|
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1735 - 2006 / 11 / 15 - 05:27
المحور:
سيرة ذاتية
مزرعة ٌ للذاكرة ، أنتيكا للذكرى ما من ريبٍ ، أنه كان إتفاقاً محضاً أنْ تتطابقَ رحلاتي الألمانية ، الأربع ، مع الفصول الأربعة للسنة ، وأن تتوالى عاماً بإثر أخيه وإعتباراً من عام 2003 . فإذ مرّتْ بالشتاء رحلتي الأولى ، وتلتها الثانية في الربيع ، فما كان لرحلتيّ الثالثة والرابعة إلاّ أن يتنشقا ، على التوالي ، مشامَ الصيف ونسائمَ الخريف . هاتان الأخيرتان ، وهما موضوع هذه الحلقة ، الأخيرة ، من سِفر سَفراتي لموطن الجرمان ، لم تكونا بالترتيب الأزليّ ، الطبيعيّ ، للدورة الشمسيّة . وعلى هذا ، فمن الطبيعي أنْ أستهلّ القولَ برحلتي الثالثة ، المستهلة بدورها حلول الخريف . كان صيفُ العام الماضي ، وأنا أتكلم هنا عن أوروبا الشمالية ، مخيباً للآمال بسحبه المقيمة وأمطاره المزعجة ، فضلاً عن هوامه الفضولية . الأنكى أن ينتظرَ المرءُ ، في مثل حالتي ، جلاءَ الشتاء السويديّ الطويل ، الممضّ ، ليواجه من ثمّ صيفاً إسمياً ، هوَ إمتدادٌ فعليّ لفصل الصقيع ، ذاكَ . فصحّ عندي ، والحالة تلك ، الهروب جنوباً ، صوبَ ألمانية ، بوهم أنّ مناخها سيكون أفضل حالاً . هذا ، على الرغم من حقيقة إستمتاعي ، على أبواب الصيف نفسه ، بعطلة إسبوعية ، رائعة ، في ربوع العاصمة الفرنسية ؛ في باريس النور والشمس والجمال والفنّ .
حطتْ بنا الطائرة ، إذاً ، في مطار مدينة " لوبيك " ، مخترقة ً السحبَ المتجهمة والريح المزمجرة . وكعادتهما الكريمة ، كان صديقي وزوجه حاضريْن هناك ، علاوة على إبنتهما الصغيرة ، وللنطلق من ثمّ بالسيارة إلى بلدة " شفارتزنبك " ؛ أينَ يقيمون . هذه الإبنة ، المناهزة آنئذٍ سنّ السابعة من عمرها الغضّ ، سيكون على والديْها ، وبعدَ أيام قليلة من وصولي ، إصطحابها إلى الفصل الأول من المدرسة الإبتدائية . من جانبي ، فلم أفوّت تلك الفرصة ، التي ستسنحُ لي بمعاينةٍ عن قربٍ لتقاليد المجتمع الألمانيّ ، في هذا الشأن . منذ الصباح الباكر ، إئتلف َ جمعُ التلاميذ وأهليهم أمام المدرسة المطلوبة ؛ الصباح المبشّر بيوم مشمس ، قائظ ، كما يتبيّنه المرءُ من تأمل المساكب المعشوشبة ، التي جفّ عليها قطرُ المطر ، المتهاطل على طول وعرض الأيام المنصرمة . لاحظتُ أن التلامذة ، أولاداً وبناتٍ ، يضمّ كل منهم بين يديه ، بحنوّ وحرص ، لفة من الورق المقوى ، الملون ، المشكلة على صورة قمع المرطبات ( بوري ) ، والمترّسة بلاصِق : هاهنا ، هدية الأهل للطفل ، بتلك المناسبة السعيدة ، والتي سيتمّ فتحها بعيْدَ إحتفال مقرر . وهذا ما كان موعده على مسرح المدرسة ؛ كلمات ٌ مقتضبة لمعلمات وأمهات ؛ جوقة أطفال ، من مختلف مراتب العمر ، في إنشاد جماعيّ ( كوْراليّ ) ؛ مسرحية ( أو مشهدٌ إيمائيّ ، على الأصح ) ، لآخرين من زملائهم ؛ بهجة ٌ وحبورٌ وسعادة ، لا يلمّ بمداها ، ربما ، سوى من عاش لحظات طفلةٍ ، مماثلةٍ ، في طفولته : هاهنا ، أيضاً ، أستعيدُ يوماً قديماً ، " أشبَهَ " بهذا اليوم المُعيّد ، حينما جرّني والدي إلى المدرسة الإبتدائية ، لأباشر سنتي الأولى فيها . لم يخفف من رعبي ، وعبراتي ، كونَ بعض الأساتذة على صداقة بالأب ؛ وخاصة ً حينما إفترقتُ عنه ، عنوة ً ، ليقتادني أحدهم إلى الفصل المطلوب . في تلك الحجرة ، ذات الرائحة الغريبة ، التي لم أكن معتاداً بعدُ عليها ، جالت ْ عيناي ، مدهوشة ، على هيئات أطفال من لداتي ؛ متهالكٌ بعضهم على المكاتب الخشبيّة ، الرثة ، وعلائم البكاء والتعاسة متجلية في عيونهم ؛ متقافزٌ غيرهم ، كالقردة ، غير مبالين بزعيق المعلم ، المفترض ، ولا بتلويحة عصاه الخيزرانية ، الإرهابية !
مكانٌ آخر ، كنتُ أيضاً على موعدٍ معه ؛ إلا أنه أكثر بعداً : " بريمن " ؛ المدينة الواقعة على مبعدة ساعة ونيّف من بلدة مضيفي ، تلك . كما سلفَ لي القول ، في الحلقة الثانية من هذه الرحلة ، فمعرفتي بهذه الحاضرة الكبيرة ، الواقعة إلى الجنوب من شفارتزنبك ، كانت عابرة ً ؛ عبورَ سيارتنا خلالها في طريقنا من باريس . وجدتُ نفسي ومضيفي ، إذاً ، في المدينة التي يعيش فيها إخوته ؛ وتحديداً في ضيافة شقيقته ، المقيمة آنئذٍ في شقةٍ صغيرة ، غير بعيدة عن المركز . وفضلاً عن الميزة الأخيرة تلك ، كانت الشقة أنيقة ؛ حال مسكن صديقي في شفارتزنبك ، الموزع على طبقتيْن . في بريمن هذه ، كما في المدن الألمانية الاخرى ، بمستطاع المرء التمتع بحياةٍ ريفيةٍ ، هادئة ، دون أن يضطر لتجشم عناء مغادرة المدينة : تقليدٌ خاص بموطن الجرمان ، المتحضر ، يتيحُ إستئجار مزرعةٍ تضمّ كوخاً متواضعاً ، في غرفتيْن وملاحقهما ، علاوة ً على حديقةٍ فارهة . وقد إمتلكت عائلة مضيفينا مزرعتها الخاصة ، لقاء إيجار بخس ، لا يتعدى المئة يورو في العام .
زرنا هذا المسكن الريفي ، في ذات اليوم المتعيّن فيه علينا التوجه بالسيارة نحو طريق العودة لشفارتزنبك ؛ يوم متجهم نوعاً ، شاهد بين فينة واخرى ، على إطلالة خجولة للشمس المحتجبة خلف السحب ، والمبللة بغيثها . أدهشني هناك ، قبل كل شيء ، وقوع المزرعة على مقربة دانية من منزل أولئك الأصدقاء ؛ خاصة ً أنّ مسيرنا إليها كان ركوباً بالسيارة ، كما ذكرتُ آنفاً . المزرعة واحدة من مثيلاتها ، الموزعة على مجمع مأهول ( كولونيات ) ، متشابهة من حيث التصميم والغرض ؛ وإن كان كل منها له ذوق أصحابه ، الخاص . أقفُ أمام سور خشبيّ واطيء ، تتسلقه خميلة من التعريشات وتغيّبه تماماً ، أحياناً ؛ وأعبرُ بعدئذٍ بوابة من الخشب المسلّك ، تنفتح على ممشىً حجريّ ، ضيّق ، يفضي مباشرة للكوخ . على كلّ من جانبيّ الممشى ، ثمة حوض على الضيق نفسه ، يفصله عن المسكبة الخضراء ، المعشوشبة ، حافة ٌ دقيقة ، إسمنتية .أغراس ذلك الحوض ، إقتصرتْ على أنواع من الورد الجوري ، فيما تطالعُ المرء شجيرتا دفلى ، مركونتان بإزاء جدار الكوخ ، المقابل للمشى . أما على جداره الآخر ، الأيسر ، حيث الباب والنافذة ، فقد تناهى إمتدادُ عارشة الكرمة ، الكثيفة ، المغطية أيضاً سور المزرعة الخشبيّ من الجهة الخلفية . تلك الجهة ، تطل على مزرعةٍ جارة ، كان أصحابها أكثر عناية بحديقتهم ؛ بورودها وأزهارها وأشجارها ، إضافة لتزيينها ببركةٍ جميلة ، بحجم مستنقع صغير ، تتوسطه نافورة .
تقليدٌ آخر ، رغم أنه شائعٌ في معظم المدن شرقاً وغرباً ، لحظته في زيارتي لبريمن ؛ وهوَ التسوّق في بازار الأشياء المستعملة . وقد رغبت العائلة الصديقة ، في اليوم التالي لوصولنا ، أن نتوجه إلى ذلك السوق ، منوهين إليّ بشكل خاص من أنني لابدّ وواجد فيه متعة خاصة . ثمة ، إلتمّت الصحبة ، إذاً ، بعيد توصيلة سريعة لركبنا في السيارة المتأثرة مسارَ سيارة مضيفينا . بدا السوقُ عن بعد ، كأيّ بازار عشوائيّ ؛ بأكشاكه وعرباته ودكاته ومعروضاته . كان كل ما يخطرُ للمرء ، من أشياء وأغراض ولوازم ، منتصباً هناك أو متدلياً . وفي هكذا حالة ، كنتُ مستهاماً بالأنتيكا من تحفٍ وصور ولوحات ، أكثر من أيّ شيء آخر . لقد حلمتُ دوماً بمكتبٍ متواضع ، يضمّ كتبي وأوراقي ؛ وحينما تحقق لي ذلك ، أخيراً ، ما عاد لي من شاغل ، فضلاً عن الكتابة والقراءة ، سوى بإنتقاء " الإكسسوارات " له ! من ذلك البازار ، وإثر تفاصيل السِعر ، الإعتيادية ، مع البائع ، عدتُ من رحلتي الثالثة لألمانية بتحفتيْ أنتيكا : طبنجة تركية ، بديعة الزخرفة ، وجدتْ مكانها على الحائط بإزاء طاولة مكتبي ، جنباً إلى جنب مع أسلحة اخرى ، قديمة ؛ ومطحنة بن ، من خشبٍ مصقول ، فاخر ، عليه علامة برازيلية ، تفيدُ ، والله أعلم ، بمصدر الصنع .
برجٌ للتاريخ ، كرة ٌ للعالم
ألمانية ، مناظرٌ للقلوب . ستتهادى رحلتي الرابعة إليها في هذا الصيف الفريد ؛ في حزيران ، تحديداً ، المُسجّل أعلى درجات للحرارة منذ عقودٍ ثلاثة . حينما غادرتُ مطار ستوكهولم الدولي ، كان الجوّ خانقاً ، وأيدي الركاب لا تني في حركةٍ واحدة ، ملوّحةٍ ، محاولة ً إستجلاب الهواء الشحيح . الصيف في موطن الجرمان هذا ، شاءَ التناهي في فرادته ؛ بحلول كأس العالم للكرة ـ مونديال 2006 ـ في ربوعه الساحرة . كانَ الدور الثمانيّ من ذلك المونديال ، قد إستهلّ للتوّ ، متزامناً مع وصولي عبْرَ مطار هامبورغ الدولي . كلّ ما وقعتْ عليه عينايَ هنا ، كانَ متواشجاً مع تلك المناسبة الكروية ، السعيدة ؛ من إعلانات وملصقات وأعلام ونصُب .. وغيرها . كأنما كنتُ على موعدٍ مع برنامج المونديال ، الموزع على مدن مختلفة ؛ أنا غير المعنيّ ، أصلاً ، بهذا البرنامج ، وبالرغم من تشجيعي ، المفترض ، لفريق السويد ؛ البلد الذي أحمل جواز سفره الرسميّ . إلا أنّ فريقنا ، العتيد ، سيخرجُ من دور الثماني مهزوماً ، وعلى يدِ الفريق الألماني ، بالذات ، الذي منحته حقاً ، ودوماً ، تشجيعي الحقيقي ، المتواضع !
بقيتُ يوميْن في " شفارتزنبك " ، ومن ثمّ وجهتُ شطري نحو بلدة اخرى ، صغيرة ؛ هيَ " هالتِرْن " ، أينَ يُقيم صديقنا سيروان حجي بركو ، الصحفي الكردي وصاحب موقع " عامودا . كوم " ، الإنترنيتي . كان صديقي هذا ، وقبل ليلة على الأقل من إنطلاقي في الطريق إليه ، قد دبّر لي سيارة لتقلني إلى بلدته ، الواقعة على مبعدة ثلثمائة ميل على الأقل ، من شفارتزنبك : إنهٌ تقليدٌ آخر ، من محاسن التقاليد الألمانيّة ، حيث يعلنُ مُسافر ما عن وجهته ، عن طريق الإنترنيت ، محدداً الأجرة المطلوبة مقابل نقل ما تيسّر من ركاب في سيارته ؛ أجرة زهيدة الثمن لكَ ، كمسافر ، مقارنة ً بالثمن الباهظ لبطاقة قطار ، وفي الآن ذاته تتيحُ لصاحب العربة هذه أن يستعيد ثمن الوقود المهدور في الرحلة . جهتنا ، هذه المرة ، كانت صوبَ الغرب الألمانيّ ، المحاذي للحدود الهولندية ـ الفرنسية ؛ وتحديداً في شبه المثلث الذي تقع على رؤوسه كلّ من مدن " مونستر " و " دورتموند " و " كولونيا " . في وسط ذلك المثلث ، تقريباً ، تقع بلدة هالترن تلك ؛ وهناك ، على الطريق الفرعيّ المؤدي إليها ، كان صديقي الصحفي ، في إنتظاري بسيارة عائلته ، الكبيرة ، التي نعرفها عادة ً بإسم " الصالون " .
وإذاً ، شرعتِ العربة ُ تتهادى بنا بعيداً عن الطريق السريعة ، " الأوتوبان " ، ميممة ً وجهتها نحوَ بحيرة البلدة أولاً ؛ البحيرة الجميلة ، المحاطة بحزام من مواضع السباحة والإستجمام ، فضلاً عن الفنادق والبيوت الصيفية والمقاهي والمطاعم . مكثنا هناك هنيهة َ تأمل ٍ حسبُ ، قبل أن نتابعَ المسافة القصيرة إلى منزل العائلة الصديقة ، الواقع في قلب المركز. كانت الأعلامُ الوطنية ، ذات النسر الجرمانيّ المتوسِط ألوانَ الأسود والحمر والأصفر ، متدلية ً من نوافذ معظم العربات الصغيرة ، الخائضة في الشوارع الضيقة ، الأنيقة ، لهالترن ؛ كما هوَ حالُ أخواتها من المدن الاخرى ، الألمانية : " إنها المرة الأولى ، ربما ، التي لا يشعرُ فيها المواطنون بالحرج ، وهمُ على هذه الحماسة ، القومية " ، قال لي صديقي ، فيما هوَ يشيرُ عبْرَ نافذة السيارة إلى الألمان المبتهجين ، الملوّحين بأعلامهم الوطنية . الملاحظة الفائتة ، فهمتُ بالطبع مغزاها ؛ والمحيلة إلى مشاعر أولئك المواطنين ، المتسمة بالحذر الشديد من كلّ ما له علاقة بالمفاخر القومية ؛ همُ المحمّلون بأوزار ما أضحى معروفاً بـ " عقدة الذنب " ، تجاه التاريخ النازيّ ، المخزي ، لبلادهم ، وخصوصاً خلال الحرب العالمية الثانية .
ها نحنذا أمام المنزل المقصود ، نترجل من العربة المودَعة في باحته الخلفية ، والمشكلة نوعاً من " كاراج " . المنزلُ هذا ، يقع في الطابق الأرضيّ لبناء من طبقتيْن ، يشغل عاليه عائلة ٌ ألمانية . ولجنا البيت خللَ باب الحديقة ، العريض ، الخشبيّ ، المحروس بقنديل مزخرفٍ ذي إنارة كهربائية . ليسَ في الحديقة هذه ما يلفتُ النظر ، اللهمّ إلا تقسيماتها التقليدية ؛ من ممشىً حجريّ وأحواض ٍ مرابطة حواليْه ، والعائدة في شغلها للمستأجر السابق للمنزل . بيْدَ أنّ فنجانَ قهوةٍ ، صباحيّ ، في رطوبة المكان وعدالة نسيمه ، لا يمكن أن يُفوّته المرء . وهذا ما حصلَ في يقظة يومي التالي ، متبوعاً من ثم ّ بغداءٍ فاخر من شواء على جمار الفحم ، لصدور الدجاج والديك الرومي ، من إعداد اليد الماهرة لأبي كاوا ؛ والد صديقي ، وواحد من الناس الذين يدعون لديكَ إنطباعاً طيباً ، مذ وهلة اللقاء الأولى : إنه من بلدة " عامودا " ، رأت عيناهُ النورَ في إحدى قراها ، المزدهرة زمنئذٍ ، والمقتطعة لسلالتهم ؛ السلالة التي خرجَ منها ، أبداً ، الكاتبُ المعروف ، سليم بركات . قلنا أنّ الرجلَ هوَ إبن عمّ كاتبنا . وبهذه الصفة ، علاوة على أسئلتي الفضولية ، فقد راحَ يسرد عليّ نتفاً من ترجيعات ذاكرته ، عن أيام زمان ؛ ما كانَ من أحوال الأجداد الأوائل ، المشتركين ، وأسباطهم .. وغير ذلك من أمور .
هالتِرْن ، كما سلف القولُ ، بلدة صغيرة ، من أعمال الغرب الألمانيّ . يبدو أنّ التاريخَ لم يمرّ من هنا ، عابراً ، دونَ أن يخلفَ ما يفتخرُ به السكانُ قدّام زوارهم . لقد إنحدر أحد كاردينالات " الفاتيكان " من هذه البلدة ، فضلاً عن قديسةٍ طوّبها ذاتُ الصرح الكاثوليكيّ ؛ كلاهما ، تمّ تخليده ، دنيوياً ، بتمثال يتناسبُ ومقامه وطبيعته . في مكان آخر ، ثمة برجٌ عال نسبياً ، مبنيّ أصلاً من حجارةٍ رمادية ، كانت بدورها مادة لصنع سور البلدة ، المندثر ، والمتبقي منه قطعة مستدقة ، يكاد المرءُ لا يميّز ماهيتها . وقفنا أمام ذلك الأثر نعاينه ، حينما إستلفتني منظرُ بركةٍ مستطيلة ، حسنة التكوين ، تصبّ فيها شلالات صغيرة عبْرَ أقنية ، مصطنعة ، واقعة مباشرة بإزاء البرج . أسررتُ لصديقي قناعتي ، بأنّ البركة تلك ما هيَ سوى بعض الخندق ، المائيّ ، الذي كان في أزمان قديمة يحول بين العدوّ والأسوار . على أنه صادفَ لحظتئذٍ ، ولحسن الحظ ، مرورُ مواطن عجوز وزوجه بالمكان . وإذ بادره صديقي بما كان يجول في خاطري ، حول البركة إياها ؛ فإنّ العجوز هذا تكرّم علينا بشرح مختصر ، تاريخيّ ، عن عمران الأسوار وأبراجها وما كان يحيط بها من وسائل دفاعية . أشارَ الرجلُ أخيراً إلى قناةٍ دقيقةٍ ، إسمنتية ، قائلاً لنا : " إنّ هذه القناة السلسبيل ، هيَ المفترضُ تمثيلها ما كان من حال الخندق المحيط بالأسوار ، أما البركة تلك فإنها مبنية حديثاً ، بهدف إعطاء رونق عذبٍ للمكان " .
وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر ، كما يقال ، فصفة " التمثيل " إنسحبت ، أيضاً ، على المكان الذي خصصته البلدية لمواطنيها من أجل المتابعة المباشرة للمونديال : ففي ساحة البلدة القديمة ، أينَ ملتقى الأسواق والأزقة ، تمّ نصب شاشة كبيرة ، لعرض المباريات . لقد جعلت الساحة على شكل شاطيء جزيرة ؛ بأتربتها ونخيلها وأكشاكها ومظلاتها وأسيجتها ، الإصطناعية جميعاً . كان ثمة حراس على كل بوابة مؤدية للساحة ، من مهماتهم منع كائناً من كان من الدخول وبيده مشروبات روحية ، حتى ولو كان ذلك مجرد علبة بيرة . وبالمقابل ، فإنّ الأكشاك في داخل الساحة ، تؤمن للراغب ما يشاء من ذلك المشروب وكذلك من أصناف الساندويشات الخفيفة . تحدق بهذه الساحة مقاهٍ راقية ، إيطالية الأسماء والأصحاب ، تقدم لزبائنها الحلوى والمرطبات والشراب . إنّ إبنة العائلة المضيفة تعمل في إحدى هذه المقاهي ، جنباً إلى جنب مع إكمالها دراستها الجامعية . وكان أن إقترح عليّ صديقي التوجه إلى ذلك المقهى ، لحضور مباراة ألمانية مع الأرجنتين . ثمة ، إئتلف جمعٌ لجبٌ من المواطنين ، من جميع الأعمار ؛ كيف لا ، وهيَ المباراة الحاسمة ، التي ستؤهّل فريقهم القومي للمضيّ قدماً نحو التصفيات النهائية : ولأقل إذاً ، إنها أكثر المرات ، الكروية ، في حياتي ، التي أجدني فيها متحمساً ؛ حدّ أنني لم أنتبه لنفسي حينما كانت تندّ عني صرخة فرح ، ثاقبة ، متناهية للآفاق فوقنا ، أو ضربة خيبةٍ ، مرعدة ، من قبضتي على سطح الطاولة ، المتمددة أمامنا .
على أنّ أطرفَ ما جرى معي ، من وقائع ذلك المهرجان الكرويّ ، ما كان من رحلتنا إلى مدينة " كيرزنكيرشة " ، التي شهدتْ المعمعة الفاصلة بين إنكلترة والبرتغال . تحتم علينا ركوب القطار ، سعياً نحو تلك المدينة التي لا تبعد عن هالترن أكثر من أربعين دقيقة . وبما أنّ علينا ، أيضاً ، تغيير المقطورة في منتصف الطريق ، فقد جلسنا في ظل الأشجار المتهافتة على المكان ، تصيّداً لنسمة عليلة في هذا الجو الشديد الحرارة . سرعان ما أقبلت القاطرة الموعودة ، ألا تقول أننا سنصادف " الفركون " المكتظ بالمشجعين الإنكليز ، الثملين حتى آخرهم : ولجنا هكذا برؤوسنا ، السوداء ، مقصورة آل أنكلو سكسون ، البيض بمعظمهم ، ليقابلنا البعضُ منهم بالزعيق والإشارات البذيئة . ما كان مني ، على سبيل المزاح ، إلا أن هتفتُ : " فيفا برتغال ! " ، فيما أشقّ ومضيفي طريقنا ، بصعوبة ، عبر الجمع السكير . مرّ مزاحي بسلام ، وقد أعدته بإصرار في المقصورة التالية . كان بنو جرمان فيها هم الغالبون ، فمكثنا هناك إلى أن تناهى صوت المسجل بإسم المدينة ، المطلوبة . إثر مسير حثيث لنحو عشر دقائق ، تبدى لنا ميدان الحاضرة ، الفسيح ، متقلب الصورة بفضل بناء هائل ، تكسوه المرايا الناصعة ؛ لمقرّ بنكٍ أو أشبه . هنا ، كان يخيّل إليكَ أنك في ميدان " الطرف الأغر " ، اللندني : فكل ما حولنا كان بريطانياً ؛ من الجمهور وأعلامهم ، إلى رجال الشرطة وسياراتهم ؛ وجميعهم كانوا يتناقشون ، يتهاتفون ، يصرخون ، يغنون ، .. باللغة الإنكليزية . ولكي تكتمل طرافة اليوم هذا ، جعلنا مجموعة ً من هؤلاء القوم دليلاً لنا ، في طريقنا إلى الساحة المخصصة للمشجعين . لبسٌ آخر ، وقعنا فيه عن طريق الإتفاق ، ولا شك ، ما دام الدليل المفترض قادَ خطانا نحو ساحة مسوّرة ؛ شبيهة بتلك الموجودة في هالترن ، والمنذورة لمتابعي المونديال . إلا أنّ هذه كانت ساحة ً غاية في الإتساع ، ومداخلها عديدة ، مخفورة ، وياللعجب ! ، بالبوليس البريطاني . إثر تمحيصهم لحقائبنا ، تركونا نلج الساحة المكتظة بالمشجعين ، الذين كانوا جميعاً محملين وموشحين بالأعلام والقمصان الإنكليزية : سندركُ بعيْد وهلة الذهول ، الأولى ، أنه ألتبسَ علينا بالمكان المطلوب ، وأنّ هذه الساحة مخصصة لأولئك الأنكلو سكسون ، الملتخين سكراً ! وجدنا من الحكمة ألا نبقى في هذا المكان الخطِر ، خاصة ً أنه من المحتمل خسارة الفريق الإنكليزي للمباراة أمام البرتغال القوية ، وما هوَ معروف عن مشجعيه من شراسةٍ وعدوانية .
تسللنا هكذا من بين صفوف أولئك الناس ، وما لبثنا أن إهتدينا إلى دليل ، حقّ ، أشار إلينا صوبَ الجهة الآمنة : كان ثمة ساحة اخرى ، موازية للأولى ، تجمّع فيها طائفة كبيرة من المشجعين ، ومعظمهم ألمان ؛ ساحة كبرى ، أكثر إتساعاً وتنظيماً ، بشاشتها التلفزيونية العملاقة وأكشاكها المتعددة الإحتياجات والأهمّ ، جمهورها الهاديء ، الرصين في حماسته . كما سلفَ القولُ ، ألهمتنا إلهة ما ، للحكمة ربما ، بفكرة الهرب من ذلك المكان ، الآخر ، الموبوء ببعض الرعاع الإنكليز ؛ هؤلاء الذين سنتابعهم عبْر التلفاز ، بعيد ساعة ونيّف من وصولنا إلى هالترن ، وهم يعيثون فساداً في المدينة المُضيفة ويعتدون على المارة في شوارعها وميادينها : فالأحرى أن تتصورنا بينهم وقتئذٍ ، بشعرنا الأسود ، وفي تلك الساحة الشاهدة هزيمة فريقهم القومي ! على أنّ فرحتنا ، الصادقة ، بفوز البرتغال ، أعقبتها خيبة مريرة بخروج ألمانية من تصفيات المركز الأول ، إثرَ خسارتها الفاجعة ؛ الفادحة في سوء الحظ ، قدام الطليان . ما كان لهذا الحدث ، الكروي ، إلا أن يرخي بظلاله الحزينة على رحلتي هذه لموطن الجرمان ، الجميل . هذا ، دون أن أغفلَ تلك الفرحة العامة ، العفوية ، التي إجتاحتنا جميعاً ، حينما تمكن الفريق الألماني أخيراً من إستعادة حماسة جمهوره ، خلال مباراته مع البرتغال ، والتي خرج منها بفوز رائع ، مشهود ؛ فوز لمعنوياتي ، أيضاً ، ولرحلتي المختتمة بفرحة مليونية ، عارمة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
-
صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
-
الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
-
أورهان باموك والإشكالية التركية
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
-
العثمانيون والأرمن : الجينوسايد المتجدد
-
غزوة نوبل ، العربية
-
معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا
-
مقامُ المواطَنة ، سورياً
-
الوحدة الوطنية ، المفقودة
-
حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
المزيد.....
-
قد لا تصدق.. فيديو يوثق طفل بعمر 3 سنوات ينقذ جدته المصابة
-
مستشار ألمانيا المقبل يواجه طريقًا وعرًا لتعديل سياسة -كبح ا
...
-
اندلاع النيران في محرك طائرة تابعة للخطوط الجوية الأمريكية ع
...
-
الموحدون الدروز في سوريا وتحديات العلاقة مع السلطة الجديدة
-
أمريكا وإسرائيل تتطلعان إلى أفريقيا لإعادة توطين غزاويين
-
موريتانيا.. حبس ناشط سياسي بتهمة -إهانة- رئيس الجمهورية
-
مترو موسكو يحدّث أسطول قطاراته (فيديو)
-
تايلاند تحتفل باليوم الوطني للفيل (فيديو)
-
اختتام مناورات -الحزام الأمني البحري 2025- بين روسيا والصين
...
-
القارة القطبية الجنوبية تفقد 16 مليون كيلومتر مربع من الجليد
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|