كاظم حبيب
رؤية أولية حوارية حول وحدة اليسار الديمقراطي في العرق
الحلقة الخامسة
من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق والأصولية المتوترة
يفترض أن يمتلك الإنسان حساً سليماً ووعياً علمياً رفيعاً ومعرفة كافية بموضوع الحوار الذي يريد الخوض فيه, إضافة إلى ثقة بالنفس عند ولوج أي حوار جاد, هادف ومسؤول. إذ أن الحوار لا يهدف إلى فرض رأي أو مقترح معين على الآخرين, بل يسعى إلى فتح طريق أرحب لرؤية حوارية أوسع وأشمل, وربما ينتهي إلى الحوار إلى العكس من ذلك من حيث لا يريد الإنسان ذلك, إن دخل على الحوار ما يراد مسبقاً الإجهاز عليه وإفشاله منذ البدء. ومن هنا تأتي أهمية الانفتاح والدخول في الحوار دون أحكام مسبقة مع التزود بما هو ضروري للحوار, الذي يفترض تبادل الآراء المتباينة بحرية ودون قيود أو حدود, مع الاحتفاظ بالهدوء والموضوعية والتزام أصول الحوار الحضاري غير المسيء لأي طرف في الحوار. وعندما تتلبس الإنسان المشارك في الحوار حساسية مفرطة إلى حد فقدان الأعصاب, وشكوك عالية إلى حد البدء بالغمز واللمز إزاء الآخر, وانغلاق على النفس والفكر إلى حد فقدان البصيرة وبلوغ القناعة القائلة "ليس في الإمكان أبدع مما كان", عندها يتحول الإنسان المحاور إلى أصولي متطرف لا يترك مجالاً للحوار ولا تجد عنده الرغبة في الوصول إلى نتيجة مفيدة للجميع. وبالتالي تسقط فكرة أساسية في التحليل الديالكتيكي أو للعملية الجدلية القائلة بطرح موضوعة تقابلها موضوعة أخرى ونستخلص من خلال النقاش موضوعة ثالثة: These - Antithese - Synthese
عندما بدأت الحوار المفتوح بمقال عنونته ب "رؤية أولية حوارية ..". وهي حقاً هكذا, إذ كانت وما تزال تعبر عن مجموعة من المضامين التي يفترض أن يتصف بها أي حوار, وأعني بذلك ما يلي:
• إن الأفكار التي طرحتها للنقاش ليست قطعية ولم تغلق الطريق على أي من النتائج, بل هي أفكار كانت وما تزال تدور في بالي وددت مشاركة الآخرين بها, أي التفكير بصوت مسموع.
• وكنت راغباً في تحريك الآخرين صوب المشاركة الواعية والفعالة مع أو ضد تلك الأفكار لإنضاج الموقف الأكثر سلامة للمجتمع في مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد من تاريخ العراق.
• وعندما طرحت أفكاري بتلك الصورة لم يطرأ ببالي أنها تمتلك الحقيقة المطلقة, إذ أنه عند ذاك تفتقد إلى الرؤية العلمية لقضايا المجتمعً, وكنت عبيداً عن الاستعلاء الفكري, بل طرحتها بكل تواضع, ولم أر في نفسي أني المالك لناصية المعرفة والعلم والعيش دون غيره في الأوضاع الجديدة والقرن الجديد, بل كنت وما أزال أدرك تماماً وجود الملايين ممن يعيش مثلي في القرن الحادي والعشرين ويتعامل على هذا الأساس, ولكني كنت أدرك أيضاً وجود من لا يزال يعيش في النصف الأول من القرن العشرين, ولكنه يعتقد أنه يعيش في المرحلة الراهنة. وأغلب الأصوليين, والمتطرفين منهم على نحو خاص, يعيشون الماضي في الحاضر ويتطلعون إعادة بناء الماضي في الحاضر, ويصعب عليهم رؤية واقعهم أو الموقع الذي يتحركون عليه أو فيه.
• وأن طرح هذه الأفكار لم يكن يستهدف الإساءة إلى هذا الحزب أو تلك الجهة, إلا إذا رأي هذا الحزب أو تلك الجهة بأن مثل هذا الحوار يعتبر إساءة له ابتداءاً, عندها عليه أن لا يدخل حواراً لا يعنيه أصلاً ولا يرى فيه ما ينفع الناس. إن الحوار الذي بدأته يستهدف تقريب مناسب بين وجهات النظر في إطار حركة واسعة عبر حوار إنساني حضاري وديمقراطي, يمكن أن يصل إلى نتائج إيجابية نسبياً بين كل أو بعض القوى والشخصيات اليسارية الديمقراطية العراقية. ومثل هذا الهدف يفترض أن ينعش الجميع لا أن يستفزهم ويدفع بالبعض إلى قول ما لا يجوز قوله من النواحي الإنسانية والاجتماعية والحضارية والنضالية.
• والأفكار التي أوردتها في مبادرة الحوار لم تنزل عليّ من السماء, بل هي قائمة في الأرض التي نعيش عليها وتدور في أذهان الكثير من الناس, وليس عبثاً هذه الاتصالات الهاتفية الكثيرة والرسائل التي تصلني عبر الإنترنيت من عدد مهم من الناس حول الموضوع ذاته أو الرغبة في حوار عبر الإنترنيت, من رفاق شيوعيين أعضاء وكوادر في الحزب الشيوعي العراقي وماركسيين ويساريين أولاً, وأن الأفكار التي أوردتها في المبادرة, وبضمنها مقترحات البرنامج, تفترض أن أكون على إطلاع مناسب ببرامج الأحزاب والقوى الأخرى لكي أستطيع أن أجد القواسم المشتركة بين أطراف أو قوى اليسار الديمقراطي, وليس في ذلك أي مأخذ على الكاتب, بل هي قوة للمقترحات ثانياً, كما يمكن أن تكون قواسم مشتركة مع قوى أخرى لتكون قادرة على تجميع الصف الوطني وإقامة جبهة أوسع من وحدة أو تحالف قوى اليسار الديمقراطي. ولكن بعض المحاورين يعتقدون بأن الكاتب يعيش بعيداً في أجواء أخرى غير الأجواء العراقية السياسية السائدة أو ما يفكر بع الكثير من الشيوعيين والماركسيين الآخرين ومختلف قوى اليسار.
• والأفكار التي طرحتها لا تدعي لنفسها العصمة, ولهذا السبب بالذات يمكن أن تصطدم بقوة شديدة بمن يرى في أفكاره العصمة ويرفض حتى الولوج بحوار هادئ بعيد عن الإساءات وعن الغمز واللمز, إذ عانينا من ذلك كثيراً وعلى مدى طويل يزيد عراقياً عن سبعة عقود, وأكثر من ذلك عالمياً.
• وعندما أشرت إلى الفكرة القائلة, بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي, فهذا يعني أن القوى التي يتم التحاور في ما بينها أو التي يفترض أن تكون ضمن الحوار ذات وجهة يسارية علمانية وبعيدة عن التزمت القومي والديني والطائفي, علماً بأن الأحزاب الشيوعية لم تعد تضع شرطاً قديماً كان يقضي بمن يريد عضويتها أن يؤمن بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية, وكلنا نعرف ما يعني هذا الشرط, رغم عدم الالتزام به نصاً خلال نشاط الحزب عبر عقوده السبعة. ونحن نعرف بأن الأحزاب الشيوعية رغم أمميتها كانت في عضويتها الكثير من القوميين المتعصبين, ومنها على سبيل المثال لا الحصر الحزب الشيوعي البلغاري قبل سقوط الدولة الاشتراكية البلغارية. ويمكن تقديم الكثير من الأمثلة في هذا الصدد, بما في ذلك سياسات الحزب الشيوعي السوفييتي إزاء القوميات المختلفة. ولكن هذا يعني تماماً خروج تلك الأحزاب عن المبادئ التي تؤكد رفض التزمت القومي والشوفينية أو ضيق الأفق القومي, النظرية والتطبيق, كما يقول أنجلز فجوة غير صغيرة, وهما لن يتطابقان.
• هذا هو بالضبط ما عنيت به عندما قلت "رؤية أولية حوارية". وهي تعني أخيراً بأنني أمتلك قناعة نسبية بأهمية مثل هذه الخطوة الحوارية وما ورد فيها من أفكار, وإلا لما طرحتها للحوار.
نحن بحاجة إلى حوار حول جملة من الأفكار التي يطرحها البعض, بغض النظر عن الأسماء, إذ أنها يمكن أن لا تعبر عن رأي قائلها فحسب, بل عن أراء آخرين أيضاً, ولهذا فالحوار بشأنها لا يمس من كتب أو يكتب تلك الأفكار لاحقاً, بل من يفكر بها أيضاً, لكي نصل في حواراتنا إلى دائرة أوسع ونجلب إلى الحوار الكثير من التنوع في التفكير وغزارة في الأفكار لنغتني بها جميعاً, إذ يفترض في الإنسان أن لا يرى نهاية لقدراته على التعلم, وإلا فسينتهي فكراً وممارسة ويصبح في عداد الأموات وهو حي يرزق.
يبدو مفيداً أن أبدأ بتراث الفكر اليساري في العراق. يعود تراث الفكر اليساري والممارسة السياسية اليسارية, في نضالها ضد الاستبداد والقمع والقهر الاجتماعي والاستغلال والعبودية, ومن أجل الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية في العراق إلى عهد الأمويين والعباسيين وإلى ابعد من ذلك في التاريخ أيضاً. وإذا بدأنا بالأمويين نعرف كيف قاوم العراقيون سياسات الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد ابن أبيه وزياد بن عبد الله, أو في عهد العباسيين حيث برزت وتطورت حركة الزنج الثورية وحركة القرامطة. وتاريخ الفكر اليساري العراقي ليس ملكاً لأحد, إنه ملك المجتمع العراقي, وملك من يواصل مسيرة الفكر اليساري الماركسي وغير الماركسي فكراً وممارسة.
وإذا بدأنا بتاريخ العراق الحديث فسنجد أمامنا فكراً يسارياً متنوعاً وجد تعبيره في منتصف العشرينات ثم تطور في الثلاثينات وتوسع في الأربعينات, ولم يقتصر يوماً على فكر الحزب الشيوعي العراقي, رغم أن فكر الحزب الشيوعي كان في المركز منه. لقد وجدت حركات وتنظيمات ماركسية عديدة في الثلاثينات, والتي توحدت في الحزب الشيوعي العراقي, وكانت إلى جانبها قوى وتنظيمات أخرى بما فيها جماعة الأهالي, رغم التمايز في وجهتها, ولكن بعض قواها كان ماركسياً. وبرز في الأربعينات, وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية, بعض الأحزاب السياسية اليسارية على عموم العاق وفي كردستان العراق (حزب هيوا, يه كه تي تيكوشين (فرع وحدة النضال, حب شورش (الحزب الشيوعي في كردستان) وحزب رزكاري كورد), وكذلك بعض التنظيمات في الخمسينات, وتوحد بعضها في الحزب الشيوعي العراقي (وحدة النضال, راية الشغيلة) في فترة قيادة سلام عادل للحزب. ولكن وجدت إلى جانبها كتل يسارية وجماعات يسارية أو ماركسية في الحزب الوطني الديمقراطي وفي الحزب الديمقراطي (الكردي) الكردستاني. وبرزت اختلافات في ما بين تلك الحركات الفكرية اليسارية, رغم أن أغلبها كان ماركسياً. وكان بعضها لا يستند إلى فكر الماركسية – اللينينية, بل اعتمد أيضاً على تنظيرات مفكرين آخرين, وهم كثرة في الفكر اليساري العالمي.
إن التراث النضالي لقوى اليسار العراقي هو ميراث كل التنظيمات والشخصيات اليسارية العراقية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي الذي واصل النضال بصلابة وعناد على امتداد العقود السبعة المنصرمة. ولذلك عندما يجري الحديث عن حزب يساري جديد أو تحالف قوى اليسار الديمقراطي فهو مفتوح على كثرة من المفكرين اليساريين على الصعيد العراقي والعالمي الذين ساهموا في تطوير المنهج المادي في التحليل, ولكنه تضمن أيضاً فكر وممارسات من سبقهما في تاريخ العراق الفكري والسياسي اليساري أيضاً. وليس هناك من يريد أن يصادر هذا الفكر وليس هناك من يستطيع أن يستولي عليه, وكل احتكار للفكر يقود إلى مشكلات كثيرة لا حصر لها.
كانت هناك ممارسة جادة وطويلة ومضرة لاحتكار ومصادرة الماركسية من جانب حركة الأممية الثالثة واعتبار كل من يتحدث بالفكر الماركسي من غير الشيوعيين تحريفي وتصفوي ...وغيرها من النعوت المعروفة والتي أدانتها المدرسة السوفييتية ذاتها منذ سنوات طويلة وتخلى عنها الشيوعيون إلا الجماعة الأصولية منهم التي تسعى اليوم إلى إعادة الاعتبار إلى ستالين, والتي عقدت منذ سنوات مؤتمراً لها حضرته مجموعة من الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط! إلا أن هذه الوجهة معزولة الآن وعلى المناضلين أن يتجنبوها, إذ لا تقود إلا إلى العزلة والضياع. ويمكن العودة إلى كراس الرفيق فهد "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" لنفهم من خلاله ذلك النهج الستاليني الذي ساد الحركة الشيوعية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي, وخاصة في القضايا الأممية وليست القضايا الوطنية العراقية.
عبر انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية والمشكلات التي عانت منها الأحزاب الشيوعية في مختلف بقاع العالم عن وجود أزمة فكرية عميقة في أحزاب الأممية الثالثة وفي ممارستها وهي في الحكم أو خارجه, وأن عليها إعادة النظر بالنظرية, لا بالمنهج, وبالممارسة السياسية وبأساليب العمل والعلاقات الداخلية في كل حزب من الأحزاب. ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يعامل على أساس دولي فحسب, بل وبالأساس على أساس وطني أو محلي. أي أن كل حزب في أي بلد من البلدان عليه أن يعيد النظر بكل شيء دون استثناء من أجل معرفة مواطن الخلل والعطب لتغييره والسير وفق أسس جديدة لإحراز التقدم.
ومن هنا أنطلقت, ويمكن أن أكو مخطأً, في تشخيص أهمية إعادة النظر في عدة نقاط جوهرية:
- طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه ومرحلة التطور التي يمر بها العراق ومستوى علاقات الإنتاج السائدة فيه وبنيته الطبقية. فالعراق الراهن يشير على حصول تغيرات عميقة في المجتمع العراقي, أي حصول ردة اجتماعية وسياسية في الفكر والممارسة, وهي التي يشار إليها في الفكر الماركسي إلى احتمال حصول حركة متعرجة (زك زاك) في حركة التطور وفي مسيرة التاريخ. وهي نتيجة السياسات الاستبدادية والحروب العديدة والحصار وما ارتبط بكل ذلك من مجاعات وتحولات في شخصية الفرد العراقي وتعمق الانفصال فيها, والعودة إلى الذهنية والممارسة العشائرية ليس على مستوى البادية والريف فحسب, بل وعلى مستوى المدينة, خاصة وأن سكان المدن يشكلون اليوم حوالي 76% من سكان العراق, وهي ظاهرة ملفتة للانتباه. إننا جميعاً ودون استثناء بحاجة ماسة إلى دراسة معمقة وجادة للتحولات التي حصلت في العراق في مختلف جوانب الحياة لنرسم في ضوئها الجديد في السياسة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ...الخ التي نريد السير عليها والسعي لتحقيقها.
- المهمات السياسية الوطنية والاجتماعية أو الطبقية التي يفترض أن يناضل في سبيل إنجازها في هذه المرحلة بالذات التي سوف لن تكون قصيرة.
- الأدوات النضالية التي يحتاجها العراق في هذا النضال, ومنها طبيعة الحزب الذي يمكن أن يحمل مع غيره من الأحزاب مهمات النضال الوطني, والتي يمكن أن يتميز عنها الحزب اليساري في مهماته الاجتماعية. وما هو الاسم المناسب لهذا الحزب وفق المهمات التي يراد إنجازها.
- التحولات التي طرأت على النظرية بفعل الزمن وكيف يمكن تطوير العمل الفكري استناداً إلى المنهج المادي الديالكتيكي والمادي التاريخي.
- المبادئ والقواعد التي يفترض أن يعمل في ضوئها الحزب الشيوعي أو الحزب اليساري الديمقراطي أو تحالف القوى اليسارية الديمقراطية في إطار المرحلة الجديدة والدروس التي استخلصها من تجارب الفترة المنصرمة.
التفكير بهذه النقاط لا يعني تغيير كل شيء, بل يعني بالضبط تغيير كل ما يحتاج إلى تغيير وإبقاء أو تعديل ما يفترض أن يبقى أو يعدل. وهو أمر جوهري في حياة كل حركة فكرية وسياسية, وبدونها يفقد هذا الحزب أو ذاك مقوماته تطوره, وليس بالضرورة مقومات استمرار وجوده.
وفي العراق توجد إلى جانب الحزب الشيوعي منظمات يسارية, في الغالب ماركسية, وأخرى غير ماركسية, ولكنها لا تحمل العداء للحزب الشيوعي العراقي, كما أن هناك شخصيات وكتل ماركسية في أحزاب أخرى أو مستقلة. كما توجد مثل ذلك في الخارج. وبين هذه القوى يستوجب الحوار. وعلينا أن لا نستهين بها وكأنها غير موجودة. حتى أولئك الذين غادروا الحزب لأي سبب كان يفترض قبل دعوتهم للعودة إلى الحزب معرفة أسباب خروجهم والتفكير الجاد والموضوعي بتلك الأسباب, وهو, كما يبدو, حتى لم يطرأ على بال الذين حاوروني حتى الآن, إذ اعتبر وكأن الجميع كانوا على خطأ وعليهم العودة إلى صفوف الحزب والأبواب مشرعة أمامهم.
أشير في الحوار بأن الحزب يكسب يومياً 200-250 عضواً جديداً اعتماداً إلى تصريح أدلى به على عودة, عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.
طبعاً القبول بهذا التصريح على عّلاته يعبر عن سذاجة مفرطة وقبول مطلق بما يقوله هذا الرفيق أو ذاك في الحزب دون تفكير نقدي واعٍ ودقيق بما يقال. وهي صفة أقل ما يقال عنها أنها لم تعد مقبولة في ضوء التجارب السابقة, والثقة جيدة لكن الرقابة أجود, كما عبر عن ذلك لينين. دعونا نفكر قليلاً وسريعاً بهذا العدد لمشار إليه في أعلاه
- لو صح هذا العدد لأصبح الحزب في مدى شهر يتراوح كسبه للعضوية بين 6000-7500 عضو جديد, وفي مدى شهرين بين 12000-15000 عضو جديدو وفي مدى ثلاثة شهور سيبلغ العدد 18000 -20500 وهلمجرا, فهل هذا صحيح أو قابل للتصور في ظروف ملَّت الغالبية العظمى من الشعب العراقي من العمل السياسي حالياً على الأقل؟
- لو صح هذا العدد, كيف يستطيع الحزب توفير الكوادر الضرورية لتأمين تنظيم وتسيير دفة العمل في الحزب؟
- ولو صح هذا العدد من هي تلك العناصر التي تريد العودة أو الدخول إلى صفوف الحزب, وما هي خلفيتها السياسية, وما الذي قامت به أثناء حكم البعث, وهل هي راغبة في الاندساس في صفوف الحزب وتخريبه من الداخل أم أنها مخلصة حقاً لهذا الحزب أو أي سبب آخر؟
أغلب الظن أن الذي قصده عضو ل.م أن مقرات الحزب حيثما فتحت تجد إقبالاً عليها من عدد يتراوح في سائر أنحاء العراق بين 200-250 شخصاً, وهو لعمري قليل جداً بالقياس إلى ما يجري في مقرات الأحزاب الأخرى بما فيها أحزاب الإسلام السياسي والتجمع الديمقراطي والوفاق الوطني والمؤتمر الوطني أو التيار الديمقراطي. وعلينا أن ننتبه إلى أن جماعة النظام المقبور, أي العامل حالياً تحت الأرض, قد قرر العمل على تأمين ولوج واسع لرجال أمنه غير المعروفين وأعضاء حزبه من الخطوط الخلفية إلى كل الأحزاب السياسية العراقية وحيثما أمكن. أن العمل يفترض أن ينصب لا على الكسب العددي, بل على الكسب النوعي للمناضلين. كما أن من المفيد أن نبتعد عن مثل هذه المبالغات التي لا تفيد أحداً.
وبصدد تغيير اسم الحزب, الذي كما يبدو يثير حساسية مفرطة من جانب البعض وانفعالاً يفقد معه المحاور الموضوعية ونسيان مع من يتحاور, أود الإشارة إلى واقعة تاريخية, وهي:
عندما بدأ الماركسيون يسعون إلى تشكيل حزب سياسي اتفقوا على تسميته ب "الجمعية ضد الاستعمار", وأحياناً يضاف إليها في بعض الأدبيات ب "الجمعية ضد الاستعمار والاستثمار". وبهذا الاسم تقدمت اللجنة المركزية بطلب الانتساب إلى الأممية الثالثة. رفضت اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة طلب الحزب الجديد في الانتساب إليها وأصرت على تغيير اسم الحزب إلى الحزب الشيوعي العراقي. عادت اللجنة المركزية إلى الانعقاد وتقرر ما يلي: إصدار جريدة مركزية باسم "كفاح الشعب"و وتغيير الاسم إلى الحزب الشيوعي العراقي. صدر العدد الأول من جريدة "كفاح الشعب" وهو يحمل في صفحته الأولى "لسان حال الحزب الشيوعي العراقي", إضافة إلى "استقلال كردستان" . حمل قاسم حسن, عضو اللجنة المركزية حينذاك هذا العدد إلى مؤتمر الأممية السابع في عام 1935و وكان فهد حاضراً بصفة مراقب, كما هو حال قاسم حسن. وفي ضوء هذا التغيير وإضافات أخرى, قبل الحزب منذ عام 1936 عضواً كاملاً في الأممية الشيوعية. أي أن أحد أسباب الرفض كان اسم الحزب, إضافة إلى الموقف من المسألة القومية وأساليب الكفاح, بما فيها أسلوب العنف الثوري للخلاص من السيطرة الاستعمارية, وموضوعة دكتاتورية البروليتاريا التي لم تكن واردة في أدبيات الحزب الجديد ...الخ.
لا شك في أن الأحزاب الشيوعية كانت تتمتع ببعض الاستقلالية في صياغة جملة من مهماتها اليومية وسبل التعامل مع القوى الأخرى, ولكنها لم تكن مستقلة قطعاً في قضايا اعتبرت قرارات ملزمة للجميع, وبضمنها شروط القبول في عضوية الأممية الثالثة. ويمكن في هذا الصدد إيراد مثال آخر بهذا الصدد: بذل الشيوعيون المصريون محاولات فاشلة للاحتفاظ باسم حزبهم القديم, الحزب الاشتراكي, وعدم تبديله إلى الحزب الشيوعي بحجة واقعية هي أن تبديله بالشيوعي لا يلائم البلد. بيد أن الكومنترن أصر على أن الانتماء إلى الأممية لا يمكن أن يتم إلا بحمل أسم "الحزب الشيوعي المصري". واضطر الحزب المصري على تبديل اسمه وقبل بعدها في الأممية الثالثة. وكان هذا الشرط يرتبط بالرغبة في التمايز عن أحزاب الأممية الثانية, أي أحزاب الاشتراكية الديمقراطية . ثم أضيف إليها شرط الاسم في زمن ستالين في الممارسة العملية.
لم يكن موقفي من الحرب غامضاً, بل كان صريحاً واضحاً, كما لم يكن لدي أي وهم بأهداف الولايات المتحدة الأمريكية وبالتحالف الأمريكي - البريطاني من خوض الحرب في العراق, إذ كنت أتحدث بأن الحرب إن وقعت ينبغي أن نحسب لاحتلال طويل الأمد سيتعرض له العراق. علماً بأني كنت أدرك أيضاً بأن العراق قد فقد استقلاله وسيادته الوطن منذ سنوات طويلة بسبب سياسات وحروب النظام والوضع الذي نشأ على نحو خاص بعد حرب الخليج الثانية. ولكن أصبح هذا الأمر من تراث الماضي القريب, إذ نقف اليوم أمام وضع جديد يتطلب من الحركة الوطنية العراقية أن تتخذ مواقف تخدم أهداف المجتمع العراقي. واعتقد بأن إزالة نظام صدام حسين مكسباً كبيراً جداً ينبغي أن لا يضيع في خضم الصراعات الراهنة أولاً, بغض النظر عن مواقفنا السابقة إزاء الحرب. ولهذا أرى ما يلي:
إن الاحتلال وقع فعلياً مع بدء الحرب بغض النظر عن الوعود التي قطعتها الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها بأنها جاءت محررة وليست محتلة, إذ أن الجنرال مود قالها عام 1917 أيضاً. ونحن كنا نعرف النتيجة مسبقاً وقلناها بصوت مرتفع. وصدر أخيراً قرار مجلس الأمن الدولي بالموافقة على الاحتلال القائم فعلاً لتحميله مسؤولية ما يجري في العراق, ولكنه وفق إرادة المحتلين الجدد أنفسهم. ويفترض أن نناضل في ظل هذا الوضع من أجل تحقيق ما يلي:
• منع قوى النظام المقبور من العودة إلى الساحة السياسية العراقية بأية صيغة أو تسمية جديدة, وبكل بكل الإمكانيات المتوفرة, بما في ذلك دور السلطة المسؤولة عن ضمان الأمن في العراق وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483. لقد كانت معركة الشعب في العراق خلال عقود مع الفاشية السياسية والعنصرية والذهنية العسكرية والعدوانية التوسعية, وينبغي أن نمنع هؤلاء من العودة على الحكم, بل يفترض تحريم نشاط هؤلاء وتربية الجماهير بمفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ... الخ.
• يفترض خوض النضال من أجل حياة ديمقراطية حرة حتى في ظل الاحتلال, ومن لا يناضل من أجل ذلك, بحجة أن المحتلين لا يمنحوننا الحرية والديمقراطية يرتكب خطأً فادحاً ويلحق ضرراً أفدح بالحركة الوطنية العراقية, إذ من غير المعقول أن لا نناضل في سبيل انتزاع هذه الحرية والديمقراطية حتى في ظل الاحتلال, ولهذا طالبت برفض الدعوة المحتملة بالعمل بصورة سرية بأي حال, إذ أن كل الظروف متوفرة لذلك, وبالرغم من الاحتلال. ينبغي علينا أن لا نفكر بالعمل السري بأي حال وعلينا أن نناضل مع بقية القوى السياسية العراقية من أجل منع تطور الوضع بهذا الاتجاه. ومثل هذا الاتجاه هو الذي يستحق تقديم التضحيات أيضاً.
• النضال في سبيل إعادة الحياة للخدمات العامة وتوفير كل ما هو ضروري للشعب العراقي, سواء أكان طحيناً للأفران أو مياهاً للشرب أو الكهرباء للبيوت والمعامل والمحلات أو الخدمات الطبية أو النقل أو التعليم في المدارس المختلفة وإعادة إصلاح المدارس .... الخ.
• وهذا لا يتم بصورة عفوية, بل يفترض النضال من أجل إقامة حكومة عراقية تتمتع بالحرية والقدرة على تحقيق المهمات المطلوبة منها, والتي تشترط بدورها مؤتمراً عاماً لكل القوى الفاعلة في الحياة السياسية العراقية, وهي التي تقع على عاتقها مسؤولية اختيار أعضاء الحكومة المنشودة والمؤقتة إلى حين وضع الدستور وإجراء الانتخابات ... الخ.
• وكل هذه المهمات لا تنفصل بأي حال عن مهمة النضال من أجل إنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية. إلا أن المطالبة بإنهاء الاحتلال دون أن تكون هناك حكومة عراقية مؤقتة وبهذه الفوضى الراهنة وهذا العمل المنظم لقوى صدام حسين ستقود إلى ما لا تحمد عقباه, إذ أن قوى نظام صدام ما تزال تمتلك ما يكفي من القوى لإثارة المشكلات وتعقيد الأمور ونسف إعادة الإعمار في محاولة يائسة لتوفير مستلزمات العودة إلى الحكم, أو أن قوى ظلامية متطرفة أخرى يمكنها أن تقفز إلى السلطة في وقت ما تزال القوى السياسية العراقية لم تجد القواسم المشتركة الضرورية في ما بينها. خطب قبل أيام الشيخ مكي الكبيسي, أحد أئمة الجوامع, في جامع في الفلوجة محفزاً الناس على المقاومة ورفض الشعارات التي ترفع من جانب أمريكا وغيرها من القوى العلمانية, بصدد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, والتي لم يذكرها بالاسم, بل أشار إلى انتشار الصور الخلاعية, وكأن الناس أو الأمريكان مهتمون بنشر الصور الخلاعية في هذا الظرف الحرج من حياة العراق والعراقيات والعراقيين, وهو الذي لم ينطق بكلمة واحدة ضد الجرائم البشعة التي ارتكبها قائده الدكتاتور صدام حسين وزمرته والتي نجدها في المقابر الجماعية التي تكتشف كل يوم, وهو الذي سكت عن مجازر الأنفال بجواره في كردستان العراق أو مجزرة الكيماوي في حلبجة, وهو الذي سكت عن ذبح الانتفاضة عام 1991 وتجفيف الأهوار وتهجير الأكراد الفيلية وعرب الوسط والجنوب, وهو الذي سبح بحمد الدكتاتور وأثنى عليه وعلى عطاياه إليه, وهو الذي يتمنى عودة صدام حسين ورهطه إلى السلطة ثانية, وهو الذي يدعو أهل الفلوجة إلى رفع الشعارات المضادة وتنظيم المقاومة باسم ضد الاحتلال وفي قلبه وعقله أمراً أخر لا غير, عودة النظام السابق وجلاوزته إلى الحكم.
• إن علينا أن ننتبه لمواقع أقدامنا, وسندفع بالاحتلال قطعاً إلى الخروج من بلادنا, ولكن أثناء ذلك وفي مجرى النضال من أجله, علينا التركيز أيضاً على شؤون الناس ومستقبل الوطن. أتمنى أن نكون واقعيين ونعمل في ضوء ما نراه سليماً وليس من باب الأحلام أو كسب التأييد القصير النظر.
كم هو بعيد عن الواقعية وبعيد عن فهم العوامل المحركة لي عند طرح مفهوم ومضمون وحدة اليسار العراقي, عندما يعتقد البعض بأني أقف إلى جانب الاحتلال أو أتوقع أن المحتلين يمنحوننا الديمقراطية. وكم هو بعيد عن الواقع من يعتقد بأني أثق حقاً بأن هؤلاء جاءوا محررين لا محتلين وأنهم لم يأتوا من أجل النفط والموقع الإستراتيجي للعراق والهيمنة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط...الخ. أنجزت كتاباً في طريقه إلى الصدور يبحث في "العولمة من منظر مختلف", وبالتالي ستجد القارئة وسيجد القارئ بأن دعوتي لوحدة اليسار الديمقراطي تنطلق من التوقعات الجديدة باشتداد عملية الاستغلال لشعوب البلدان النامية وشعوب البلدان الرأسمالية المتطورة من جانب الرأسمال العالمي, وخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية, وبالتالي نحن جميعاً وفي كل بلد وعلى الصعيد العالمي نحتاج إلى صيغ وأدوات ورؤية جديدة لعالمنا الجديد الذي تجد الرأسمالية نفسها بأنها بغير حاجة إلى المساومة في بلدانها مع الطبقة العاملة ومع النقابات, وبالتالي تشدد من درجة الاستغلال وترفع من مستوى القهر الاجتماعي وتدفع بالديمقراطية في بلدانها إلى أزمة متفاقمة, مما سيدفع بالنضال الوطني في بلداننا والطبقي على الصعيد العالمي إلى آفاق جديدة. التاريخ لا يعيد نفسه, ولكنه يطرح مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية تتطلب قوى وأساليب وأدوات جديدة ورؤية أكثر حداثة ووعياً للمستقبل. ولا أشك بوجود عشرات بل مئات الآلاف والملايين من الناس الذين يفكرون بهذه الصورة أو أفضل منها, ولكن هذا لا يعني غياب من لا يفكر بهذه الصورة, بل الحوار ذاته يكشف عن ذلك, رغم الادعاء بغير ذلك.
يحاول البعض مشكوراً أن يقدم توضيحات لي عما جرى ويجري في صفوف الحزب الشيوعي العراق. لم يكن هدفي وضع حياة الحزب الشيوعي الداخلية موضع حوار, إذ كان الهدف أوسع من ذلك. ومع ذلك يفترض أن أشير إلى أني عارف تماماً ومدرك حقاً لما جرى ويجري في الحزب الشيوعي العراقي, وهي مسألة طبيعية, فأنا لست بعيداً عن الأحداث السياسية في العراق أو في الأحزاب السياسية وأتابع قدر الإمكان ما يجري. ولهذا السبب أدرك بأن ما جرى ويجري جيداً, ولكنه ما يزال بعيداً عن الطموح على مختلف المستويات. والحوار الذي دار معي حتى الآن, رغم أنه لا يحسب وينبغي أن لا يحسب على الحزب الشيوعي العراقي, ولست غريباً عنه, يدلل بجلاء كبير على الكثير من الأمور التي كنت أتوقعها, إضافة إلى ضيق الصدر.
لست معنياً بتشكيل حزب سياسي يساري ديمقراطي, ولست معنياً بأي مركز حزبي في أي حزب قائم أو سيقوم لاحقاً, ولكني معني تماماً بما يجري في حركة اليسار الديمقراطي, وما يجري في الحزب الشيوعي العراقي وما يجري في سائر أحزاب الحركة الوطنية العراقية. كما أني كمواطن أمتلك الحق في طرح وجهات نظري للحوار, فأن أصبت فهو أمر مفيد, وأن أخطأت فحسبي أني حاولت الاجتهاد.
إن الحوار الذي ما يزال ضعيفاً حول هذا الموضوع الحيوي سيتسع يوماً, ومجرى الحياة ستفرض علينا ذلك, هذا ما أراه وأرجو أن لا أكون مخطئاًً
برلين في 10/06/2003