أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عبدالامير الركابي - حرب المتغيرات الكبرى: أميركا ومعضلة تدمير الدولة العراقية















المزيد.....

حرب المتغيرات الكبرى: أميركا ومعضلة تدمير الدولة العراقية


عبدالامير الركابي

الحوار المتمدن-العدد: 514 - 2003 / 6 / 10 - 20:56
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    



 

بين 1991 و 3002
لمرتين تكرَّرت الحربُ العالميةُ على العراق، واستطاعت أميركا أن تَفعل ذلك بإتقان فريدٍ يَليق بما تمثِّله في سياق تطوُّر العالم التكنولوجيّ. ولكنّ الحرب الثانية لا تبدو أبدًا مثلَ الأولى: ففي المرة الأولى أَمْكن تحاشي >الأضرار الجانبية< للغزو، فلم يتمّ إسقاطُ النظام، وسُمِحَ بإطلاق يد صدّام حسين كي يخمد الانتفاضة التي انفجرتْ في آذار (مارس) 1991، بل سُمِح له باستعمال الطائرات العمودية ضد السكان .(1)
بعد ذلك لم نَسْمع سوى عن أحداث قليلة مهمّة، ولم تَعُد الحروبُ تخاض بالصواريخ إلاّ خلال أربعة أيام عابرة خَتَمَتْ عامَ 8991. آنذاك كان الحصار يوشك أن يتهاوى، وراحت قبضةُ الولايات المتحدة على العالم ترتخي إلى أبعد حدّ. ومع ذلك قُتِلَ من العراقيين خلال اثنتيْ عشرة سنة أكثرُ من مليون ونصف مليون إنسان، معظمُهم من الأطفال. وإلى جانب الموت المجانيّ، كانت مَذلَّةٌ أخرى تَنْهض أمام العيون المغرورقة بالدموع: فقد عَصَرت المأساةُ عدا جموع الفقراء ، كهولاً موظَّفين، لطالما عُدُّوا من الطبقة الوسطى القريبةِ من التنعُّم، اضطرُّوا إلى بيعِ ما يَملكون من مقتنيات ثمينة، وأحيانًا عَرَضَ هؤلاء شبابيكَ بيوتهم وأبوابَهم الخشبية وجلسوا على الأرصفة صامتين أمام بضاعتهم القليلة، بينما هم يطالعون في طريق العودة معالمَ قصورٍ بشعةٍ تتصنَّع الفخامة تُشاد في كلّ مكان. فقد بنى صدّام حسين أكثرَ من ستين قصرًا خلال عشر سنوات، مبتكرًا ما يُمْكن تسميتُه >قصورَ الموت والجوع والمرض،< في وقتٍ كان العراقيون فيه يتهاوَوْن مثلَ الذباب، بينما   صدّام حسين يُحصيَ القتلى ويلقي الذنب على عاتق الأميركيين!
ثم بدأتْ نذرُ الحرب الثانية تتجمع؛ وقيل إنّها كانت على وشك الوقوع بعد هجوم 11 سبتمبر مباشرةً، وإنّ نصيحةً بريطانيةً ساهمتْ في تأخيرها لحين الانتهاء من أفغانستان وتهيئةِ الرأي العامّ الدوليّ والأوروبيّ. مَنْ يتذكَّرِ الآن إصرارَ الولايات المتحدة على مواصلة حلقات هذا الهجوم يذهِلْه التصميمُ والمواظبةُ، على جعل العراق هدفًا للتدمير، بل ولمخططٍ يوحي بالإبادة. أيكون السببُ في ذلك هو النفط؟ لا، طبعًا. فهو في حدّ ذاته يُمْكن للأميركان أن يحصلوا عليه بوسائل أقلَّ كلفةً. إنّ على النفط ألاّ يَحْجب عنّا محرّكات صراعٍ لا جدال في أنّه كونيّ، إذا كان للنفط من حضور فيه فمن زاوية أخرى بعيدةٍ كليًا عن تلك التي تحوِّل العراقَ إلى >محطة بنزين< تريد الولاياتُ المتحدةُ من خلاله تأمينَ سيطرتها على مواضع هامةٍ وشاسعةٍ تمتدّ من الصين إلى أوروبا.
في هذا المجال سنحاول أن نَقْصر اهتمامَنا على قضيتين هما: جسامة >الأخطاء الجانبية< للحرب الأميركية الحالية؛ ومسألةُ العراق كاحتمالية >تكنوبترولية< وأثرُ ذلك في التركيز الأميركيّ على هذا البلد بالذات. وبما أنّ المسألتيْن غير متداولتيْن كثيرًا، فإنّ احتمال صعوبة تلقّيهما هنا لا مَهْرب منه، الأمر الذي يضطرّنا إلى أن نَنصحَ بمعاملتهما كافتراض لا تَدْعمه غيرُ وقائعَ نشَأتْ مع تكشُّف الغبار عن الحرب الحالية. فلقد حَدَثَ هذه المرة ما لم تُفْلح الولاياتُ المتحدة في تحاشيه أو ضبطه. وعلى عكس المرة الأولى، سيطر على الحرب الراهنة القانونُ التقليديُّ نفسُه الذي يجعل من واقعة الحرب مستحيلةً على الضبط أو على التوقع حتى بالنسبة إلى مَنْ يُطْلقها. ويبدو أنّ النُذُر السيِّئة هنا قد تولّدتْ من غياب الحذر، أو من انعدام الدقّة في تحديد الأهداف ناهيك عن الفشل في حصرها، فوقَعَ هيكلٌ أضخمُ بكثيرٍ من ذلك الذي كان الغزاةُ يفكِّرون بهدمه. وفي حين أرادت الإدارةُ الأميركيةُ إسقاطَ النظام، فإنَّها قد ذَهَبَتْ بعيدًا جدًا وهَدَمت الدولة العراقية.
هل يمكن تخيُّل المترتِّبات التي ستنشأ عن انهيار هذا الهيكل الإضافيّ غيرِ المحسوب؟ ذلك من التمارين التي ستستغرق عملاً طويلاً ومضنيًا. ولكنّ القضية التي لا يمكن إغفالُها الآن هي ما قد نشأ بسبب ذلك، وفجأةً، من تحدٍّ شاملٍ وصارخٍ يمسّ قضيةَ الشرعية. فالدول التي تُكْنس من الوجود تَخلق نمطًا من واقعٍ إحاديِّ الطرف، يَحضر فيه المجتمعُ لوحده كمَصْدر لإعادة إنتاج الشرعية. والحال أنّ واقعة تهديم الدولة في تاريخ العراق ليست جديدة بل حدثتْ أيضًا في عام 8591. لكنّ محدِّداتٍ الشرعية كانت آنذاك جاهزة: الأفكار التحررية والثورية؛ القوى التي صاغت بعملها ونضالها شكلَ الصيرورة اللاحقة على النظام الملكيّ؛ الجيش... كلّ هذه المحدِّدات تحوَّلتْ في حينه إلى أساسٍ مفترضٍ لبديل ظلّ متعثّرًا، إلى أن جاء نظامُ البعث وصدّام حسين ممثِّلاً أسوأَ تعبيرٍ عن عمق أزمة شرعية لم تُحلّ على مدى تاريخ العراق المعاصر منذ عام 0291.
هنالك فارق جوهريّ مهمّ آخر. فدولة 1291 ــ 8591 أسقطها العراقيون بأيديهم وبعد جهودٍ وتضحياتٍ بذلوها خلال أكثر من ثلاثين عامًا. وأما اليوم فالأمر مختلف كليًا: ذلك أنّ الأميركيين يحتلّون العراق، وينظِّمون الثأرَ ضدّ وجود البلاد ، وضدّ ذاكرتها ، التي هي ذاكرةُ الإنسان والحضارة. حرائق في كلّ مكان، نهبٌ للثقافة والتاريخ، إشعالٌ بربريّ للنيران في المكتبات، سحقٌ للمرافق وتهشيمٌ للمؤسسات لا سابق له، وعلى رأسها الجيشُ الذي هو أعرقُ ما بَنَتْه الدولةُ العراقيةُ الحديثةُ وأقدمُه وأكثرُه رسوخًا.
قبل أيام كَتبتْ إحدى الصحف >المعارضة< التي عادت لتصدر في بغداد تتّهمني باستعمالِ مقاييس قديمةٍ للحكم على ما اعتبرتْه أحداثًا جديدةً. غير أنّني أُواصل إصراري على المقارنة، معتقدًا أنّ التاريخ لا يفتا  يعيد نفسه، وهو بالأحرى يتكرَّر اليوم بصورة كارثيةٍ قياسًا إلى ما كنتُ أواصل القياسَ عليه من أحداث سابقة. ذلك أنّ العراق الحاليّ تنفتح فيه حركةُ التاريخ إلى الخلف: فالدولة تتهدّم ولكنّ الشعب العراقيّ يعود إلى الظهور. كأنَّنا أمام شريط يسير بنا إلى الوراء، وها نحن بين ليلةٍ وضحاها أمام مصدر السلطات في مواجهة قوةِ احتلالٍ لا تستطيع، ولن تستطيع أبدًا، توليدَ الشرعية. الخبرة البشرية تقول: إذا تهدَّمت الدولةُ نَهَضت الحاجةُ إلى اجتماعٍ عامٍّ للمواطنين، لا يُمكن من دونهم اقتراحُ أيّ نوع من السلطات، خاصةً تلك التي يريد إرساءَها الأفّاقون، واللصوصُ، وزعماءُ العصابات من مدَّعي الديموقراطية، والآتون على ظهور الدبّابات الأميركية لنهب غنيمة السلطة والثروة.
أحدُهم صرّح بكلّ وقاحة أمام عدسات التلفزيون بأنّه أولُ مَنْ دخل مدينة الموصل وحرَّرها، فهو يستحقّ من ثم أن يَحْكمها! وبعد أيام طلب من الجنودُ الأميريكيين ان يطلقوا النار على جمعٍ ممن جاءوا يعلنون رفضَهم لسلطته، فسقط في تلك المجزرة ما يَقْرب من خمسة عشر قتيلاً ومائة جريح، أُتْبِعوا في اليوم التالي بأربعة قتلى للسبب نفسه. جنود أميركيون شوهدوا يَسْرقون البنوكَ والمتاحفَ. المعامل بدأتْ تُفكَّك ليأخذَ المسلحون الأكراد حصَّتَهم منها ومن كلِّ ما هو نافع: سيارات، حديد خردة، وألمنيوم ومعادن مختلفة، تُنقل كلُّها إلى كردستان، لكي تهرَّب من هناك عبر الحدود. الخط نفسه يَحْمل أيضًا أنواعًا لا حصر لها من الأسلحة، وقد انفتح فجأةً خطُّ تهريب للسلاح من كردستان عبر إيران إلى بلدان آسيا الوسطى والاتحاد السوفياتيّ السابق. إنّ بعضا من إخوتنا المسلّحين الأكراد يثأرون من العراق لا من النظام، وهم يفعلون ذلك بالاتفاق مع سلطات الاحتلال التي تتقاسم معهم الغنيمةَ فتحتفظ لنفسها بالأفضلِ والأنفعِ من المنشآت والمعامل. كأنّها سياسةُ التخريب الإسرائية عينها، وكأنّها الرغبةُ الإسرائيلية نفسُها في التدمير والإيذاء!
وكلّهم مارسوا عملياتِ سطوٍ ومصادرةٍ للممتلكات العامة، وأَخْلوا منازلَ من ساكنيها بقوّة السلاح. ثأروا حين استطاعوا الثأر، وقَتَلوا جلاّديهم السابقين بالخسّة نفسها، وطَبَّقوا قانونَ الأقوى بشراسةٍ وحقدٍ، وأشاعوا الرعبَ في الطرقات، ووصل الأمرُ إلى حدّ خطف النساء والقتل لمجرّد التسلية. نحن نُنهب ونُمْنع من الحياة، والأميركيون وصنائعُهم يعلِّموننا نشيدًا لم يَسمع به أحدٌ من قبل: لا حدودَ للحرية ولا لنعمة التحرير، خاصةً لمن يملكون السلاح!
خطة... لا سلوك!
ليس هذا مجرّد سلوك عابر. وإذا كان هنالك عقل يخطِّط لكلِّ ما يجري الآن، فلا بدّ من أن نتحرَّى دوافعَه الأقرب إلى المنطق، إذْ كيف تدار حالةُ خلل مرعبةٌ كهذه؟ وفي الوقت نفسه يَطْرح مستوى الفوضى ضرورةَ وجود الدولة في مجتمعٍ عانى قرونًا طويلةً من نمطَ سلطةٍ برانيةٍ رُكِّبتْ فوقه بالإكراه. كما أُخضع هذا المجتمع لإلحاحاتِ إعادةِ الأمن والاستقرار إليه على يد قوًى محمولة من الخارج، وهي قوى مهزومة تاريخيًا، فاشلة، تجاوَزَها الزمن، لم تتصرَّف أبدًا بمسؤولية، بل عاملت البلادَ والناسَ وكأنَّها طليعةُ غزوٍ أجنبية لا تفرِّق بين النظام والمجتمع. في مثل هذه الحالة قد يكون المَهْربُ الذي يختاره المحتلّون هو تهشيمَ مصدرِ السلطات والشرعية المفترض، وتدميرَ لحْمة المجتمع كما تجسَّدتْ في ظواهر عديدة أهمُّها: مظاهراتُ الناصرية ضدّ >اجتماع< أُور لما يسمّى >المعارضة<؛ وتظاهراتُ بغداد ضدّ اجتماع القوى نفسها وإعلانًا للوحدة بين المسلمين الشيعة والسنّة؛ ومواقف أهالي البصرة المستمرّة ضدّ محاولات تزوير إرادتهم؛ ومسيراتُ كربلاء؛ وانتشارُ نماذج قيام السلطات المحلية المنتخَبة من السكّان والإدارات الذاتية في طول البلاد وعرضها.
لمّا كان الأميركيون لا يملكون سوى الدبابات يَفرضون بواسطتها >شرعيّتهم< عبر متعاونين معهم مكروهين وبلا جذور، فالمعضلة لن تُحَلَّ أبدًا، وسيظلّ الأميركيون يغوصون داخل أوحالِ ورطةٍ لا حلّ لها. وهذا ما قد يجعلهم يفكِّرون باللعب على الأحقاد، كما على الملفات الخطرة، مثلِ محفوظات الأجهزة الأمنية التي يمكن أن تفجِّر كارثةً لا نهايةَ لها، أو أن يجرِّبوا ضربَ المعسكرات المفترضة بعضها ببعض، أو أن يتيحوا لبقايا النظام وطلاّبِ الانتقام فرصًا لممارسة جرائم التخريب وتصفية الحسابات. لكنّ مثل هذا المخطَّط لن يجد سوى استجاباتٍ ضعيفةٍ ستظلّ محصورةً في مناطق مثل بغداد وبعضِ المدن وشمال بغداد وغربها، ولأمدٍ غيرِ طويلٍ، لاسيَّما إذا أبدت المناطقُ الوسطى والجنوبيةُ امتناعًا عن الانخراط في مثل هذه الدوامة ــ وهو المرجَّح لأسباب تاريخية ومجتمعية خاصةٍ بهذه المناطق ــ علمًا بأنَّها هي التي ستكون في نهاية المطاف المقرِّرَ الفعليَّ لاتِّجاه الوضع في العراق ككلّ. لقد استعمنا مؤخّرًا إلى نغمة >فَرِّقْ تَسُدْ< يردِّدها هذه المرّة الأميركيون لا الإنكليز. ولكنْ إذا شعر المجتمعُ العراقيُّ اليوم أنّ وحدته تطابِقُ حقَّه في إحراز الشرعية والحياة، فلن تستطيع أيّ قوة هزَّ لحمته، وسرعان ما سيتصرَّف ككتلة.

الاحتمالية التكنوبترولية
هذا الجانب من المأزق ليس هو العنصر الوحيد في المشهد الحاليّ. فالحرب على العراق تكتنفها عدّةُ محفِّزات متداخلة وخطيرة سنَقْصر حديثَنا ــ كما سبق وذكرنا ــ على عنصر منها هو ذلك الذي وضعناه تحت تعبير >الاحتمالية التكنوبترولية< لتجربة العراق، وبخاصةٍ أهمية هذا الاحتمال في دفع الولايات المتحدة إلى تركيز هجومها على العراق. وسنحتاج كي نوضحَ هذه الناحية إلى العودة إلى مجمل ظاهرة النفط التي تشكِّل المحرِّكَ الأكبرَ في الموقع الاقتصاديّ والسياسيّ الذي أَحْرزه العالمُ العربيُّ خلال نصف القرن الماضي، الأمرُ الذي جعل دولاً من هذه المنطقة ترتقي عمليًا إلى درجة احتلال مكانِ حسّاسٍ ضمن بنية الرأسمالية العالمية، متجاوزةً بذلك الدورَ التقليديَّ المستمدَّ من الزراعة وحساسياتِ الموقع الاستراتيجيّ (بل والروحيّ إلى حدٍّ ما) نحو نمطٍ من الوقوف الخاصّ على سوية العصر الصناعية من مدخل الطاقة ومواردها.
من هذا المدخل تَرَكَ تاريخُ النفط في العالم العربيّ نماذجَ من التفاعلات الخاصة والنتائج غير العادية، تجلّت في كلّ بلد حسب ظروفه وإمكاناته. فكان هنالك أولاً النموذجُ العاديّ القائم على وفرة الإنتاج والاحتياطيّ كما جسَّدته حالةُ السعودية، التي سجّلتْ ذروةَ حضورها في السبعينيات خلال أزمة الطاقة الشهيرة. وظهر أيضًا نموذجٌ ثانٍ أقلُّ وزنًا، تحققتْ فيه قوةُ الإيداعات والاستثمارات، كما في حالة الكويت وما شَهِدْنا نموذجًا عن فعله العالميّ بقوّة خلال عام 0991 ــ 1991 إثر الاحتلال العراقيّ لتلك الإمارة: فقد استطاع الكويتيون عن طريق تحريك مفعول مدّخراتهم أن يَجْلبوا مساندةَ أوروبا والغرب عمومًا، وأَفْلحوا في تشجيع وجلب >المحرِّرين< بعد أن أمَّنوا تكاليفَ >تحرير< بلادهم. ويبقى بعد ذلك النموذجُ الثالث كما تعبِّر عنه حالةُ العراق. ففي هذا البلد الوافر الغنى بالطاقات البشرية والعلمية وبالتاريخ الحضاريّ والثقافيّ، تحوّل النفطُ إلى قوّة تنطوي على احتمالِ انتقالِ هذا البلد إلى قوّة تكنولوجية تتجاوز شروطَ عصر الصناعة إلى ما بعد الصناعة، أيْ تقف فعليًا على السوية التي تقف عندها الولاياتُ المتحدةُ نفسُها، مع كلّ ما يَعْنيه ذلك من تحدّيات إقليمية تخصّ وجودَ >إسرائيل< وتتناول كلَّ العالم العربيّ والشرق الأوسط.
هذا هو فعليًا جوهرُ الصراع الناشب والمستمرّ الآن: بين الولايات المتحدة كقوّةٍ تصرّ على تأمين هيمنتها المطْلقة على العالم من جهة، والعراق من جهة ثانية كمجتمع يَحْتشد تاريخُه الحاضرُ بدفعِ تطلُّعٍ كونيٍّ استثنائيّ ــ بغضّ النظر عن نوع النظام الحاكم فيه، لا بل على الرُّغم من وجود ذلك النظام المعوِّق لممكنات انطلاقته الكبرى والعاملِ على تشويهها وحَرْفِها عن هدفها والحَؤُولِ بينها وبين مطابقة تكوين المجتمع وخاصياته.
من الواضح أنَّنا نشير إلى صراعٍ راهنٍ بقدرِ ما هو مستقبليّ. إنّه معركة جديدة تمامًا وبكلّ المقاييس، حتى من حيث القسوةُ التي ستظلّ تذكِّرنا بالتحوُّلات الكبرى التي هي قابلةُ التاريخ. فالعراق وأميركا اليوم يخوضان ــ مع اختلال التوازنات ــ صراعًا له طابعٌ ما بعد صناعيّ تقف في جهةٍ منه إمبرياليةٌ جديدةٌ في مواجهة موضعٍ صاعدٍ يذكِّر بنمطٍ آخر من مناسبات النهوض الكبير. وهذا الموضع الصاعد ليس كالنمور الآسيوية المنهارة، ولا حتى مثلَ اليابان، أو العودةِ الألمانية إلى الحياة. بل إنّ الخطّ الذي يسير عليه العراقُ موجودٌ في ما هو بعد كلّ تلك المحطات الباهرة: إنّه موجودٌ وراء عهود الصناعة التقليدية كلّها. فلا عجب إذا وجَدْنا الولايات المتحدة تسعى الآن إلى تدمير عقول ثلاثة آلاف عالم عراقيّ، وأكثرِ من ثمانمائة مصنع، هي فقط تلك التي أشارت لها لجانُ التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل. ولا عجب أيضًا أنّ الولايات المتحدة تعمد لاستباحةَ المتحف الوطنيّ العراقيّ، وحرقَ المكتبات، ومحوَ الذاكرة الفنية، وتهديمَ كلّ المرافق الحيوية ومعها أسسُ الأمان الأولية الضرورية لمجتمعٍ يحتاج إلى أن يفكِّر ويكونَ خلاّقًا.
على هذا المنوال المرعب يعزف القَدَرُ، المستقلُّ عن إرادة المتصارعين، سمفونيتَه، جاعلاً المشهدَ مغلقًا ودون مخارجَ متاحة. فالأميركيون لا يستطيعون إيجادَ سبيل لحكم البلاد أو تأمين التوافق معها، وهم لا يريدون ذلك، ويرغبون بكلّ جوارحهم في تدمير حيويّتها وقَتْلِ تطلُّعاتها. وأما المجتمع العراقيّ فيباغتهم، منذ اليوم الأول، بالتعبير عن نفسه، مهدِّدًا وجودَهم بقوةِ الإصرار على تجسيد إرادته، أيْ بإظهار عزمه على إقامة نظام يكون مطابقًا لخصائصه وطموحاته، الأمرُ الذي يعني إطلاقَ العنان لمشروع نهضته البتروتكنولوجية، مع ما تعنيه هذه النهضةُ من خطر إستراتيجيّ تراه الولاياتُ المتحدةُ غيرَ مقبول على الإطلاق بل يستحقّ الإبادةَ لو اقتضى الأمر. وهذا في العمق هو القانونُ القديمُ نفسُه محوَّرًا ومقدَّرًا على شروط العصر الحاليّ: القوى المهيمنة الكبيرة تريد تعويقَ نموّ البلدان الصاعدة أو الراغبةِ في الانعتاق والتقدُّم، وهذه تقاوم وترفض الاستسلام. وأما الذي تغيَّر فهو الوسائل، والممكنات التي تتيحها تطوُّرات العالم، والخبرات المتراكمة لدى الطرفيْن.
هنا يَعْمل منذ سنوات، لا بل منذ عقود، مختبرٌ لمعركة كونية قاسية ستكون نتائجُها مذهلةً، حتى وإنْ كان الفكرُ المحيط بها، العربيُّ على وجه الخصوص، ينام في ظلمة القبور، وحتى لو كان العالمُ مايزال في بداية صحوته يتململ. فلن يطول الوقتُ على وقع الآلام الرهيبة والمأساة، قبل أن يُسْمع صوتُ الديك يَصْدح في قلب الفجر، آتيًا من هناك: من المكان الذي يستطيع دائمًا العودةَ إلى الكتابة في قلب التاريخ... على ورقة بيضاء!
باريس


هامش
1 ــ يُقال إنّ حصيلة قتلى تلك الجولة الوحشية، التي خاض خلالها النظامُ معركةَ حياةٍ أو موتٍ لم يَعْرف مثلَها من قبلُ، تعدّت الخمسين ألفًا.

 

نشرت في مجلة "الآداب" البيروتية  عدد  شهري مايس وحزيران 2003



#عبدالامير_الركابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق لبنانيا ... أو : تمرين صعب حتى للمقاومين .
- المثقفون العرب وقضية العراق : فخا الاتجاه الواحد ؟
- 8 شباط : يوم قتل حلم الخلاص من ظلام القرون السبعة
- مالابد منه لفرنسا واوربا في العراق
- الموقع يفتقر الى الحيويه وهو لايساهم في تحفيز واثارة النقاش
- اللعب على حافة الهاوية : دفاعا عن العراق ام عن الدكتاتوريه.. ...
- العراق و-حكومة الوحدة الوطنيه - تزاحم المصالح والتناقضات واح ...
- لمناسبة قرب صدورمجلة تعكس موقف التيار الوطني الديمقراطي
- النساء العراقيات لأيغنين للدكتاتوريه: ثلاثون سنة من الصمت
- 100 بالمائه -تقيه -صالحه
- حول حق ابناء الشريف حسين في حكم العراق
- المعارضة الوطنيه والتدخل التاريخي للمرجع الكبيرمحمد حسين فضل ...
- الموقف العربي من منظار عراقي معارض
- عراق أميركا... وعراق العرب الحقيقي
- دور للمعارضة "غير الأميركية" في العراق ؟
- كل شيء تغيّر.. لا شيء تغيّر
- في ((حسنات)) الغزو والعدوان
- صدام حسين والسلطة؟
- المعارضة العراقية والمدخل العربي لإنقاذ العراق
- عراق صدام حسين في حقبته الروائيه


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عبدالامير الركابي - حرب المتغيرات الكبرى: أميركا ومعضلة تدمير الدولة العراقية