أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 4















المزيد.....

العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 4


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 1736 - 2006 / 11 / 16 - 10:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لن يقيد النجاح لأي مشروع إصلاحي بالمنطقة، ما لم يبدأ من نقطة البداية الصحيحة، فما تعثُر المشروع الإصلاحي الأمريكي أو الغربي بالمنطقة، وتلقيه الصفعة أو الخيبة تلو الأخرى، إلا لأنه يحاول القفز فوق حقائق الواقع، والبدء من نقطة النهاية، وسواء تم هذا بسبب الجهل بحقائق المنطقة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، أو كان خلفه التسرع وتعجل النتائج بأي ثمن، فإن الثمار المرة هي النتيجة الطبيعية، ما تجنيه المنطقة والمشروع ذاته من تصاعد التيارات السلفية والمتعصبة عبر صناديق الاقتراع، في العراق ولبنان وفلسطين، كما في كل موقع تمت فيه انتخابات على أي درجة من النزاهة.
إن إدخال المنطقة وشعوبها إلى العصر الحديث وألفيته الثالثة لا يكون إلا بتغيير الثقافة والعقلية الشرقية، بثقافة جديدة قادرة على فهم واستيعاب الكم الهائل من المتغيرات النوعية في جميع مناحي الحياة، ما تراكم عبر قرون وقرون، غفلت فيها شعوب المنطقة عن الإحساس بالزمن.
ما نعنيه هو الانتقال بالثقافة والعقلية الشرقية من الشفاهية إلى الكتابية، أو بتعبير أدق: الوصول بنسبة الكتابية في ثقافة الشرق الشفاهية بالأساس، إلى المعدل المناسب لبدء التعامل مع حقائق العصر، بدلاً من رفضها المطلق، كما هو حادث الآن، على أمل أنه حين تدور عجلة الحداثة، فإنها سوف تتكفل تلقائياً باستكمال الثقافة والعقل الشرقي باقي مقومات الحداثة وما بعدها.
ما نحتاجه ليس ما سمي بمحو الأمية، فمجرد تعلم القراءة والكتابة، أو حتى الحصول على أعلى الدرجات العلمية، لا يؤدي تلقائياً لتحول ثقافة وعقلية الفرد إلى الكتابية بنسبة مقبولة وفعالة، فالتعليم وممارسة الكتابة يؤدي حتماً إلى تغيرات في ذلك الاتجاه، لكنها لكي تؤثر جدياً في عمل العقل يلزمها التعمق إلى درجة معينة، ولنفترض أن النسبة المقبولة لتشبع ثقافة الإنسان بالكتابية هي أكبر من 50%، فهذا الحد الأدنى المفترض يؤمل منه أن يؤهل الإنسان لاستكمال مسيرة تحديث عقله وثقافته، لتصل نسبة الكتابية فيها إلى حدها الأقصى، الذي نفترض جدلاً أنه أكثر من 90%، والأمر مرتهن قطعاً وبالأساس بنظام التعليم السائد، فالنظام القائم على التلقين والاستظهار - كما هو السائد في مصر، والأغلب في سائر الدول العربية – لا يكسب الطالب المهارات العقلية التي تتيحها الكتابة، وهي كما قلنا المراجعة والتحليل والتركيب، لكنه يرسخ التناول الشفاهي، عبر تناول المدونات بذات النهج الذي اعتاد العقل تناول الخطاب الشفاهي به، ليتخرج الطالب من مراحل الدراسة النهائية، ولم يزد عليه إلا كم من المعلومات مختزن في ذاكرته، هذا إذا لم يكن غث الكلام ينسي بعضه بعضاً، ولنا في ظاهرة الدروس الخصوصية المتفشية بين الطلبة المصريين خير دليل، فالمواد الدراسية موجودة في كتب الوزارة المقررة، وهناك شروح وافية لها في كتب خارجية يحوزها جميع الطلاب، لكنهم يصرون على مدرس خصوصي يشرحها لهم، هو إصرار على تلقي الرسالة المكتوبة بصوت مسموع، ليتم التعامل معها بذات النهج الشفاهي وهو الاستظهار، ليقتصر دور الكتابة هنا على التأكد من دقة الاستظهار، وهنالك أيضاً في معرض الممارسات الشفاهية في التعليم نماذج الامتحانات وأجوبتها النموذجية، والتي تغطي المقررات بالطول والعرض، ويستحيل وفقاً للسائد أن تخرج عنها أسئلة الامتحان النهائي، ويكون على الطالب (الذي نصفه بالمتفوق) حفظ جميع الأسئلة المحتملة وأجوبتها النموذجية عن ظهر قلب، ليحصل في النهاية على درجات تتعدى نسبة 100%، كما نرى في نتائج الثانوية العامة المصرية، بهذا يتخرج الطالب وقد تكرست شفاهيته، والأدهى أن ما يسمى بكليات القمة، وكلها كليات عملية كالطب والهندسة، يحتلها الحاصلون على أعلى الدرجات، أي أكثر الطلبة شفاهية، ومن المنطقي والحالة هذه أن يفشل أي طالب حاول فهم المقررات فهماً تحليلياً علمياً (أي كتابياً) في أن يجد له مكاناً مناسباً في الجامعات المصرية.
العنوان هو: "تناول الكتابة بنهج شفاهي"، وكنا قد قلنا قبلاً أن استيراد التكنولوجيا بدون القيم والنهج الذي أنجبها بمثابة زواج من جثة، وهذا ما حدث ويحدث في كل ما ننقل عن الغرب من مظاهر حضارة، تصديقاً لما قاله شاعرنا:
خلاصة القضية توجز في عبارة
قد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية
فالكومبيوتر الذي انتشر الآن في المصالح الحكومية، يتم التعامل معه بواسطة الموظفين بثقافة تبعد أميالاً عن الثقافة المناسبة لهذا الجهاز، ورأى كاتب هذه السطور بعينية موظفي أحد المصالح الحكومية يضعون شندوتشات الفول والفلافل على لوحة المفاتيح الخاصة بالكومبيوتر أثناء تناولهم للفطور، ناهيك عن دورة المستندات التي تم إدخال الكومبيوتر فيها عنوة، دون أن يتم تعديلها وتطويرها لتتناسب مع المفاهيم الجديدة، لتكون النتيجة تقعد الأعمال والمصالح بدلاً من تسهيلها!!
لكن تناول الكتابة بأسلوب شفاهي يؤدي لما هو أسوأ مما جاء أعلاه، إذ يؤدي هذا النهج ليس فقط إلى تكريس الشفاهية وتفاقم تأثيراتها السلبية على العقل والثقافة، بل أيضاً إلى فقدان بعض مزايا العالم الشفاهي، ولنبدأ بتلك المزايا المفقودة، ففي عالم التوارث الشفاهي للمعارف هناك مساحة لا بأس بها للتطور، عن طريق نسيان أو إسقاط ما أثبتت الأيام خطأه أو انتهت صلاحيته، وما لم يعد مناسباً لقيم العصر وذوقه، وفي المقابل يتم في سرية إدخال ما يتناسب مع الأحوال المستجدة، أو ما يتطلبه واقع الحال، سواء تم هذا الإسقاط والإضافة بوعي أو بدون وعي، فالراوية الذي يقص على الناس سير الأقدمين وحكمتهم ينسى أو يتناسى ما لم يعد مقبولاً، ويدخل على روايته ما يرى أن هنالك حاجة إليه، وهو في هذا يعتمد على حاسته الشخصية، مدفوعاً بحرصه على اجتذاب قلوب وآذان مستمعيه الحاضرين أمامه، وهي آلية تتخلص بها الثقافة الشفاهية من نفاياتها، كما تجدد من دمائها وشبابها، بالطبع لا تعمل هذه الآلية بالصورة الكاملة أو المرضية لطموح الكتابيين في التطور، لكن المؤسف بحق هو فقدانها في حالة ثقافة شفاهية تستخدم التدوين بذات نهجها الشفاهي (لنسمها تجاوزاً ثقافة مختلطة)، فتثبيت النصوص التراثية عبر التدوين يجعل من المستحيل تعديلها بالحذف والإضافة، ما يعني فقدان تلك المجتمعات لنافذة التطور الضيقة، التي كانت متاحة لأسلافهم الشفاهيين الأصلاء.
مشكلة أخرى تواجه أصحاب الثقافة المختلطة، هي أن وحدة التعامل أو الفهم الصغرى في الثقافة الشفاهية هي مجموعة الألفاظ المعبرة عن المعنى المتعارف عليه، أي ما نسميه الآن "الجملة"، وهي تدل على المعنى في العقل الشفاهي بصورة عامة، لا تعرف الضبط الدقيق للكلمات وترتيبها، فعملية الفهم أو القراءة في العقلية الشفاهية تكون بسيطة ومباشرة، بخلاف العقلية الكتابية التي تتعامل مع الكلمة المفردة كوحدة صغرى لتكوين المعنى، ويؤدي التعامل مع معاني النصوص الشفاهية المدونة بطريقة كتابية، عبر تحليل معاني الكلمات واشتقاقاتها وتباديل ترتيبها في الجملة، إلى الوصول إلى استنتاجات لم تخطر ببال منشئ النص الأصلي، ومن الواضح أن مردود استيلاد مثل هذه الاستنتاجات قد يكون إيجابياً باتجاه التطور، وقد يكون سلبياً، وقد يكون مجرد إبحار في متاهات.
لكن أخطر ورطة يسببها تدوين النصوص الشفاهية هو ظهور متناقضاتها، فمنتج النص الشفاهي الضخم لا يكون واعياً لتناقضات خطابه، فهو في الأغلب يكون منقاداً لسياق اللحظة عند قيامه بتأليف الخطاب، في غياب ما سبق له إنتاجه في لحظات أخرى، حتى لو كان الخطاب القديم محفوظاً في الذاكرة، فعملية استحضاره غير واردة عملياً، علاوة على أن علميات المراجعة والمقارنة عمليات عقلية تفتقدها العقلية الشفاهية إلى حد بعيد، ومن هنا يتضح أن لا محل لتعجب الكتابيين مما يكتشفونه من كم هائل لتناقضات التراث، ولنأخذ مثالاً بسيطاً من المثلين الشعبيين المصريين: "النار ما تصبش مؤمن" و "المؤمن منصاب"، لنكتشف التناقض المحير لحكمة دائرية تفضي إلى لا شيء!!
معركة الحداثة إذن ليست معركة القضاء على الأمية، ولا معركة التبشير بأفكار التنوير، لكنها معركة تطوير الثقافة والعقلية الشرقية، لتنتقل من عالم الشفاهية إلى عالم الكتابية.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عافية فيصل القاسم
- اللون البرتقالي بعيون عربية
- هيا بنا نفشل
- العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 3
- الفلسطينيون وخياراتهم الكارثية
- العقلية الشفاهية والواقع المأزوم - 2
- العقلية الشفاهية والواقع المأزوم - 1
- مصريون ضد الكراهية
- شجيع السيما وجماهيره
- فوضى الهزيمة والانتصار
- عندما تتحدث الرهينة
- رجالات لبنان بين الحكمة والتخاذل
- العرب وأبطالهم الصناديد
- الأقباط والسقوط المدوي
- يحيا العدل والبقية تأتي
- العلمانية وسقوط الأيديولوجيا
- العلمانية المستحيلة
- عزاء واجب لقناة الخنزيرة
- البهائيون في أرض النفاق
- المأساة المصرية وترمومتر لينا الفيشاوي


المزيد.....




- قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين ...
- 144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - العقلية الشفاهية والواقع المأزوم 4