|
نقد المشروع الليبرالي العربي
احسان طالب
الحوار المتمدن-العدد: 1731 - 2006 / 11 / 11 - 08:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مدخل : أمسى ومازال الحديث عن الليبرالية العربية محفوفا بالمخاطر والإرتباكات يشوبه الحذر وضبابية الرؤيا كونها ما تزال طارئا ً في الوعي العربي ومصدر ريبة وشك لتعارضها مع قائمة طويلة من المسلمات الدينية و القومية التي نشأ و ترعرع عليها العقل و المكون الوجداني الجمعي العربي ، وكونها أيضا تتصادم مع نظريات و توجهات الأنظمة الحاكمة التي تتركز أولياتها على الاستمرار في السلطة معتبرة بقاءها اكبر انتصار و أعظم إنجاز مهما بلغ الثمن . و بالرغم من عالمية الفكرة وشيوعها في فضاء الفلسفة و الثقافة الدولية ، فان هناك حاجة لتميز الليبرالية العربية ، و تأصيل مفاهيمها و مبادئها بصورة تزيل الالتباس الحاصل و توضح معالم الرؤية . فالمجتمعات العربية لم تعايش نفس الظروف الاجتماعية و السياسة التي عايشتها الشعوب الأوربية موطن الولادة والنشأة و النضوج ،حيث تبنت البرجوازية الغربية العائمة فوق ركام الإقطاع ، الفكر الليبرالي ووجدت فيه ملاذا لتطلعاتها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية منذ منتصف القرن السابع عشر و بدايات الثورة الصناعية لحظة تطور مستويات الصراع بين الكنيسة و المجتمع الحر . وعلى النقيض فان البرجوازية العربية المتراجعة تحت وطأة الثورات و الانقلابات العسكرية لم تتبنى القيم الليبرالية و انكفأت على المرجعيات الدينية للحد من خسائرها في محاولة لاستعادة المكانة الضائعة . وإذا كنا نتحدث عن خصوصية فإننا نبحث عن ليبرالية واقعية قابلة للحياة في معترك الصراع الفكري و الثقافي و السياسي الراهن ، تتابع مرحلة التأسيس النظري و الفلسفي وصولا إلى مرحلة نضوج المنظومة الفكرية وآليات التطبيق و الممارسة . و باستقرائنا للمشهد الراهن منذ الألفية الثالثة نلمس نضوج الشخصية العربية الليبرالية التي غدت أكثر وعيا و قدرة وثباتا على الشرح و التوضيح للقيم الإنسانية و المدنية و الحضارية المتوفرة في الفلسفة و الثقافة الليبرالية ، و بات لديها تصور و رؤية تلقائية يمكن من خلالها تحديد موقف و رأي تجاه الأحداث و المستجدات المتقلبة و المتسرعة لا يمثل رد فعل أو أحكام مسبقة .
القدرة التنافسية : بعد تراجع زخم المشروع القومي العربي الذي تصدع تحت ضربات الهزائم المتتالية و المتكررة و عجز عن تحقيق أي من شعاراته الرئيسة المتمثلة ببناء الوحدة العربية و إزالة حالة التشرزم و التفكك و التجزئة التي تعاني منها الكيانات العربية السياسية المستقلة و المتصارعة على الأوليات و الحدود و المصالح . لقد روج المشروع القومي العربي لإقامة دولة الوحدة العربية متجاهلا وجود قوميات و أعراق لا تنتمي إلى الأصول العربية و جهد لإزالة تميزها و اعتبرها عربية بالقرار السياسي , مما تسبب في نمو الشعور بالظلم و القهر و راكم الرغبات المكبوتة في الإفصاح عن الاستقلال العرقي و اللغوي , و رفع في المقابل حالة العداء الشوفيني للآخر المتباين و المختلف دينيا أو عرقيا أو لغويا و أثار حالة من التعصب و التشنج القومي تحولت تحت الضغوط والنزاعات الحضارية و الاقتصادية إلى تطرف ديني ما ليث أن تطور باتجاه الانفلات و العراك الطائفي و المذهبي . و لم تتجلى مظاهر الفشل و الإحباط في غياب الوحدة المنشودة فقط ، بل انزاح نحو العجز المرير في حل قضية العرب المركزية المتمثلة بتحرير فلسطين الطبيعية باعتبارها أرضا عربية بالكامل و جزءا لا يتجزأ من التراب العربي، ومع تطور الصراع العربي الإسرائيلي و تأخر و بعد تحقيق الأهداف المنشودة ، و بعدما افرز النزاع صيغا جديدة و مطروحات واقعية مختلفة تبدلت كتلة الآمال و الغايات نحو تحقيق التضامن العربي و التكامل الاقتصادي و تفاعيل معاهدات الدفاع المشترك ، و انسحب شعار التحرير الكامل ليحل مكانه هدف تحرير الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967 و إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس و حدودها الضفة و القطاع . و أمام التدهور الواضح في شعارات و أهداف المشروع القومي العربي اتجهت الأنظمة الشمولية ، التي جعلت من تحقيق تلك الأهداف أساسا لمشروعية قيامها و بقائها ، إلى تبني الأصولية المذهبية و هربت نحو الأمام بتضخيم الشعارات و تعظيم الغايات حيث وجدت فيها حلا سحريا و علاجا عجائبي و قدرا إعجازي يقبل التأجيل و التأخير بانتظار النصر الإلهي الموعود . لقد كان الزخم القومي كافيا ً في ستينات وسبعينات القرن المنصرم للتغطية على المطروحات والمشاريع الثقافية والفكرية والسياسية الأخرى المتنافرة أو المتضاربة معه ك التيار الديني الإخواني و التحريري و السلفي الذي مال تحت وطأة العنف المتبادل و استبداد الأنظمة إلى العمل السري بانتظار الفرصة السانحة للظهور و العمل العلني مجددا . وسعت التيارات اليسارية إلى إيجاد خلطة تمكنها من البقاء على الساحة بتبنيها للقيم القومية ورفعها لشعارات منسجمة ومتناغمة المنطلق والطرح القومي السياسي للأنظمة الحاكمة واستطاعت بذلك الحفاظ على وجودها وتنظيماتها الشكلية. وفي ذات الوقت كانت التيارات الدينية سلفية وأخوا نية تعمل في السر وتحقق استقطابا ً جماهيريا ً منظما ً ما لبث أن اصطدم وتصارع من أجل السلطة والبقاء مع الأنظمة الحاكمة . في خضم تلك التيارات القومية واليسارية والإسلامية تواجد على استحياء وخجل المشروع الليبرالي الثقافي والفكري والسياسي الذي سعى لتأسيس مبادىء ومفاهيم ليبرالية نمت واستقرت وتأسست في أوربا والعالم الغربي . في حين أنها مازالت تحبو وتخطو على استحياء بين قامات وهامات الثقافة الرائجة قومية أم يسارية أم أصولية كانت سائدة ومسيطرة على النظم السياسية والمناهج والمدارس الممسكة بزمام الإعلام والتعليم والتوجيه . وفي خضم التغيرات والأحداث العاصفة في العالم منذ ثمانينات القرن الماضي إلى ما بعد أحداث أيلول بدأ المشروع العربي الليبرالي ينمو ويؤكد ذاته بعدما غدت كلمات ومصطلحات كالديمقراطية والمجتمع المدني ومواثيق حقوق الإنسان والشرعية الدولية والثقافة وحرية التعبير والرأي والتغيير والتجديد والإصلاح ، تطرق أسماع الشارع العربي وتتردد في حوارات و سجال الرأي العام والنخبوي . وخلال سنوات قليلة تمكن التيار الليبرالي الثقافي والفكري السياسي تجديد احتلال مساحة أكبر من الفضاء الثقافي والطرح السياسي . وبدأت تنمو المعارضات للنظم الحاكمة في العديد من البلاد العربية مستندة إلى قيم ومبادىء ومثل ليبرالية بدأت تطرح كبديل عن المشاريع القومية المتراجعة والمنحسرة وذلك في مواجهة التيار الأصولي الجارف الذي استعاد تألق وزخم الماضي وسيطر على الإعلام والشارع مستردا ً مكانة لم تتراجع كثيرا ً في الوعي الجمعي للرأي العام العربي الغالب . و يمكننا تلخيص المشروع الثقافي و الفكري و السياسي اللبرالي العربي بعدة نقاط و ركائز تشكل العامل المشترك المطروحات اللبرالية العربية : ــ النص على أن الحرية و العدالة و المساواة و التسامح بمنطو قها الشائع و مفهومها الواسع قيم عليا تتبوأ مكانة أولية تؤهلها لنقد ما يعارضها . ـــ اعتبار مسألة الديمقراطية بمفهومها الشامل سياسيا و حقوقيا و اجتماعيا قضية ثقافية فكرية و منهاج وسبيل لأنظمة الحكم و علاقات الأفراد و الشعب بالسلطة و طريقا نموذجيا لتغير و إصلاح الأنظمة السائدة . ــ إعادة الاعتبار للإنسان كقيمة عليا تستحق التكريم ة التقدير و العيش الكريم و الرغيد بصرف النظر عن الانتماءات الدينية و الطائفية و العرقية و القومية . _ تبني مفاهيم الحداثة و العقلنة في مواجهة الأسطورة و الغيب و الثقة بالقدرة و الكفاءة بالعلوم و المعارف الإنسانية و التأكيد على تمكنها من إيجاد و تقديم النظم و القوانين و الأساليب و المناهج الكفيلة و اللازمة لبناء وتأسيس و تنظيم العلائق الفردية و المجتمعية و الدولية . ـ تبني العلمانية بجوهرها القائم على احترام و تقدير التراث الإنساني القديم و الحديث و المعاصر بتنوعاته الدينية و القومية و الليبرالية بما يتلاءم مع حرية العقل و الرأي و المعتقد . ـ إعادة الثقة للمجتمع المدني و مظاهره و مؤسساته بما يضمن ويحقق للأفراد و المجموعات المتنوعة والمتعددة وظائف المساهمة و المشاركة في بناء الدولة و النظم السياسية ، و إخضاع سلطة المؤسسات الدينية للقانون و رقابة المجتمع و ليس العكس . ـ تجاوز مفاهيم قديمة تحدد الولاء للوطن بالعداء للخارج و استبعاد الآخر و تحصر قيم الوطنية بالولاء و الوفاء و الخضوع التام للنظم الحاكمة و المسيطرة بحجة وجود أخطار خارجية مما يتطلب تأجل التنمية و الإصلاح السياسي و الحقوقي إلى ما بعد الانتصار على العدو المتاخم للحدود . ـ اعتبار الشرعة الدولية مع ما يعتريها من شوائب و نقائص و عيوب مرجعا و أصلا في حل النزاعات و الصراعات و الخصومات التاريخية الإقليمية و الدولية ، وعدم الانتظار إلى مالا نهاية لتحقيق التفوق الكامل و النصر المؤزر . ــ أن تبني الحلول السلمية و طريق المفاوضات لحل مسألة الصراع العربي الإسرائيلي تعتبر من أوليات السياسة العربية الخارجية لكنها لا تغلق الباب أمام المسائل المتاحة و المشروعة الأخرى . فالاقتصاد القوي و الحكومات الديمقراطية و المشاركة الشعبية الفاعلة والواعية في السلطة و الرأي و الثروة تعزز المفاوضات و المقاومات في مواجهة دولة إسرائيل التي ما تزال تعد العدو المركزي للشعوب العربية . ـ القناعة بأن الحفاظ على الهوية و الخصوصية و العراقة و الأصالة للشعوب و الدول العربية لا يتعارض مع تبادل الثقافات و حوار الحضارات و الانفتاح على الآخر المختلف و المميز مهما بلغ البعد الجغرافي و الثقافي و العقائدي . ـ العمل على إيجاد جو ومناخ ثقافي وفكري صحي , يتم من خلاله تنمية و تأصيل و مأسسة المناهج و المدارس الدينية الإصلاحية و التجديدية و دعمها لتصبح قادرة على الوقوف في وجه المد الأصولي المتطرف المهيمن على التيارات الدينية السائدة . ـ إعادة النظر في الموروث الديني و أنسنته مناقشة و نقدا و إقامة الاعتبار لتاريخية النص و المنقول بما يجعله قابلا للتعايش مع تطورات العصر و تغيرات المشهد الأيديولوجي . ـ رفض الحجر على العقل بحجة قدسية التراث و عظمة المنقول و إتاحة الفرصة للبحث والنقد و المراجعة التاريخية للتجارب السياسية القديمة و الحديثة و المعاصرة , ذلك أن الاحترام و التقدير و الإجلال للسلف والقادة لا يعفيها من الوقوع في مطب الخطأ الإنساني و الضعف و العجز أو الخضوع للرغائب و الشهوات كباقي بني آدم . ـ الاعتراف بكل العهود و المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان و عدها مرجعا يتم من خلاله الحكم على أخلاقية أو صوابية الممارسات الفردية و الحكومية و السعي لقوننة العلاقات في المجتمعات بما لا يتعارض مع تلك العهود و المواثيق . _ الإصرار على أن أي شكل من أشكال النظم الاقتصادية المعروضة ينبغي لها تحقيق العدالة الاجتماعية مع التنمية الازدهار الفردي و الجمعي بمسيرة تراعي الحفاظ على حقوق الطبقات المحرومة و القاصرة عن المنافسة في سوق العمل و الإنتاج . _ مراعاة حقوق و خصوصية الأقليات العرقية و الدينية و الحفاظ على مقومات و جودها الاقتصادي و الثقافي و مساواتها مع الأكثرية بالانتماء و المواطنة . _ تبني موقف من المرأة يقوم على مساواتها بالرجل و مشاركتها الفاعلة سياسيا واجتماعيا و اقتصاديا ، و التصدي للقوانين و التشريعات التي تحط من مكانة المرأة و تسمح باستغلالها و ترسخ دونيتها .
تباين المصالح :
ولما كان التيار الليبرالي العربي يعزف ألحانا متعددة و متكررة على وتر الديمقراطية و الحرية و حق الشعوب في تقرير طبيعة نظمها السياسية و انتخاب ممثليها و حكامها ، كان السعي حثيثا من قبل الأنظمة و حماتها ورعاة التطرف و التشدد إلى إلحاق شبهة العمالة للغرب لأنصار قيم الحداثة و العقلنة والانفتاح الفكري و الثقافي , بحجة الحفاظ على الخصوصية و الهوية و بدعوى أن مطالب الحرية و الديمقراطية تأتي من الخارج و ليست مطلبا وطنيا لكون الأمة و الوطن تتعرض للغزو العسكري و الثقافي . و استغلت الأنظمة الحاكمة سطوة الأصولية على طبيعة و بنية التفكير الغالب في الشارع العربي لإظهار الدعوة الليبرالية كعدو لله و الوطن بذريعة أنها تحارب المنهج السلفي و تستند في مرجعيتها إلى الثقافات الغربية . وجاء فشل المشروع الأمريكي في العراق و العجز الدولي في فلسطين و تراجع مسيرة الدولة في أفغانستان ليزيد الضغط على التشخيص و التنظير الليبرالي لأزمات الدول و الشعوب العربية . و هنا لابد من التأكيد على الفصل و التباين بين المشروع الأمريكي لشرق أوسط جديد أو كبير و بين المشروع الليبرالي العربي . حيث لا يمكن بحال من الأحوال ربط المشروعين بحجة التشابه الظاهري في المطروحات , ذلك أن الدعاوى الأمريكية بمناصرة الديمقراطية و الحرية لا تشكل أساسا أو ذريعة للالتفاف على مبدأ حق الشعوب في الحرية و الديمقراطية كمطالب وطنية وشرعية . وإذا كانت مصالح الولايات المتحدة و إسرائيل هي المنطلق و الأساس للمتحركات والتوجهات الأمريكية في المنطقة فان المصالح العليا للشعوب و الدول العربية هي الهدف و الغاية للمطروحات الليبرالية العربية وفقا لمنظور و مفاهيم قد تبدو غير مألوفة أ وغير اعتيادية. الالتباس الحاصل بين الحرية و التحرر:
تقوم الليبرالية بمفهومها الحديث على قيم إنسانية كبرى توافقت عليها مجمل الثقافات والإرث الإنساني الحضاري المتنوع والمتعدد الاتجاهات والانتماءات المتباينة في المرجعية والأصول . وباعتبار الديمقراطية والحرية والتسامح قيم أساسية ومركزية للمشروع الليبرالي الفكري بصرف النظر عن جغرافية وزمان البنية الفكرية والثقافية والاقتصادية التي ساهمت وحرضت ودفعت نحو تبني تلك القيم . وبالعودة إلى خصوصية المشروع الليبرالي العربي الذي يعد ويعتبر امتدادا ً وجزء ً للمفاهيم وقيم الليبرالية الأوربية المنشأ يمكننا تحديد عامل هام من عوامل فشله الجزئي . ذلك أن القيم الأنفة الذكر لم تحظ تاريخيا ً في الفكر والثقافة والمعتقد العربي بما يؤهلها لتشكيل بنية تتأسس عليها مرجعية تسمح بتبني أنظمة ومسارات تؤدي في النهاية إلى اعتبار الليبرالية مشروعا ً وطنيا ً أو قوميا ً . فمفهوم الحرية في الفكر العربي والقومي والأصولي يبتعد كثيرا ً عن اعتبارها قيمة إنسانية فردية ومجتمعية لها من الأولوية وعلو المكانة ما يجعلها قادرة على رد أو عدم قبول ما يتعارض معها من قيم أخرى ، والواقع أن مفهوم الحرية التبس تاريخيا ً في الفكر الجمعي العربي مع مفهوم التحرر . وحل محله بدرجة ضاغطة تسببت في إقصاء وتحجيم مفهوم الحرية مقابل التحرر . فمن عنترة بن شداد وثورته على الرق إلى بلال الحبشي وتصدره لمكانة السادة التي كانت حصرا ً وحكرا ً على طبقة نسبية ومادية محددة ومعروفة ، إلى الأفغاني ودعوته للتحرر من الاستبداد العثماني وصولا ً إلى حركات التحرر الوطني التي اعتبرت العتق من نير الاحتلال الغربي للأرض والإنسان هدفا ً ساميا ً وغاية عليا تبرزها أية توجهات أو تطلعات تعيق المسيرة أو تحرفها عن سياقها التاريخي.وبالرغم مما رافقها من توجه خجول نحو الحرية بمفهومها الأشمل والأعمق الذي عاد وتراجع تحت وطأة مفاهيم الانتماء الوطني والقومي والديني. وتضاءلت فرصة حرية الفرد والإنسان تحت وطأة حرية الوطن والأمة والعقيدة ، وبذلك نجد أن الحرية زمانيا ً ومكانيا ًلم تكن مطلبا ً ثقافيا ً أو عقائديا ً في الفكر الجمعي العربي ولم تتمكن من تشكيل نقطة استقطاب وارتكاز تلتف حولها وتستند إليها جملة الرغبات والغايات المحركة والمحرضة للجدل العقلي والسياسي المواكب لحركات النهضة والتحرر التي شغلت وعملت على مفهوم التحرر من العبودية والرق وقيم الوثنية والاستبداد وأخيرا ً الصراع المتجدد والمستمر للتحرر من الاستعمار بأشكاله القديمة والمتجددة . وهنا نركز على الالتباس الشديد بين مفهومي الحرية والتحرر حيث طغى الثاني على الأول وحل مكانه واختزلت الحرية في قيم الثورة بالنضال والتخلص من بقايا ورموز الاستعمار ومحاربة رموز ما دعي بالرجعية العربية في مرحلة زمنية سيطرة خلالها الثورات والانقلابات الشمولية على العديد من البلدان العربية وأمسكت الأنظمة الأيديولوجية زمام قيادة الشعب والدولة وحاربت مفاهيم الحرية والليبرالية من منطلقات إيديولوجية تحولت في العقد الأخير إلى أنظمة مشوهة متعددة الوجوه والأشكال. فهي اشتراكية رأسمالية أصولية علمانية تحررية استبدادية في نفس الوقت وذات الإطار ! ! وقد باتت مهمة محاربة الحرية في أجواء معاداة العولمة والعلمنة أمرا ً وطنيا ً قوميا ً وربانيا ً في لحظة واحدة وغدى المنادون بها أعداء الأمة والدين والوطن . الديمقراطية قيمة ضائعة :
الممارسة والفكر الديمقراطي في العالم الغربي قديم تعود نشأته إلى نظام الدولة اليونانية ووريثتها الدولة الرومانية ، وكل ذلك نشأ وتطور تاريخيا ً وجغرافيا ً بعيدا ً عن الفكر العربي ما قبل الإسلام ومتمايزا ً عن البنية القيمية لمشروع الدولة الدينية الفتية بالمدينة المنورة إبان حقبة الوحي ، ففكرة القبيلة والعشيرة التي سادت في أرض الجزيرة العربية ما قبل الإسلام منحت مفهوم القيادة الفردية والمرجعية الشخصية والذاتية لزعيم القبيلة وشيخها أهمية قصوا وضرورة معاشية تنبثق من الحاجة إلى اتخاذ القرارات الفورية والسريعة ذلك لأن كينونة القبيلة أو العشيرة محل تهديد وخطر بشكل دائم ومستمر مما أستدعى إطلاق يد أمير القبيلة أو شيخ العشيرة بشكل كامل للسماح له باتخاذ القرارات التنفيذية المباشرة لمنع الخطر وحفظ بقاء العشيرة واستمرار تدفق مستلزمات وجودها. وبالانتقال إلى مرحلة النبوة والوحي نجد ترسيخا ً وتأصيلا ً لفكرة القيادة الفردية لأسباب كانت في البداية مشابهة للحال الذي استقرت عليه القبيلة والعشيرة ، فمشروع الدولة الناشئة مهدد ومحاط بالأخطار العاتية من داخل المجتمع ومن المعسكر الخارجي المناهض لمشروع الدولة الدينية الشابة وهذا فرض بالضرورة تركيز السلطات والصلاحيات بيد القائد الأعظم والمرجع الأوحد الذي يستند بمكانته تلك إلى المرجعية الإلهية الغيبية . ولما كانت فكرة الديمقراطية من حيث المبدأ تقوم على تمكين الأغلبية من تسليم سدة ورزمة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية لفئة ارتأت وارتضت تلك الأغلبية أنها الأصلح والأنسب للحفاظ على المصالح والقيم مع الاحتفاظ بحقها ( أي الأغلبية ) بالرقابة والرفض وفق قواعد وضوابط متفق عليها . وبهذا المنطق تكون السلطة الحقيقية بمعناها الشامل أي السلطة التشريعية والتنفيذية بيد البشر بيد الإنسان العادي المجرد من القوى والملكات الغيبية والمرجعية السماوية وهنا نقطة التصادم والتضاد بين الفكر الأصولي والديمقراطية ، ذلك أن قيم الحق والعدل وحرية العقل في ذلك الفكر منطوية ومنضبطة بالمرجعية السماوية والنص المحدد المقدس الذي أكمل وأتم وفق تصور خاص ما يلزم الإنسان لبناء أنظمته ومؤسساته الفكرية والإعتقادية والسياسية وبذلك يترسخ مفهوم القيادة الفردية للمجتمع وينحسر بل يتضاءل حجم ودور الغالبية ذات الثقل الأعظم في المفهوم الديمقراطي . وحتى بالاقتراب من مفهوم الشورى بمنطقها الديني وبسطها ومدها لدرجة تلامس حدود المفاهيم الديمقراطية ينشأ لدينا تصادم وتعارض جديد " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل (آية:43): وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
و " ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " النساء (آية:83): وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
فمركز الشورى وحلقة التشاور في المنطلقات الأصولية إنما هي للنخبة المتميزة والمنفصلة عن الغالبية المركزية في الفكر الديمقراطي ، ونتيجة لكون الفكر العربي فكرا ً سلفيا ً ارثيا ينظر بعينين إلى الوراء بشكل مستمر ويلتفت أحيانا ً إلى الأمام بشكل عرضي ، وبتصورنا الفكر العربي رأس لا يمكننا أن نخطئ في البحث عن مكان العينين المتواجدين في الخلف حيث النظر الدائم والمستقر إنما يكون إلى الوراء ويشكل الالتفات نحو الأمام والمستقبل حركة إرادية متعبة وشاقة مما تسبب باختزال التجارب العقلية والفكرية بالموروث والبحث الدائم عن الحلول بما تكفل به الماضون الذين استمروا أحياء حاضرين فاعلين في الحاضر والمستقبل . وضمن هذه الكينونة العقلية المغلقة أصبحت الديمقراطية فكرا ً غريبا ً وطارئا ص ومستهجنا ً طيلة أربعة عشر قرنا ً بما منع تجزر ونمو الفكر الديمقراطي في المخيال العام للثقافة الجمعية العربية والإسلامية . وبذلك وجد المشروع الليبرالي العربي المتبني للفكر الديمقراطي صعوبة وممانعة كبيرتين في ثقب القوقعة والدخول إلى مناطق التفكير الآمن لدى الرأي العام واعتبرت الإرادة اللاواعية للمجتمعات العربية , الليبرالية حادثة وطارئة عليها مما دفعها لتحصين نفسها بمزيد من الانغلاق والسلفية في مواجهة مشروع الحداثة الليبرالية القائمة على أسس الحرية والديمقراطية والعقلانية والتسامح التي لم تكن ولم تعد مطلبا ً جماهيريا ولا نخبويا ً في خضم المشاريع الفكرية و الثقافية و السياسية الراهنة . افتقاد المشروع للحلم :
" أن الله اشترى من المؤمنتين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة " التوبة (آية:111): إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
الحلم المنشود و الجائزة الكبرى موجودة دائما و محفزة على الإيمان و العمل ، لقد أحل الفكر الأصولي ذاته و رموزه في مقام الوكيل عن الأصل و باع الناس النجاة من النار و الفوز من الجنة مقابل الانتماء و الولاء , فالنجاة من العذاب و الفوز بالفردوس هدف مركزي و حلم وجداني يفترش باطن الساعين و المتبنيين للفكر الديني و الملتزمين به اعتقادا و عملا . فالغايات النهائية العظمى لكليات المطروح الديني كانت و ما زالت قادرة على استقطاب باحثين جدد عن الحق و الحقيقة ، و الحلم الديني الذي يعلل ويبرر الفشل في تحقيق العدالة والمساواة والسعادة بالجزاء والحساب في الحياة الأخرى يبقي الأمل حيا ً في الوصول إلى ملذات الروح والجسد مهما طال الزمان في الحياة الدنيا ومهما كبرت التضحيات وتعاظمت الالتزامات كونه يترك الباب مفتوحا ً والأمل ممكنا ً فيما بعد الموت حيث لا تكتمل الصورة النهائية للعدالة المطلقة والسعادة الكاملة إلا بالوصول إلى مرحلة الجزاء والعقاب والمكافأة الكبرى في الدار الآخرة . وبذلك يمكن تبرير الفشل الكلي أو الجزئي ، الفردي أو الجماعي ، على اعتبار أن النتيجة الحاسمة والنهائية لا تكون إلا في عالم الغيب وفي ملكوت زمان ومكان مطلق تحدده عدالة مطلقة وخيرية مطلقة وقوة غيبية نهائية. وفي مقام مختلف يستطيع الباحث تلمس الحلم الوجداني الفردي والجمعي في المشروع القومي العربي ، فالزعيم القومي جمال عبد الناصر اشترى من العرب حبهم وولاءهم وانقيادهم خلف زعامته وقيادته الفردية ، اشترى منهم أنفسهم وباعهم حلم الأمة العظيمة الموحدة القوية الظاهرة على العالم بأسره وأكد بحزم وحتم على ضرورة الوصول إلى الغاية الكلية والنهائية للمروع القومي ببناء دولة الأمة العربية العظيمة الواحدة. وكما كان حال الحلم في المشروع الأصولي غير قابل للتحقيق في الحياة الآنية فإن الحلم القومي كذلك يبقى قائما ً وممكن التحقيق مهما طال أو تأخر وبعد الزمان بالأفراد والمجتمعات وهكذا يرتكز الحلمان على أسس غيبية لذات مطلقة تبقي الفرصة قائمة للوصول إلى الأهداف والغايات والآمال المرادة والمنشودة وبتلك الأمنيات العريضة المأمولة الحصول استطاع المشروع القومي العربي تحقيق الاستقطاب والتمحور الشعبوي والنخبوي حوله لأسباب عديدة منها كونه يغطي المآسي والهزائم والانتكاسات والفشل بغاية عظمى حتمية التحقيق ونهائية النتيجة . وبعودتنا إلى المشروع الليبرالي العربي افتقد ذلك الحلم الذي يمتلك القدرة على استقطاب الوجدان واللاوعي الفردي والجمعي للشعوب العربية ، فقيم الحرية والديمقراطية والتسامح لم تكن في الماضي ولا في الحاضر غايات أو رغبات نهائية يسعى وراءها الفرد والمجتمع حيث طغت عليها أولويات اعتقادية ومطلقات أصولية تجذرت وترسخت ونمت فوقها بنية فكرية ثابتة شكلت على مدى الزمان ضغطا ً وإزاحة لما عده الوجدان والوعي العربي فكرا ً غريبا ً أو دخيلا ً لا تعود منابعه إلى ارث الأمة وسلفها . ولعل ما يؤكد نظرتنا تلك أن العاملين والباحثين في الفكر العربي عندما أرادوا تبني قيم بديلة أو حديثة عما ألفوه وورثوه ألبسوا تلك القيم لبوس الإسلام وصبغوه بلون الدين والمعتقد ، فعندما أراد مصطفى السباعي تبني الاشتراكية كتب في اشتراكية الإسلام واعتبر أن الاشتراكية فكرا ً إسلاميا ً في الأصل، وعندما تحدث الدكتور القرضاوي عن الحرية في كتابه الحرية في الإسلام اعتبرها قيمة إسلامية بمفاهيم خاصة رغم أنها لم ترد كمفردة لها مفهومها الذاتي في القرآن الكريم ، ولما تبنى الدكتور محمد شحرور العلمانية كمبدأ وتصور أكد في محاضراته وكتبه على أن العلمانية منهج قرآني أصيل وجد في طيات الآيات وتأويل الكلمات . وبطرح الإخوان المسلمين الإسلام هو الحل كشعار سياسي وانتخابي نرى تحصن وتمترس الفكر الديني الشائع خلف مناهج ومدارس اعتقادية وفكرية وثقافية أصولية ارثية كانت موجودة في الماضي وليس هناك من سبيل أو حاجة لفكر وافد وقيم جديدة كما تناول وطرح الفكر الليبرالي العربي منذ بدايات القرن الماضي . إن إعادة إحياء الدولة الدينية واسترجاع وجود هيبة الأمة الواحدة ، دولة الخلافة الممتدة من جنوب أوربا إلى جنوب أفريقيا ومن شرق الهند إلى غرب الأطلسي كان وما يزال حلما ً قومياً ودينياً حيا ً في أدبيات الفكر العربي . وفي خضم تعاظم ذلك الحلم والوهم لم يعد هناك مكان لمشاريع وأفكار أوقيم تتعارض أو تتنافر مع المنطلقات والمبادئ الدينية الأصولية . أصولية الليبرالية : تعد المرجعية النصية و الشخصية المحددة و المقدسة صفة لازمة للمنهج الأصولي ، حيث تعتبر النصوص و النقول أساسا و مصدرا و مرجعا وحكما في محاولة السعي لنتاج أنظمة و مناهج سياسية و اقتصادية و اجتماعية . وتبقى دائرة الاجتهاد قائمة فقط في مدى القدرة على الاستنباط و الفهم و استنطاق المنقول و النص المقدس و تتخذ تلك النصوص صفة الكمال و التمام و النزاهة ، و بالتالي لا يجوز نقدها أو تخطيئها أو الإضافة عليها . هذه المرجعية الصارمة و المقيدة تشبه إلى حد ما النص في الفكر الليبرالي على مرجعية مواثيق حقوق الإنسان و الشرعة الدولية ، باعتبارها حكما و ميزانا للخلافات و أساسا للنظم والمناهج الوطنية . وتتقدم الليبرالية الحديثة خطوة في هذا المجال و تعتبر تلك المواثيق و الشرعة فوق الإرادة الوطنية ، وما الجدل الواسع الذي أثارته القرارات الدولية المتعلقة بسوريا و لبنان على مدار العامين - 2005ــ 2006 - حول خضوع القرار الوطني للقرار الدولي إلا دليل على المرجعية الأممية الصارمة في الثقافة الليبرالية الحديثة . وتتجاوز المسألة العلاقات الدولية إلى التدخل في النظم السياسية و الاجتماعية المتبعة ضمن الكيان الوطني ، فمن غير المقبول دوليا و أمميا" إجراء استفتاء في دولة ما على عبودية ( رق ) المرأة من قبل الرجل ، فلو جرى وتم ذلك الاستفتاء و حظي بقبول الأكثرية في ظل أجواء محافظة و سيطرة ثقافة متشددة فإن القرار سيكون محل رفض و نقض من قبل المجتمع الدولي الذي سيسعى لتغيره بالتعاون مع إرادة وطنية معارضة . وحتى في المسألة الديمقراطية التي ينبغي القبول بنتائجها مهما كانت بعيدة عن رغبات العائلة الدولية فإن الالتزام بالمعاهدات و الاتفاقات التي أقرتها الإرادة الإقليمية و الأمم المتحدة تبقى ملزمة حتى لو تعارضت مع المبادئ الأصولية للحكومات المنتخبة ، وما أزمة حكومة حماس الفلسطينية المنتخبة إلا جزء من ذلك التصور العام للنظام العالمي الجديد و رؤيته الليبرالية الحديثة . وفي حقيقة الحال فإن هناك فروقا جوهرية في خصائص وصفات و ذات المرجعية الأصولية و تلك الليبرالية ، فمواثيق وعهود حقوق الإنسان و ناظمات الشرعة الدولية ليست نصوص إلهية مقدسة و ليست منزهة عن العيب و النقص و الخطأ وليست كاملة أو تامة ،فهي نتاج إنساني تم الوصول إليه من خلال تراكمات الإرث الحضاري الإنساني على مدار العصور و هي بحد ذاتها قابلة للتطوير و الإضافة و التصحيح كلما بدا ذلك ضروريا . و يعود النقد الحقيقي للمشروع العربي الليبرالي إلى تبنيه للمرجعية الإنسانية وتوقفه عندها فهو يفتقر إلى مطروحات ووسائل و طرق واضحة محددة للتغير كما يفتقر إلى بدائل للأنظمة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية السائدة , ويدعي بذات الوقت رفضه أو نقده لمجموعة النظم و القيم الرائجة و بذلك يقترب المشروع الليبرالي من الأصولي في هذه الرؤية و من تلك الزاوية تحديدا" . فالنظرة الشمولية المعالجة للقضايا الطارئة و الحالات الراهنة تستوجب الوصاية الإلهية في الفكر الأصولي و الوصاية الأممية و الدولية في الفكر الليبرالي . ويحصل التباين و التباعد الليبرالي عن الأصولي رغم وجود مرجعية نصية لكل منهما باعتراف الفكر الليبرالي بالدساتير الوضعية و فوقيتها على المأثور و المنقول في حين أن العقيدة الدينية تتخذ من النص المقدس دستورا ومرجعا نهائيا و يصعب عليها الرجوع إلى الاجتهاد ات البشرية و الإنسانية باعتبارها حكما و ميزانا .خارج النص أو فوقه ، و هذا الاختلاف عائد في طبيعة الحال إلى الموقف من العقل و القدرة الإنسانية الذاتية و مدى كفاءة كل منهما الليبرالية ليست حرية الفوضى و الانفلات بقدر ما هي سعي دائم ومستمر نحو الحقيقة النسبية و عمل حثيث نحو تطوير مكانة الإنسان بانتماءاته الإ ثنية ومعتقداته المتعددة و المختلفة . المستويات الثلاث : إن النظرة الدغمائية لليبرالية باعتبارها وحدة أو كتلة كاملة يتناقض مع روح الفكرة الأساسية للمذهب المبني على الحرية و التعارض مع مبدأ جدلية الخير المطلق مع الشر المطلق ، فالفكرة في قاعدتها جاذبة واسعة تمتلك القدرة على استيعاب التعدد و الاختلاف و التنوع . و هي مرحلة ثقافية وعقلانية متقدمة تسمح بالتقاء التوجهات المتعارضة نظريا حول قيم و مثل جهد الفكر الإنساني عبر عصور طويلة للوصول إليها. وهي ليست كلا لا يتجزأ ووحدة صارمة لا تقبل التقسيم ، بل طبقات و مستويات عمودية و أفقية يمكن تصنيفها ب ـ1ـ الليبرالية الفكرية و الثقافية 2ـ الليبرالية السياسية 3ـ الليبرالية الاقتصادية فالمستوى الأول متواجد بوضوح في الساحة الليبرالية العربية حيث تتبناه أنظمة و شخصيات مشاركة في أنظمة حاكمة ، إلى جانب العديد من أحزاب المعارضة ورموزها كما تمتلك جل عناصره شخصيات من نخبة التيار الديني الإصلاحي كالدكتور أحمد صبحي منصور و نصر حامد أبو زيد و الشيخ جمال البنا على سبيل المثال و في تونس تتبنى الدولة توجهات منفتحة قبالة المرأة و المعتقد الديني وفي مصر يطرح أعضاء في الحزب الحاكم أفكارا داعمة للحرية و التعددية ـ الدكتور عبد المنعم السعيد مثلا . لكن تلك الأنظمة تعارض المستوى الثاني وتضع العراقيل في وجه تحقيق الديمقراطية بصورة امثل وخاصة فيما يتعلق بمسألة رئاسة الدولة و توريث الحكم ، و تتبني المعارضات الوطنية في الدول العربية ، الليبرالية السياسية و تدعو لها منادية بحرية الرأي و التغير الديمقراطي السلمي في أوطانها مناقضة بذلك الأوضاع السياسية القائمة . و ربما كان المستوى الثاني الأكثر امتداد أفقيا حيث تلتحق به أطياف واسعة من التيار الديني و القومي وذلك على صعيد الأحزاب و التنظيمات و الهيئات المعارضة للسلطات الحاكمة في البلدان العربية و يقف كثير من أقطاب المعارضة والكتاب و المفكرين موقفا حذرا من المستوى الثالث، متخوفا من الليبرالية الاقتصادية ـ الدكتور برهان غليون مثلا ـ ومتوجسة من نتائج العولمة الاقتصادية على الشعوب الأكثر فقرا و الدول الأقل نموا ً ، لذلك يطول الجدل في المستوى الثالث و يضيق امتداده الأفقي ، وهو بطبيعة الحال يشكل طبقة عميقة و متأخرة تحتاج إلى المزيد من البحث و النضج خلافا ً للمستويين الأول والثاني . لماذا تعثر المشروع :
في ضوء دراستنا السابقة نستطيع رد تعثر المشروع الليبرالي العربي إلى جملة من النقاط ليست هي الوحيدة لكنها حاسمة ، منها أسباب موضوعية يقف على رأسها القوة الضاربة للسلطات الحاكمة و العاملة على إجهاض و وأد رزمة المشاريع الإصلاحية و التغيرية أيا كان منطلقها أو دافعها ، حتى ولو كانت من صميم التركيبية الحاكمة ، ذلك أن العديد من الأنظمة العربية غدت عصية على الإصلاح ينخر فيها الفساد والاستبداد يؤيدها ويدعمها موقف دولي متردد لم يحسم أموره بعد و لم يقرر بشكل نهائي أين تقف مصالحه وما زال يرى في الأنظمة الحاكمة عاملا مساعدا ً على تحقيق مخططاته الاستراتيجية . و منها أسباب ذاتية يمكن إجمالها بعجز الرواد عن بناء كينونة خاصة بالليبرالية العربية يمكن تعقيدها و الانطلاق منها نحو تأصيل مدارس ومناهج تخرج فكرا واضحا ومحدد ، وبقيت تدور في محورين متنافرين إلى حد قريب الأول : يسعى للتأويل و استنطاق القديم وإلباسه لبوس الفكر الناشئ ـ عبد الرحمن الكواكبي و محمد عبده أنموذجا ـ فعد مثلا مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي التي وضعها أبو حنيفة أصلا فلسفيا للحرية واعتبار أبو ذر الغفاري رمز المعارضة و الديمقراطية وتوقف عند تلك المطروحات مما أعاق تعميق البحث و تطوير المنهج . "" إن الحرية و الهمة الإنسانية غريزتان في أهل الإسلام ، مستمدتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب "" خير الدين التونسي (5) " إن الليبرالية العربية لم تكن أبدا وفية لأصولها الحقة ، لكن العرب عاشوا عهدا ليبراليا طويلا أولوا أثناءه أفكارا غير ليبرالية تأويلا ليبراليا ، وهكذا فعلوا في التراث الإسلامي و بالمذهب الماركسي و بالمدرسة الوجودية مثلا . كان كل مذهب يؤكد فكرة الحرية صالحا في أعينهم كمادة للدعاية التحررية بغض النظر عن أصوله ومراميه الفلسفية , كان المهم آن ذاك هو إثبات الحرية في أية لغة تيسرت لأن الإثبات هو التغني بشيء مفقود " ـ 4 ـ ، إما المحور الثاني : فدرس فلاسفة الغرب ك مونتسكو( 1 ) و جون ستيورت ميل( 2 ) و استوعب المنظومة الفكرية الليبرالية ـ احمد لطفي السيد ( 3 ) مثالا ـ إلا أن التجربة كانت ما تزال بحاجة إلى رفد و بحث و تأصيل لم يحصل بسبب الحقبة الاستعمارية حيث اشتعلت الأمة بالتحرر و النضال الوطني ضد المحتل ومن ثمة اجتاحت العديد من الدول العربية الثورات الشمولية كما في مصر وسوريا و العراق . هذا في مرحلة الانفتاح و التأسيس ، أما في مرحلة تبني قيم الليبرالية و نضوج المنظومة الفكرية و الدعوة إلى تطبيقها ، فيمكننا الوقوف عند حزمة من الأسباب تشتمل على افتقاد المشروع الليبرالي العربي الحديث للقاعدة الشعبية و التنظيمية و المؤسساتية وإذا كانت بعض الأحزاب المصرية ـ كحزب الوفد ـ تأخذ الصفة الليبرالية فانه قاعدتها الشعبية تآكلت إلى حد بعيد واستبان ذلك في الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة التي نال فيها التيار ألإخواني غالب أصوات و ثقة الطيف المعارض . كذلك افتقاده للسند التاريخي و التراكم النصي المنقول الذي شكل في مجمله توجها مغاير لما ينادي به المشروع الليبرالي الناشئ و الحديث الولادة . فعلى المستوى القيم لم تنسجم قيم الليبرالية مع الموروث ، حيث تغلغلت قيم المروءة و الكرم و الشجاعة و الثأر والشهامة و الفخر والإحسان و الخيرية المطلقة و الفوقية القومية و القبلية و شكلت المخيال الواعي للرأي الغالب العربي ، وباتت قيم الحرية و مبادئ الديمقراطية و العدالة و المساواة والتسامح خارج مفهوم الدين و العرق دخيلة عليه محدثة و مبتدعة ينبغي الابتعاد عنها وكشف ضلالها . و لم يتوفر الطرح الليبرالي على الوعد المستقبلي و الأخروي الذي تربى عليه العقل العربي ولم يربط غاياته بالقوة الغيبة القادرة على تحقيق المعجزات و هزم الأعداء ولم يتمكن من إفراز رموز قيادية تتحلى بصفات القادة الشعبيين ، ولم توهم الجماهير بصلاح الدين الجديد أو الرمز الغائب الذي سيعود ويحقق العدل و النصر ، كما انه لم يستطع إلى الآن إيجاد آليات و مناهج و بدائل للتغير ذات ملامح واضحة و محددة . ولا يعني ذلك ضرورة توفر المطالب الجماهيرية في مشروع التغير بقدر ما هي حاجة للعمل على نقاط يشكل السعي إلى تغيرها في المكون الثقافي و الفكري الجمعي العربي باب و مفتاحا لانتشار قيم الحرية و العقلنة و الديمقراطية . تبقى المنظومات الفكرية و القيم الليبرالية بمستواها العام جديدة و محدثة في العالم العربي بالرغم من مرور عقود طويلة على تبنيها و طرحها من قبل الرواد ، وهي بحاجة إلى الكثير من البحث والتأصيل ، بما يتطلب من أهلها المزيد من الثبات و العمل الفكري والمعرفي و الإعلامي لنشر اصطلاحاتها و التعريف بروادها و بيان عمقها و أصالتها في الفكر العربي وبيان قدرة الفلسفة الليبرالية على احتواء القيم المتعارف عليها في الثقافات و الديانات و المذاهب و القوميات . إن الحفاظ على التراث الثقافي و الفني والإنساني و الحضاري لمختلف مكونات الشعوب في البلدان العربية ، بخصوصيتها و هويتها اللغوية و الجغرافية مسألة تنسجم مع التطلعات الليبرالية ، ويساهم في دعمها و إصباغ الروح الذاتية عليها لجعلها محورا و مركز استقطاب شعبي و بخبوي . إن الالتقاء بين التيارات القومية المرتبطة بالقيم الإنسانية و البعيدة عن العنصرية و نبذ الآخر و التيارات الإصلاحية الدينية مع التيار الليبرالي أمر ممكن بل وضروري لتحريك الجمود الفكري و التقهقر الفكري و الثقافي الحاصل في فضاءات العقل و الفكري العربي ، ولن يحصل التغير و التقدم المنشود إلا بالتقاء و تضافر الجهود والارتقاء فوق المصالح الذاتية و التحيز الفكري و العقائدي . إن الحاجة تدعو إلى تطوير الفكر القومي العربي و تحويله من نضال ثوري للتوحد ألقسري و تذويب القوميات و الأقليات العرقية في بوتقة الوحدة المصيرية و تجاهل الوقائع و الاختلافات التاريخية و الجغرافية، إلى فكر وثقافة إنسانية مرنة و منفتحة تلتقي مع الآخر و تعترف بالاختلاف وتتخلص من فكرة الفوقية و الخيرية على العالمين وتسعى لتأصيل الحضارة و الحفاظ على الإنجاز التاريخي بإبعاده العالمية و الإنسانية . ******** هوامش : ـ 1 ـ صاحب كتاب روح الشرائع ـ 2 ـ الفيلسوف و الخبير الاقتصادي و السياسي الإنكليزي ـ القرن التاسع عشر ـ صاحب كتاب : في الحرية ـ 3 ـ المفكر و السياسي المصري ولد عام 1872 في قرية برقين في محافظة الدقهلية ، تعرف على محمد عبده و تأثر بأفكاره كان وزيرا للمعارف ثم وزيرا للداخلية ، أسس حزب الأمة الذي تحول فيما بعد إلى حزب الأحرار الدستوريين و يعد من أ برز الليبراليين العرب توفي عام 1963 عن عمر ناهز التسعين ـ 4 ـ عبد الله المروي : مفهوم الحرية ص 54 المركز الثقافي المغرب ـ 5 ـ المصدر السابق ص
#احسان_طالب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحيانا عقوبة الزواج غير المتكافىء القتل
-
الاستعلاء و تغير الآخر معوقات لحوار الحضارات
-
الاجتهاد الفردي محفز للإصلاح و التغيير
-
زواج أم اغتصاب
-
الأصولية تطيح بأحلام الديمقراطية
-
الوعود المقدسة و السلام الراحل
-
الغبار النووي الإيراني يعصف بأمن الخليج العربي - اكتشاف اليو
...
-
مرحلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي
-
ايها المسؤولون العرب اعتصموا في بيروت و اوقفوا الكارثة
-
نشوة نصر الرب
-
المصالح المشتركة في إضعاف الدولة اللبنانية
-
اكتبوا ما تريدون دون اتهام أو إهانة
-
هل خفف الوعد الصادق من آثار الوهم المتبدد
-
النصائح المؤلمة
-
لبنان يدفع الثمن من يحصد النتائج
-
وليمة أوراق
-
أسلمة النظم و القوانين وعلمنتها
-
الحل في عودة فتح إلى السلطة
-
الحل في عودة فتح إلى السلطة التي لم تخرج منها
-
كل الأحبة نسوك
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|