|
صدى السنين – إعترافات متطرف
علاء الزيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1735 - 2006 / 11 / 15 - 11:40
المحور:
سيرة ذاتية
صيف العام 1984 ، كنت أمضي أياما ً بالغة الصعوبة والقسوة في إيران ، ليس فقط لكوني من العراقيين المقيمين الذين يواجهون مختلف الأبواب الموصدة على كل صعيد ؛ في العمل والسياسة والحب والفكر وكل شيء . ولكن لأنني سجنت نفسي في شرنقة كان من البساطة بمكان نبذها والتخلي عنها ، كونها لم تكن منسجمة مع طبيعة تفكيري ، مذ خلقني الله . الشق الأول من المعاناة ، التي كان عموم الجالية يكتوي بنارها ، كان لما يزل بعيدا ً عن حدود المأساة ، التي بلغها بعد وقف الحرب بين العراق وإيران العام 1988 . ففي السنوات الأولى للثورة الإيرانية ، حينما كان الإمام الخميني الراحل مايزال على قيد الحياة ، كانت التشريعات والقوانين شاهنشاهية موروثة ، لكنها أقل قسوة . لم تكن ثمة أية حقوق للاجىء أو المقيم العراقي من حملة " البطاقة الخضراء " . بل إن هذه البطاقة ذاتها كانت من دون ملامح ، فلم تكن تتضمن تأريخ إصدار ، للخلاص من القوانين الدولية التي توجب التجنيس التطبيعي للمقيم بعد عدد من السنوات . وكانت تتضمن نصا ً صريحا ً بافتقارها إلى القيمة التوثيقية والامتلاكية ( وبهذا لايحق لحاملها استخدامها للتوظيف الرسمي أو الشهادة القضائية أو شراء وتسجيل العقارات ) .. مع ذلك ، كانت الطبيعة الثورية للنظام الجديد تتجاوز القوانين المرعية أحياناً لمنح هذه الفئة المضطهدة في وطنها امتيازات ما ، مهما كانت بسيطة . فعلى سبيل المثال ، كنا نشارك بالبطاقة ذاتها في نشاطات مهمة ، من قبيل انتخابات رئاسة الجمهورية ومجلس النواب . وكنا نتسلم باستخدامها المساعدات الاجتماعية من هذه المؤسسة الثورية أو الشعبية أو الخيرية أو تلك . وكنا نسافر بها داخلياً فقط ، وخارجياً أحيانا ً وإن اقتصر الأمر على سورية ، الدولة العربية الوحيدة التي لم تكن تتضامن مع المدان صدام في قضية القادسية المقدسة عند العرب أجمعين . بكلمة مختصرة ، لم يقلب لنا ظهر المجن أحد من القادة الإيرانيين قبل الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني ، الذي تنكر فور وصوله إلى السلطة لتضحيات العراقيين ، الذين احتضنوا الثورة وساندوها بأغلى مايملكون ، فلم يجدوا لديه غير جزاء سنـّمار ، الذي شهدوه عيانا ً وجهارا ً نهارا ً في سلسلة من التشريعات والقوانين المضافة ، التي فرقت بين الزوج وزوجه لأن الأول عراقي والثانية إيرانية . وقطعت الأرزاق والأعناق ظلما في كثير من الحالات . وأرت الجالية نجوم الظهر ، حتى انسلخ الجميع عن جوقة التأييد . كل هذه الصور القاتلة لم تكن من مفردات معاناتي . فبطبعي لست سوى إنسان قنوع . طموحاتي – كانت ومازالت – لاتتعدى رغيف خبز كريماً مع حرية لاتحدها إلا حدود الفطرة والمنطق وحقوق الآخر . لم يؤلمني إذن ذلك السجن الكبير على مدى أربعة عشر عاما ً ، فأسفاري الداخلية ، في أعماق الروح ، بلا نهاية ، وقراءة كتاب تعادل عندي جولة حول العالم في ثمانين يوما ً . ما آلمني كان الجحود ونكران الجميل . فتصور : ماهو شعورك حينما تحتضن أنسانا ً ما في أشد أوقات حاجته إليك ، ثم حينما يتمكن من السلطة أو الجاه يركلك برجله دون اكتراث بكل شعاراته الرنانة والطنانة ؟ هكذا كانت حال الجالية العراقية مع الإخوة الإيرانيين . ولعل أقرب الأمثلة على هذه المأساة ، المرجع الديني الراحل الذي تتجدد ذكراه السنوية هذه الأيام ، أعني الإمام السيد محمد الشيرازي . فقد تضمن كتاب ضخم باللغة الفارسية يعد من مصادر التوثيق للثورة الإيرانية ، وهو كتاب " نهضت إمام خميني " لحميد روحاني ، في جزئه الأول ، إستعراضا ً مفصلاً وصوراً عديدة لاستقبال الراحل الشيرازي للراحل الخميني في كربلاء بالعراق العام 1963 ، بعد نفيه من إيران ، واحتفائه بقائد الثورة ومرافقيه وجميع المنفيين الإيرانيين ، لكن مالم يتضمنه أن الشيرازي ضويق في إيران إلى أبعد حدود المضايقة فيما بعد ، وحوصر في منزله حتى ورمت قدماه وتوفي كمدا ً ، وسجن ابنه السيد مرتضى وعذب وأحرقت رقبته ، كل ذلك لذهاب المرجع الفقيد مذهباً فكرياً وسياسياً غير المذهب الفكري والسياسي الحاكم . فقائد الثورة وزملاؤه تبعاً له تبنوا " ولاية الفقيه المطلقة " ، فيما تبنى الشيرازي تقييد هذا الإطلاق بالشورى ( نظرية شورى الفقهاء ) منعاً لحصول الاستبداد ، كما عارض الاستمرار العبثي للحرب العراقية الإيرانية . الشرنقة التي سجنت فيها نفسي ، كانت تتلخص بالتبعية العمياء و " المطلقة " للإمام الخميني الراحل . فقد أحببت فيه زهده وتصوفه وعرفانيته وبساطته وقاطعيته وكارزميته ، ماأعماني عن عيوب نظريته ومساوئها وآثارها السلبية على الدين وأهله وكذلك على عموم الناس . وهكذا ، فقد أضحيت واحداً من ببغاوات ولاية الفقيه المطلقة ، المنادين بالويل والثبور وعظائم الأمور للمخالفين لها . لم أكن أهتف في الشوارع طبعاً ، فأنا ألتزم عادة بشعار : " ياغريب كون أديب " والشعب الإيراني أدرى بأموره ، لكني قلمي كان كالسيف القاطع في وجه المناوئين لهذه النظرية الاستبدادية من أبناء جلدتي ، وياما دبجت المقالات في مدحها دون طمع في مال او سلطان . ومازلت أذكر كيف تطاولت على المقام الفكري الشامخ للشيرازي الراحل ، في زاوية عجفاء كنت أكتبها في صحيفة " العمل الإسلامي " مسفـّهاً نظرية " شورى الفقهاء " بسيف خشبي مثلوم ، فلم يسعف تسامح المرجع الراحل واعتداله ووسطيته بعض أتباعه المزعومين من القائمين على الجهة التي تصدر الجريدة ، مادعاهم إلى منعي من كتابة الزاوية بألف ذريعة وحيلة ، عوضا ً عن إسداء النصح لي ، وتقويمي ، فإن كنت شاباً عاطفيا ً قليل التجربة فإخلاصي وصدقي يشفعان لي ، ولو تركوا شخصيتي تنضج ببطء على نار هادئة كما حدث بالفعل ، لتوصلت إلى القناعات ذاتها التي أحملها اليوم ، دون إرهاب فكري أو قطع رزق . ولكن على من يقرأ مزاميره داود ، فالمعنيون أنفسهم يتخاصمون اليوم على منصب وزير بلا وزارة ! عصر يوم من أيام ذلك الصيف الطهراني شبه القائظ ، كنت في طريقي إلى البيت عائدا ً وجمع من أصدقائي من مجلس تأبين لشقيق زوجتي الذي استشهد دفاعا ً عن قضيته ومبادئه ، حينما استفزّنا منظر مجموعة من النسوة الإيرانيات غير المحتشمات " كما ينبغي " واللاتي رغم ارتدائهن الحجاب بشكل أو بآخر ، لكن اللغة السائدة حينذاك كانت تسميهن " بي حجاب " أي بلا حجاب أو سافرات . فما كان منا نحن الأوصياء على الشريعة ودين الناس وأخلاقهم بدون تفويض من أية جهة إلا من جهلنا ، إلا أن صرخنا بهن في عجرفة واضحة : " حجاب را درست كنيد ! " أي أصلحن حجابكن .. فبادرتنا واحدة منهن بجرأة تغبط عليها موجهة إلينا سؤالا ً واحدا فقط : وهل الحجاب كما ينبغي في بلدكم ؟ سؤال غاية في الوجاهة . فهؤلاء القوامون على نساء لايعرفونهن ، والضيوف غير المرغوب فيهم في بلدهن - كما قال وزير الداخلية الإيراني فيمابعد – جاؤوا من بلد كان فيه المدان صدام يحكم بالموت على الفتاة لمجرد ارتداء الحجاب .. هذا قبل الحملة الإيمانية الوهابية بالطبع .. فهي إذن مراجل في غير محلها ، واستقواء على نسوة ضعيفات بكرباج المتطرف السائد ، فأي خزي بعد هذا الخزي ! كل أشكال التطرف التي نشهدها في العراق الآن لاتحتاج إلى شيء أكثر من حاجتها إلى زمن مضاف ؛ سنين أخرى ، يكبر فيها الصغار وتتعمق تجاربهم وينفتحون على الكون الواسع والفضاء النظيف ، فيتعالون بالتالي على صغائر الأمور ، حينما تنضج شخصياتهم على نار بطيئة و هادئة .
عيون الكلام : أحمد أمين : ثم لاتكن مغرورا ً تعتقد أنك على حق مطلق ، وأن غيرك ، إن خالفك ، على باطل مطلق ، بل وسـِّع صدرك ، فاجعل حقك يحتمل الخطأ ، وباطل غيرك يحتمل الصواب .
#علاء_الزيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القتل الوردي .. ماركة بعثية مسجلة
-
جمجمة وعظمتان !
-
طائف ميت
-
هل سيعي رئيس الوزراء الدرس الأردني ؟
-
التاريخ الاسود يخرج لسانه لعباس الأبيض !
-
عظام فخذ بطول عود الثقاب !
-
طالبان في الشطرة
-
الرجاء عدم التعرض للإخوة الإرهابيين !
-
مات صدام غدا !
-
دكتور إياد .. كيف تسمعني أجب !
-
العراقي .. منفعل ..عصبي .. هائج
-
البوابة الشرقية - بلا حارس أجير
-
هل هي خاتمة أحزان العراقيين ؟
-
ماذا جرى في المجر الكبير ؟ -- التليفزيون البريطاني .. شاهد
...
-
حزب البعث العربي الإسراطيني !
-
قد لا يعالج السرطان بالدعاء دائما
-
التلازم اللاشعوري بين الجلبي وقص الاذن !
-
من عشقته .. قتلته ؛ القصة الكاملة
-
حكاية تبعث على القشعريرة
-
صدى السنين - 3
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|