رام الله المحتلة
رؤية اميركا للمنطقة
لم يعد من الضروري لأي حاكم عربي أن يقدم تفسير او تبرير لخنوعه للولايات المتحدة باعتبارها "سيدة" الدنيا بالقوة . كما لم يعد ذلك مطلوب من أية طبقة حاكمة في بلد آ خر ان تفعل ذلك. نقول حاكم عربي، وطبقة حاكمة في بلد آخر، لأن هذا الوطن بلا مؤسسات سوى الحاكم ومؤسسته البوليسية. اي بلد المؤسسة الواحدة سواء كانت الحزب الواحد او الاسرة الواحدة او مركب من كليهما. لم يعد التبرير ضرورياً لأن هيمنة الولايات المتحدة على العالم اصبحت بلا حاجة لشرح أو تفسير أو اعلان. ما هو بحاجة الى اعلان هو المقاومة والوقوف ضد المؤسسة الحاكمة/الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة ومن تستخدمه في عدوانها او في تمرير سياساتها داخلياً ةخارجياً.
على ارضية "تشريع هيمنة الاقوى" قامت الولايات المتحدة بقيادة شراكة عدوان ضد العراق عام 1991 وضمن الشراكة كثير من الانظمة العربية. وفي اعقاب ذلك العدوان اعلنت على لسان وزير خارجيتها جيمس بيكر ان وضع انظمة المنطقة العربية مستقر ومقبول. أي ان الوضع في هذه المزرعة مقبول مع انها لم تكن قد اخذت ما تريد في العراق الذي رفض نظامه عام 1990 اقامة قاعدة اميركية حديثة في اراضيه بينما وافقت على ذلك مصر والسعودية والكويت!
وفي اعقاب مؤتمر مدريد 1991 الذي خفَّت اليه معظم الانظمة العربية، (علماً بأن المؤتمر عقد في قاعة قديمة بها تمثال لسياف اسباني يقطع رأس عربي)، وتوقيع اتفاق مدريد، والقبول العربي الرسمي بذلك، وجدت الولايات المتحدة أن بامكانها استحلاب الحكام العرب، فأعلنت ان الوضع السياسي في المنطقة غير مرضٍ، وأن على الانظمة العربية ان تقوم ببناء شراكة في انظمة الحكم مع رأس المال الخاص. ومعروف ان رأس المال الخاص في الوطن العربي في هذه المرحلة، ليس سوى رأس المال الكمبرادوري، اي الذي يعيش من تسويق منتجات دول المركز الراسمالي. لقد تورث هؤلاء الوكلاء البرجوازية القومية الانتاجية او تحولت هي الى كمبرادور، وهذا يعني ان الولايات المتحدة تحاول ادخال حليفها الطبقي في سدة الحكم باعتباره حليف مصالح أكثر مما هو أداة قمع والتقاء مصالح وحتى تموُّل من الولايات المتحدة وحسب كما هي حال النخب الحاكمة. هذا إضافة الىإن الولايات المتحدة تنظر اساساً الى السوق العربي كي تنتزعه من انياب المجموعة الاوروبية مما يعني ان العدوان الجديد على الوطن العربي يشمل النفط والسوق والثقافة والموقع الجغرافي والتاريخ والثقة بالنفس. إن القادمون أعداء بالمعنى الممتلىء للكلمة.
واذا اعتبرنا ما تقدم "جسُّ" نبض اميركي لرد الفعل في الوطن العربي، فقد ادركت الطبقة/المؤسسة الحاكمة هناك، ان بوسعها القيام بأكثر من ذلك وهو التدخل العسكري لتغيير الانظمة التي لا تخدمها، فكان احتلال العراق عام 2003. وهو الاحتلال الذي قدم تفسيرا مناسباً له ديك تشيني نائب جورج بوش، بقوله في 1- 6 -2003 " لقد غادرت امريكا سياسة الاحتواء ومن الآن فصاعداً سوف ندمر اعدائنا". والسؤال هو: هل لأمريكا أعداء أم أن امريكا عدو الجميع؟. ان امريكا هي التي تشن الوانا من العدوان على كل العالم، وبالتالي يصبح الجميع عدو لأمريكا، دون ان يكون مبادراً لذلك. وبكونها امبراطورية راسمالية، فإن الولايات المتحدة في حالة عداء مع كل من يملك شيئاً فهي في عداء يبدأ من المجموعة الاوروبية التي تنافسها على اسواق العالم، وصولاً تنازلياً الى عامل يدوي في شنجهاي يحصل على 9 سنت عن كل ساعة عمل بينما يريد له رأس المال الاميركي ان يحصل على اقل، ولكن الى أية درجة، ربما الى الحد الذي لا يهدده بالموت.
شرم الارهاب
تأتي مؤتمرات التسويات السياسية في أعقاب الحروب. في بعض الاحيان يجتمع المنتصرون وحدهم لاقتسام الضحايا، وفي احيان أخرى يلتقي المنتصر والمهزوم لفرض الشروط والاتفاقات لعلاقات المستقبل، او ليدفع المهزوم ضريبة هزيمته.
في اي من هذين يمكننا وضع مؤتمري شرم الشيخ والعقبة؟. بالمعنى القومي، لا شك ان العرب هم الطرف المهزوم في الحالتين، فحتى الذين شاركوا ضد العراق هُزموا بالمعنى الفعلي، وانتصروا بالمعنى الشكلي الذي هو التخلص من النظام العراقي الذين كان يحرجهم قومياً، ناهيك عن انهم خسروا ايضا، بذهاب النظام العراقي الذي اشغل الجميع نفسه في نقده، أما الآن فعورات الجميع بادية أكثر من "عورة عمرو بن العاص". اما بالمعنى الطبقي، وهذا الاخطر فإن الحكام العرب بما هم مرتبطون مصلحياً، لا بل وجوداً، بالولايات المتحدة والمعسكر الراسمالي المعولم فهم حقا منتصرون. باختصار، لقد هُزمت القومية العربية الحقيقية، قومية الطبقات الشعبية في العراق وانتصرت القومية الحاكمة اي التابعة، وكان انتصارها في اذيال الانتصار الرئيسي للولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
لم يكن مؤتمر شرم الشيخ لمناقشة احتلال العراق. فبالمفهوم الاميركي والتوابع العرب، فإن العراق شأن أميركي لا يحق لنظام عربي التحدث بشأنه. ولا يجرؤ أي حاكم عربي على التحدث بشأنه. فاي حديث عن العراق معناه ا ن لدى هذا الحاكم بعض الرؤية القومية، وهذه تهمة حكمها الاعدام. فمن الذي سيتفوه عند "السيد" بهذه المصطلحات وهو يرى ان محاولة إعادة الكويت الى العراق كان ثمنها ضياع العراق نفسه. لقد ذهب الحكام العرب الى شرم الشيخ فرادى، كل يمثل نفسه.
وإذا صح هذا فلماذا ذهبوا الى هناك؟. نعم ذهبوا لامرين:
• لتفيهم كل نظام واجباته، اي درس فردي لكل نظام ما هي "الاصلاحات- التغييرات" التي يجب ان يقوم بها. وعليه يكون بوش مثابة الحاكم الذي يوزع المهام والواجبات على وزرائه، بعد ان القى خطاب العرش قبل قرابة شهر.
• ودرس جماعي متعلق بالقضية التي لم يتم فك ارتباط العرب بها قضية فلسطين.
وهذه هي المسالة الاساسية. وبهذا الصدد، لنلاحظ ان المؤتمر عقد في ذكرى 5 حزيران، أي لتذكير العرب بالهزيمة. لذا، فإن ما طُلب من العرب في ذلك المؤتمر (شرم الشيخ) هو تأكيد وقوفهم ضد "الارهاب" اي ضد المقاومة. فلا تستقيم، برأي امريكا، اية مقاومة في حقبة العولمة.
لقد كان لجورج بوش ما أراد تجاه "الارهاب" وقد امتشق الحكام العرب سيوفهم بحركة مسرحية وقطعوا بها راس الارهاب الفلسطيني، أمام أعين جورج بوش التي لمعت كعيني طفلٍ امام طبق من الحلوى. لكن جزءاً من هؤلاء الحكام، الامير السعودي مثلا، عجز عن تلبية مطلب التطبيع الاميركي، أو هكذا بدا الامر. ولكن من يدري ان هناك تطبيع من تحت الطاولة؟. فالمسألة مسألة مداراة الشارع وليس الموقف المبدئي. فما الفرق بين التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين وبين التطبيع مع الولايات المتحدة التي تحتل العراق، بل مساعدتها في احتلال العراق؟
لم يعد خافياً ان الولايات المتحدة تريد عملاء لا حلفاء. ولذا لم يتورع جورج بوش عن الطلب الى الحكام العرب فتح معركة مع الامة باسرها وذلك بمطالبه: التطبيع، سحق المقاومة، وشطب حق العودة، والاعتراف بالاحتلال الاميركي للعراق. ولا يقلق جورج بوش اذا قادت هذه المطالب لسقوط الانظمة، فهو يعلم نها لن تسقط لصالح حركة ثورية عربية لأنه يعرف ان الحزبية العربية مشلولة واصلاحية في هذه الحقبة.
ان ملخص الموقف الاميركي، علاوة على المطالب التي ذكرناها هو: النفط لنا، واسواقكم يجب ان تتحول لنا وليس وروبا، والارض للكيان الصهيوني، والمقاومة "إرهاب". وقد يكون هناك جانب لا بد من إبرازه في أزمة الانظمة العربية وهو حقيقة انها قطعت الصلات مع الشعب. فهي لا تستطيع اللجوء الى الشارع لتضغط به ضد الولايات المتحدة، أما الولايات المتحدة فتبتزها وتهينها دن مواربة.
موقف الكيان الصهيوني
بعيداً عن "الشطارة" في التفسيرات الصحفية، فإن موقف شارون أتى متطابقاً مع خريطة الطريق التي هي نتاج موقف اللجنة الرباعية، وليس العدو الاميركي وحده. فخريطة الطريق، هي بلا مواربة، لا سيما مرحلتها الاولى مجرد مجموعة مطالب من الفلسطينيين عليهم تنفيذها. ان لغتها ولهجتها لهجة أمرية على الفلسطينيين. واذا اخذنا بالاعتبار ما حققه بوش في شرم الشيخ، فإن موقف شارون هو تكميل لموقف بوش، اي ان العلاقة بينهما هي علاقة تقسيم عمل ضمن مشروع واحد. فما يسمى "بالحرب على الارهاب" هو بالاساس لصالح الكيان الصهيوني، والتطبيع ايضاً، وتمرير احتلال العراق هو ايضا في خدمة الكيان الصهيوني.
وعليه، تحدث شارون عن دولة فلسطينية دون ذكر سيادة ولا حدود، لأن هذه غير موجودة في نصوص خريطة الطريق. بل ان الحدود الدائمة للدولة الفلسطينية غير مذكورة قط في خريطة الطريق. وتحدث بالمقابل عن دولة يهودية نقية، ولم يذكر حدودها قط ايضا.
بيان محمود عباس
يمكن للمرء ان يرى في بيان السيد محمود عباس نموذجاً على "الواقعية السياسية" في علاقة القوي بالضعيف، لدرجة اعتقاد الضعيف ببل تيقنه "هو" من أمرين:
الاول: انه حين يستسلم للقوي، فهو إنما يصيب كبد الحقيقة التي يعتقد انه رآها بعبقريته وحدها وأن الآخرين البؤساء عاجزون عن التحليل وبالتالي الرؤية.
والثاني: من يستسلم للقوي، لا يدرك هو قوته الذاتية وبالتالي يمعن في موقفه.
ليس من القوة بمكان ان نحاكم التاريخ بأحداث قليلة وضمن فترات زمنية ضيقة. صحيح انا هزمنا في العراق، ولكن هذه مشكلة الحكام وليس الامة. وها هي المقاومة تتصاعد في العراق مع انه مبتلى باضخم جيش احتلال في العالم (بعد الجيش الصهيوني)، ناهيك عن تسليحه ووجود جيوش محلية من العملاء للعدو.
وبعيدا حتى عن العراق. فالشعب الفلسطيني يقاوم منذ قرن من الزمان. كما ان للمقاومة في هذه الفترة بالتحديد معنى خاصاً. ففي حين يخنع العالم الرسمي العربي، تقف المقاومة الفلسطينية ببسالة في مواجهة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة زعيمة العولمة!. ان هذا التفرد بالمقاومة يعطيها ثقلاً نوعيا اضافيا. هذا دون ان نتحدث عن الازمة الاقتصادية والاجتماعية في الكيان الصهيوني نفسه. صحيح ان ازمتنا الاقتصادية اعمق، ولكننا نوقع به اصابات ايضاً.
لسوء الحظ، فإن محمود عباس ذهب الى العقبة وهو يستمع لمعزوفة النظام العالمي ومريديه من الحكام العرب وليس الى أناشيد المقاومة.
يزعم البعض ان حديث شارون عن دولة للفلسطينيين فيها تواصل جغرافي هو مكسب. ولكن، يبدو ان تحديد الموقف من مسالة معينة لا يعتمد فقط على جوهرها، بل على موقفك منها! فحصول الفلسطينيين على اي شبر من فلسطين هو انتزاع حق وليس "تفضُّل" من العدو، حتى لو كان العدو قوياً لأن معسكره يمتد من تل ابيب الى البيت الابيض.
اذا كان الامر "دولة" للفلسطينيين، فقد حصلوا عليها عام 1988 عندما اعلنوها في تونس! فما لزوم إعادة إعلانها. لذلك بقيت دولة وليس وطن. وعليه، لن تختلف عن الدولة الحالية، اي السلطة الفلسطينية التي هي صلاحيات ادارية ومصادر دخل وتمويل. ولو كان لدى السلطة الفلسطينية إصرار فعلي على دولة حقيقية لما قبلت بأوسلو، لكانت قد حلت نفسها في أعقاب الاجتياح الي حصل في نيسان الماضي لمناطق الحكم الذاتي. ومن هنا، يمكننا ملاحظة ان ما قدمه محمود عباس في شرم الشيخ ليس بعيدا عن موقف السلطة الفلسطينية، بل هو في نفس الاتجاه ولكن ربما بدرجات اوسع!
بقي أن نقول، إن لقاء شرم الشيخ بالتحديد هو مؤتمر من "انتصروا" على العراق، وتحديداً على المشروع القومي العربي في هذه الحقبة. أما الرد على ذلك، فهو بأمرين:
• المقاومة كما هو الامر في فلسطين والعراق
• وبلورة حركة عربية وحدوية شعبية لتحل المشروع الوحدوي القومي من جديد. مشروع وطن عربي اشتراكي. ولتبدأ كحركة مقاومة عربية شاملة. مقاومة الطبقة/ات الحاكمة كعدوة للوحدة والامة والحرية والتنمية والثقافة والهوية من جهة ومقاومة لقلاع وقواعد الغرب الراسمالي، اي القواعد العسكرية والاقتصادية والثقافية.
كنعان