صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1728 - 2006 / 11 / 8 - 11:09
المحور:
حقوق الانسان
أشرت في مقالة سابقة لي (الزرازير والحساب: http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=67008 ) الى ان الإنسان مطالب يوماً بعد يوم ببذل جهد ذهني اكبر واكبر لمواجهة التحديات التي يلقيها في طريقه من لهم مصلحة في الإضرار به, ولا ينطبق هذا اليوم على احد بقدر انطباقه على الإنسان في العراق.
اعترف ان هذا سهل القول صعب التنفيذ. فالمتابع المرتاح في الخارج كثرما يحار في الوصول الى الحقيقة, خاصة لبعدها المكاني عنه, فكيف بالإنسان الذي يجب عليه ان يبذل ذلك الجهد الفكري, تحت الرعب, ثم ان يحافظ عليه حياديا, وان يبقي قلبه دافئاً ورأسه باردة؟
لكن لنستغل كل فرصة لنرسم لنا خطوطاً عريضة تسهل علينا ان نتجه الى الصواب في غابة التفاصيل المرعبة هذه. لنبق الأسس امام اعيننا حتى نأمن على الأقل التوهان الأساسي المبدئي, ان لم يكن بالإمكان ان نظمن الصواب في كل التفاصيل. ولكي نفعل ذلك علينا ان نجبر ذاكرتنا على الإحتفاظ بالأسس والحقائق الهامة, وان نجعل منها مقياساً نراجع به كل موقف يقدم نفسه لنا كموقف يمثل الحقيقة والصواب.
إننا نعيش عالماً يمتليء بالإعلام, واهم جوانبه بلا شك, الفضائيات والإنترنيت. وهذه نعمة كبيرة, لكنها نعمة كبيرة للباطل كما هي نعمة كبيرة للحق. وهذه الحقيقة تفرض على اذهاننا اكثر من اي وقت مضى, واجباً تمحيصياً عسيراً. فالأطراف القوية في الإعلام لاتحاول اختراق راداراتنا من خلال اقناعنا بأكاذيب فقط, بل تتوجه الى جهازنا النفسي بكثرة التكرار وبمعرفة نقاط الضعف الإنساني مسلحة بدراسات تتيح لها توقع ردود الفعل للبشر لمختلف الأحداث والأقوال.
ليس من يسهم في تضليلنا بالضرورة شخص يهدف الى الإضرار بنا, بل ايضاً كل من اقتنع بفكرة خاطئة, رغم نواياه الطيبة. من هؤلاء الصحفي عبد الباري عطوان, الذي كتبت عنه مرة سابقاً. من يراقب هذا الرجل يرى انه متحمس بالفعل لصدام ليس لغرض الإضرار بالشعب العراقي, لكنه مثلاً مقتنع فعلاً بأن عدي وقصي, ابناء صدام, من ارذل العراقيين في التأريخ قاطبة, هم من الشهداء!
الخرافات, ولنبدأ بخرافتين قديمتين نسبياً:
الحقد الطائفي والقتل على الهوية:
هذه خرافة كبيرة برأيي فلا يوجد حقد طائفي حقيقي يستحق الذكر قبل الإحتلال, وما يوجد الآن وجد بفضل الإحتلال وجهده الموجه, وهو مايزال ابعد ما يكون عن ان يصل الى مرحلة القتل على الهوية, خاصة وان هذا القتل لادليل على دوافعه اطلاقاً سوى ما يقوله القتلة ويمثلونه من تمثيليات امام الناس. انه قتل يستهدف خلق الحقد الطائفي والخوف الطائفي والإنشقاق الطائفي, ويجب ان نبقى رافضين التصديق به وعدم الهبوط الى مستوى الإعتراف به حتى من خلال الدعوة الى نبذه, فمن يدعو الى نبذه يعترف به مبدئياً.
الطائفية هي المسؤولة عن التعذيب الشديد:
وهذه خرافة اخرى كبيرة, فالتعذيب الشديد لايقدر عليه غير المدربون تدريباً خاصاً وطويلاً ولذا فهم اما من رجال امن صدام او جاءوا مع الأمريكان وتشابه ما يحدث في العراق من هذا النوع من الإرهاب وما حدث في اميركا الوسطى مؤشر على المتهمين الحقيقيين في الموضوع (أبي يجد جواباً لحيرته: بحث عن الحقائق في موضوع العنف في العراق - 2 : http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=76978 ) خاصة وان نيغروبونتي الذي كان سفير اميركا في العراق, كان ايضاً سفيرها في اميركا الوسطى في الثمانينات حين كانت مثل تلك الجرائم ترتكب.
السنة تدافع عن صدام:
إن كان المقصود بضعة ممن نصبوا نفسهم كقياديين سنة, فهم فعلاً يدافعون عن صدام, اما السنة كجماهير شعبية فهي تكره صدام بقدر ما يكرهه الشيعة والكرد. المشكلة في السنة ان ليس لها تنظيم يمكن من خلاله تجميع اصواتها كما هو الحال لدى الشيعة من تنظيم ديني او لدى الكرد من تنظيم حزبي. وقد استغل البعض نقص هذا التنظيم لدى السنة ليفرضوا شكل اراء هؤلاء ويضعونها بشكل اعلامي تكرر حتى صار انكاره صعباً.
صدام كان يعمل من اجل السنة:
هذه طبعاً ليست فقط خرافة, بل خرافة سخيفة. فصحيح ان صدام لم يكن طائفياً اطلاقاً, فهو من النوع الذي لايضع هدفاً اخر مهما كان لينافس هدفه في خدمة نفسه. فلكي يكون المرء سنياً يدافع عن السنة او اية مجموعة اخرى فيجب ان يحب هؤلاء ويكون مستعداً بعض الشيء للتضحية من اجلهم. فأين هذا من صدام الذي اعدم ازواج بناته وقتل خال اولاده حين لم يكن وجودهم مناسباً له؟ اليس من السخف هنا ان نتحدث عن صدام سني؟
صدام كان قومياً:
في التأريخ الحديث على الأقل, إن لم يكن في كل التأريخ العربي, ليس بالإمكان ان نجد شخصاً اضر بالأمة العربية وشتت شملها مثلما فعل صدام. فلم يكتف بتدمير بلده بإشعال حرب ضد جارته ايران لحساب اميركا, بل احتل دولة عربية جارة, خالقاً بذلك اكبر شق في الشعور العربي والتضامن العربي في التأريخ. من المستغرب ان تهبط الأمة العربية الى مثل هذا المستوى لتصدق محتالاً يهتف باسمها, متناسية تأريخاً من الغدر.
حكومة العراق سيئة, إذن كان صدام جيداً.
هذا بالطبع منطق اعوج, فمن الممكن ان يكون الاثنان سيئان. ورغم ذلك فأن مساوئ الحكومة الحالية ليست جذرية ولم يغلق الباب لإصلاحها ان تغييرها. فهي حكومة تعتمد على التأييد الشعبي لها, وهي تعلم انه قادر على اسقاطها, وهي بالتالي مضطرة الى مراعاة شعور الناس بدرجة او اخرى ارادت ذلك ام ابت. كذلك فأنها ليست من القوة والتحكم لكي تتجاهل ذلك تماماً. صحيح انها من الممكن ان تنهار الى حكومة عميلة لاتراعي إلا رضا المحتل عنها, لكن هذا لم يحدث لحد الآن, رغم ان الشعب غير راض عن مستوى علاقتها بالمحتل وانجرارها لمطاليبه. أما بالنسبة للحكومة الدكتاتورية فهي حكومة ميؤوس من اصلاحها وميؤوس من تغييرها داخلياً. انها حكومة لاتدعي الديمقراطية حتى ادعاءً إلا بشكل يثير السخرية. انها لا تعتمد بأية درجة على رضا الشعب عنها بل على خوفه منها بالقوة العسكرية والأمنية الغاشمة. لذا فعلى العراقيين ان يعملوا على اصلاح حكومتهم او تغييرها بشكل ديمقراطي دون السماح بعودة دكتاتورية صريحة عرفوا ويلاتها في الماضي القريب.
المحكمة غير عادلة لأنها كانت تحت ضغوط شديدة
هذا صحيح بدرجة ما, ومن الطبيعي ان يأمل الناس بمحكمة اعدل ما تكون, ليس من اجل مصير صدام او اي فرد بالدرجة الأولى لكن من اجل تثبيث سيادة القانون. لكن المطالبة بالمثالية امر تعجيزي دائماً. وإذا اخذنا محاكمة ميلوسوفيتج في المحكمة الدولية في لاهاي, فيمكن القول ان محاكمة صدام كانت اكثر شفافية وقانونية وعدلاً منها! صحيح ان اي محام دفاع لم يقتل, لكن ميلوسوفيج نفسه "توفى" في السجن بطريقة غامضة عليها ما يكفي من علامات الإستفهام للتشكيك بعملية اغتيال متعمدة. كذلك فأن دفاع ميلوسوفيج عن نفسه كان ممتازاً احرج المحكمة في اكثر من مرة, وحصل على شهادة شخصيات دولية غربية محترمة لرد التهم عليه, دون جدوى. وان كانت الضغوط في محاكمة ميلوسوفيج من جانب واحد: الرغبة في ادانته, فانها في حالة صدام من جانبين متعاكسين, فقتل ثلاثة من محاميه, وقتل بالمقابل افراد من عائلة احد قضاته.
وفي محاكمة مجموعة "هوفستاد" في هولندا كان الضغط السياسي واضحاً وباتجاه واحد, ويمكن الإستماع الى اراء محاميهم الهولنديين لمعرفة اي نقص في الحرية كان يعاني القضاء وفريق المحاماة منه.
محاكمة صدام كانت انتقاماً منه وليس من اجل العدالة
حسناً...لاشك ان هذا هو شعور الغالبية العظمى من الشعب العراقي..الإنتقام من صدام, ولكن هذا لايمنع ان العدالة كثرما تتصادف مع الإنتقام من المجرمين. فمن الطبيعي ان كل مجرم قد آذى البعض, وان هذا البعض يريد ان ينتقم من المجرم ويتمنى ان يقتص منه. بقي السؤال هو ان تتمكن العدالة من هذا الإقتصاص ام انه سيقع ضحية الإنتقام دون محاكمة (عادلة بدرجة معقولة)؟ لذلك يجب مناقشة عدالة محكمة صدام او الحكم عليه بغض النظر عن رغبة البعض في الإنتقام منه, وإلا فعلينا ان نعفي جميع المجرمين من المحاكمة لأن هناك من يريد ان ينتقم منه, وبخاصة المجرمين بحق بلدانهم, لأن الذين "يريدون الإنتقام منه" لهم سلطة ما على المحاكمة. بعبارة اخرى فأن على الدكتاتور ان يمعن في أذاه لكي يمكن فيما بعد التشكيك بالعدالة التي ستحاكمه باعتبار القائمين عليها يريدون الإنتقام منه.
من يقف ضد صدام يقف مع الإحتلال
هذا غير صحيح تماماً إلا اذا اعتبرنا الشعب العراقي قطيع يبحث عن دكتاتور يتسلط عليه, وهو مقسم بين مؤيد للدكتاتور الداخلي واخر للدكتاتور الخارجي. ان من يمكن ان يؤتمن على طرد الإحتلال من البلاد هو من يكره اي تسلط عليه, وهو بالتالي يكره تسلط صدام ايضاً, ويسعى الى ان يعيد للشعب حقه في حكم نفسه بدلاً من الإنقياد الى اية جهة. ان افتراض خلو الشعب العراقي من هؤلاء المدركين لحقوقهم والمقدسين لحرياتهم, والقادرين على حكم نفسهم, اهانة لهذا الشعب الذي له الحق في الحصول على فرصته للتعلم من اخطائه والنهوض نحو مستقبله.
صدام مسلم مؤمن
إذا كان كل ما فعله صدام لايناقض الإسلام والإيمان فان هذا يعني ان الإسلام يتقبل السفاحين القتلة, بل ويتيح لهم فرصة لقيادته, وهذا أمر يجب ان يرفضه اي مسلم له اي اعتزاز بدينه, وان لاتغره بضعة هتافات "الله اكبر", يستطيع اي محتال ان يهتف بها.
هذه الحكومة جاءت بفضل المحتل بينما صدام رئيس شرعي للبلاد
المقدمة صحيحة نسبياً لكن الإستنتاج خاطئ. هي صحيحة لأنه من النفاق الإدعاء ان هذه الحكومة كان من الممكن ان تطيح بصدام بنفسها وتستلم الحكم, وهي صحيحة نسبياً لأنها ليست نتيجة الإحتلال لوحده, بل نتيجة توازن قوى بين الإحتلال وارادة الناس التي عبروا عنها (بشكل نسبي ايضاً) بالتصويت. الإنتخابات كانت بعيدة عن المثالية وكان فيها تزوير وضغط وارهاب وكان فيها تأجيل غير قانوني لإعلان النتيجة, ولا شك عندي ان الإدارة الأمريكية كانت تعرف نتيجة التصويت قبل اعلانها بزمن طويل وانها اعطيت الفرصة بذلك لترتيب الوضع بافضل شكل تستطيعه قبل اعلان النتيجة. كل تلك قصورات كبيرة ومهمة, لكنها صوت الناس فيها يبقى مؤثراً بشكل واضح, وهناك ادلة ايجابية واخرى سلبية على ذلك. فالأدلة الإيجابية ان مرشح اميركا لم يستطع الحصول على اصوات كافية لترشيحه للحكم, رغم التزويرات والرشاوى ورغم حماقات بعض القوى الوطنية التي انظمت الى صفه. ومن الأدلة السلبية خروج النتيجة الإنتخابية تعبيراً عن الطائفية التي كان وزنها مؤثرا في الإنتخابات. انها ظاهرة سلبية لكنها مؤشر على قرب النتيجة من افكار الناس, حتى وإن كرهناها.
أما ان صدام كان رئيس شرعي للبلاد فعبارة متناقضة في نفسها. فالشرعية تعني ان يحصل المرء على ما حصل عليه بطريقة شرعية قانونية. وكما يعرف الجميع فأن صدام حصل على سلطته بالقوة والإغتيال, ونجاحه في ذلك لايلغي عدم شرعيته وإلا لكان علينا اعتبار السرقة الناجحة عملية شرعية. كذلك لا يقلل لاشرعية الحكم المستلم بالقوة ان الآخرين يفعلون ذلك ايضاً. كلهم غير شرعيون مهما تكاثروا, وإلا حصلنا على تعريف متناقض للشرعية.
ا لحكومة الحالية منقوصة الشرعية بلا شك ايضاً وعليها ان تزيد من شرعيتها وبسرعة من خلال الإستماع الى مطالب الشعب ومصالحه وتقف في وجه الإحتلال ومصالحه, وهو ما لانلاحظه بوضوح اليوم. لذا فأن شرعية الحكومة الحالية في تدهور في الواقع, وعليها ان تفعل شيئاً لوقف ذلك التدهور ان ارادت ان تحافظ على شرعيتها وتزيدها. لكن مرة اخرى, هذا كله لايضيف شيئاً الى شرعية حكم صدام اطلاقاً.
صدام كان يضرب الشيعة والأكراد بحق لأنهم تآمروا عليه
إذا اتفقنا ان صدام لم يكن حاكماً شرعياً فيجب اعطاء الشرف الى من يقف ضده. ان "حق صدام في الدفاع عن نفسه وحكومته" لايزيد عن حق اللص في الدفاع عن نفسه وعن غنيمته امام اهل الدار المسروق.
صدام مع البعث
هذه خرافة كبيرة, فضيحة صدام الأولى كان البعث, ثم العراق فيما بعد. فقد بدأ صدام حكمه بإغتيال اي بعثي له الجرأة لمعارضة الطريقة التي استولى بها صدام على السلطة, او مناقشة صلاحيته لقيادتها. بذلك بدأ صدام "بتنظيف" الحزب من كل من يجرؤ على فتح فمه وانتهى الى قيادة من امثال عزت الدوري وطه ياسين الذين كانوا موضع سخرية الناس طيلة حكم صدام لشدة تملقهم وتزلفهم الخالي من اي ذرة احساس بالكرامة. هذه هي القيادة التي فرضها صدام على حزب البعث, ليحوله الى دائرة امنية لحمايته وعائلته, وكان معروفا ان لعدي او قصي من السلطة ما ليس لأكبر قيادي بعثي عدا صدام نفسه. يمكن في مثل هذه الحالة تصور الحال التي يؤول اليها مثل هذا الحزب. لذا فمن المستغرب ان لايكون بقية البعثيين من الحزبيين الحقيقيين هم اول من يطالب بالإنتقام منه.
طالت المقالة اكثر من المتوقع, لذا استميحكم عذرا ان نكملها في حلقة ثانية ستركز على امثلة من المغالطات التي يتعرض لها العراقي لتشويه تفكيره واستنتاجه, فالى الجزء الثاني من المقالة, اترككم بخير..
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟