|
االديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا لجزء العاشر
بسام العيسمي
الحوار المتمدن-العدد: 1734 - 2006 / 11 / 14 - 12:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
معوقاتها... وشروط الانتقال إليها (غياب الديمقراطية ثقافة وممارسة على امتداد تاريخنا):- الديمقراطية هي التجسيد العملي للحرية. هي تغليب لغة العقل في استنباط الخيارات الإنسانية الواعية والمسؤولة لإرادة المجتمع في تحقيق العدالة والمساواة بين أفراده. من خلال إيجاد حالة من التوازنات بين الرؤى والمصالح المختلفة. إذ لكل فرد منهجه وتفكيره، وله مصالحه وميوله، التي قد تختلف أو تأتلف مع الآخرين مما يؤدي ذلك بالضرورة إلى اختلاف وتنوّع مواقف الأفراد والجماعات اتجاه الظواهر والأشياء والسياسات بما يعتقدونه خيراً أو صواباً أو مصلحة. وكل من يدّعي لنفسه القدرة أو الحق في امتلاك الحقيقة الكاملة والنظرة الصائبة دون الآخرين ولو كان ذلك عن حسن نية سيصل بالضرورة إلى مصادرة الرأي المختلف معه وإلغائه ومحاصرته ليفرض على المجتمع قسراً رأيه ومعتقداته وتصوراته. فالديمقراطية هي نقيض الطغيان والدكتاتورية. والشرط الأساسي لممارساتها هو امتلاك الوعي وثقافة التسامح وقبول الاختلاف التي تتعزز أيضاً بالممارسة للسلوكيات الديمقراطية، فهي ليست بضاعة نشتريها ولايمكن أن نصبح ديمقراطيين بقرار سياسي بين ليلة وضحاها. وهي ليست نصوصاً مكتوبة وإجراءات مرعية فقط؛ بل يجب أن تترسّخ في العقول والأذهان أولاً. كما أنها لا تنضج إلاّ من خلال صيرورة تطورية زمنية لتنمو وتكبر وتُزهر في وعينا، ولتصبح جزءاً من ثقافتنا، وموجهاً لسلوكياتنا ومواقفنا. فهل نحن شعوب المنطقة نملك ذاكرة ديمقراطية؟ هل تراثنا القديم حمل شيء لنا منها؟ هل امتلكنا سابقاً وفي فترة ما أو نمتلك الآن وعياً ديمقراطياً؟ بتصوّري إنّنا وعلى مدى تاريخنا القديم وحتى اليوم لم نعش الديمقراطية لا فكراً ولا ممارسةً، فدائماً كانت ولازالت تُختصر الأوطان والشعوب بزعمائها وقاداتها وملوكها وأمرائها. فمثلاً في الجاهلية قبل الإسلام حينما كانت القبائل تغزو بعضها بعضاً فأول ما تلجأ إليه القبيلة الغازية كان استهداف قائد أو أمير القبيلة التي يغزونها أسراً وقتلاً. فإذا ما تم لهم ذلك يعني أنهم حققوا النصر الأكيد لهم والهزيمة المحتّمة للقبيلة المغزوّة مهما كانت لهذه الأخيرة شوكة وبأس ومهما كانت تملك من رجال وعتاد وقوة فإنها لابدّ وأن تستسلم وترضخ للغازين وإن دلَّ هذا على شيء إنّما يدلُّ على ذهنية الشخصنة والهيمنة والاستئثار وعلى اختصار الأوطان والأشخاص بقادتها وزعمائها. وحينما جاء الإسلام شكّل نقلة نوعية وتطوّرية هامة وكبيرة في حياة شعوب تلك المنطقة شملت كافة مناحي الحياة، وأدخل القبائل المتناحرة بمشروع عالمي بعد أن أزال العداوة والبغضاء والثأر والضغينة التي كانت تحكم علاقاتهم مع بعضهم البعض ووحدّها حول الإسلام وتعاليمه ونشر رسالته. لا نريد أن ندخل هنا بتفاصيل الحالة العامة لهذا الانتقال وتداعياته على مجمل مناحي الحياة في الفكر والاعتقاد والممارسة وشكّل الدولة التي أرادها والعلاقات المختلفة والجديدة التي أنتجتها وأوجدتها تلك الحقبة ولا يتسع المجال لبحثها في هذه الدراسة. والذي يهمنا وما يتصل ببحثنا عن الديمقراطية هو (نظام الشورى في الإسلام) الذي هو شكل من أشكال الديمقراطية والتي هدفت في حينها إشراك المجتمع أو الرعية وأخذ رأيها بالشؤون العامة، وقد تكون ناجحة في وقتها وتؤدي الغاية منها إذا نظرنا إليها في سياقها التاريخي والزمني مراعين بذلك درجة التطور ومستوى الوعي في تلك المرحلة. وما يُفهم من معناها وغايتها كما وردت في سياق النص (...وشاورهم في الأمر). نفهم من ذلك أنها لا تقضي الإلزام في أخذ رأي الآخرين أي هي جوازية، كما أنها لا تُلزم الحاكم أو الخليفة الأخذ بالمشورة التي أسديت له من قبل من جرت مشاورتهم في قضية ما. أي أنها تأتي من باب الاستئناس. أما الديمقراطية هي آلية ملزمة وسلطة لإنتاج القرار الجماعي. ولم نلحظ أو نسمع تعديلاً جرى أو تطويراً لمبدأ أو لآليات الشورى يختلف عن فهمنا وتفسيرنا لها منذ أن ورد النص بها في البدايات وهنا للمسألة وجهان: الأول إذا اعتبرنا أن مبدأ الشورى مقدس لذاته ويعطي معناه لأول وهلة وتتبين الغاية أو العلة التي وجد من أجلها. وهذا يعني أن التعامل مع مبدأ الشورى جرى بقدسية لذاته وأعطي للنقل هنا أهمية تفوق العقل بالميل إلى تكريس النص الحرفي الذي لا يقبل التفسير أو التطور أو التأويل مراعاة لحاجات الناس وتلبية لغايته، وهذا مايكرس الجمود وفيه نزعة للتجريد حينما نعتمد حلولاً لمشكلات مفترضة عبر آليات اُعتمدت في زمان ما ونسحبها على الحاضر والمستقبل إلى ما لا نهاية متجاهلين ومغيبين دور العقل في استنباط الحلول وإبداع الآليات الجديدة التي تناسب زمانها والقادرة على التصدي للمشاكل الحقيقية التي تواجه المجتمعات تبعاً لحاجات التطور. ومع الأسف إن هذا الفهم هو الذي ساد ويسود حتى الآن وهو الذي يقيِّد الفقه الإسلامي ويُلغي قدرته في ابتداع آليات جديدة لتطوير وتطبيق مبدأ الشورى بما يناسب العصر بإعطاء دوراً أكبر للعقل ومرونة كافية ليحقق هذا المبدأ الغاية الدنيوية المتمثلة في إشراك الشعوب بمصائرها واحترام خياراتها. وبرأيي أن مبدأ الشورى ليس مقدساً من حيث آليته كما تم فهمها وطريقة الأخذ بها من قبل الأوائل لأن الآلية هي الوسيلة التي تخدم الغاية، والغاية من وراء هذا النص كما يفهم في سياقه اللغوي هي تحقيق أكبر قدر من العدالة وإشراك الناس في شؤونهم، وتقرير أمورهم، ولو تعزز ذلك الفهم المتطوّر لهذا المبدأ كونه وسيلة لكانت هذه الآلية قد تطورت وتبدلت وعُدّلت بخيارات بشرية واعية ولكانت وصلت إلى ما وصلت إليه الديمقراطية بشكلها المعرفي كآلية مثلى تهدف إلى نفس الغاية. فالوسائل تتبدل بتبدل الأزمان وتتنوع تبعاً لحاجات المجتمع ودرجة تطوره وحتى نكون منصفين ففي المئة سنة الأولى أو يزيد من الإسلام اتسّم الفقه القانوني بحرية واسعة ومرونة كافية حيث كان الفقهاء يغلبون العقل باعتباره قائداً للنص لا تابعاً له. وكانوا يغلبون المصلحة حتى ولو تناقضت مع النص في بعض الأحيان. ومثال ذلك هو ما قام به الخليفة عمر بن الخطاب من إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم رغم ورود النص به، ورغم أنه كان نافذاً في زمن النبوة، فغلّب المصلحة على النص وذهب في تدليله على ذلك أن هناك حكمة من وراء كل نص فإذا انتفت الحكمة يكون النص قد استنفذ أغراضه، فالشريعة قاعدة الفقه وهي تتكون من نصوص قرآنية وسنة نبوية يستخلص منها الفقهاء أحكامهم، لكنّ الفقهاء لم يستخدموا كل نصوص القرآن والسنة مادة لأحكامهم مما يبرز هنا جانب الاختيار. وحسب رأي المعتدلين والمجددين يرون أن للشريعة وجهان أو جانبان. جانب الإنزال وهو إلهي وسماوي أما الاختيار فهو وضعي وأرضي ويمثل اختياراً عقلياً وعملياً لنصوص بعينها تناسب المجتمع من حيث الزمان والمكان والمشكلات التي تواجهه وتتبدّل تلك الخيارات بتبدّل الأزمان وتطوّر الحاجات، ومن هنا جاء الناسخ والمنسوخ، ومع الأسف إن هذا التطور المرن والقادر على التجديد وإيجاد الحلول للمشكلات الحقيقية التي تواجه المجتمعات في تطوّرهاه باعتماد خيارات عقلية تتناسب مع الزمان والمكان تعرّض لانتكاسة أدت إلى تعطيل مصادر التشريع الأربعة من عرف واستحسان ومصلحة وشرع الأمم السابقة. والمشكلة إن هذا التطور التفاعلي الإيجابي مع قضايا المجتمع لمصادر التشريع الأربعة التي ذكرناها قد توقف في مرحلة زمنية ما وما أنتجته تلك الخيارات والاختيارات من حلول ومعالجات وقواعد تناسب زمنها، لكن ما أفرزه تغليب مبدأ النقل وتوقف الاجتهاد، حيث اعتبر ما تم اختياره من قبل الأوائل لا يصلح لمجتمعاتهم فقط وإنما يصلح لجميع المجتمعات على اختلاف الأزمان والأمكنة حتى يوم القيامة مما أحدث بعض التناقض والتعارض بين ما ورثناه من الفقه التقليدي وما بين شرعنة حقوق الإنسان وبعض الإنتاجات الإنسانية الرائعة التي تحفظ الحقوق الإنسانية والشخصية والطبيعية للأفراد ومع الديمقراطية المؤسسة على حقوق الإنسان والتي تحققت بفضل نضالات شعوب الأرض قاطبة لتحقيق كرامتها وتأمين احترام خياراتها وصون إنسانيتها وحقوقها من العسف والاستبداد لأنها تؤمن للشعب أن يحكم نفسه ويشترك في إدارة شؤونه ويفرض مصالحه الجمعية التي تنتجها آلية الديمقراطية، أي أنها المشاركة في الحكم من خلال سلطة القرار الجماعي الذي يجب أن يحترم ويأخذ به سنداً للعقد الاجتماعي بين السلطة والشعب. أما الحكم في الإسلام هو لله وحده والخليفة هو نائب عنه يعمل على تنفيذ القانون الإلهي في الأرض، فالفقه الشيعي يقيم الإمامة على الأعلمية (سلسلة الأئمة الاثني عشر) فإن الإمام خليفة الله يساوي النبي في جميع الخصائص ما عدا خاصية الوحي. أما الفقه السني لا يشترط الأعلمية فينظر إلى الخلافة على أنها مجرد وكالة عن الأمة وبكلا الفقهين يُعتبر الشرع هو حق خالص لله تعالى وهو الأحكام التي أتى بها القرآن الكريم والتي سنها رسول الله والفقه هو مجموعة الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة. وحق البشر ينحصر في إصدار التشريعات لتطبيق وتنفيذ الأحكام الشرعية وتسمى تشريعات تنفيذية والحق أيضاً في استصدار تشريعات تنظيمية لتنظيم حياة الجماعة وسد حاجاتها فيما سكتت عنه الشريعة. وهذان الحقان يكتسبان شرعيتهما ودالتهما في الفقه السني من دائرة المباح لأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد به نص شرعي. أما في الفقه الشيعي فميدانهما منطقة الفراغ التشريعي. إلا أنه لم يحدد القرآن الكريم أو النبي بعد وفاته أي نمط يمكن اتباعه لإدارة الحكم من بعده، على نقيض التوراة ولم يشر إلى مثال واجب الإتّباع من بعده لإدارة السلطة، مما أحدث ذلك جدلاً بعد وفاته مباشرة بين المهاجرين والأنصار من هو صاحب الحق لإدارة شؤون المسلمين من بعده وكان اجتماع السقيفة الذي تمخض عنه إقامة الخلافة التي مثلّت بداية الممارسة السياسية السلطوية الإسلامية حيث اختير الخليفة الأول الصحابي أبوبكر خليفة للمسلمين وكان مقياس الاختبار وحوامله هي مدى القرب أو البعد من الرسول الكريم واقتفاء آثاره وتمثل سلوكياته. وما حدث بعد وفاة الخليفة الثالث عثمان من أزمة في اختيار الخليفة الرابع علي بن أبي طالب التي لاقت المعارضة وعدم القبول من والي سورية آنذاك معاوية حيث حدثت مجابهة بينهما تم تذليلها بواسطة لجنة وساطة وتحكيم ثبتت الخليفة علي كخليفة رابع كانت ممارسة سياسية بحتة استُخدم بها الدين أداة أو في السياسة ونتج عنها أزمة وانقسام المسلمين بين شيعة وهم أنصار علي وخوارج وهم الذين رفضوا التحكيم وسنه من التزموا بسلطة الخلفاء. وما أن انتهى عصر الخلافة الراشدي حتى وضحت صورة استخدام الدين كأداة في خدمة المطامع والمصالح السياسية من خلال إبتداع قاعدة التوريث في الحكم الإسلامي الذي بدأ مع العصر الأموي من عام (666-750م) وبعده الحكم العباسي والذي استمر حتى عام (1228م) وجاء بعده الحكم العثماني وخلال تلك الفترة لم ينتقل الحكم من شخص إلى شخص أو من جماعة إلى جماعة إلاّ بقوة القوة ولم يذهب الحكم أو يُترك إلاّ بقوة الضعف حيث طوع الخطاب الديني لصالح القصر ولإكسابه الشرعية والتغني بفضائله وخصائصه وتم المبالغة في نعت الحاكم وإلصاق مجموعة من الصفات به تصوره وكأنه فوق مستوى البشر وما هو إلا منةٌ من الله وممثله على الأرض فمن عصاه في أمور الدنيا وكأنه عصى الله وكفر به ويقام الحد عليه وإنه العليم الذي لا يخطئ والأعلم بمصالح الأمة والرعية وشؤون المسلمين أكثر من الرعية نفسها، مما غيّب ذلك الآراء الحقيقية والحرة للأفراد وضاقت الحريات وقُمعت الآراء المعارضة والمجددة وكُفّر أصحابها ولاقوا أنواعاً شتى من الظلم والتنكيل والتعذيب وسادت الثقافة المزيفة لدى الكثير في حيّز الممارسة الاجتماعية مما قوّت الروح الانتهازية التي اتخذت مدح الحاكم وتمجيد البلاط والولاء المطلق له وابتداع كلمات الإطناب والإعجاب بشخصه وعلمه وحكمته وقوته وبأسه كوسيلة لنيل رضائه والتنعّم بما يغدقه عليهم من خيرات ومغانم وما يؤمنه ذلك لهم من أمن وأمان على ذواتهم، مع احترامنا وعدم إغفالنا للحاكم العادل في الإسلام. فنمط الحكم هذا والآليات التي تحكمه واختصار الرعية أو الشعب بشخص الحاكم وتهميش المجتمع وإقصائه لم يسمح بظهور أي ممارسة ديمقراطية يستطيع الأفراد من خلالها التعبير عن آرائهم وميولهم دون خوف من بطش الحاكم وعقابه مما أفقد المجتمع أي قدرة على المشاركة الحقيقية في إدارة شؤونه واختيار قادته وحكامه أو مسائلتهم إذا أخطأوا وضلّوا أو جانبوا الصواب. وكان الميل إلى تضييق الحريات والسير نحو التزمت الديني الأصولي أيضاً تعزّز مع بروز بعض المنازعات السياسية التي رافقت الفتوحات الإسلامية والتي كانت وبنظر الفاتحين يجب مواجهتها سريعاً وإخمادها كي لا تستفحل وتعمُّ الفوضى في بلاد المسلمين، ولتوطيد أركان الحكم وحمايته من التصدع والاهتزاز. ومثلما لم ترافق الممارسة الديمقراطية ولم تلقَ واقعاً على الأرض في لحظات توهّج وتوسّع الدولة الإسلامية في عصر الفتوحات والازدهار. أيضاً لم تُمكّنْ الديمقراطية على أرض الواقع ولم تُمارس في لحظات التراجع والانكسار فكانت هي أي الديمقراطية الخاسر الوحيد في الحالتين. كما أن بعض الأخطاء والحوادث والحالات وما أحدثه التفتت الذي قسم الإسلام عام (656م) وما تركه من أثر تدمير المغول لبغداد في منتصف القرن الثالث عشر، وما ألمَّ بالدولة الإسلامية من انحطاط وتراجع وتدهور وضياع الخلافة عام 1919. كل هذا لم يقود إلى مراجعة نقدية وتصويبية لما حدث تُشرك فيها الرعية لمناقشة الأخطاء والنواقص واقتراح الحلول بممارسة فعلية وكشكل من أشكال الديمقراطية لمواجهة الأزمات والانكسارات التي ألمت بالدولة الإسلامية بل على العكس من ذلك فقد نما ميلاً قوياً وغريزياً لدى المجتمع للتمسك بالأصولية ورفض أي تجديد تفرضه وتطلبه حاجات التطور وتبدل الأزمان بل نشط التيار المحافظ الذي يدعو للعودة إلى القديم والتمسك بحرفية النص وتغليب مبدأ النقل على العقل كرد فعل على ما حدث وكخشبة خلاص للخروج من الحالة غير المرضية التي وصلت إليها دولة الإسلام، والعودة إلى القديم ومحاربة التجديد الذي هو بتصورهم الطريق التي تعود بهم إلى القوة والعزة والشكيمة التي وصلت إليها الحضارة الإسلامية في البدايات حتى القرن التاسع عشر حينما كان الغرب المسيحي غارقاً في الجهل والهمجية. إلاّ أن الغرب وخلال عدة قرون ونتيجة للثورة الصناعية التي أنتجت مفاهيم سياسية جديدة ودكّت الحكم الإقطاعي المغلق والمطلق في أوروبا والذي أضحى عائقاً أمام العلاقات الاقتصادية الجديدة التي فرضها التطور التقني والصناعي حيث أقيمت الملكية الدستورية والتي وفّرت وأقامت دولة القانون. وتقدمت الابتكارات العلمية والتقنية وتعزز الميل إلى العقلانية والعلمانية وتم تقسيم الكنيسة وإبعادها عن دائرة الممارسة السياسية وفصل الدين عن الدولة كل هذا أتاح للغرب ونتيجة تطور نظامه الاقتصادي الرأسمالي تشكلت عنده رغبة التوسع والسيطرة الاستعمارية خارج حدوده وتم ذلك على حساب الدولة الإسلامية لأنها أضحت وبفضل التراجع والتدهور الذي ألمّ بها لقمة سائغة له والحلقة الأضعف فقام بغزو مدننا وولاياتنا مستغلاً لخيراتنا ناهباً لمواردنا سالباً لحريتنا في تقرير مصيرنا ووقعت الإمبراطورية العثمانية أو ما يسمى بتركة الرجل المريض تحت براثن الاستعمار الغربي الذي قسم المنطقة في حينها وقطع أوصالها إلى دويلات ومناطق نفوذ ووزعها كغنائم على دوله بما يتفق مع أطماعه فكانت سايكس بيكو. مما ولّد لدى المجتمعات العربية والإسلامية روح التمرد والعداء للغازي وهذا أمر طبيعي لأي شعب يتعرض للغزو والاحتلال فلابد وأن تولد لديه روح المقاومة الرافضة للهوان والذل والاستعداد للتضحية والفداء لتحقيق جلاء المستعمر وإخراجه من الوطن. في هذه الفترة التي أعقبت الثورة الفرنسية وما حققه الغرب من تقدم وتطور في كافة مناحي العلوم الإنسانية والتقنية والتطور العلمي والصناعي الكبيرين الذي تم بفضل الثورة الصناعية كما أسلفنا وبمقابل ما وصلنا إليه من ضعف وتشرذم وتخلف وتفكك في الوقت الذي حقق فيه الفكر القومي الأوروبي نجاحات كبيرة وهامة في تكوين الأمم الأوروبية والحفاظ على وحدتها، برز لدينا الفكر الإصلاحي الذي بدأ يتلمس الحلول لمشكلاتنا بالنـزوع إلى العقلانية والميل إلى الاجتهاد والتجديد ودمقرطة الحياة السياسية وإبقاء الدين خارج النـزاعات السياسية كمدخل لتحسين وتنمية قدرة المجتمع في صراعه ضد التخلف والتفكك لمعاودة النمو والتقدم ومحاولة اللحاق بركب الحضارة التي ابتعدنا عنها أشواطاً كبيرة. وكان أبرز دعاة هذا الإصلاح وتبني الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر بعض كبار علماء المسلمين ومن أبرزهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو وغيرهم من العلماء. - وما ساهم في تبلور هذا الفكر ووسع مطرحه إضافة إلى صدمة علم الأنوار الغربي وما حملته الثورة الفرنسية من تأكيد ونشر لمبادئ الحرية والمساواة وإبعاد الدين عن الممارسة السياسية وإبقائه كمنظومة أخلاقية توجه السلوك الإنساني نحو الخير والابتعاد عن الرذيلة وكمخزون روحي كبير وقيم شمولية هادية ومحصنة لأخلاقية المجتمع، هي ولادة الفكر القومي في منطقتنا والذي برق إشعاعه من ألمانيا الذي نما فيها وتوهج كرد فعل على الغزو الفرنسي لها في بدايات القرن التاسع عشر. فكراً يمجد القومية الألمانية ويبرز التضاريس التي تمتلكها والخاصة بها والتي تشكل منها أمة متميزة عن غيرها على الاستمرار والازدهار لما تملكه من شروط وأساسيات المعرفة والقوة الروحية. وتعزز الميل نحو العلمانية لأن الكثيرين من الناس بدأوا يتلمسون حلولاً لمشاكلهم خارج منظومة الفكر الديني إزاء كثير من الظواهر السياسية والعلمية والتقنية لصعوبة إيجاد روابط قوية بينها وبين الفكر الديني والتي هي وجدت وتكونت خارجة حيث نظر القوميون العرب إلى القومية باعتبارها الرابطة بين المجموعات المكونة للأمة التي يحترم فيها الجميع ضمن وطن واحد تنسحب وتندمج الروابط الأخرى تحت سقفها إن كانت دينية أو عرقية أو جهوية 0 ولاقى هذا الفكر معتنقوه ومؤيدوه في بلادنا ومن أبرز رواده المفكر زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وغيرهم من الذين حاولوا إبراز مشتركات بناء الأمة وممكنات إنجاز البناء القومي لما يملكه العرب من روابط اللغة المشتركة والعادات والتقاليد والمخزون الإرثي لشعوب المنطقة وتاريخها المشترك قبل تجزئتها ومصيرها الذي يجب أن تتوحد حوله لتقاوم وتحبط ما يدور حولها من مؤامرات ولتبني أمتها وتخرج من ظلمتها وتستعيد دورها وانطلاقتها إلى معراج التقدم فطرح هذا التيار شعارات كبيرة دغدغت مشاعر الجماهير آنذاك كاستراتيجية عمل وهي الوحدة والحرية والاشتراكية مما حقق له هذا اتساع في قاعدته لدى الجماهير التواقة للتحرر من الاستعمار ولتحقيق أمانيها في التنمية والتقدم وبناء الأمة الواحدة . ولابد من الإشارة هنا إلى أن الديمقراطية التي اعتمدها هذا التيار ونظر إليها موقفاً سياسياً ولن يفصلها أو يخرجها مع توجهاته الأخرى من رؤيته في كيفية تحقيق طموحاته اعتماداً على مبدأ المشروعية الثورية أي العنف والقوة التي قادت في النهاية لسيادة الحزب الواحد وتغيب الجماهير والوقوع في أتون عبادة الفرد. فتعزز مشروع الاعتدال والإصلاح الإسلامي مع تألق المشروع القومي واتساع قاعدته دون أن يلغي هذا الاعتدال أو يوقف المد الأصولي المتحجر ذا الميول العنيفة وإنما أضعفه إلى حد ما. وكان لمجموعة التحولات العالمية التي ساقتها قيام الحرب العالمية الثانية وتداعياتها أثراً كبيراً في حياة الشعوب والمجتمعات وخاصة منها مجتمعات ما تسمى بالعالم الثالث ونحن منها حيث أنهار أعتى نظامين عنصريين وهما الفاشية والنازية وقيام منظومة الدول الاشتراكية وتحول الاتحاد السوفيتي إلى قوة عظمى انتهجت في سياساتها مواجهة ومحاصرة البلدان ذات النـزعة الاستعمارية والإمبريالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وقدمت كل العون والمساعدة لدول العالم الثالث لتتمكن من إنجاز استقلالها وتحقيق حريتها. كل هذه الأحداث ساهمت بحدوث تحولات وتغيرات في بنية الواقع العربي نالت على أثرها معظم بلداننا استقلالها، مما أحدث ذلك اصطفافات جديدة خدمت تنامي الشعور القومي والاجتماعي عند أفراد المجتمع الذي بدأ عن طريق تياراته وأحزابه البحث عن حلول لمعظم القضايا العالقة وإشكالياتها وتعزيز وصيانة الاستقلال الوطني وتحقيق التنمية وتحسين الظروف المعاشية للجماهير وتنظيم الحياة السياسية في البلاد وصولاً إلى إنجاز البناء القومي للأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية وإقامة دولة الحق والقانون، وتعددت أنظمة الحكم لدينا بعد الاستقلال وتنوعت صيغ ممارسة السلطة وتمكن البناء القومي من الصعود واستلام الحكم في قسم من دولنا وأقام سلطات شمولية استلمت الحكم عن طريق الانقلابات بمنظور الشرعية الثورية الذي كان سائداً ومتشعباً آنذاك وبدأت الحكومات تمارس السلطة وصادرتها بالكامل لصالحها وأدارت الحكم من خلال تسميات مختلفة لكنها متفقة في الجوهر كمجلس قيادة الثورة أو اللجان الثورية أو تحالف قوى الشعب العامل وفشلت تلك القوى والأحزاب السير بالبلاد لخدمة مشروعها وشعاراتها التي بقيت شعارات ترفع ويافطات معزولة عن الواقع العملي للممارسة الذي كان يتجه باتجاه تكريس القطرية مما أبقى العشائرية والفئوية والقبلية وهي البنى القديمة للمجتمع العربي حية لأن الممارسات العملية لأنظمة الحكم المستبدة كانت تنسجم مع هذه البنى ولا تقوضها. رغم أن كثيراً من هذه الأنظمة وأثناء استلامها للسلطة رفعت شعارات ذات مضمون ديمقراطي وقومي وركزت على دور الجماهير والطبقات الشعبية الفقيرة في تحديد خيارات الحكم وممارسة السلطة، لكن الذي جرى في الواقع ومنذ استلامها أخذت تركز مواقع القرار بيدها وتعمل على إقصاء وعزل كل القوى السياسية والتيارات الأخرى وإبعاد الجميع عن المشاركة في القرار السياسي والشأن العام وأدخلت كل أشكال الولاءات الأخرى من قومية وإنسانية ووطنية من بوابة الولاء للزعيم أو القائد مما جعل السلطات الحاكمة في هذه البلدان تفرض سيطرتها القسرية المتحكمة على مجمل مظاهر حياة الناس ونشاطاتهم عن طريق التصفية والقمع مما نشر الرعب والخوف في صفوف العامة الذي ترافق بسلوكيات اجتماعية ونفسية وسعت دائرة الرياء والكذب والانتهازية في المجتمع. مما يقودنا هذا إلى أن معوقات التطبيق الديمقراطي في مجتمعاتنا يأتي من الخلل الحاصل بين الفكر والواقع بين الشعار والممارسة التي لم تسمح بتشكل الوعي الديمقراطي. وبين مستويات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما يرافقها من تعددية في الاتجاهات الفكرية من أقصى اليمين المتمثل بالحركات الأصولية والتكفيرية إلى أقصى اليسار المتمثل بالقوى العدمية التي تكتفي بالإطلاقية السياسية والشعاراتية المفصولة عن معطيات الواقع وما نعانيه من تخلف وجهل وتبعية . فرغم التحولات التي جرت وتبدل السلطات والحكومات وتنوع أنظمة الحكم من ملكية وجمهورية إلا أن طبيعة ممارسة السلطة عبر تاريخها في منطقتنا لم تتغير وظل يغلب عليها الطابع الاستبدادي الممثل في شخصية الأمير أو الوالي أو الملك أو الرئيس أو قائد الثورة أو الأمين العام وهذا لا يبدل شيئاً مادامت هذه السلطات وعلى مدى تاريخها الطويل تؤدي نفس الدور وتقوم بنفس الوظيفة في تغييب الجماهير وقمع صوتها وإجبارها على الرضوخ والطاعة وتعويدها العبودية لتأتلف الذل والخنوع فإن خالفت الوالي تتهم بالكفر والإلحاد ويقام عليها الحد وكأنها كفرت بالخالق وإن خالفت الحاكم أو الزعيم المُلهم وأظهرت معتقداتها بما تراه صواباً اتهمت بالمعارضة والخيانة والعمالة للأجنبي والنتيجة واحدة إيقاع العقاب بمن خرج عن طاعة السلطتين الزمنية والروحية. كما أن لابد من الإشارة بأن معظم الحكومات والقيادات العربية وصلت إلى السلطة عن طريق الشرعية الثورية والانقلابات وليس عن طريق الخيارات الحرة للجماهير أي من خلال المعايير الديمقراطية مما سيبقي القوى المتسيدة أو السلطات تعيش حالة القلق والخوف من تشكّل تيارات وقوى أخرى تزيحها بنفس الطريقة العنيفة فيجعلها هذا تُفّرط باستخدام القوة لتغييب الرأي الآخر وضبط إيقاع حركة المجتمع في إطار مصالحها وتوجهاتها، أي أنها تعمل من أجل ذاتها فقط واستمرارها في الحكم وبذلك حتى ولو كانت حسنة النية في شعاراتها وتوجهاتها حين استلامها السلطة لابد وأن تتحول إلى سلطة مقيدة بيروقراطية وتكون محصلة ممارساتها على أرض الواقع تغيب الديمقراطية ومحاربتها وكم أفواه الناس ومصادرة حرياتهم المدنية والسياسية بالمنع والقمع والملاحقة والسجن والأحكام العرفية، وهذا ما يفسر لنا كثيراً من الأنظمة العربية التي ضمت دساتيرها الحقوق المدنية والسياسية للأفراد والفصل بين السلطات وتأكيد الحريات العامة وسيادة القانون عجزت عن تحقيق ما وعدت به بل إن رفع تلك الشعارات نظرياً واختلاف الممارسة على الأرض زاد في حدة تناقضات المجتمع وبقيت الشعارات حبراً على ورق ولم تستطع أن تتجاوز عوامل التخلف أو إنجاز التنمية أو تحقيق الديمقراطية بل سارت نحو تشديد قبضتها على المجتمع وملاحقة القوى المختلفة معها والتنكيل بها وأصبح الخوف المتبادل وعدم الثقة هي التي تحكم العلاقة بين الشعب والسلطة وظل العقل العربي لاستدامة استلابه لعبودية الحاكم وبقائه أسير البنى المجتمعية المتكسرة والمنغلقة والمتخلفة مؤسساً على مجموعة من العبوديات، العبودية للحاكم، العبودية للأسر، العبودية لزعيم القبيلة، لشيخ العائلة وبقيت هذه العبوديات تمارس ضغطها على الإنسان العربي وتحاصره وتجهض طاقاته الإبداعية وتقتل لديه روح المغامرة والخلق والإبداع لأنه أسير لحسابات العقاب، أي أنه يحسب حساباً للعقاب والمسائلة إزاء إقدامه على أي عمل قبل أن يحسب حساب الثواب، فممارسة السلطة السياسية الحاكمة الاستبدادية تغيب الرأي والرأي الآخر وتمارس ضغطها لأدلجة المعتقدات والميول وضبطها في المجتمع لاستدامة سيطرتها تشكل امتداداً واستمراراً لممارسة السلطة الدينية التي حاولت تسخير الدين كأداة بيدها لتثبيت حكمها. كليهما يلغيان حق المنافسة والحوار ويمنعان الرأي والرأي الآخر ويقفان سداً معيقاً بوجه التحول الديمقراطي. ولا زال مفهوم الرعية يعشعش في بنية العقل العربي وهذا ما يبرر استدامة سلطة الحاكم المطلق عبر تاريخنا على أنها سلطة مقدرة ومحدودة وقدرية وهذا ما أشار إليه عبد الرحمن الكواكبي في وقف قوة المستبد وقبول الرعية لهذا الاستبداد ورضوخها (... ويغتصب أموالهم فيمتحدونه على إبقاء حياتهم.. وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً). حيث أن تغيب المشاركة الجماهيرية وتأييد عزل المجتمع ومنعه من الإسهام في صنع القرار السياسي في البلاد هي سمة قديمة جديدة لازالت مستمرة حتى الآن ولازال القائمين على الحكم والسلطة يعطوا لأنفسهم التميّز عن الآخرين والعظمة والقدرة الخارقة في التعاطي مع الحالة السياسية واحتكار ممارستها والاستئثار بها دون الشعب الذين يستخدمون معه كل وسائل الحصار والمنع والملاحقة والتخويف والسجن ليبقى بعيداً وخارج دائرة التعاطي السياسي. وبالتالي تتحول كل مؤسسات صنع القرار ومراقبته وما يتبع ذلك من إدارات محلية ومجالس تمثيلية إلى توضعات ومفاصل في جسد السلطة محكومة برؤيتها وتوجهاتها لا ينطلق لسانها إلا لتمجيدها ولا يعلو صوتها إلا بالهتاف لها وبذلك تتحول هذه المؤسسات إلى مسرح عرائس لا دم فيها ولا روح فاقدة القدرة على تحريك نفسها وإنما هناك من يحركها بإرادته وقت ما يشاء وبالكيفية التي يريدها لإكمال المسرحية. إزاء هذه الأوضاع المتردية والمزرية والانكسارات المتوالية والهزائم المتكررة التي ألّمت بنا وتداعيات إفلاس المشروع القومي العربي في تطبيق شعاراته التي رفعها تكرست القطرية بدل الوحدة وضاقت الحرية واستبدلت بنقيضها الاستبداد سيفاً مسلطاً على الحريات العامة أما الاشتراكية فازددنا فقراً وحرماناً. ولم تستطع كل الجيوش العربية بموازناتها وترسانات أسلحتها من أن تحرر شبراً واحداً من الأراضي المغتصبة بل توالت هزائمنا وانكساراتنا ولم يستطع أو يتمكن العالم العربي من خلال أنظمته المختلفة بناء نظام عربي يستجيب لحاجات الشعوب العربية وأصبحت عملية تقرير وتوجيه المصير السياسي للعالم العربي تتم بقسم كبير منها خارج مؤسسات هذا النظام وأصبحنا منفعلين لا فاعلين ولسنا طرفاً مهماً في أي أزمة ولو تعلقت بنا مما انعكس هذا بروداً وخللاً وتناقضات في العلاقات الداخلية لدول هذا النظام. ومن ناحية أخرى لازالت إسرائيل متنكرة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني ولازال أكثر من أربعة ملايين فلسطيني مشرداً خارج أرضه ومازالت ترتكب المجازر تلو المجازر بحق أطفاله ونسائه وشيوخه ويتم هذا بدعم كامل من الولايات المتحدة الأمريكية وتحت مرأى العالم المتحضر. فإسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي ولدت بولادة غير شرعية بقرار من هيئة المجتمع الدولي وهي الوحيدة التي لا زالت تضرب بقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة عرض الحائط ولم تطبق منها شيئاً ولم تتمثل لإرادة هذا المجتمع الدولي الغربي الذي رعاها وأشرف على ولادتها حتى اشتد عودها مما يدل هذا على أن منطقتنا تقع في ظل تحريف المشروعية الدولية ومازال استمرار تواطئ قوى دولية كبرى على حقوق شعبنا وسكوتهم على كل الخروقات والاعتداءات والمجازر الإسرائيلية المتوالية التي ترتكبها في لبنان وفلسطين واستمرارية احتلالها لأرضنا وتنكرها لحقوقنا إضافة إلى ما تعانيه منطقتنا من التوظيف المصلحي والنفعي السياسي والدعائي لحقوق الإنسان والديمقراطية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية مما شكل هذا أزمة ثقة كبيرة ضربت مصداقيتها في منطقتنا لانحيازها الكامل مع العدو الإسرائيلي مما كان هذا سبباً مهماً وعائقاً من العوائق التي تحول دون نشر ثقافة حقوق الإنسان لدينا وتؤخر عملية التحول الديمقراطي. فتلاعب الولايات المتحدة بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتوظيف النفعي والغائي لهذه الحقوق لفرض مصالحها ورؤاها السياسية على الشعوب والكيل بمكياليين مما حدا بالبعض للنظر إلى منظومة هذه الحقوق بعين التوجس والريبة واعتبارها كأداة من أدوات الهيمنة الغربية. كما أن الأنظمة الشمولية العربية تستثمر هذه الظاهرة أي تلاعب أمريكا الفاضح بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية استثماراً ذكياً وماهراً للتضييق على دعاة حقوق الإنسان والديمقراطية اللذين يريدون الانتقال إلى مجتمع أكثر إنسانية تحفظ للمرء فيه كرامته فيكيلون لهم التهم بدون حساب بأنهم عملاء للغرب أو للولايات المتحدة الأمريكية أو ينفذون أجندة أجنبية وما إلى ذلك من تهم لا لشيء وإنما لتكريس الخضوع للقيم الشمولية واستدامة الاستبداد وهروباً من الاستحقاقات الملحة لمجتمعاتنا العربية المتمثلة في تكريس قيم الديمقراطية واحترام الذات الإنسانية . إزاء هذه الوضع المعقد الذي يخضع لتجاذبات كبيرة وعديدة ولخصوصية الصراع في المنطقة ولغياب الفكر الديمقراطي والممارسة الديمقراطية عبر تاريخنا الطويل وحتى الآن0 وكوننا لا نحمل ذاكرة ديمقراطية ولم تكن يوماً من الأيام جزءاً من تراثنا ونتيجة لضعف المعارضات العربية الديمقراطية والليبرالية وقصور خطابها في أن تجسد المشروع الديمقراطي كمشروع نهضوي وطني متكامل استطاعت الأنظمة العربية بشكل عام وعلى امتداد عالمنا العربي من تغييب الديمقراطية والتنكر لكثير من الحقوق الإنسانية المتعلقة باحترام الذ ات البشرية فكراً وعقيدة واستطاعت إلى حد ما استثمار هذه اللوحة المليئة بالتناقضات والتداخلات الحرجة من وضع الوطنية في خانة الاستبداد والشمولية فأي شخص يرفع صوته للمطالبة ببعض الحقوق أو يشير إلى بعض النواقص والتجاوزات أو يعلن موقفه إزاء بعض الظواهر والسياسات لابد وأن يخضع إلى امتحان في الوطنية. وقد يُرمى به في غياهب السجن 0 إزاء هذا الوضع المأزوم مجتمعات مهمشة ومعزولة أنظمة تسلطية لا تقبل الاختلاف ولا يتسع صدرها للرأي الآخر همّها استدامة بقائها في السلطة إفلاس المشروع القومي تكسر أحلام الجماهير وخيبة أملها بهذا النظام العربي الرسمي العاجز عن إيجاد حلول لمشاكلها وأزماتها التي تزداد وتتفاقم. والانفصال التام إلى حد التناقض بين الشعار والممارسة واستمرار التواطئ الأمريكي وانحيازه التام للعدوانية الإسرائيلية وسكوته بل ودعمه لها لانتهاك القانون الدولي واستمرارية احتلالها للأرض العربية وتوسيع هذا الاحتلال بالتوسع الاستيطاني والذي يتم في سياق تناقض تام وكامل مع قرارات الأمم المتحدة التي تعاني من التهميش لدورها في الشؤون الدولية وارتهانها بإرادة الدول العظمى. هذه اللوحة القاتمة ضياع المثل تبخر الأحلام وانكسارها عجز وشلل يعاني منه النظام العربي الرسمي فقدان الأمل في المستقبل. بدأت معه الناس تبحث وتتلمس حلولاً من الماضي بالعودة إليه مما أسهم ذلك بنمو سريع للتيار الأصولي الإسلامي المتشدد وتعزز الميل للعنف ونمت ذهنية رافضة لكل تحديث في الحياة السياسية والاجتماعية وتنظر بريبة ومعارضة وعدم قبول للحداثة والعقلانية وناصبتها العداء كونها بنظرهم هي التي مكنت الغرب من الهيمنة على بلاد الإسلام. ونحن كما أسلفنا سابقاً أن التيار المتشدد الأصولي سجل ضعفاً وتراجعاً في لحظات توهج الشعور القومي الذي ألهب الجماهير حماساً ودغدغ مشاعرها من خلال شعاراته التي رفعها وبرنامجه الذي طرحه وما ساعد من تأجيج المشاعر القومية وأعطى الجماهير أملاً في تحقيق أحلامها وطموحاتها بعض الحوادث التي شكلت أعمدة حاملة لهذه الأحلام مثل قيام الوحدة السورية المصرية في عام 1958 أملت منها الجماهير بداية لتحقيق الوحدة الشاملة بين الأقطار العربية وظنتها بداية الغيث كما أن دحر العدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس كل هذا ساهم بذلك والمعروف أن أي شعب في لحظات الانتصار ينظر إلى الحقيقة أمامه ويشكل هوية جامعة حاملة لطموحاته وأماله لتنقله إلى المستقبل تذوب فيها وتنخفض عنها كل الولاءات والانتماءات الأخرى. أما في لحظات الانكسار والتراجع وضياع الحلم وخيبة الأمل تعود الناس إلى الماضي ويتعزز الميل الأصولي وتضعف الهوية الجامعة وتصاب بالتصدع والشلل. لذلك يغلب طابع التعقل والاعتدال في لحظات الصعود والتقدم والازدهار ويتعزز الميل إلى العنف واللا عقلانية والتشدد والعودة إلى الماضي في لحظات الانكسار. فحركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928 والتي تهدف في نشأتها وبرنامجها حينها إلى إقامة مجتمع تعود إليه الخلافة وتطبق فيه الشريعة وفق حرفيتها ورفعت شعار الإسلام هو الحل حيث وجد هذا الخطاب صداه وأنصاره لدى الكثير من الشباب العربي لم يستطع أن يحقق نجاحاً ملموساً في زمن النهوض والدليل على ذلك أن سورية عاشت في الخمسينات تجربة ديمقراطية تكاد تكون فريدة في العالم العربي آنذاك وبنت أيضاً مؤسسات حقيقية تؤسس لدولة الحق والقانون وكان هناك قانون أحزاب وقانون جمعيات يسمح بحراك المجتمع دون تضييق أو منع ولم تكن هناك حالة طوارئ تقيد الحريات العامة وجرت فيها انتخابات نيابية لم يحقق فيها التيار الأصولي الإسلامي نجاحاً باهراً. وحينما بدأ التراجع نتيجة لواقع ظالم ومؤلم وضاعت بوصلة المستقبل لدى الجماهير ومنيت أحلامها بالانكسار والتبخر مما أوصلها إلى درجة اليأس فتعزز الميل لدى الكثير إلى التشدد والالتحاق بشبكات إسلامية أو تبنّيها وتأييدها علناً أم سراً تؤمن بالعنف وترفض كل ما هو قائم وتؤسس لذهنية تشحن بها العامة بأنه لا يمكن العبور إلى المستقبل وإعادة الكرامة إلا من خلال العودة للماضي وليس البناء على الحاضر وبذلك أصبح هذا التيار ينظر إلى الحقيقة من خلال السلف معزولة عن شروطها وزمانها. فتعزز الخطاب الأصولي وأضحى أسير قناعات غير قابلة للمناقشة والتمحيص يستمدها بحرفيتها من الماضي ويحاول الحكم على الحاضر ورؤية المستقبل بكل تفاصيله وتنوعاته وأحداثه من خلالها متجاوزاً ومهملاً لبعد الزمان والمكان مما يقود ذلك إلى أمه متخيلة. فرفض كل ما هو قائم ومختلف مع ذلك التخيل يقوي لدى معتنقيه ذهنية الصراع بين الخير والشر بين الكفر والإيمان ويوّلد عند الأشخاص الميل للعنف ورفض الآخر ويعزز ثقافة الموت والاستشهاد للوصول إلى السعادة الأبدية التي هي في العالم الآخر إذ أن الفكر الأصولي يعمل على إعلاء حدود الهوية تبعاً لمقتضيات الدعوة والتذكير بالأمجاد القديمة حينما كان الناس حسبما يعتقدون يلتزمون الصراط المستقيم وبث الاعتقاد بإمكانية عودة العصر الذهبي والصعود إلى مدارج الحضارة حينما يتمكن الإسلاميون الدفاع عن دينهم ومحاربة الكفر وأهله والاقتصاص منهم وفرض شعار الإسلام هو الحل والقرآن الكريم هو الدستور وإجبار المثل الديمقراطي العلماني على التقهقهر والانكفاء والعودة إلى القانون الإلهي الذي هو أسمى من قانون البشر. هذا الشحن الأصولي المتطرف الذي يولد العنف ويضع مناصريه في مواجهة كبيرة على صعيدين مع قوى الشر والاستكبار والملاحدة حسب تصورهم وهم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب المسيحي واليهود الكفرة والمواجهة مع الأنظمة والنخب العربية والإسلامية الظالمة والمرتدة والتي استبدلت قانون الله بقانون البشر وعممت الكفر وغادرت مواقع الإيمان برؤية تقسم العالم إلى دارين، دار الإسلام ودار الحرب والحفاظ على دار الإسلام وإعلاء كلمة الله لا تأتي بقناعاتهم إلا من خلال توسيع وتطهير رقعة أرض الإسلام بالجهاد لتذكير البشر بحضور الله وبالقيم الروحية والأخلاق. ... يتبع...
#بسام_العيسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا الجزء التاسع
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا-الجزء الثامن
-
.. الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا ..الجزء ال
...
-
أنت جاحدةٌ وناكرةٌ للجميل أيتها الشعوب
-
الدستور ما بين مبضع الأنظمة والحقوق الإنسانية للأفراد الجزء
...
-
تمنيت لو لم أسمعك ...أنت تبثُّ سماً زعافاً يا غادري
-
لا تكتمل حرية الوطن إلا بضمان الحقوق الإنسانية لمواطنيه
-
الدستور ما بين مبضع الأنظمة والحقوق الانسانية للأفراد الجزء
...
-
الشرق الأوسط لايبنى على دماء أطفالنا يا أمريكا
-
الدستور ما بين مبضع الأنظمة والحقوق الإنسانية للأفراد - الجز
...
-
الدستور ما بين مبضع الأنظمة والحقوق الانسانية للأفراد ......
...
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وانسانياً لمجتمعاتنا 6
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وأنسانياً لمجتمعاتننا- الجزء الخام
...
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانيا الجزء الثالث
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا 2
-
الديمقراطية خياراً وطنياً وإنسانياً لمجتمعاتنا معوقاتها وشرو
...
-
الفساد و ظاهرة اللامبالاة
-
المرأة.. بين مطرقة التشريع وسندان المجتمع الذكوري
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|