إنشاء المفاهيم

سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 1733 - 2006 / 11 / 13 - 07:26
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

يعد إنشاء وصياغة المفاهيم الوظيفة الأولى للفكر والفلسفة، ولا يمكن تصورهما خارج هذا المنحى، وبنية أي خطاب فكري تتشكل من خلال نسق من العلاقات بين مفاهيم متعاضدة، ومتناقضة يتعاطى بعضها مع بعض جدلياً، وهذه المفاهيم لا تنشأ بعيداً عن جملة العوامل والشروط التاريخية التي تجعل من إنتاج الخطاب عملية ممكنة.
ما زال الخطاب الثقافي العربي المعاصر يدور، إلى حد بعيد، في أفق مفاهيم وطروحات عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بعدما تحولت هذه المفاهيم والطروحات من قبل القوى السياسية ومثقفيها إلى إيديولوجيا حنط فيها الخطاب نفسه، خاسراً بذلك فرصته في الانفتاح معرفياً في فضاء حر. إن مفاهيم "التقدم، العقلانية، الحرية، النهضة، التقدم، التنمية، الإنسان، الاشتراكية، الخ" لم تدخل الوعي والخطاب العربيين ولا سيما لدى السياسيين الذين تبوؤوا مراكز الحكم والقرار إلا كتسميات عابرة من دون مضامين حقيقية وفاعلة، ومن دون امتلاك لأفق إستراتيجي في الرؤية تُدخل هذه المفاهيم في الخطاب السياسي والثقافي وفي تفاصيل السلوك اليومي وبنية المؤسسات، فقد تم التعامل مع هذه المفاهيم وتبنيها للمواربة وإخفاء المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، أو لستر العجز ( عجز الفكر والعمل ). ومن هنا فإن حصول التأخر والتخلف على يد دعاة التنمية والتقدم، وحصول الاستبداد وامتهان حقوق وكرامة الإنسان على يد دعاة الديمقراطية والحرية، وحصول التشرذم والتجزئة على يد دعاة الفكرة القومية، وحصول التباين الطبقي على يد دعاة الاشتراكية ليس مردّه إلى خلل في هذه المفاهيم المتبناة، كما يذهب إلى ذلك علي حرب بل في إدخال هذه المفاهيم في ضمن اللعب الاستراتيجية للأنظمة القائمة وكذلك من يعارضها، بالمتاجرة بها لاكتساب شرعية مموهة والتستر على العجز والعقم والفشل، وأيضاً في طريقة فهمها وبنائها منهجياً في إطار ترسيمة معرفية ـ غالباً ما بقيت مختلة ـ من قبل النخب المثقفة. كما أن ثمة مفاهيم كثيرة استهلكها المثقف العربي بشكل سيء نتيجة الجهل بأبعادها المعرفية وفحواها وسياقها التاريخي الذي تولد فيه، وعلاقتها مع شبكة المفاهيم الحافة، أو لأن هذا المثقف ظلَّ يزاود لأسباب نفعية ضيقة بتلكم المفاهيم حتى إفراغها من كل محتوى اجتماعي وتاريخي واقعي. وواحد من مظاهر الخلل في الخطاب السياسي والثقافي العربي هو الاستخدام الاعتباطي للمفاهيم من دون منحها مضامين ودلالات محددة، فالمفاهيم آنفة الذكر وغيرها ما عادت تجد آذاناً صاغية في الشارع العربي، وإذا بات من يتحدث عن الاشتراكية، اليوم، في سبيل المثال، يبدو وكأنه ينتمي إلى عصر آخر وإلى سلالة منقرضة، فإن الخشية من أن تستهلك مفاهيم أخرى، على المنوال نفسه، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي والتنمية والعدالة الاجتماعية، الخ. ولذلك ينبغي خلق زحزحة داخلية في بنية هذه المفاهيم ووضعها في ضمن سياقات معرفية ونقدية أكثر فاعلية.
لا يكفي أن نطرح مفهوماً جديداً، فالمهم هو استثمار هذا المفهوم في أفق دلالي وثقافي يمنح الفكر نسغاً مضافاً، وقوة وحيوية متجددتين. وعموماً، يمكن لنحت مفهوم جديد، بشرط التعاطي معه منهجياً، أن يبتكر منظومة معرفية جديدة أو يغير من منظومة معرفية سائدة ومستقرة، فالمفهوم له كيانه الخاص وديناميته الداخلية، وإذ يشتغل في نطاق المعرفة فإنه يؤثر في ما يجاوره ويناظره ويقابله ويعاكسه. وما المنهج سوى مجموع مفاهيمه العاملة، وطريقة اشتغال هذه المفاهيم ونظم علاقاتها. وفي محاولة نقد منظومة معرفية فإن الخطوة الأولى هي وضع مفاهيم تلك المنظومة وشبكة علاقاتها وآليات اشتغالها في مواجهة الأسئلة.
إن كل مفهوم لا بد أن يمتلك أفقاً وطاقة ومرونة للتفاعل، ويكتسب المفهوم دلالات مضافة حين يزج به داخل وسط معرفي أو منظومة معرفية.. إن اتصاله بشبكة المفاهيم الأخرى يخلق له ولها حياة أخرى.

#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات