحات مناقضة قال فيها ان تصريحات نظيف تعرضت لسوء تأويل وان مصر ليست دولة علمانية.
وفى مواجهة تذبذب موقف البرجوازية المصرية إزاء مسألة العلاقة بين الدين والدولة، كان موقف اليسار المصرى متسما بقدر كبير من الوضوح والحسم منذ البداية.. حيث تمسك اليسار – على تعدد فصائله – برفع شعار العلمانية والمطالبة بفصل الدين عن الدولة والمدرسة.
وتعرض اليسار بسبب ذلك الموقف الى حملة تشهير وتشويه مروعة، حيث دأبت بعض فصائل اليمين على الترويج الكاذب لان العلمانية تعنى الكفر والإلحاد، واجتزاء كلمات لكارل ماركس عن الدين باعتباره "افيون الشعوب" لتأكيد هذه المزاعم والادعاءات الكذوبة، رغم أن ماركس نفسه قال فى رسائله لفردريك انجز إن "معركتنا مع الأرض وليست مع السماء"، ورغم ان لائحة كل الأحزاب الشيوعية واليسارية لم تتضمن شيئا يرتبط بالعقيدة الدينية من قريب أو بعيد. وانحصرت شروط العضوية فى ثلاثة شروط لا رابع لها هى:
1- الموافقة على برنامج الحزب.
2- الانضمام الى أحد هيئاته.
3- دفع اشتراك شهرى.
أى ان الإلحاد أو الإيمان لا علاقة لهما بالانضمام الى أى حزب شيوعى أو يسارى ومع ذلك استمرت الحملة الكاذبة فى الافتراء والتدليس، وأغلب الظن أنها حققت أهدافها فى تنفير الجماهير العريضة من فكرة العلمانية وفصل الدين عن الدولة والمدرسة.
يترافق مع هذا تلك النجاحات الكبيرة التى حققتها جماعات الإسلام السياسى ليس فقط فى الانتخابات (رغم التزوير) وانما أيضا واساسا فى كسب الشارع الى صف الحجاب وغيره من مظاهر "تديين" مجالات الحياة المختلفة.
هذا النجاح الكبير الذى حققته جماعات الإسلام السياسى ليس راجعا فقط الى مجهوداتهم التى قاموا – ويقومون بها – وإنما إلى أسباب أخرى من بينها سلبيات اليسار.
ومن أهم هذه السلبيات ممارسات صبيانية واستفزازية لبعض اليساريين الذين لم يراعوا احترام المشاعر الدينية لغالبية المصريين.
لكن الأهم من هذه الممارسات الصبيانية هو ان اليسار ترك الدين جانبا، باعتباره "أمرا لا يعنيننا". وبهذا تم التخلى عنه لصالح الرجعية التى استخدمته – ولا تزال – ضد التقدم.
كما تم التخلى عن مهمة تجديد الخطاب الدينى ، والإصلاح الدينى عموما، وتلك مهمة تقدمية بطبيعتها، لا يمكن ان يقوم بها رجعيون.
والآن .. وبدلا من البكاء على اللبن المسكوب يجدر باليسار المصرى ان يحدد بوضوح موقفه من القضية الشائكة : دولة مدنية أم دولة دينية.
والاستنتاجات الرئيسية بهذا الصدد، وفى عجالة سريعة، هى :
1- التمسك بأدبيات اليسار التى تمثل – فى الاتجاه العام – صفحة مشرفة ومضيئة، وتجسد موقفا صحيحا يناضل من أجل إقامة مجتمع مدنى، كثقافة وكمشروع أساسي للدولة الاجتماعية الحديثة على أساس علمانى يتم على ضوئه فصل الدين عن الدولة.
2- عدم الاكتفاء بالطرح العام لشعار العلمانية، أو ترديد تعريفاته الغربية. فهذا الطرح الحالى فقير يقتصر فيه الاجتهاد على القول بعدم وجود نصوص شرعية تدعو لعدم الفصل بين الدين والدولة، ويعتبر ان العلاقة التى قامت فى التاريخ العربى الإسلامي، من خلافة وغيرها، لا علاقة لها بجوهر الإسلام.
فضلا عن أن الاكتفاء بإسقاط العلمانية الغربية على الواقع العربى لا يحل كثيرا من الإشكاليات. فهناك فروق مهمة بين الواقع هنا والواقع هناك. ثم ان هناك "طبعات" متعددة من العلمانية الغربية,.
وبالتالى فان هناك حاجة الى اجتهاد مصرى عربى لإبداع خطاب علمانى متوائم مع واقعنا الاجتماعى. وهذا الإبداع المنشود لا يمكن تصوره بدون مرجعية إصلاحية عقلانية ترسى دعائم "وفاق" تاريخى وعقد اجتماعى جديد لا يلغى العامل الروحى، بل يضعه فى سياق إثراء الدولة المدنية التى تقوم على الفصل بين الدين والسياسة.
ونشدد هنا على كلمة "التوافق" لان المجتمع لا يشتمل على فئة واحدة ، وإنما تتعدد أصول وفروع الجماعة الوطنية، وجماعات الإسلام السياسى – بما فى ذلك الإخوان المسلمون – جزء لا يتجزأ من نسيج الجماعة الوطنية.
قد نختلف معها فى أمور جذرية وجوهرية لكن التوافق معها حول شروط العيش المشترك أمر لا غنى عنه.
فضلا عن أن العلمانية لن تتحقق فى المجتمع ب "قرار" وإنما بإقناع شركائنا فى الوطن بأن هذا فى مصلحة الجميع.
وهذا بدوره يتطلب القيام بواجبات فرعية مهمة فى مقدمتها العمل الفكرى الدءوب لاعادة الاعتبار للعلمانية وطمأنة الرأى العام الى ان الداعين إليها لا يعتبرونها دينا جديدا أو مذهبا مناهضا للدين، ولا يسعون الى معركة بين العقلانية والدين. لأن معركتنا الأساسية – كما قال ماركس – ليست مع السماء وإنما مع الأرض. وان هذا يعنى بالضرورة السعى الى تأسيس عقلانية علمانية عربية بـ "التوافق" وليس بالاستئصال أو الاستبعاد أو الاستقواء.
3- إعادة النظر فى أساليب التعامل مع جماعات الإسلام السياسى (مع استمرار التمسك بالموقف التضامنى مع المطالب العادلة للأقباط) فهذه الجماعات ليست كتلة صماء متجانسة، بل ان فيها تنوعا ينبغى تأمله والتعامل معه بصورة ذكية تميز بين العناصر المحافظة والجماعات الاقل محافظة (ابو العلا ماضى وحزب الوسط نموذجا)، بل والتمييز بين أجنحة محافظة وأخرى إصلاحية داخل جماعة الاخوان المسلمين ذاتها (عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان نموذجا) .
والأهم هو النظر الى جماعات الإسلام السياسى فى السياق التاريخى وليست بصورة مجردة ، وعلى سبيل المثال فإن هناك فارق بين دور ووظيفة هذه الجماعات أثناء وجود الاتحاد السوفيتى وبعد اختفائه. لان الإدارات الأمريكية دأبت على استخدام جماعات الإسلام السياسى أثناء انقسام العالم الى معسكرين كـ "ظهير" لها فى الحرب على الشيوعية "الملحدة".
هذا الدول اصبح فى خبر كان بعد ان انهارت الإمبراطورية السوفيتية.. وحلت محل تحالفات الأمس تناقضات اليوم كما نرى تجلياتها على أكثر من صعيد.
هذا التحول .. يفرض تحولات سياسية مقابلة لا يجدر تجاهلها أو التهوين من شأنها.
4- الالتفات إلى أن مسألة العلاقة بين الدين والسياسة أصبحت تحتل موقعا مهما فى ملف الإصلاح فى العالم العربى.
5- الإقلاع عن الإهمال، أو التعالى، الذى ميز أدبيات وسياسات كثير من فصائل اليسار المصرى والعربى سابقا تجاه المسألة الدينية. فالعامل الدينى يمارس حضورا متصاعدا فى كافة المجالات . كما تقوم الأديان ومؤسساتها بأدوار جديدة فى العالم المعاصر – وليس فى مصر والعالم العربى فقط – كما يتم توظيف الدين فى السياسة سواء فى معرض تبرير الخطاب السياسى للنخب الحاكمة التى تتآكل شرعيتها.
أضف الى ذلك ان العنصر الدينى أصبح بعدا مهما من أبعاد السياسة الخارجية سواء للدول الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، او للدول النامية.
كل هذه الاعتبارات تطرح على اليسار المصرى والعربى واجب التعامل مع مسألة العلاقة بين الدين والسياسة بصورة اكثر جدية ، وأكثر تركيزا، وأكثر إبداعا.
وهى فى ذلك لا تنطلق من فراغ، وانما ترتكز على تراث وأدبيات صحيحة مهمة. لكن لم يعد يكفى اجترارها، أو ترديد شعارات عامة.
المطلوب إبداع جديد.. يحافظ على الثوابت المبدئية المتعلقة بالنضال من اجل إقامة دولة مدنية حديثة، وبالتمسك بالعلمانية كبوصلة رئيسية، لكنه يجتهد أيضا فى الاشتباك الديناميكى مع المستجدات المحلية والإقليمية والدولية والابتكار الخلاق لصيغ توافقية لازمة لإرساء دعائم عقد اجتماعى جديد يكون موقع تراضى جميع فصائل الجماعة الوطنية.



#سعد_هجرس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرب وأمريكا.. وتراجيديا الحب من طرف واحد
- إسماعيل صبرى عبدالله .. فارس الفكر والثورة
- ذئاب .. وأغنام .. وكلاب
- تعديل التعديل
- -إبسن- .. و-دنقل-
- فراشة »كفاية«.. تحلق في أجواء ملبدة بالغيوم.. والنيران الصدي ...
- ..إلاّ الماء والهواء يا حكومة
- باقة ورد إلى محمد عوده
- وادى دجلة .. فى خطر
- شكوى الفلاح الفصيح من بنك الائتمان الزراعى
- نوبل .. والفقراء
- كابوس إقطاع العصور الوسطى يهدد الحلم الأمريكى
- صحة الشعب أخطر من أن تترك للبيروقراط
- كلام المصاطب.. وتقارير العسس
- جرائد .. قبرصية
- بلد .. شهادات
- البحث عن البيزنس فى جزيرة افروديت - 1
- البحث عن البيزنس في جزيرة أفروديت 2
- البحث عن البيزنس في جزيرة أفروديت 3
- قواعد اللعبة


المزيد.....




- قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين ...
- 144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعد هجرس - الدين والسياسة