|
اليسار العراقي الاشكاليات والآفاق
جريدة -الأخبار - البصرية
الحوار المتمدن-العدد: 1734 - 2006 / 11 / 14 - 12:10
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
اليسار العراقي .. الإشكاليات والآفاق في ضوء المتغيرات التي شهدتها الساحة السياسية العراقية، وما ترشح عنها من إشكاليات وتمشكلات نخرت نسيج اللحمة الاجتماعية، حيث غلبت هوية المكونات الطائفية والاثنية المتنابذة، على وحدة الهوية الوطنية، ذات التعددية الهارمونية، إن جاز التعبير. ناهيك عن ظهور قوى وتيارات إسلاموية احتلت (المتن) وتركت للأحزاب والقوى اليسارية مساحة ضيقة في جغرافيا (الهامش) غير الفاعل وغير المؤثر في السياقات الرئيسة السائدة والمتشوفة. وعليه بات من الضروري، ومن الناحية البحثية على أقل تقدير، الشروع في تقويم الدور التاريخي للقوى اليسارية، بجميع أطيافها، انطلاقا من معطيات الواقع الموضوعي وممكنات تلك القوى.... إن وجدت طبعا. وقبل ذلك بات من الضروري الاجتهاد في تعيين مدرك أو مصطلح (اليسار) بعيدا عن التعريفات التقليدية، والاشتراطات الإيديولوجية الجاهزة. ما معنى (اليسار) اليوم..؟ وما دوره التاريخي والسياسي، في ضوء انكسارات الأمس وإشكاليات الراهن والآت. (الأخبار) [email protected]
إشكالية اليسار جمعة الزيدي اليمين واليسار مفهومان شاع استخدامهما منذ الثورة الفرنسية عن آيديولوجيتين وحركتين اقتسمتا الممارسة والفكر السياسيين. إلا أن مفهوم اليسار بعد انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق والمنظومة الاشتراكية اصبح موضع اهتمام كثير من المفكرين ورجال السياسة والقانون وعملوا على ايجاد تعريف دقيق لهذا المفهوم والتمييز بينه وبين اليمين. كما تعرّض الى حملة من التشكيك بعدم قدرته وقصور امكانياته على أداء وظيفته التاريخية ومواكبته العالم المعاصر وذلك تحت حجج واهية ومبررات غير مقنعة؛ منها إنه لا جدوى ولا ضرورة لهذا التمايز ما دام عصر الايديولوجيا ولـّى. وقد ردّ المفكر الايطالي توربرتو بوبيو بوضوح على هذه الحجج في كتابه اليمين واليسار الصادر في عام 1994 مشدّداً ومشيراً الى إن انهيار تجربة يسارية في ظرف تاريخي محدد، ووصول مشاريع التغيير التي تحملها قوى اليسار الى طريق مسدود ليس معناه موت ايديولوجية اليسار، وسيظلّ معيار التمييز بين القوى التي تناضل من اجل المساواة بين البشر والقوى التي تسعى من اجل الحفاظ على شكل اللامساواة هو المعيار الوحيد للتمييز بينهما. هذا لا يعني ان هذا التمييز ممكن ان يتغير خلال الزمن، هذا ما لاحظناه في الصورة الراهنة للتناقض بين اليمين واليسار فهي ليست الصورة أبان الثورة الفرنسية كما بنفس الوقت وعند ضرورات سياسية نجد حالة من التقارب بينهما وظهور حد وسط بين الاثنين كما نراه في المجتمعات الغربية المعاصرة. بالاضافة الى انه في بعض الاحيان لا يملك القدرة على وصف التطور. اذ ان (ظهور حركات اجتماعية مثل حركة الخضر) لا تدخل ضمن تصنيف اليمين او اليسار، وممكن ان يكونا هذين المفهومين مرفوضين لأنهما فقدا جدواهما من الناحية العملية (الانتخابات في ايطاليا في التسعينات) اليسار تبنى افكار اليمين وكذلك اليمين حتى حصل تنوع وتعدّد في مواقفهما بين الاعتدال والتطرف. استكمالا لهذه الملاحظات بودي ان اشير الى ان التعريف الدقيق لهذا المفهوم في ظل وضعنا الراهن هوانه: (مجموعة القوى والعناصر التي تسعى لبناء الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعتمد المنهج المادي الجدلي الماركسي لتحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية وتضع البرامج والسياسات التي تستند الى هذا المنهج والترابط الانساني التقدمي وتعمل بفعالية لتنفيذ هذه السياسات). آفاق نضال اليسار ومهماته: تشكلت نواتات الفكر اليساري بوقت مبكر في العقد الثاني من القرن الماضي وعملت على تنظيم الشباب ودفعهم للعمل الجماهيري. وازداد وتعاظم نفوذ هذه الجماعات في معارك النضال من اجل حقوق الجماهير ومصالحها الوطنية واتسعت قاعدتهم الجماهيرية مما تطلـّب توحيد جهودهم في اطار سياسي واحد للدفاع عن قضايا الجماهير، الا ان هذا الاطار سرعان ما انفرط العمل به واصبحت كل مجموعة تعمل لوحدها وسارعت الى تشكيل حزب لذاتها. ساهمت القوى اليسارية في نشر الوعي السياسي والاجتماعي وخاضت نضالات عديدة من اجل تحقيق مطالب الجماهير في سبيل الحرية والديمقراطية والتقدم وعملت على ايجاد حل ديمقراطي للمشكلة القومية، وإنهاء الجور والاستغلال الاقطاعي، وتخليص البلاد من الهيمنة والسيطرة الاجنبية وفي سبيل التنمية الاقتصادية ونبذ الاستبداد والتمييز العنصري والطائفي والتمييز ضد المرأة. واستطاعوا في نضالهم جذب جماهير واسعة من المجتمع ويصبح لهم موقعا مؤثرا في العمل السياسي حتى تمخض هذا النضال عن انبثاق جبهة الاتحاد الوطني ومن ثم انبثاق ثورة 14 تموز. لا أجانب الحقيقة إن جميع هذه النضالات وهذا التاريخ الزاخر بالأمجاد والبطولات كان يتصدره ويقف في طليعته الحزب الشيوعي العراقي. إن هذه النضالات والانتصارات كانت تقف وراءها عوامل عديدة: ـ ركّزت القوى اليسارية وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي في نضالها الوطني والديمقراطي العملي والفكري، الدعائي والتحريضي على الاهداف السياسية والاقتصادية والعملية وبيّنوا الجوهر الاجتماعي لنضالهم بدأب واستطاعوا جذب جماهير واسعة الى صفوفهم من كل طوائف المجتمع. ـ عملوا على فصل الدين عن الدولة وعبّروا عن هذا في نشاطهم العملي وممارستهم السياسية والجماهيرية. إن نضالهم كان لا يتوخى إلغاء الدين فالدين لا يلغى بقرار من احد وعبّروا عن احترامهم لمشاعر الناس وعقائدهم الدينية. ـ ركّزوا على إعلاء شأن المواطنة وإشاعة روح التآخي القومي واحترام الخصائص الدينية والمذهبية. ـ تمكنوا من ارساء قاعدة فكرية منسجمة وطبيعة التشكيلة العراقية المتسمة بتكوينات عشائرية/ دينية/ قومية ناشطة يرتكز عليها كفاحهم الوطني الديمقراطي. ـ النضال والدعوة الى المُثل التقدمية ونبذ المُثل البالية والافكار الظلامية. ـ أكّدوا على التلاحم والوحدة الوطنية بين مكونات الشعب وسائر قواه في تحقيق الاستقلال الوطني والتحوّل الديمقراطي. ـ ركّزوا على الديمقراطية ورفعوا شعار الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان. الأزمة والركود شهدت الفترة التي اعقبت ثورة 14 تموز حملة مسعورة ضد الحركة الوطنية وقوى اليسار الناهضة وقلبها النابض الحزب الشيوعي العراقي، شاركت فيها قوى داخلية واقليمية الهدف منها تقويض نشاط هذه القوى والعمل على انحسار نفوذها، وقد ساهمت وساعدت على هذا التوجه الاخطاء التي رافقت مسيرة النضال الظافرة لكن للأسف الشديد لم يجر الانتباه لها من قبل قوى اليسار بغياب البرنامج المشترك لآفاق العمل بعد ثورة 14 تموز ولم يجر التعامل معها بوعي كاف ومسؤولية وبالتالي كلفت اليسار غالياً حتى حصل انقلاب شباط الاسود الذي أودى بحياة كثير من المناضلين من قوى اليسار والحركة الوطنية. بعد هذه الهجمة الشرسة انتاب اليسار العراقي الركود وحصلت ازمة له بسبب الانقسامات داخل هذه الحركة وساهمت في إضعافه وازمته الى جانب هذا كانت هناك: ـ مشاكل في العلاقات الحزبية الداخلية والعلاقة بين الاحزاب المشكلة لليسار مع بعضها بخصوص الهوية الفكرية واساليب النضال وصياغة التحالفات واشاعة الديمقراطية في الحياة الحزبية الداخلية ورؤية الواقع. ـ لم تمارس الديمقراطية بالشكل الصحيح في هذه الاحزاب. ـ هناك فجوة في العلاقة بين القيادة والقاعدة. ـ لم يراع حق الاقلية في إبداء رأيها بحرية. ـ التطبيق المفرط للمركزية الديمقراطية. ـ الالتزام الحرفي لبعض الحركات السياسية من اليسار بالخط العام للحركة الشيوعية العالمية. ـ عدم التقدير الصحيح لأهمية التحالفات وضرورة قيامها، حيث نلاحظ انها تشكلت بسرعة وانفرط العمل بها بسرعة. ـ الموقف من الدين والتراث والديمقراطية الليبرالية حيث نلاحظ بعض فصائل اليسار كانت تتعرض الى مشاعر الناس الدينية ولم تميّز بين الجانب الايماني والاخلاقي -الاجتماعي للدين. ـ التعامل غير السليم مع التيارات القومية ومع اليسار العربي وعدم البحث لإيجاد إطار سياسي يمهد للعمل المشترك. إضافة الى ذلك هناك عوامل اخرى اسهمت في اضعاف اليسار وازمته: ـ سياسة الاستيراد والقمع السلطوي الذي مارسه النظام السابق ضد قوى اليسار بالذات. ـ انهيار المنظومة الاشتراكية وغياب ملامح بناء المستقبل الاشتراكي -غياب البديل الفكري. ـ الليبرالية الجديدة وتوجهاتها وعملها على تهميش اليسار وإضعافه. ـ غياب البرامج الفكرية والسياسية التي تفتقر الى رؤية واضحة لطبيعة العلاقة الوطنية والدولية حيث تم القفز على الخصائص الوطنية في رسم السياسات. ـ تحوّل عدد كبير من الشخصيات اليسارية الى مواقع ليبرالية. ـ عزوف الجماهير عن العمل السياسي (سلبية الجماهير) بسبب سياسة الاستبداد وعدم نجاح المشاريعوالبرامج السياسية للاحزاب التي ناضلت تحت لوائها. ـ انقسام اليسار وظهور جماعات يسارية حديثة العهد بالماركسية ولا تملك رؤية سليمة للمتغيرات وتبنيها لخطاب سياسي غير سليم لا ينسجم ويتعارض مع الطموحات الهادفة الى توحيد اليسار. ـ تعدد الرؤية الفكرية والسياسية لفصائل اليسار نتيجة المتغيرات الدولية والداخلية والاقليمية. هذه الاسباب في تقديرنا ساهمت في إضعاف قوى اليسار وفسحت المجال للقوى الاسلامية أن تملأ الفراغ السياسي، ولم يبق منها في ساحة النضال الا الحزب الشيوعي العراقي وشخصيات وجماعات يسارية محدودة جدا. اليسار العراقي عند انهيار تجربة البناء الاشتراكي بعد انهيار تجربة البناء الاشتراكي وغياب ملامح بناء المستقبل الاشتراكي وتعثر برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية الذي جرى تعميمه الى حركات التحرر والخراب الاقتصادي الذي لحق بكثير من البلدان جراء تطبيقه سياسة الليبرالية الجديدة ومشروعها الاقتصادي - الليبرالي الذي يبعد دور الدولة وتحكمها بفعالية السوق وما نتج عنه من استقطاب اجتماعي قامت بعض الاحزاب الشيوعية والحركات اليسارية في مراجعة نقدية جريئة لمسيرتها الفكرية والسياسية واساليب النضال والهوية الطبقية والحياة الحزبية الداخلية، لنأخذ مثلا الحزب الشيوعي العراقي تبنـّى هذه العملية، عملية التجديد والديمقراطية في مؤتمره الخامس 1993 ويعمل حاليا على اعتمادها في كافة النشاطات وقد اعطت نتائج جيدة. لذا ارى من الضروري ان تعمل الجماعات اليسارية في العراق على التعاون فيما بينها للبحث عن الجديد واكتشافه والتعامل معه بوعي وإجراء ما هو ضروري من تغيرات فكرية وسياسية وتنظيميه وتحذو حذو الحزب الشيوعي، لأن المعطيات التي افرزتها مرحلة التوسع الرأسمالي الجديدة (عولمة رأس المال) تتطلب الاجابة الدقيقة على كثير من التساؤلات حول ماهية الادوات الفكرية والفعاليات السياسية الملائمة للمتغيرات الوطنية والدولية القادرة على تحديد الحياة الفكرية والسياسية وما هي القوى الساندة لها في نضالها المناهض لرأس المال المعولم وما هو النهج الذي يؤهلها حتى تكون قادرة وناشطة في العمل السياسي. اليسار ما بعد 9 / 4 / 2003 بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق تشكلت عدد من الحركات والجماعات اليسارية، منها من اعتمد الماركسية والمنهج الماركسي كمرشد ودليل عمل ومنها من له رؤيته الخاصة بشأن ما حصل من متغيرات على الصعد الدولية والاقليمية والوطنية على العموم، حجمها وعددها محدود. ولا تملك قاعدة عريضة اغلبها تخللتها عناصر غير نقية ولها ارتباطات تكاد تكون مشبوهة، ولا تحضى بجماهيرية واسعة. الامر الذي يتطلب ان تعيد النظر في تكوينها ومنطلقاتها الفكرية والسياسية خصوصا انها تمر بمنعطف جديد يتطلب التعاون والبحث عن اجراءات تعزز موقعها ورصيدها الجماهيري. الا انه وللاسف الشديد، انه رغم المحاولات المبذولة من قبل الحزب الشيوعي العراقي لتوحيد مواقفها و لمّ شتاتها ودفعها باتجاه ان يكون لها موقع مؤثر بالعملية السياسية نلاحظ استجابتها محدودة الا ما يمثل اليسار الديمقراطي. المطلوب في هذه المرحلة العصيبة والمعقدة التي يمر بها بلدنا ومجتمعنا واقتصادنا والتي تنطوي على ازمات موروثة من النظام البائد وسياسته واخرى مستحدثة افرزها الاحتلال وانهيار مؤسسات الدولة والتناقضات والصراعات الجارية حول عملية اعادة بناء الدولة واتجاهات تطورها ومضامينها، ان هذه المرحلة تتصف بمهام خاصة، ضمان الامن والاستقرار وبناء مؤسسات الدولة على اسس ديمقراطية والاسراع في انهاء الاحتلال وتصفية اثار الدكتاتورية وتصفية مظاهر التمييز والنزعات الشوفينية والتعصب الديني والنعرات الطائفية والعنصرية التي افرزتها الدكتاتورية ونبذ منهج المحاصصة الطائفية والاستقطاب الطائفي وعودة المهجرين واحترام الشعائر الدينية واعادة اعمار العراق. هذه الحالة الانتقالية يتطلب أولا من الجماعات اليسارية: 1. ان توحد نفسها وتبحث عن اطار سياسي يوحد عملها وان تعتمد النهج الماركسي في التحليل ويمكن ان تلتف حول سياسة الحزب الشيوعي العراقي التي تتسم بالهدوء والعقلانية. 2. ان تضع في عملها امكانية منافسة القوى الاخرى في الوصول الى السلطة رغم عدم توفر القوى الاجتماعية الواسعة. 3. ان يكون برنامجها الاقتصادي يعبر عن مصالح الكادحين وتحقيق العدالة الاجتماعية. 4. ان يشترك الجماهير في اتخاذ القرار على مختلف المستويات. 5. ان تعمل على تحقيق توزيع عادل للثروة وتعرقل كل القرارات مثل الخصخصة التي تهدف الى افقار جماهير عديدة من الشغيلة ان يكون للدولة دور فاعل في الخدمات والانتاج. 6. عرقلة مساعي القوى الظلامية ومواجهة الطائفية والتصدي لها وتغيير مجرى الصراعات الطائفية الى صراعات اقتصادية/ اجتماعية. 7. ان تعمل على توسيع علاقاتها وتقيم التحالفات الامنية مع كل القوى الديمقراطية. مهام اليسار في ظل ازدواجية السلطة تظهر عدة صعوبات في ظل ازدواجية السلطة يمكن ان يستثمرها اليسار في تقوية نفوذه منها : 1. منافسة الليبرالية له محدودة حيث لا تملك قاعدة اجتماعية واسعة. 2. هناك تنافس دولي للسيطرة على منطقة الشرق الاوسط والعراق. 3. التصدي للمشروع الاقتصادي- الليبرالي وبالذات تطبيقاته والعمل على مواجهة رأس المال المتوحش. 4. تحديد الموقف من الدين والتراث. 5. البحث عن اشكال مناسبة للصراع الاجتماعي تناسب الطبيعة الراهنة للبنية الاجتماعية. 6. التصدي للنعرات العشائرية والطائفية والاثنية وفضحها واعلاء شأن المواطن وروح التآخي القوي والخصائص الدينية والمذهبية. 7. اختيار التحالفات الوطنية والاستراتيجية التي يمكن عقدها والتيارات الاسلامية المعتدلة لتوطيد التطور الديمقراطي. 8. تحديد المفاهيم بدقة في الخطاب السياسي. 9. القيام بفعاليات ومبادرات فكرية وسياسية مشتركة.عقد مؤتمر تشكيل لجان تنسيق. 10. اعداد برامج مشتركة ترتكز على تحقيق مطالب ومصالح الكادحين.
اليسار العراقي اغتراب مع التاريخ أم اغتراب مع المشروع السائد علي العبود يمكن اعتبار مرحلة ماركس في المشروع اليساري هي الأخطر والاهم في الصيرورة التاريخية لهذا المشروع الذي يسعى عبر التاريخ إلى إنهاء الاستغلال الطبقي وتحرير الإنسان من الاستلاب بشتى ألوانه وبالتالي أنسنة المجتمع البشري. ويمكن اعتبار مرحلة ثورة سبارتكوس هي مرحلة الطفولة في هذا المشروع وبالتالي فأن شيخوخة هذا المفهوم أو ذاك في الماركسية لا يعني نهاية المشروع اليساري أو نهاية التاريخ أي أن هذا المشروع يملك جذورا سوسيلوجية ضاربه في أعماق التكوين الاجتماعي عبر التاريخ. ويتضمن المشروع اليساري وجود جانبين أساسيين هما الأداة السياسية والمشروع وهناك جدليه تحكم العلاقة بين المشروع والأداة ويرتبط الاثنان بالجمهور والمبادرة التاريخية وبالتالي قد تتخلف أو تتقدم الأداة على المشروع حيث تقدمت الأممية الأولى على المشروع وتخلفت الأممية الثانية في احد مراحلها عن المشروع اليساري. ولد المشروع اليساري العراقي ولادة طبيعيه مع وجود علاقة حميمية بين نخبة المشروع والجمهور والتربة العراقية وتأسس المشروع اليساري العراقي على يد قادة يحملون من الوطنية بقدر ما يحملون من أعباء المشروع اليساري حيث تداخل المشروع الوطني مع المشروع اليساري على صعيد النخب أو الجمهور ويحملون من الحنكة في مواجهة المشروع الاستعماري المضاد وبالتالي استطاعت الأداة اليساريه الاستجابه لمتطلبات المشروع مما أعطى القدرة لليسار العراقي على الصمود أمام ضربات السلطة وتكلل ذلك بانتصار ثورة العراق الوطنية في 14 تموز عام 1958 . لقد ظهرت على السطح بعد تلك الثورة مباشرة علامات مشروع معاكس وضخم جدا هو مشروع الثورة المضادة وبأدوات تدعي الوطنية حاملة الغطاء القومي وتداخل ذلك مع سيطرة التيار اليميني في الأداة اليسارية هذا اليمين الذي لقي الدعم من السلطة السوفيتية اليمينية تحت ظل شكل ممسوخ من الأممية البروليتارية هذا التناغم بين اليمين ومشروع الثورة المضادة على يد الاستعمار البريطاني الأمريكي قد أضاع فرصة استلام السلطة من اليسار العراقي وأسفر عن الانقلاب الفاشي الدموي عام 1963 الذي أسس لأول اغتراب لليسار العراقي بعد أن أصيبت الجماهير العراقية بخيبة أمل. ولكن اليسار العراقي افرز تيارا راديكاليا بدأ يواجه مشروع التصفية منذ بداية الانقلاب ويقاوم أيضا كافة أشكال الوصاية من السوفيت آنذاك وقد أعاد للجماهير العراقية بعض الثقة من خلال أعمال بطوليه ابتداءا من حركة حسن السريع والنواتات الثورية في الأهوار عام 1963 وانتهاءا بملحمة نفق سجن الحلة وانتفاضه هور الغموكه في الناصرية. كل هذه الأعمال أعطت الدليل القاطع على إمكانية اليسار العراقي للعطاء بالرغم من سعة الهجمة الشرسة عليه إلا أن هذا التيار اليساري الراديكالي له احباطاته أيضا التي انتهت بالتصفيات الجسدية عام 1969 على يد سلطة البعث التي جاءت عام 1968 وقد قام اليمين الإصلاحي في حركة اليسار العراقي بتوظيف احباطات اليسار الراديكالي أولا وتوظيف شعبية المشروع اليساري التي عادت بعد الأعمال البطولية لليسار الراديكالي وقام هذا اليمين بالتحالف مع السلطة الفاشية ليوقع في المصيدة بقايا جماهير المشروع اليساري الذي نما داخل الكماشة الفاشية التي أطبقت على هذا الجمهور عام1978 ليؤدي ذلك الى الاغتراب الثاني وتبدأ مرحله جديدة من المشروع المضاد وهو مشروع طوئفة الصراع في العراق على يد السلطة الفاشية وقد بدأت حرب الأنصار لليسار العراقي في كردستان التي اقترنت زمنيا مع مشروع طوئفة الصراع والحرب العراقية الايرانية وقد عانت حرب الانصار هي الاخرى اغترابا بين عسكرة العمل الحزبي وبين الطموح لتحويل الحركة المسلحة إلى حركة جماهيريه اضافه إلى عزلة الحركة عن نشاط النواتات اليساريه البسيطه في الوسط والجنوب هذه النواتات التي واجهت الفاشيه من خلال نشر الادب اليساري التحريضي والتحريض على مقاطعه التبعيث وميلشيات السلطه وفي التسعينات من القرن الماضي عندما بدأت الوصايه الامريكيه على كردستان العراق فان اشكالات جديده ظهرت في العلاقه بين بعض النخب اليساريه والحركه الكرديه .وبعد استبدال السلطه الفاشيه الدكتاتوريه بسلطة المحتل جاءت المرحله الثالثه في اغتراب اليسار العراقي وهو اغتراب مع اضخم مشروع لتفكيك النسيج العراقي وقد اصيب الجمهور اليساري العراقي بخيبة امل بعد ان وقفت بعض النخب اليساريه مع موقف الانصهار مع المشروع الامريكي وبنفس الوقت ظهرت تيارات يساريه جديده تعمل في داخل العراق وهي ظاهرة صحيه واصبح اليسار العراقي يتمثل بثلاثة تيارات من الناحيه الفكريه الاول اصلاحي ويعمل حاليا مع المشروع الامريكي والثاني دوغمائي متثبت بالقديم والثالث راديكالي يسعى الى انضاج برنامج حداثوي يتداخل مع المشروع الوطني العراقي البديل عن المشروع الامريكي وهناك نواتات يساريه كثيره تسعى للحوار مع الشارع اليساري العراقي في ظل حاله من الجمود ومرض التقديس لبعض النخب العراقيه لدى بعض اطراف الشارع اليساري مما يقف عائقا امام اي عملية نقديه لليسار العراقي وفي ظل سيادة فكر دوغمائي يؤمن بواحدية الاجتهاد بالرغم من ادعاء التجديد والحداثة وان ما حصل في ظل الاحتلال من استكمال لمشاريع السلطة الفاشيه السابقه في طوئفة الصراع اضافه الى التركيبه القبليه للنسيج العراقي في أماكن كثيرة من العراق التي لعبت دورا مهما في بث الروح الطائفيه وكذلك برنامج افساد الساحة السياسية بنزعة الوصولية وانعدام المعايير كل ذلك لعب دورا مهما في اغتراب اليسار العراقي مع المشروع السائد وقد لعبت ثنائيه علماني /إسلامي في هذا المشروع الاستعماري دورا مهما أيضا وانطلت على الكثير من الجمهور اليساري السابق متناسين علمانية المحتل وعلمانية السلطة الفاشية السابقة ومتناسين أيضا أننا لا نركض وراء أي علمانيه وقد عولت بعض الفئات اليسارية سابقا على الفكر الليبرالي دون تميز بين ليبرالية المشروع الأمريكي وتبعية الاقتصاد العراقي للاقتصاد الرأسمالي العالمي وبين الليبرالية الوطنية التي لها جذور في تاريخ الحركة الوطنية العراقية وللأسف فان البعض من القوى الليبرالية تسعى لعزف نشيد موت اليسار العراقي دون ان تعلم ان هناك اغترابا مع المشروع السائد وليس اغترابا مع التأريخ وان المشروع اليساري العراقي هو صمام الأمان مع المشروع الوطني العراقي أما التيار الإصلاحي في اليسار العراقي فقد تحول إلى جثه هامدة بالرغم من ادعائه بأنه يحمل مشروعا وطنيا وآن الأوان لمشروع حداثوي لليسار العراقي تكون فيه الحداثة من اليسار وليس من اليمين . ليتداخل مع مشروع وطني عراقي بديل ليقف سدا منيعا أمام الطائفية والإرهاب والفاشية ويمتلك عمقا اجتماعيا لصالح الطبقات الشعبية. من أجل يسار جديد ديمقراطي بعد أفول اليسار الكلاسيكي طارق الابريسم يقودنا السؤال عن دور ومستقبل اليسار الى مقاربة سبق وان طرحها ماركس وهي ان طرح السؤال الصحيح يشكّل نصف الجواب. وفي اعتقادنا ان السؤال يجب ان ينصبّ على الدور المستقبليّ لليسار في ضوء المتغيرات والمستجدات خلال الالفية الثالثة على الصعد الدولية والاقليمية والوطنية على اساس التجارب الواقعية الملموسة مما يستدعي مراجعة شاملة للمفاهيم في المجال النظري وتعديل آليات العمل في المجال السياسي تكتيكياً مع الحفاظ على الاستراتيج الذي يتمثل بالنضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية. وحيث ان مفهوم اليسار ليس مفهوماً استاتيكياً بل يتحرك مع حركة وتغير المكان والزمان وعلينا ان نرصد حركة هذا المفهوم في ظل معطيات العولمة ونجاح الافكار الليبرالية وتكيف الرأسمالية او إعادة انتاج نفسها كنظام فعال متطور لاقتصاد السوق، الامر الذي أدّى الى تطوير القوى المنتجة بما فيها البروليتاريا والتي فازت بحقوق وامتيازات لم تكن تحلم بها ابان النشوء المؤلم للنظام الرأسمالي مع ان ذلك لم يجر ِ بمعزل من حركتها ونضالها أضف الى ذلك تطور واتساع النظام الرأسمالي الذي تخطـّى الحدود القومية للدول عن طريق الشركات عابرة القارات مما أضعف التناقض الرئيس بين الطابع الجماعي للعمل والتملك الفردي لرأس المال اضافة الى معطيات الثورة المعلوماتية ونظم الاتصالات الحديثة والتطور التكنولوجي قد اختزل الحدود الوطنية. كما ان علينا ان نرصد حركة اليسار بعد انهيار التجربة الاشتراكية السوفيتية وسقوط جدار برلين وتبخر حلم الانتلجنسيا الثورية في العالم بتأمل اليوتوبيا المنتظرة وقد جرى ذلك بشكل دراماتيكي أدّى الى تصدّع اليسار وانكماشه وأفاقت الرومانسية الثورية على واقع جديد مختلف أدّى الى افول اليسار الكلاسيكي أو موته سريرياً. ولسنا الان بصدد نعي اليسار الكلاسيكي ولكننا نعيد طرح السؤال حول امكانية تجديد اليسار او استنبات يسار جديد ديمقراطي يخرج من تربة التراكم المعرفي للظروف الملموسة والمستجدات الراهنة ويتمكن من اخذ زمام المبادرة ولابد لنا قبل الاجابة ان نحاول التصدي لتحليل بنية اليسار ومفاهيمه خلال القرن الماضي. لقد ارتبط اليسار بالافكار التي تدعو الى ايجاد بديل انساني عن الانظمة الجائرة الضاغطة على الجماهير ومع ان مفهوم اليسار نسبيٌّ الا ان المنظومة الفكرية التي يعمل عليها تعني الايمان باتخاذ اجراءات فاعلة لصالح الانسان وحريته والانحياز الى حركة الجماهير والايمان بالتقدم الاجتماعي والنضال ضد كل اشكال الاستغلال والتبعية والاستبداد من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية. ونسبية مفهوم اليسار تعني وجود اجنحة يمينية ويسارية في كل حركة بما فيها الحركات اليسارية وقد ندّد لينين بمرض الطفولة اليساري والمناداة بشعارات غير واقعية كما هو الحال مع الحركة التروتسكية. وقد استمد اليسار قوته في مطلع القرن العشرين من نجاح ثورة اكتوبر الاشتراكية واشعاعات الثورة الكوبية والصور الملهمة لكفاح الشعب الفيتنامي والحركات الراديكالية اليسارية في اوربا كحركة ماركوزة والانشطة الثورية لجيفارا وثوار التوباماروس وغيرها وكان اليسار يترعرع في حركات التحرر الوطني والحركة الشيوعية والقوى الوطنية المناهضة للامبريالية. وفي المنطقة العربية كان اليسار في مقدمة حركات التحرر وكان يتمحور حول المقاومة الفلسطينية التي انتهجت معظم فصائلها التيار اليساري الماركسي كما اتجه القوميون العرب والتيار الناصري الى اليسار وشهدت اليمن الجنوبية اتجاها يساريا قبل الوحدة اليمنية. ومع ذلك فلم يكن اليسار موحدا فكانت الحركات اليسارية تتناقض فيما بينها كما انها ليست على وئام كامل مع الاحزاب الشيوعية العربية. وظل اليسار العربي يراهق في منطقة الانفعالات الجماهيرية دون ان يقترب من البنية الفكرية والدينية والاخلاقية للمجتمعات العربية وبقي متهما بكونه مناوئا لمعتقدات واعراف الفئات الاجتماعية وكان عليه ان يقترب من التنويريين الذين عملوا على الارتقاء بالوعي الديني والاجتماعي الا ان اليسار ظل يشتغل على الجانب الفوقي مع النخب السياسية واوساط المثقفين دون ان يعمد الى تكوين اتجاهات مؤثرة في المجتمع الاهلي. وبعد نكسة حزيران اخذ يجلد نفسه مع انه غير مسؤول عن هزيمة الانظمة اليمينية وعلى اثر ذلك حدثت انشقاقات في الاحزاب الشيوعية العربية ومنها السوري والاردني والعراقي وفشلت تجربة اليمن الجنوبي لانها اختارت الوحدة القومية الشاملة بدل الاتحاد الفيدرالي. اما الثورة الليبية فقد قدمت نموذجاً لليسار المراهق كما شهدت السودان انحسارا في القوى اليسارية التي كانت تتمتع بحضور فاعل وفي المغر ب وتونس والجزائر فشل اليسار في التأثير على هذه الانظمة وظل يناور بشكل هامشي وبعد انحسار الموجة القومية وتصاعد الموجة الدينية بقي اليسار خارج المعادلة السياسية وقد ادار الناخب العربي ظهره الى اليسار وفازت حماس في فلسطين والاخوان في مصر والائتلاف في العراق في الانتخابات التي جرت بشكل متزامن تقريبا. واذا استعرضنا التجربة السياسية في العراق الحديث نجد ان نشوء الدولة العراقية ارتبط بوجود احزاب للسلطة واخرى للمعارضة في ظل نظام برلماني جنيني تأسس بموجب دستور عام 1925 وكان اليسار المتمثل باحزاب الحركة الوطنية الداعية الى انهاء التبعية الاجنبية وقيام نظام وطني ديمقراطي وكان لأحزاب جبهة الاتحاد الوطني التي شكلت الخلفية السياسية لثورة 14 تموز 1958 خيارات مختلفة ديمقراطية وقومية واشتراكية. فقد كان الحزب الشيوعي العراقي يتبنى الاشتراكية العلمية (الماركسية اللينينية) وينطلق من كونه يعبر عن الطبقة العاملة في العراق. اما الحزب الوطني الديمقراطي فقد تبنى الاشتراكية الديمقراطية في مؤتمره الرابع عام 1950 حيث اوضح كامل الجادرجي في خطابه امام المؤتمر المذكور (ان الاشتراكية الديمقراطية تهدف اول ما تهدف الى تحقيق مجتمع ديمقراطي فيه الضمانات الكافية لجميع الافراد..)، واستند الحزب في قاعدته الطبقية على الطبقة الوسطى من موظفين ومثقفين وفلاحين وتجار وصناعيين وملاكين عقاريين وبرجوازية وطنية. وكانت الطبقة الوسطى هي الطبقة الأكثر ديناميكية في المجتمع، ويرينا التطور اللاحق ان النظام الاستبدادي وجه هجومه الى تفكيك الطبقة الوسطى من أجل الهيمنة على المجتمع بالكامل بعد ان عطل دور هذه الطبقة. وكانت جبهة الاتحاد الوطني تضم احزابا قومية ذات افق يساري ايضا ولكنها كانت تتذبذب بين اليمين واليسار حسب مصالحها القومية مثل حزب الاستقلال والحزب الديمقراطي الكردستاني والبعث. وبعد ثورة 14 تموز 1958 اتخذت تدابير مهمة لتحرير العراق من التبعية الاجنبية والسير في التطور الوطني المستقل وانجاز الاصلاح الزراعي والخروج من حلف بغداد واصدار قانون رقم 80 وقانون الاحوال الشخصية وغيرها من الاصلاحات الجذرية. وكان التصاعد القومي في المنطقة وفي العراق قد أدّى الى تدمير المشروع الوطني فتمكنت القوى اليمينية القومية من الاجهاز على الثورة والشروع بعدة انقلابات آخرها انقلاب 1968 حيث عمل النظام الاستبدادي البعثي الى تشتيت قوى اليسار والانفراد بالسلطة فشنّ هجوما على القوى الكردية وعلى الحزب الشيوعي والجناح اليساري في حزب البعث. وكان النظام قمعيا في الداخل وعدوانيا في الخارج وقد التقت المصلحة الوطنية والاجنبية على ازاحة هذا النظام البربري وهذا ما جرى في ربيع 2003. ومرة اخرى وضع اليسار في محنة فهل يؤيد الاحتلال وهو الذي كان يراهن على العامل الداخلي في التغيير ام يرفض ويقاوم الاحتلال معرضا البلاد الى التفكك والانهيار التام وقد تقدمت القوى الكردية والاسلامية الى العملية السياسية لبناء مؤسسات الدولة والتعامل مع الاحتلال باعتباره امرا واقعا وكانت مشاركة التيار الديمقراطي ضعيفة ولم يتمكن من عرض المشروع الوطني وظل اليسار تائها في ظل استقطاب طائفي ومحاصصة سياسية طائفية ولعدم وجود برنامج موحد للقوى الديمقراطية التي كانت تتوزع بين الاتجاهات الليبرالية واليسار الديمقراطي وتيارات قومية. وبعد انجاز الملف السياسي وبدء الانتخابات لم يتقرب التيار الديمقراطي من الناخب ولم يؤثر في اعادة تشكيل وعيه السياسي فقد سبقته الاحزاب الدينية وقوى الاسلام السياسي مستفيدة من توتره وقلقه وحرمانه من التعبير عن نفسه وهويته وشعائره الدينية وحيث ان الشيعة والاكراد كانوا القوى الاكثر تضررا من النظام السابق فإن هذه القوى استطاعت توظيف ذلك. ومع ان القوى اليسارية كانت متضررة ايضا الا ان عناصرها التي جاءت من الخارج لم توفق في التأثير على قوى الداخل ، لذلك عكست الانتخابات الواقع الاثني للمكونات الاجتماعية اكثر ما عكست الواقع السياسي للقوى السياسية التاريخية وهذا يدلل على انحسار القاعدة الاجتماعية لقوى اليسار الديمقراطي. ان على اليسار الديمقراطي المعتدل ان يشخص طبيعة المرحلة اولا باعتبارها مرحلة الانتقال الى الديمقراطية وان يضع نصب عينيه مسألة بناء الدولة على اسس ديمقراطية وان يختار حلفائه من اليسار الى يمين الوسط. وان يقترب بسياسته وآليات عمله من التجمعات السكانية الكثيفة باعتبارها هي وحدها التي تحمله الى البرلمان وليس الشعارات او الانحباس في دائرة المثقفين وان يصغي الى نبض الشارع ويعمل على توحيد قوى التيار الديمقراطي وان يجادل التيارات الاسلامية وبخاصة قوى الاسلام الديمقراطي وكذلك الحركة الكردية على اساس ان نجاح التجربة الفيدرالية في كردستان مرهونة بقيام نظام ديمقراطي في العراق. ان هامشية اليسار الديمقراطي جزء من هامشية دور المثقفين والتكنوقراط لصالح تكريس محاصصة طائفية تحمل مخاطر الحرب الاهلية او التقسيم. ان مبادرة التيار الديمقراطي تتجلى بتجديد افكاره وتنضيج فكرة الدولة المدنية وعدم زجّ الدين بالسياسة او استخدامه لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية واقامة حوار معمق مع التنويريين الجدد لتطويق الارهاب الفكري وثقافة العنف والوقوف بحزم ضد الارهابيين والتكفيريين واستبعاد الموضوعات المحنطة لليسار الكلاسيكي لأن التعددية والايمان بالتداول السلمي للسلطة يستبعد موضوعة دكتاتورية البروليتاريا مثلا والعمل من اجل تنمية القطاع الخاص والارتباط باقتصاد السوق يستبعد منهج الاقتصاد المخطط مركزيا. والدعوة الى الاستثمار الوطني والاجنبي المباشر وحماية الاستثمارات يستبعد فكرة التأميم والدعوة الى حرية الرأي وتكوين المنابر الفكرية يستبعد الضبط الحديدي وهكذا بالنسبة الى حقوق الانسان حيث يجب التأسيس على الانسان وحاجاته اكثر من التأسيس على الطبقة او القومية او المذهب او الدين. وتجدر الاشارة الى انه لا يكفي ان يناضل اليسار الديمقراطي من اجل الديمقراطية والمجتمع المدني وحرية المرأة ومبدأ سيادة القانون وانما يجب النضال بلا هواده من اجل الالتزام بالدستور وعدم انحراف السلطات عن مبادئه باعتماد الرقابة القانونية والسياسية والشعبية وتفعيل الضمانات التي تكفل حسن تطبيق الدستور. ان الدعوة الى يسار جديد معتدل ديمقراطي هي دعوة الى انضاج المشروع الوطني الديمقراطي الذي يزاوج بين مصالح البلاد الوطنية العليا وبين الديمقراطية السياسية من اجل بناء عراق ديمقراطي مستقل ومتوحد. مشاكسة ثقافة لم تعد مشاكسة جمال نافع -1- بداهة ان الثقافة من حيث هي ممارسة يومية وتاريخية تتوزع الى تيارين رئيسيين تنتظم بداخلهما اطياف او اجناس متنوعة ومختلفة. التيار الاول يعمل على ادامة مبدأ الواقع القائم وشرعنة سلطته، بينما يشتغل التيار الاخر على نقض المبدأ السائد والمهيمن، ليس على مستوى السلطة السياسية الحاكمة حسب انما على مستوى السلطات الحزبية والنقابية والمدنية والثقافية والاقتصادية ...إلخ. بذلك المعنى فداخل اي بنية ثقافية هناك توجهات ونهاجيات يمينية واخرى يسارية، اليمين واليسار هنا محددان حضاريا وثقافيا لا سياسيا او حزبيا. ومثلما تعتاش الثقافة “اليمينية” على منظوماتها الفكرية وأقانيمها الايديولوجية الموروثة غالباً، تعتاش الثقافة “اليسارية” على المرجعيات المستعارة من ثقافة هذا الاخر او ذاك، وهذه ليست مثلبة، لكنها واقع ادى بالمثقف “اليساري” الى تبني اشكاليات هي ليست الاشكاليات الحقيقية السائدة في واقعه الموضوعي. وللتدليل نذكر بأن موضوعة “دكتاتورية البروليتاريا” التي تم تبنيها بإطلاق في اربعينيات القرن الماضي من قبل الانتلجنسيا اليسارية العراقية، كانت بالدرجة الاساس موضوعة مثاقفة وإتباع، اذ لم تتبلور في العراق-وقتذاك- الشروط التاريخية للطبقة العاملة العراقية، طبقا لطروحات ماركس وانجلز حصرا. وبالمثل فإن تبني الانتلجنسيا اليسارية العراقية، وبخاصة الشرائح المشتغلة بالممارسة الادبية والفنية، للمذهب الدعاوي المتمثل بالواقعية الاشتراكية، كان تبنٍّ إتباعي ومثاقفاتي محض. فالواقعية الاشتراكية ولدت في ظل الدولة السوفيتية، والتي صيّرتها الستالينية مذهباً رئيسا ومهيمنا، في حين كانت الانتلجنسيا اليسارية العراقية تعمل داخل فضاء الدولة العراقية الملكية، غير المتقاطعة مع الدول الاستعمارية الرأسمالية والامبريالية، وبالتالي فإن إتباع ذلك المذهب هو بمثابة المؤشر على تبعية المثقف اليساري لأيديولوجيا المركز الاممي، لا للمنظومة الفكرية الماركسية المتقاطعة تماماً مع دوغما التمذهب او الجمود العقائدي. وطبقا لماركسية “ماركس” فإن الواقع حالة متغيرة باستمرار والاشتراكية مرحلة انتقالية تتوسط ما بين الحقبتين الرأسمالية والشيوعية...إلخ. وعليه لا يمكن تثبيت المتغير ولا تأبيد الانتقالي. فالواقعية الاشتراكيةن وطبقاً للعلم الماركسي، هي وعي زائف ومُزيِّـف ، أي أنها مستلزم دعاوي لإدامة سلطة المؤسسة التي أنتجتها. -2- اتسمت الثقافة اليسارية في العراق وعموم البلدان العربية بامتثالها للمرجعيات الحزبية وانحيازها للانساق الايديولوجية المعتقدية والمعمّمة. الأمر الذي أدّى الى عدم قبولها الحوار مع الثقافات الاخرى والمعرفيات المغايرة او المختلفة مع الانساق الايديولوجية “اليسارية”، بل أدّى ذلك الى ايجاد انواع عدة من التنابذات داخل حقل الثقافة “اليسارية”. فالعدد الاكبر من المثقفين اليساريين متنابذين فيما بينهم نتيجة للتقاطعات الايديولوجية والحزبية والتي أدّت بالنتيجة الى عدم إنتاج الممارسة الحوارية فيما بينهم، تيارات وشخصيات. في حين ان ذلك العدد الكبير استجاب، بالترهيب أو الترغيب، للانضواء داخل المؤسسات الثقافية والاعلامية لما سُمِّيَ بالأنظمة الوطنية التقدمية، القامعة للمتقاطع مع منظومتها الايديولوجية والحزبوية. وقد أدّى احتواء تلك الانظمة للمثقفين اليساريين الى تشريط هويتهم بالمهنية والادائية، وبالتالي إمحاء الاختلاف بين يساريتهم ويمينية المؤسسة الحكومية التي أنضووا داخل “خاناتها”. فإسرائيل، وطبقاً لما قاله الرئيس المصري المرحوم جمال عبدالناصر، لم تفرّق بين يمين ويسار عند عدوانها على بعض الدول العربية في عام 1967. وانطلت هذه اللعبة الاحتوائية على مثقفي اليسار، الى حدّ أن عدداً من الماركسيين المصريين، وفي مقدمتهم الدكتور امير اسكندر ومحمود امين العالم وأحمد عباس صالح..إلخ، قد روَّجوا دعاوى تفيد بان اسرائيل قد فشلت في حرب “عام 1967” ولم تحقق هدفها الستراتيجي المتمثل بإسقاط نظام عبدالناصر، وبذلك، أي عبر لعبة لايمين ولا يسار في منطق العدو الاسرائيلي او الامريكي ..إلخ، تم تدجين المثقف اليساري، ومن رفض أنشوطة التدجين سجن او هاجر او صمت. وإذا ما عدنا الى الصحف والمجلات العراقية، وبخاصة في حقبة السبعينات، فسنجد بأن اغلب المثقفين اليساريين في العراق قد أسهموا في تعزيز ودعم اشتغالات السلطة البعثية، عبر مبررات عدّة أهمها الاتفاقية البعثية السوفيتية، الجبهة الوطنية التقدمية “كذا”، تأميم النفط العراقي، المصالحة البعثية الكردية أو ما سُمّي ببيان اذار، إلخ. وبذلك تم إمحاء الخلاف بين الخطاب البعثي السلطوي والخطاب اليساري، وعُدَّ المثقف اليساري المتقاطع مع تلك “المبررات” متطيرا ومتطرفا وطفوليا، ليس من قبل المؤسسة الثقافية والاعلامية البعثية حسب، إنما من القيّمين على الخطاب اليساري العراقي. -3- إن المثقف “اليساري” العراقي، والعربي بعامة، ما زال غير معنيٍّ بالكشوفات المعرفية والحضارية الحداثية، المنوطة به. إنما كان وما زال يستمرئ إستهلاك المعرفيات المنتجة في البلدان الغربية، بوصفها نظريات ومفاهيم ومصطلحات جاهزة ومعممة. أي دون العناية بقراءة تاريخيتها وسبر إشكالياتها الخاصة واشتغالاتها داخل أنساقها الثقافية والحضارية، وطنياً وقوميا. وبالتبعية دون عناية ذلك المثقف بقراءة واقعه الموضوعي على نحو مفارق لمرجعياته المستعارة او المستوردة. ان سقوط صنم ساحة الفردوس قد أوضح بجلاء هامشية الثقافة “اليسارية”العراقية، وأماط اللثام عن واقع نخبويتها، المتقاطعة اطيافها حدّ التنابذ. وقد لا نغالي عندما نقول بأن الخطاب الغائب في بورصة الخطابات السياسية والثقافية السائدة في عراق اليوم، هو الخطاب اليساري، وان وجدت اصوات تلهج باسترجاع ماضوية، لم تؤسس سياقا تطوريا لها في حقبتها، بيد انها تبقى ،اليوم، اصوات غير مؤثرة ستراتيجيا، وغير قادرة على الاستقطاب الجماهيري اللازم لتفعيل وانتشار اية ثقافة تريد التأثير في واقعها وإنسانه، وبغائية التغيير والتحديث. وبالتالي فإن الارهاصات الاولى لعالم جديد، كما يقول أنطونيو غرامشي، هي افضل من حشرجات عالم يحتضر، فهل تنجح النخب اليسارية العراقية اليوم في توليد تلك الارهاصات، وتحويل حشرجة الموت الى بكاء طفل خرج للتو من رحمه الوطني..؟
مناقشة إشكاليات اليسار في العراق المحامي نوري الوافي الحركة الاشتراكية العربية ان البحث في اشكاليات اليسار العراقي له تداعيات كثيرة حيث ان القوى التقدمية في العراق مارست العمل السياسي دون الوعي المطلوب مما اصاب قوى اليسار نكسات ونكبات كثيرة وكبيرة وباعتقادي ان سبب انحسار اليسار يعود الى اسباب كثيرة اهمها سببين: الاول، هو قصور قوى اليسار في تحليل الواقع الموضوعي، فهي لم تأخذ بنظر الاعتبار الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلد مما جعلها تخفق في كسب الشارع، حيث تخلف الشارع عن مسيرة الحركة الثورية التي حملتها أحزاب اليسار ولم تستطع هذه الاحزاب التغلغل بين صفوف المواطنين وخاصة ابناء الريف واكتفت في احسن الاحوال على المثقفين دون سواهم ولو بنسبة قليلة كان على هذه القوى والاحزاب الاخذ بنظر الاعتبار العادات والتقاليد وتأثير التيارات الدينية على ابناء الشعب في العراق، وكذلك ملاحظة ان هذا الشعب في معظمه أميّ ومنقاد بشكل او بآخر الى مراجعه الدينية فكان على الاحزاب التقدمية ان تكون ذكية جدا بحيث تستطيع مخاطبة الجماهير دون التعرض او المساس بمشاعرها الدينية او معتقداتها او عاداتها. ولكن الذي جرى هو ان هذه الاحزاب لم تستطع ذلك مما جعلها تبتعد عن الجماهير الشعبية. والسبب الثاني هو استبداد الحكام الذين توالوا على الحكم في العراق وعموم المنطقة طيلة الفترة الماضية كون هؤلاء الحكام حكاماً رجعيين يخشون حتى من اسم اليسار او ممن يحمل فكر اليسار اعتقادا منهم بأن هذه القوى وهذه الافكار تهزّ عروشهم وبالتالي فإن جميع هؤلاء الحكام ناصبوا القوى التقدمية العداء ولكل ما هو تقدمي وزجّ الكثير من مناضليها في السجون والمعتقلات، لا بل الكثير منهم اعدموا او استشهدوا تحت وطأة التعذيب، ناهيك عن فترة النظام الشمولي الاستبدادي الماضي الذي سيطر وهيمن على كل شيء وهمّش كل القوى التقدمية الاخرى وحتى غير التقدمية ولم يعترف بأي فكر عدا فكر البعث وان اي فكر اخر مهما كان يعتبره معاديا له يجب القضاء عليه، لذا فكان نصيب القوى الوطنية التقدمية النصيب الاوفر من القهر والاضطهاد مما أدّى الى انحسار المد اليساري. هذا من جانب ومن جانب اخر ان سقوط الاتحاد السوفيتي وانحلال المعسكر الاشتراكي هو الاخر ضربة قوية لتيار اليسار بكافة اطيافه وقواه وان ذلك بحد ذاته ازمة اضيفت الى الازمات الاخرى التي يعيشها اليسار في العراق. ان التهميش والاقصاء وكمّ الافواه والالسن في العهد البائد والذي طال خمسة وثلاثون عاما ونشوء اجيال خلال تلك الفترة لم تستطع ولن تتمكن من ان تتعرف على بقية القوى عدا ما يطرحه الحزب القائد..!، فإن هذه الاجيال لم تسمع حتى بالاحزاب الوطنية والقوى الاخرى. هذه السياسات جعلت تيار اليسار يعيش بصعوبة نتيجة لذلك. كما ان الدور الذي لعبته القوى الوطنية التقدمية بعد السقوط لم يكن بالمستوى المطلوب حيث سمحت للتيارات الاسلامية ان تتبوأ الصدارة في ادارة الحكم بالعراق وسيطرت على كل مقاليد الحكم من نشأة مجلس الحكم الى الان ووضعت الاحزاب والقوى اليسارية في مساحة ضيقة مهمشة ليس لها دور فعال ومؤثر في السياسات العامة في العراق. خاصة وبعد تشكيل مجلس الحكم الذي أنشئ على اساس المحاصصة الطائفية والاثنية واستمر العمل بهذه المحاصصة في الحكومات التي تلت مجلس الحكم وحتى البرلمان الحالي وكافة دوائر الدولة. من كل ذلك يجب على كافة قوى اليسار ان تأخذ من دروس الماضي ووضعها موضع التحليل ولتأخذ درسا منه وإن تباينت هذه الدروس، وعلينا تفسير الواقع الحالي بالمعنى الجديد فإذا أردنا عراقا جديدا ديمقراطيا تعدديا فلابد من الوقوف عند كل ثغرة من الثغرات التي مرّ بها اليسار وتصحيحها وفقا للظرف الحالي. ولابد بالتالي من الاستفادة من خبرات ودروس الماضي رغم تباين فئات المجتمع واحزابه في تفسير الواقع الحالي لليسار الجديد، واذا كنا نريد دولة ديمقراطية لابد ان تكون هذه الدولة تعمل وفق مبادئ الحرية الديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية فلابد والحال هذه من تحديد مسارات الاحزاب والتنظيمات السياسية اليسارية ولابد ان تكون حديثة في تكوينها وتنسجم مع طبيعة العصر الجديد عصر العولمة الرأسمالية والتقنيات والاتصالات الحديثة وما يطرحه هذا العصر من مستجدات وما يتطلبه من تحولات في سياسات هذه الاحزاب، الاحزاب التي تعمل وتعبر عن المصالح الحيوية للفئات الاجتماعية المسحوقة وفي طبيعة المرحلة ومهماتها وتطلعات المجتمع اليها. ان هذا الواقع ينطبق على كل الاحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية دون استثناء. علينا تفسير الواقع الحالي بالمعنى الجديد وان يكون تفكيرنا تفكيرا جديدا متطورا مع تطور المجتمعات الحديثة وتنسجم مع طبيعة العصر الجديد عصر القطب الواحد وما يطرحه من مستجدات.المطلوب من قوى اليسار الان توحيد خطابها وتنظيم صفوفها وان تنهض كي تأخذ مكانها اللائق بها وفي اعتقادي ان القوى الديمقراطية قوى اليسار هي القوى المؤهلة للنهوض بالعراق وانتشاله من الوضع الحالي وادارته وتحويله الى بلد ديمقراطي متحرر. تطور اليسار... في لغة التأريخ: تجربة الكفاح الشعبي المسلح ح ش ع – القيادة المركزية علي عباس خفيف يقول نيتشه:- (ليست كل نهاية غاية. فنهاية اللحن ليست غايته. لكن اذا لم يصل اللحن الى نهايته فلن يكون قد بلغ غايته، هذا محتمل). ويستعير فوكو ياما في (نهاية التأريخ) من نيتشه: (تأريخ الانسان اليوم هو مجرد التكملة لتأريخ الحيوانات والنباتات...) * * * ـ هل يحق لنا ان نعتبر حوادث التاريخ تجربة َ (آخرَ) ما..؟ إذا كان التأريخ هو وعي الانسان لذاته، وان هذا الوعي من ثمار المنهجية الجدلية، فإننا حتما سنكون مدركين لمعنى ان الانسان حين يواجه نفسه، إنما يواجه الحياة والكون في تحوّل لا ينقطع، مستنداً في كل ذلك الى الامل.. ومع اننا نرى ان (توينبي) المؤرخ والمفكر والفيلسوف قد أخفق، بحسب (نظرية العصور) في فهم حركة التأريخ وتفسيرها، لأنها اعتمدت على معنىً يكاد يستلهم الخرافة، في ما يدعى (الايقاع الابدي لحركة التاريخ والانسان بين نكسة وانبعاث)، غير انه كان مصيباً تماما في اعتراضه على تجزئة التاريخ. فليس بمقدور انسان ان يقتطع جزءً من التاريخ ليضعه تحت المجهر ويستنبط مغزاه. اذ لا يمكن ان يُفسَّر الحدث التاريخي الواحد بعزله مختبرياً، لأنه اللغز الذي لايمكن فك اسراره الا من خلال ربطه بالاحداث المتعاقبة في سياق التاريخ.. من ذلك سيكون من الجهل اهمال تجربة سياسية، أيما تجربة، في سيرة حياة شعب. لكن الكثير من تجاربنا تعرضت الى الاقصاء، بفعل التعصب والتحزب السيء وافتراض عدوانية (الاخر) ورفضه والشطب على تجربته، اضافة الى القمع المنظم للسلطة. وعليه لا نستطيع ان ندرس تاريخ شعبنا بجد وحرص ونحن نعمل بمنهجية الازاحة التحزبية والاقصاء. فلم تتعرض تجربة نضالية للتهميش والاقصاء والمصادرة الاعلامية والاغفال، مثلما تعرضت لها تجربة اليسار في الكفاح الشعبي المسلح في العراق، التي خاضتها فصائل الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية في جنوب البلاد وشمالها. ولكي نتعرف خطورة تلك التجربة وحجم الاهمية التي كانت تشكّلها آنذاك، يكفي ان نعرف ان الدكتاتور (صدام حسين) وبعد وقف القتال مع الفصائل الكردية عام 1975، وكان نائبا حينها، انه قال: ان الحرب لم تنته بعد، لأن هناك من هو اخطر من البرزاني، هناك (القيادة المركزية). واعتبر الحرب منتهية، فقط عندما اصدرت قيادة الحزب الشيوعي - القيادة المركزية- بياناً بوقف القتال. وهو البيان الذي ارسله سكرتير الحزب ابراهيم علاوي (نجم) برسالة الى نائبه (فاروق ملّه مصطفى) بيد الرفيق (علي ميرزا). حينها اختار (فاروق ملّه مصطفى) الذي كان القائد الميداني للعمليات العسكرية للحزب، عدم قراءة الرسالة، وسار على قدميه بالرسالة دون ان يقرأها من سرجنار حتى مدينة حلبجة -لمسافة تقرب من 90 كم- في محاولة لاستطلاع الاوضاع بعد الهدوء المؤقت للمعارك عام 1975، ولكي يتخذ قراره الاخير اضافة الى امور اخرى. وكانت قوات (البيشمركه) تسلـّم اسلحتها حينها في ظل بيان العفو الذي اصدرته السلطات البعثية بعد المجازر الرهيبة ضد الشعب الكردي. لقد عملت جملة من العوامل في ذلك الاقصاء، كان ابرزها سلطة القادة السوفيات على قيادة الجناح اليساري الاخر التي شنـّعت وكتبت بتشفٍّ عن تعثر تجربة الكفاح الشعبي المسلح في هور (الغموكه)انتصارا لمخططها في نظرية (التطور اللارأسمالي)التي نسبتها، مع تحريفها اللاحق، الى لينين. وهو المخطط الذي سارت عليه القيادات السوفياتية دائما حتى انهيار الاتحاد السوفياتي أول التسعينات، حينما كانت تضع (تابو) على كل نقد توجهه الاحزاب الشيوعية لقيادات بلدانها التي اعتبرها السوفيات دولاً حليفة. كالذي حدث في الستينات حيث مُنع (رضا زادمنش)سكرتير حزب توده الايراني، من تلاوة فقرات انتقادية للشاه في خطابه امام مؤتمر الحزب الشيوعي السوفياتي. كما اننا اطلعنا على ما انطوت عليه رسالة خروشوف عام 1957 الى جمال عبدالناصر بضرورة العمل على كبح (هذا الحصان الجامح) في العراق، كما سمى الحزب الشيوعي العراقي حينها، وسياسة خروشوف معروفة فيما يخص التضحية بالاحزاب الشيوعية من اجل مصالح روسيا التي سار عليها القادة السوفيات من بعده، خصوصا بريجنيف الذي حصل، نتيجة لضغطه على الحزب الشيوعي العراقي، على تأييد انقلاب تشرين عام 1963، وتأييده لخط آب التصفوي ضد الحزب الشيوعي عام 1964. في ذلك الحين وقف القيادي الشيوعي ثابت العاني بين رفاقه قائلاً:- (رفاق هذا عبدالسلام عارف، بطل ثلاث ثورات، فكيف تهاجمونه يا ناس!) فيما تحدث آخرون عن نزعة عارف التقدمية (اللارأسمالية!!). لكننا الى الان لم نحصل إلاّ على مشاهد سينمائية لتلك التجربة من خلال رواية حيدر حيدر المعروفة (وليمة لأعشاب البحر) التي افتخرت بالبطولة في تلك التجربة فحسب. في تلك الايام كانت الاختيارات الساخنة تمور بقوّة، وكانت (تلك الاختيارات) ترى ضرورة قراءة الواقع وتأكيد الحضور على المستوى الجماهيري دون النظر الى رضا الرفاق في القيادة السوفيتية.. وعلى الرغم من ان دراسة (عزيز الحاج) لتجربة الكفاح المسلح في كتابه (شهادة للتأريخ) بنيت على الموقف الشخصي الذرائعي في الغالب، حين كان يبرر نكسته الشخصية في كتابه السابق سيء الصيت (مع الاعوام) عن نفس التجربة، وعدم خروجه من تلك الشرنقة الانانية حتى الساعة وانبهاره بالمعلوماتية ونهاية التاريخ التي بشـّر بها (فوكو ياما) في التراكم بلا حدود كمنظومة افتراضية دون ان يعلم ان ذلك يجعلها مشروعا قيد الانهيار، الا ان كتابه يحمل الكثير من الشواهد المهمةفيما يتعلق باليسار العراقي. واضافة الى ان (الحاج) تكلم عن نزعة التجديد والفكر المستقل- وهو اهم ما يتطلب دراسته في تلك التجربة بعد هذه التغيرات الهائلة التي طرأت على اليسار عموماً -غير انه اهتم بروح الاقتحام التي لم تكن من نصيبه. وفي الحقيقة، ان نزعة التجديد والتفكير المستقل كانا من اهم مميزات تجربة - القيادة المركزية-. ففي موسع كانون الثاني 1968 طرحت قيادة الحزب جملة من الامور أهمها؛الاستقلالية في الحركة الشيوعية والقضية الفلسطينية، والوحدة العربية، والعلاقات مع القوى الوطنية، وأشكال الكفاح،طبيعة السلطة.. غير ان الحاج أهمل على طول (628) صفحة، الاشارة الى المستوى النظري في تحليل طبيعة السلطة وبنية الدولة انذاك، والذي وضع اسسهما النظرية شيوعيون من مثل (ابراهيم علاوي وخالد احمد زكي) ورفاق اخرون كانوا الرعيل الاول في تلك التجربة حتى انتكاستها في اللحظات الاخيرة، وكانت جوهر تطور اليسار فكرياً.. كانت القيادة السوفيتية تؤدلج برنامجها لكي يتلائم والتحالفات التي تقيمها مع دكتاتوريات العالم الثالث في صراعها مع القطب الاخر ايام الحرب الباردة. واطلقت على تلك القوى الشوفينية والدكتاتورية تسميات واوصاف لاتنطبق على واقع الصراع الاجتماعي ومفرداته، وشرعت ببسط حمايتها على تلك الحكومات لإبعاد خطر الشيوعيين عنها، وهو الامر الذي عجل بالانهيار الشنيع للدولة السوفياتية بعد أن فرضت على نفسها العزلة وحوّلت اصدقاءها الحقيقيين الى اعداء في عالم يتغيّر بسرعة.. للدولة السوفياتية بعد أن فرضت على نفسها العزلة وحوّلت اصدقاءها الحقيقيين الى اعداء في عالم يتغيّر بسرعة.. وربما كان قول غارودي أصدق ما قيل عن انهيار الدولة السوفياتية حين قال:- (انهار الاتحاد السوفياتي بسبب خيانته لماركس). كما جاء في كتابه (حفاروا القبور). والذي يهمنا من كل ذلك ان المنهجية التي قررتها (القيادة المركزية) كانت تنبني على مفهوم الحرية والفكر المستقل عن اية وصاية، ودافعت عن انطلاق العقل وتقدم اليسار وتطوره. واستطاعت ان تحاكم مفاهيم الدولة السوفياتية وتعمل حفريا في مفاهيمها وآيديولوجياتها غير الماركسية -الذرائعية والنفعية، الامر الذي دعاها (أي القيادة المركزية) بالنتيجة الى تشخيص الدولة السوفياتية باعتبارها امبريالية جديدة، وخطرا يتهدد حركات التحرر العالمي واليسار والحركة الشيوعية العالمية. ولقد اثبتت قراءة الوثائق السوفياتية والبريطانية، فيما بعد، صحة ما ذهبت اليه القيادة المركزية. ويمكن التعرف على تلك الوثائق في كتاب (نجم محمود)- ابراهيم علاوي - الموسوم (المقايضة: برلين -بغداد) الغني بالمادة الوثائقية والتحليلية. في المستوى النظري، كانت القيادة السوفيتية قد عممت مفهوم (التطور اللارأسمالي) كنظرية يتم التحقق من حدوثها راهنياً، ودافعت عنها بوسائل اعلام ضخمة تغطي المعمورة، على رأسها مجلة السلم والاشتراكية، وكتب قادة احزاب الشرق بكل عنفوان دفاعا عن دكتاتوريات بلدانهم دونما تحفظ، فيما كانت تلك الدكتاتوريات تهشم عرى وروابط المجتمعات وتمنع نموها الطبيعي، وتلقي بها في أتون الفقر والجهل والبطالة، والحروب المدمرة... فقد وُصِف قادة تلك الدكتاتوريات آنذاك بـ(الديمقراطيين الثوريين)! كما جاء في مقال (عزيز محمد) في مجلة السلم والاشتراكية نهاية عام 1974، حين كانت القيادة السوفياتية تبارك ذلك، لأنها أدلجت (أن البرجوازية الوطنية!!- كما كانت تطلق على دكتاتوريات العالم الثالث- قادرة على هزيمة (الامبريالية) في بلدانها عن طريق الاستيلاء على السلطة والقضاء على الاقطاع والبرجوازية الكومبرادورية، حين تتوثق عرى الصداقة بين هذه (البرجوازيات الوطنية!!) مع الدول الاشتراكية خصوصاً الدولة السوفياتية). لكن الحزب الشيوعي العراقي - القيادة المركزية- رأى ان هذه البرجوازيات ستتحول الى مالكة للثروة الوطنية كاملة حال استلامها للسلطة، ولن تعود بذلك كما كانت قبل تسلمها السلطة. فهي بحكم سلطة رأس المال تلك تتحول الى (رأسمالية دولة كومبرادورية) بحكم الاقتصاديات العابرة والتابعة وتدويل الرأسمالية على المستوى الاقتصادي. وتصبح للحال انظمة حكم دكتاتورية قامعة للحريات على المستوى السياسي. ولقد اثبتت تجربة شعوب الشرق والعالم الثالث حقيقة ودقـّة هذه الرؤية. ومن ذلك كان موقف (القيادة المركزية) من حكومة عارف ثم حكومة البعث بعد عام 1968، اذ ابتعدت عن اية محاولة لجرها الى التحالفات مع سلطات تعرف انها سترتكب الجرائم بحق الشعب إن آجلاً أو عاجلاً. لكنها لم تهمل التحالفات خارج السلطة على اساس التوازنات الديمقراطية في بناء دولة المستقبل، وحاجات النضال الاقليمي ووضعت هذا في صلب برنامجها السياسي. ويمكن اعتبار مناقشة قضية الوحدة العربية والقضية الفلسطينية في موسع كانون 1968 من أهم المسائل التي أكّدت استقلالية الفكر وحرية القرار لدى هذا التيار الصاعد آنذاك، فقد وصفت (القيادة المركزية)، اسرائيل بأنها دولة احتلال شوفينية، وطالبت بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأغضب ذلك رفاق الامس.. غير ان ضياع الامال بالنصر تحكمه جملة شروط منها موضوعية ومنها ذاتية.. وقد يتسبب تكتيك ما في انهيار بناء ستراتيجي محكم. وربما كان في قول (عزيز الحاج) الكثير من الصواب حين قال ان (المدينة غابتنا) مع ما يحتاجه هذا القول من توسيع لأفق اللحظة والعمل السياسي، ليشمل سبلا متضامنة ومتحدة.. فقد تكون المطالبة بإيجاد برلمان يؤمن صوتاً للجماهير العريضة، تسنده جماهير قادرة على مجابهة السلطات المستبدة ومستعدة للمنازلة، سيجعل امكانيات التغيير الاجتماعي نحو العدل ممكنة وواقعية...ِ
اليسار العراقي بين التراجع والنهوض سامي حسن موسى لو ألقينا نظرة سريعة على مجمل المتغيرات على عموم المعمورة لوجدنا ان هناك جملة عوامل خارجية وداخلية لعبت دورا هاما في تراجع قوى اليسار بدءا من انهيار النموذج السوفيتي وبقية النماذج للاشتراكية المشوهة واثارها وانفراد النظام الرأسمالي وفشل المشروع القومي. كل هذه العوامل تركت بظلالها على دور قوى اليسار بالمنطقة والعالم اضافة الى انهيار قسم كبير من الاحزاب الشيوعية في العالم رغم انحرافها السابق لتتخلى عن كل مفاهيمها وأفكارها والبعض الاخر بقي بالاسم لكنه أخذ منحنى ليس ديمقراطيا فقط وانما ارتمى في احضان رأس المال والقوى الظلامية والرجعية وقد حصل كل هذا ابان نجاح الثورة في ايران من خلال نضال الجماهير التحررية الذي أدى الى اسقاط نظام الشاه. كل هذه العوامل مضافا اليها دور النظام الدكتاتوري في تحجيم اليسار الى درجة التغييب لعدة عقود بالمقابل حصل نهوض واضح لقوى الظلام على اثر عوامل الجزر لليسار وعوامل اخرى ادّى بالنتيجة النهائية الى واقع اليسار الان الذي أشرت اليه. اذن حصل التغيير في العراق عبر حرب ظالمة بقيادة قوى الاحتلال الامريكي وحلفائها لقبول المشروع الامريكي الذي يتجلى ليس فقط في احتلال العراق وانما لتنفيذ المشروع الشرق اوسطي الكبير وان بعثرة اليسار وضعفه جعل قوى الاحتلال لا تواجه اي ضغط في توجه تلك القوى مما جعل قوى الظلام والرجعية تتربع على مقاليد الامور منذ السقوط فترسخت المفاهيم المعادية للحضارة والتطور وتغذية مفاهيم المحاصصة الطائفية والقومية وصولا الى حرب طائفية حيث يتم التهجير والقتل والخطف على اساس الهوية ومن هنا فقد استفادت قوى ظلامية اخرى من التكفيريين وبقايا النظام من هذا الواقع وبارتباط عوامل اخرى اصبح لديهم تأثير كبير في تخريب الواقع بكل اشكاله في العراق من كل الاطراف وهذا الواقع وارتباطه في بعثرة اليسار وتراجع بعضه الى ان اصبح جزء من ما يسمى بالعملية السياسية الامريكية ومن جاء معها والبعض الاخر اخذ فقط يستذكر ادواره السابقة وبطولاته. في هذه الظروف اليمينية وبالواقع العملي لن تتمكن القوى اليسارية الصادقة في توجهاتها ان تنجح بفعل هيمنة الواقع اليميني وعوامل مختلفة أدت الى الجزر. والمد والجزر ليس بمقدور القوى تغييره بالكامل وإنما هنالك عوامل موضوعية وذاتية فاعلة كما اشرت لها في اعلاه. من هذا الواقع فكرت بعض القوى اليسارية في مخرج حقيقي وواقعي وذلك بظهور مؤتمر حرية العراق والذي هو بالاساس يؤدي مهام المرحلة من خلال عدم أدلجته وهو يناضل من اجل: 1. انهاء الاحتلال كمطلب مهم وملح باعتباره وراء كل مشاكل العراق. 2. اعادة تنظيم المدنية في المجتمع العراقي والذي تعني بشكل واضح وجلي فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم وهنا بشكل اكيد تحصل مفاهيم حضارية وتقدمية ووطنية. 3. الحد من التأثير الطائفي واليميني الظلامي. 4. تشكيل حكومة غير دينية غير قومية علمانية وهنا لابد ان اشير الى ان العلمانية مفهوم وتجربة رأسمالية استخدمت في فصل الكنيسة عن الدولة فهي اذن ليست من اليسار بشكل عام ولا حتى لقيادة اليسار. في مثل هذه الحالة تتم عملية انهاء مرحلة في الوقت نفسه تجميع قوى اليسار وكل المتحررين والعلمانيين والليبراليين وعموم التقدميين حيث المؤتمر منظمة تضم كل العراقيين بغض النظر عن الدين او القومية او الطائفة على ان يقر منشور المؤتمر الذي هو ظهور قوة ثالثة من يسار المجتمع بالضد من التيارين السائدين واللذين هما قوى الاحتلال والتيار الطائفي حيث يشكلان في العراق سيناريو اسود وهما طرفا الارهاب بالعراق. وان مؤتمر حرية العراق اصبح الان يشكل قوة موجودة على الارض في العراق ومعه كل قوى التحرر في العالم المعادية للرأسمالية وتوجهاتها. كما ان الوضع في العراق ومنذ 2003 بوجود الاحتلال وحلفائه من قوى اليمين والظلام قد جعلت هنالك ظهور جديد رغم حداثته لكنه يؤشر الى تغيير في الوضع اليميني نحو الحرية والتقدم. ومن هنا لابد وان اشير الى ضرورة التفاف الجماهير التحررية التي تريد عالما افضل لجماهير العراق من اتحادات عمالية واحزاب وقوى اليسار ومنظمات المجتمع المدني الى اخذ دورها التحرري لاخراج العراق من هذا السيناريو الاسود المقيت من خلال انضمامها الى مؤتمر حرية العراق. &&&&&&&&&&&&&&&&
هزائم اليسار المستمرة الدكتور جاسم الحبجي حين نتفحص القرن العشرين عربيا واسلاميا نجد ان الثقافة الغربية قد طغت عليه، فأصبح العرب والمسلمون اما مستوردون او مقلدون او متأثرون بالثقافة الغربية، فالمصطلحات المتداولة في الثقافة العامة لهم (العرب) وخصوصا الثقافة السياسية اغلبها ذو منشأ غربي، فالوطن، القومية، الاشتراكية، الحرية، اليسار، الشيوعية، الماركسية، النقابات، الايديولوجيا، الرأسمالية، حقوق الانسان، حرية المرأة، العقل، وغيرها من المصطلحات، لم يكن لها اثر بما تعنيه بمفهومها الغربي في بلاد الشرق، وهكذا كان اليسار العربي احد المستوردين لثقافات الغرب حاله حال بقية المستوردين من العرب والمسلمين الذين وجدوا انفسهم في ازمة حضارية بسبب وقوعهم في اسفل سلم الحضارات العالمية بعد التقدم الحضاري الهائل الذي شهده الغرب بعد عصر النهضة والتنوير والالة الصناعية ثم التكنولوجيا. ورغم ان بعض المستوردين استفادوا من حضارة الغرب وسخروها لصالح اوطانهم وحضاراتهم الان ان اليسار لم يستطع فعل ذلك، لأنه بالاساس استخدم منظومة فشلت فيما بعد في اوربا نفسها، سواء كان بسبب قصورها عن معالجة الواقع او بسبب خلل في تطبيقها او عدم ملائمتها للمناطق التي طبقت فيها. وعلى العموم فحكمة التاريخ اثبتت انها فشلت في ارض المنشأ (أوربا والاتحاد السوفيتي)فكيف ستنشأ وتنجح في بلاد ثقافتها اسلامية تعتبر الماركسية (كفر وإلحاد). لذلك نجد التخبط واضحاً في مسيرة اليسار منذ نشوءها وحتى الان، فغالبية دول اليسار كانت ذات نزعات دكتاتورية فردية، ابتداء بأوربا، فقد وصف خروشوف بخطاب سري موجه الى ممثلي الحزب الشيوعي السوفيتي ستالين بأنه قاتل وكذاب ومريض بجنون العظمة وانه ،اي ستالين، اعدم 70 سبعين عضو لجنة مركزية من اصل 139 وان ستالين أنشأ جوائز بإسمه وهي خطوة لم يقم بها حتى القياصرة الروس، فإذا كان هذا حال الدولة الاشتراكية الاولى في العالم فماذا يا ترى سيكون في البلدان العربية اليسارية..؟ الأمثلة واضحة وكثيرة فثورة الضباط الاحرار في مصر تحولت شيئا فشيئا الى دولة الحزب الواحد ثم الى دولة الشخص الواحد الذي اخذ يصفي معارضيه الاسلاميين - سيد قطب مثلا- ثم بدأ بإقامة وحدة فاشلة مع سوريا ثم التآمر على منافسيه في اليسار العربي في العراق من اجل التفرد في قيادة العالم العربي.ثم مجموعة من الحروب الفاشلة التي ثبتت دويلة الكيان الصهيوني وأوصلت الركامة العربية الى الحضيض، وما ان انتهى عصر اول قادة الثورة اليسارية في مصر حتى كان عهد خليفته -انور السادات- عهد الارتماء في احضان الكيان الصهيوني العدو الاول لليسار العربي ثم الارتماء في احضان الامبريالية الرأسمالية في فضيحة يسارية كبيرة هي -كامب ديفيد- الاتفاقية التي جعلت مصر العروبة بقيادة ثورة يوليو تنام هادئة في احضان (المعسكر المعادي) معسكر الامبريالية الامريكية مع ثلاثة مليارات دولار مساعدات سنوية من الدولة الامبريالية الاولى في العالم الى اكبر دولة يسارية في العالم العربي والاسلامي في الشرق الاوسط لتصبح اداة سياسية فعالة بيد المعسكر الامبريالي. اما الدولة اليسارية الثانية فهي سوريا، فهي حالها حال اخواتها من دول اليسار الاخرى، حيث يتم فيها الاستيلاء على السلطة بالانقلاب الثوري، اي بالدبابة ويتم فيما بعد تصفية رفاق الامس، حيث قام حافظ الاسد بانقلاب اخر ليصبح الرجل الاول في الدولة الآمر والناهي فيها، في التفافة عائلية على الثورة اسماها الحركة التصحيحية عام 1970 لينفرد بالسلطة وليقيم تحالفاً استراتيجيا فيما بعد غير مبرر ايديولوجيا مع جمهورية ايران الاسلامية بقيادة الامام الخميني، ضد اخوانه في النضال حكومة البعث في العراق، بعد انقلاب فاشل ضد الطاغية صدام حسين، وليستمر حافظ الاسد في الحكم حتى وفاته، ثم يقوم حزب البعث بتغيير الدستور الدستوري الثوري الجمهوري ليتولى بشار الاسد قيادة الجمهورية الوراثية اليسارية البعثية في سوريا. اما دولة اليسار الثالثة في العالم العربي فهي من أشد دول اليسار فتكا بمواطنيها او رفاقها وقادتها الذين نفذوها، فابتدأ بسقوط النظام الملكي بقوة دموية قادها المرحوم عبدالكريم قاسم بطريقة ثورية وحتى اسقاط اخر طغاة الجمهوريات اليسارية في 9 نيسان 2003. كانت الدماء تجري انهارا في دولة حضارية معروفة هي العراق، او بلاد ما بين النهرين. فبعد مجموعة من التصفيات الدموية بين الرفاق اليساريين انفسهم استطاعت شلة دموية من الامساك بالسلطة في العراق وهي زمرة البعث العراقي بقيادة عائلة تكريتية هي البكر - صدام حسين ، لتبدأ تصفيات كبيرة بعد الانقلاب العسكري بساعات فقط لتطول القائمة فتشمل حزب الدعوة الاسلامية والبعثيين والشيوعيين وغيرهم. ولكن الغريب في الامر ان اليسار العراقي ولاسيما الشيوعي العراقي ارتضى ان يدخل في حلف سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، حلف مع حزب دموي بعثي عراقي هو حزب البعث الذي استخدم لغة الدم منذ استلامه بعد انقلاب 17- 30 تموز الاسود، واستمر هذا التحالف مع البعث الدموي حتى بعد قيام البعث بحملة كبيرة من الاعدامات تشبه المقابر الجماعية وقد وصل الشيوعي العراقي الى الدرك الاسفل في النضال والسياسة حينما وصفه الطاغية في احد اجتماعات (مجلس قيادة ثورته) بقوله (ان الحزب الشيوعي هو الرصاصة التي تدوش فقط ولا تؤذي اما حزب الدعوة الاسلامية فهو الرصاصة القاتلة). لقد كان دخول الحزب الشيوعي العراقي في تحالف مع البعث واحتفاله سنويا بذكرى انقلاب تموز الاسود دليل على هزيمة اليسار العراقي وفشله في التعاطي مع الواقع العراقي سياسيا وايديولوجيا. اما هزيمة الشيوعي الكبرى فهو دخوله مرة اخرى في تحالف مع حركة الوفاق الوطني في الانتخابات الاخيرة التي تمثل غالبية البعثيين السابقين وعدم اتعاظه من تاريخ البعث الاسود الدموي، وما حصول الشيوعي العراقي على مقعدين فقط على مستوى العراق الا دليل واضح على هزيمة اليسار العراق بأكمله. &&&&&&&&&& نشر الملف في العدد 150 من جريدة الأخبار الموافق الاحد 8 – 10 -2006
#جريدة_-الأخبار_-_البصرية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|