سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1759 - 2006 / 12 / 9 - 10:30
المحور:
ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن
اجتثاث البعث في التطبيق
إن دراسة صيغتي حل واجتثاث حزب البعث وتتبع مراحل تنفيذهما تاريخيا, بقليل من التمعن, تكشف للمرء أمرا على غاية الغرابة, هو خلو هاتين الصيغتين من أي محتوى وأساس واقعي, رغم طابعهما المثير للجدل, ورغم ما تضمنتاه من إشارات جذرية متطرفة أسهمت في صياغة جزء حيوي من البناء النظري والدعائي, الذي تحركت به وعليه عجلات كيانات سياسية وأجهزة سلطوية عديدة. بعض هذه القوى ادعى تبنيه صيغ الحل والاجتثاث, والبعض الآخر تظاهر برفض تلك الصيغ, ومنها ما تأرجح بين السكوت على الإجتثاث عند توليه الحكم والوقوف ضده بعد خسارة موقعه الحكومي. وبين لعبة التهديد بتنفيذ الصيغتين من قبل من تبنوهما, ولعبة الإحساس بالخطر من قبل القوى التي تظاهرت برفضهما, ظهرت علامات استفهام عميقة تشكك في الأهداف الحقيقية الكامنة وراء ظهور هاتين الصيغتين.
ليس من اليسير تحريم حزي سياسي, كحزب البعث العراقي, حكم لمدة تزيد على ثلاثة عقود, وبلغ عدد منتسبيه ما يقرب من مليوني عضو, أي ما يقرب من خمس عدد البالغين من العراقيين العرب, وما يقرب من نصف عدد الرجال البالغين على أقل تقدير. فهذا الحزب تغلغل عميقا في كيان مؤسسات الدولة والمجتمع وجعلها أداة طيعة بيديه. لذلك فإن مواجهة تركة هذا الحزب تقتضي القيام بإصلاحات بنيوية عميقة, طويلة الأمد. أي تتطلب إعادة تأهيل سياسية واجتماعية وثقافية شاملة, تخص الحزب نفسه و المجتمع والدولة, بما في ذلك القوى الجديدة, الحاكمة. ما الذي تحقق من ذلك حتى الآن؟ وما الذي تحقق في الجانب الثقافي, بشقيه النظري والتطبيقي؟
المراجعة الثقافية بين النظرية والتطبيق
إن وجود إرادة أجنبيّة تقرر منفردة, وتعبث بواقع الحياة كيفما تشاء, لم يعقد ويؤخر ظهور البديل الثقافي فحسب, بل أسهم أيضا في تقوية عناصر الضعف في الجسد الثقافي, وألحق أذى بالغا بصورة البديل الديموقراطي المرتقب. إن تدخل المحتلين المباشر في صناعة القرار السياسي فر ّغ مبادئ الاستقلال والديموقراطية والحرية من محتواها, وأعاد إحياء بنى ثقافية كانت خاملة لزمن طويل كالطائفية والعشائرية والمناطقية والنزعات العرقية والتكفيرية, وأشاع القسوة والتعذيب وخرق المبادئ الأخلاقية والقانونية الأساسية للمواطن باسم ديموقراطية لم يقتنع أحد بصدقها. إضافة الى ذلك فقد تخبطت سياسة المستعمرين تخبطا مثيرا للدهشة في مسألة مواجهة تركة النظام السابق. فمؤسسة العنف البعثي لم تندحر بعد, وإنما تمزقت أوصالها ولم تمت. لقد تشظى عنف المؤسسة البعثية وتناثرت أجزاؤه حيّة وفاعلة, ثم راحت تتكاثف وتنتظم هنا وهناك, لدى هذا الفريق أو ذاك. إن ما حدث هو إعادة توزيع لمكونات الديكتاتورية. أي تحاصص الجسد الظالم, وتفريقه بالعدل على الطوائف والقوى الجشعة, المتخاصمة.
أول إجراء واجهه البعثيون عقب سقوط نظام الحكم هو قرار حل البعث, الذي جاء بأمر من قوات أجنبية, واتخذ صيغة شاذة قانونيا: الحل, وليس التحريم. إن القوات الأجنبية (الاحتلال) لا تملك سلطة قانونية تمنحها حق حل حزب عراقي, حتى لو كان حزبا ظالما, ولا تستطيع تحقيق ذلك عمليا في الواقع. لأن الأحزاب لا تحل بقرارات من خارجها, ولن يكون حلها فعالا ونافعا سياسيا واجتماعيا قبل أن تتم محاكمة التجربة وطنيا, والإتفاق على قرار شعبي وقانوني بشأنها, والأهم الاتفاق وطنيا على إيجاد صيغ عملية لتعطيل فعالية الفكر الذي يستند عليه هذا الحزب. وكل ذلك لم يحدث, لأن قرار الحل كان مستوردا, ولم يتم من خلال مشروع ثقافي وطني ينبع من خبرات العراقيين. إن الحل, وليس التحريم, هو ما أثار تساؤلات المتأملين في الوضع العراقي ولفت أنظارهم. فالحل يعني إعادة توزيع الأعضاء الحزبيين على الكيانات السياسية الجديدة, وهو ما يتماشى مع خطط الاحتلال بعيدة المدى ومع مشاريع بعض القوى التي ساندت الاحتلال, إضافة الى القوى التي لبست ثوب المعارضة كورقة ضغط سياسية وعسكرية لتقاسم السلطة. فقد تمت إعادة إنتاج الحزب, وتُرك جزء منه يعمل في الخفاء والعلن. وهو فعل يوازي في خطورته جريمة حل الجيش العراقي, وجريمة تبديد أسلحة الجيش العراقي, اللتين كونتا الأساس العملي لظاهرة العنف في العراق. لذلك فإن حل حزب البعث, بقرار خارجي, أسهم ثقافيا في وراثة أساليبه والكثير من أسسه النظرية وسلوكه من قبل من جاءوا بعده الى الحكم. وفي المجال الثقافي أسهم هذا الحل في نشوء ظاهرة تزييف التاريخ وظاهرة فوضى القيم واختلاطها. لقد بعثرت السياسة الثقافية الأميركية أجزاء الجسد الثقافي البعثي, لكنها لم تقض عليه, بل قامت بإعادة تحاصصه وتفريقه على القبائل السياسية, كغنيمة, وتسليم ملكيته الى ورثة جدد.
ورثة نهمون وقمّامون ثقافيون!
لقد تم تصميم قراري حل البعث و اجتثاث البعث, وفق مقاسات حلفاء الاحتلال الأساسيين: علاوي والجلبي بدرجة أولى والطالباني والقيادات الكردية بدرجة ثانية. فقد أفاد الجلبي من الجانب الدعائي, المظهري, لعملية الإجتثاث وما تضمنته الكلمة من معنى ثأري, استخدمه في كسب تعاطف بعض شرائح المجتمع العراقي, وأعني بهم الشيعة, الذين أثبتوا أنهم لا يمحضون الجلبي أدنى قدر من الثقة. لكنه أفاد من قرار الحل كورقة طعن مبطن موجهة الى منافسه الأكبر, البعثي السابق, علاوي, وورقة ابتزاز نفسي للبعثيين السابقين المنافسين المنضوين تحت قيادة قائمة الائتلاف وقيادة تنظيمه الحزبي الخاص: عادل عبد المهدي ومثال الآلوسي (حينما كان جزءا من حزب الجلبي) أو المحسوبين( ثقافيا) على البعث سابقا من حزب الفضيلة (نديم الجابري). أما علاوي فلم يكترث للمغزى اللغوي للكلمة, وترك مهمة الاستمتاع واللهو بها, لخصمه التقليدي وشريكه السابق الجلبي. لكنه أفاد من حدود القانون العملية, التي شملت درجات محددة من مراتب البعث. فقانون حل البعث منح علاوي, بجرة قلم, آلاف الخلايا والمنظمات الحزبية الجاهزة, تمكن بها من استكمال بناء تنظيمه وإعادة هيكلته, مبعدا رفاق الخارج, الذين ناضلوا معه لسنوات طويلة, معتمدا على ما شرعه وجوزه قانون إجتثاث البعث. وبعد أن تم استيعاب ما سمح به القانون, وبالتزامن مع ظهور خلافات الجلبي مع الحليف الأميركي, صعّد علاوي سقف التجوّز فجعله يشمل قيادات ومراتب حزبية أعلى, رفدت تنظيمه بأعداد جديدة من الكوادر الحزبية المتمرسة والخبيرة, ممن تفوق مراكزهم التنظيمية والوظيفية السقف الذي حدده قانون اجتثاث البعث. وفي موجة الصراع الأخيرة صعّد علاوي مجددا موقفه داعيا بصراحة تامة الى إلغاء القانون, الذي لم يقم هو بإلغائه حينما كان رئيسا للحكومة العراقية! ففي مايو 2006 اكتشف إياد علاوي الحقيقة التالية " ان اجتثاث البعث عملية سياسية سيئة باتت سيفا مسلطا على رقاب العراقيين لتصفية الخصوم السياسيين", وانطلاقا من وطنيته وعراقيته قال: " لقد جاهرنا بهذا الامر وفي احاديثي وخاصة الاخيرة مع القادة الاوروبيين والبريطانيين تحديداً والقادة الامريكيين طلبت من هؤلاء القادة التبني الواضح والصريح لهذا الامر والضغط على حكومة بغداد بهذا الاتجاه ".
وقد حذت حذو علاوي في الإفادة من خدمات البعثيين أحزاب وكتل وجماعات عديدة, مستفيدة من خبرات ومهارات الأجهزة البعثية, العاملة في مجال الأمن والمخابرات خاصة. وكان للأميركيين حصة الأسد من جهاز الأمن الخارجي والمخابرات ومن بعض الأجهزة المرتبطة بوزارات الداخلية والخارجية والدفاع والنفط. وهنا, لا بد أن نشير الى أن وزارتي النفط والخارجية قد أعدّتا هيكليا, بشكل جنيني, قبل الاحتلال, وتكونت مؤسسات موازية لمؤسسات صدام تحت إدارة أميركية. ووصلت الأمور حدودا متطورة عمليا في وزارة النفط, حينما تشكلت إدارة أميركية للنفط العراقي انتقلت الى العمل ميدانيا على الأراضي الكويتية. ولهذا السبب قامت القوات الأميركية بحماية وزارة النفط من أعمال النهب, لأنها لم تكن مشمولة بخطة الفرهود, فهي وزارة أميركية, في نظر القيادة الأميركية. أما الضباط العراقيون , المنشقون, الذين انضموا طوعا الى المشروع الأميركي, فقد أخفقوا في حمل الأميركيين على خلق تكتل أو إطار عسكري يشكل نواة قيادة عسكرية قادمة, رغم ظهور تكهنات تحدثت عن اسماء عديدة, مرشحة لتولي مناصب عليا في الجيش القادم, كنجيب الصالحي وتوفيق الياسري وغيرهما. إلا أن الواقع أثبت أن الأميركان اكتفوا من الضباط العراقيين الكبار بدور الوشاة فحسب.
وقد لعبت القوى السياسية الصغيرة والهامشية دور القمّام الثقافي والسياسي, فراحت تقوم بعملية اصطياد للفرائس الصغيرة والعاجزة سياسيا وثقافيا, راضية بما تخلفه الكواسر وراءها. وقد ظهر هذا الميل بدرجة كبيرة في صفوف الشيوعيين. فإذا كان زعيم الكتلة العراقية, البعثي السابق علاوي, قد جذب اليه المراتب العليا من البعثيين, فإنه ترك لحلفائه هامشا صغيرا, تمكنوا فيه من جذب أعداد ممن لعبوا دور الوشاة والمخبرين وأشباه البعثيين في زمن صدام. وهم الفئة الأكثر خطرا ثقافيا وإنسانيا, بحكم طبيعتهم الارتزاقية وتلوث ضمائرها واستعدادها الدائم لإداء دور الخادم, الذليل, المتباكي, ولكن الفاسد والغادر. وهذه الشريحة أكثر حضورا من غيرها في المجال الثقافي.
وشيئا فشيئا تمت إعادة من أقصي من أجهزة التربية والإعلام والخدمات والشرطة والجيش الى وظائفهم. ثم توسع حيز تواجد عناصر الحزب في الأجهزة الإعلامية المختلفة. وبذلك عاد جزء كبير من منتسبي الحزب الى كيان الدولة الجديدة والى الواجهات الإعلامية والعسكرية والأمنية, وانخرط جزء كبير منهم في إطار القوى السياسية الحاكمة أو الموالية أو المعارضة.
لو قدر لنا أن نستخدم التعبير السينمائي الأوروبي " منظور الطير" لوصف المشهد العراقي الراهن, لعثرنا في محاكمة صدام حسين على صورة ناطقة تلخص على نحو واف عملية التحاصص السياسي والثقافي. ففي القفص يجلس صدام البعثي, والى جواره يجلس محاميه البعثي. وفي قاعدة السيلية يجلس رئيس هيئة المحكمة الجنائية العليا الخاصة بمحاكمة صدام القاضي رائد جوحي البعثي, وأمام القفص يجلس قاضي المحكمة محمد العريبي البعثي, والى يساره ويمينة يجلس رئيس ونائب رئيس الادعاء العام, ممثلا الشعب, البعثيان, وفق ادعاء الطاغية وهو في القفص. ومن الخارج, تحيط بقاعة المحكمة, عناصر من فيلق بدر وقوات البيشمركة في ثياب القوات العراقية! أما في السماء المواجهة للقاعة فتحوم طائرات الأباتشي!
هذا ملخص مفيد لما يعرف بالعراق الجديد.
الاجتثاث في المجال الثقافي
على الصعيد الثقافي جرت محاولات فوقية لتحديد صفة البعث القانونية في المجتمع. لكنها لم تأخذ طابعا معمقا إجتماعيا وفكريا, ولبثت معزولة, تصدر كردود أفعال, تطفو وتغطس, تبعا لتبدل الأحداث وتقلب الأحوال.
ولغرض إماطة اللثام عن بعض إشكالات الاجتثاث, سنتوقف عند جهود ثقافية نظرية مستقاة من الواقع تتعلق بالصياغة الدستورية لموضوع تطهير المجتمع من البعث. كما سنقوم بتحليل بعض الترجمات التطبيقية لتلك المفاهيم لنتعرف من خلالها على سبل التعامل الواقعية مع البعث كظاهرة ثقافية, والالتباسات العميقة التي اكتنفت هذه المهمة الغامضة.
من أبرز الإضافات التي تم إحداثها في الدستور الجديد, هي التغيير في تحديد هوية حزب البعث. فمنذ وقت مبكر ظهرت صيغة "النظام الصدامي", التي أريد بها تجزئة تجربة الحكم البعثية, وتمييز حقبة من حقب نظام الحكم البعثي في العراق. وقد ظهرت هذه الصيغة لإرضاء مشاعر القوى التي تحالفت لفترات مختلفة مع البعث في إدارة السلطة. وبعد سقوط "النظام الصدامي", ظهرت صيغة سياسية جديدة, لم تكن متداولة دستوريا من قبل اسمها " البعث الصدامي", كنوع من التمايز في إطار البعث كحزب وليس في إطار السلطة. كما أن صيغة زمنية ظهرت في وثائق مجلس الحكم, قدرت بعشر سنوات, فرقت بين طبقتين من البعثيين, لغرض ايجاد تمايز بين البعثي المؤهل للمشاركة في الحكم والبعثي المستبعد من المشاركة. وعلى الرغم من أن هذه الصيغة رسمت بعناية من قبل بعض أطراف المعارضة المشاركة في السلطة لغرض تبرير وجود أعضائها قانونيا, إلا أن هذه الصيغة ظلت شكلية. فهي صيغة زمنية, لا تمس طبيعة البعثي كعضو في كيان حزبي محدد ايديولوجيا وسياسيا, وإنما تقيس مدة تخليه عن الولاء الحزبي للتنظيم البعثي الحكومي. وبظهور الدستور الجديد ظهرت صيغة " البعث الصدامي", كعنصر جديد للتمايز, يطابق عملية الفرز السياسي في إطار الكتل المتصارعة المكونة للسلطة الحاكمة أو الساعية الى الدخول فيها. والتعريف الجديد يحمل قدرا من التصنيف النوعي, فهو يخص البعثي, الملتزم بمنهج صدام حسين فحسب.
ولغرض تتبع المسار الدستوري لصياغة الأفكار المتعلقة بتحديد صفة البعث, يتوجب التوقف عند إسهامات الشخص الذي ينسب الى نفسه مهمة صياغة الفقرات المتعلقة بالاجتثاث في مسودة الدستور العراقي, وأعني به د. منذر الفضل. فالفضل يعترض على صيغة الاجتثاث النهائية القائلة باجتثاث فكر " البعث الصدامي". فهو يرى أن هذه الصيغة قيّدت فكرته الأساسية, التي "حظيت بإجماع كبير في المجلس الوطني العراقي ", والقاضية بـ " تطهير العراق من فكر البعث" عامة, لأنها الصيغة الأصح. إذ "لا يوجد بعث صدامي أي منسوب الى صدام وبعث غير صدامي اي غير منسوب الى صدام". بيد أن هذا التطرف في صيغة تطهير البعث سرعان ما يفقد تماسكه, حينما نعثر, في حجج الفضل السياسية, على عدد كبير من الاستثناءات البعثية, تُخرِج شرائح بعثية واسعة من عملية التطهير, وتجعل من رفض عبارة" البعث الصدامي" موضع شك أكيد. كما أن حصر المعالجة بـ "فكر" البعث, من دون توضيح حدوده القانونية عند التطبيق العملي, يضيف غموضا جديدا الى الموضوع. حجج الفضل ومناقشاته, التي صيغت بأسلوب بيّن الركاكة ومنطق أميل الى السطحية, تقلل الى حد كبير من قيمته "كخبير" دستوري ومشرّع, وتعمق الشك في نوايا من دفع به الى الواجهة, وتضع علامات استفهام جدية على مستوى ومحتوى التشريع في العهد الجديد. كان الفضل ناطقا رسميا يعبر عن فكر الفئات القومية الشوفينية الكردية كمقابل ومعادل للنزعة الشوفينية العربية. وقد انعكس هذا التناقض والالتباس على بعض فقرات الدستور, التي أقرت تجريم الفكر الشوفيني العربي, "الصدامي" خاصة, متجاهلة أن هذا الفكر موجود بالقوة ذاتها, وبما يفوقها خطورة على وحدة الوطن, لدى شرائح سياسية عديدة من المجتمع الكردي, ولدى قوميات أخرى كالتركمان وغيرهم. وبناء على ذلك, فقد يرى البعض أن صيغة التشدد ضد البعث يراد بها التستر على النهج الشوفيني لقوميات معينة. وهذا مطعن أساسي في توجهات الدستور الوطنية, ومصدر خلل وخطر كبير فيه. إن تلك الأفكار التشريعية والدستورية تعبرعن الوجه النظري للثقافة البديلة, ثقافة مرحلة القلق السياسي والفكري المرافقة للاحتلال, والتي يرى فيها كثيرون حاضنة طبيعية ممهدة لمشاريع تقسيم الوطن.
إن قومية وعرقية هذه المفاهيم, التي ظلت مستترة طوال الفترات السابقة, أخذت بالبروز السافر خطوة خطوة مع تعقد عمليات بناء سلطة الدولة القائمة على المحاصصة والعنف. إن العبارات العرقية المغلفة التي تتعلق بالوحدة الوطنية في مناقشات الدستور, لم تكن سوى تعبيرات عرقية مموهة. ففي يوم 10 أب 2006 صرح مسعود البارزاني الى إذاعة صوت أمريكا الناطقة باللغة الكوردية قائلا: "إن أمام العراق ثلاثة خيارات فقط هي: التقسيم، او الفيدرالية او الكونفيدرالية، مؤكدا ان حكومة مركزية قوية لن تقوم في العراق بعد الآن", وقد تلقف الآيديولوجيون القوميون هذا التصريح وراحوا ينسجون أفكارهم الانفضالية العلنية على هديه. وقد اهتبل د. منذر الفضل ذلك التصريح ليعجل بنشر أفكاره, قائلا, لمن فاته الاطلاع على آرائه الانفصالية: " نعيد نشر مقالنا الذي سبق ان كتبناه قبل 7 شهور حول موقفنا من مستقبل العراق حيث طرحنا صراحه فكرة تقسيم العراق طبقا للدستور العراقي وقواعد القانون الدولي وحقوق الشعوب في تقرير المصير كحل لتجنب المزيد من إراقة الدماء بين العراقيين وايقاف الحرب الاهلية القائمة حاليا التي تؤكدها المصادر الرسمية لصناع القرار في واشنطن ". (صوت العراق 12-8- 2006 ). إن هذه الأفكار تخرج صاحبها من حدود الحيادية الدستورية. فكيف يمكن لمثل هذه الآيديولوجيا العرقية الانفصالية أن تصوغ دستورا وطنيا؟
أما السياسي الكردي محمود عثمان فيوضح هذا الإشكال القومي بطريقته الخاصة قائلا: " الكورد ليسوا طرفا في النزاع الدائر في العراق حاليا ولا توجد اية مشكلة للطرف الكردي مع اية جهة في العراق داعيا الاطراف العربية "سنة وشيعة" الى حل مشاكلهم العالقة"(صوت العراق23-6-2006). وعند تقييم مفاهيم محمود عثمان, يجد المرء نفسه واقفا أمام سياسي لا يدرك أن المصالحة ليست قضية قومية, بل هي قضية وطنية, وبالتالي فإن تصفية آثار البعث مسؤولية وطنية عامة, وليست مشكلة هذه القومية أو تلك. هذه الشواهد الصريحة مجرد شذرات, تؤكد أمرا واحدا: غياب المشروع الوطني العراقي غيابا مطلقا عن ذهن القادة والمشرعين.
لم تظهر إسهامات نظرية جدية كثيرة تتعلق بالموقف من البعث. وحتى الممارسات الايجابية الشحيحة, التي قامت بها بعض الجماعات السياسية لمناقشة الدستور لم تتوقف مليا عند قضية البعث, على الرغم من أن البعث هو جوهر المشكلة السياسية في العراق. ومن الأمثلة على ذلك الإسهام النظري الذي قامت به بعض الجماعات الثقافية العراقية قبل صدور الدستور العراقي. ففي لندن عقدت ندوة لمناقشة الدستور, دعيت اليها فئة محددة من العاملين في الثقافة والسياسة. وعلى الرغم من الطابع الموجه والآني والدعائي لهذا النشاط, إلا أنه كان نشاطا لا يخلو من فائدة. وفي بغداد عقدت "جمعية الثقافة للجميع" حلقات بحث لمناقشة مسودة الدستور العراقي الدائم. وما قامت به "جمعية الثقافة للجميع" اعتبره البعض إسهاما نظريا يستحق الثناء, ظهر في ظرف سياسي وأمني بالغ الصعوبة. ولكن رغم ذلك لم يحظ موضوع البعث باهتمام خاص معمق من قبل المناقشين. فلم نعثر إلا على إشارات عن حزب البعث المنحل, إضافة الى ملاحظات عابرة جاءت في ثنايا المداخلة المعنونة بـ " مشروع الدستور العراقي" للدكتور خضر عباس عطوان, الذي ذكر قضية الاجتثاث باعتبارها إحدى القضايا الخلافية المؤجلة وعلل سبب التأجيل تعليلا صائبا. وكل ذلك يؤكد شحوب موضوع البعث في عقل القائمين على شؤون الثقافة والسياسة. ربما لأنهم, جميعا, اكتفوا بسقوط النظام وحل الحزب, من دون أن يضعوا في حساباتهم أن سقوط البعث هو فاتحة الهزة الاجتماعية وليس خاتمتها.
وإذا تركنا منذر الفضل والسياسيين الكرد ومناقشي الدستور, نعثر في سلوك الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق على النسخة التطبيقية للمشروع الثقافي البديل. فالاتحاد هو أول مؤسسة ثقافية غير حكومية نشأت عقب سقوط النظام الديكتاتوري, لذلك يمكن لنا أن نتحاور معه باعتباره شخصية اعتبارية عامة, وأن نجد في مواقفه, ما يجيز لنا, ويُمكننا من استكمال رسم صورة الواقع الثقافي الجديد وإشكالاته العقلية. يقول أمين عام الاتحاد الشاعر الفريد سمعان, في جواب له, نُشر في صحيفة الصباح في 22 فبراير 2006 , حدد فيه موقفه وموقف قيادة الاتحاد من الأدباء البعثيين: " أنا استغرب واتحدى واسألوا الأدباء البعثيين والمؤيدين للنظام السابق والمتورطين وسواهم هل حاسبنا أحدا على انتمائه السياسي.. هل ذكرنا أحدا بما فعل؟ أم كنا ديمقراطيين أكثر من الديمقراطية وأغمضنا العيون عن قصائدهم ومدائحهم ومواقفهم وتغاضينا عنها بشكل أو بآخر ونحن مع الطيبة والتراجع عن الخطأ وسبحان من لا يخطئ". نظرية "ديموقراطيين أكثر من الديمقراطية", و"إغماض الأعين" قابلها في الواقع العملي تحاصص ثقافي غريب ومريب. فقد منع الاتحاد تأبين أحد الوجوه الثقافية المعروفة الشاعر يوسف الصائغ. ولم يكن الصائغ برتبة عضو شعبة أو بدرجة وزير. لكن قيادة الاتحاد حرّمت عليه تأبينا يليق بميت, ورفضت التعامل مع محاوريها إلا على طريقة " قميص عثمان". حقا, كان هناك من رفع قميص يوسف الصائغ كذريعة يستر بها مواقفه السابقة. بيد أن قيادة الاتحاد أصرت على تقمص دور عمرو بن العاص, وهذا موقف يتناقض مع مبدأ " ديموقراطيين أكثر من الديموقراطية", الذي نادى به أمين عام الاتحاد نفسه. هذه الحادثة الصغيرة, ذات الدلالات الكبيرة, وغيرها دفعت البعض الى التشكيك في مقدرة المثقفين الرسميين,على تخطي سلبيات الواقع السياسي. فكما أن طريقة حل حزب البعث المريبة أثارت شكوكا حول حقيقة الحل, فإن تطرف قيادة الاتحاد في معاداة ميت أثارت شكوكا مماثلة. لماذا جرى الهجوم على الصائغ, بهذا الحدّة, بعد موته, وليس قبله؟ إنه السبب عينه الذي أوردناه سابقا عن تحاصص الجسد البعثي. فقد كان بعضهم يأمل, حتى اللحظات الأخيرة, أن "يثوب الى رشده بعد غي", ويعود الى الحظيرة, لكي يتوج شاعرا للجماهير المغبونة, أسوة بغيره من كتاب الحماسيات الصدامية, الذين تحولوا بطرفة عين الى شعراء ديموقراطيين من شعراء العراق الجديد. أما الخرافة التي أشيعت عن الصائغ, القائلة بأنه لم يكتب مراجعة ولو باهتة, فهي فريّة, لا تقل سوءا عن تحاصص جسده حزبيا. فقد نشرت صحيفة الزمان العراقية عددا من المقالات باسم الصائغ لا تخلو من نقد خجول, كان من الممكن للجدل الخلاق أن يدفع بها الى ما هو أعمق, ويقودها الى مسارات أبعد. بيد أن ذلك لم يحدث. فهناك دائما من يتولى مهمات إغلاق الطرق. هنالك قطاع طرق سياسية وثقافية, وحتى جنائزية. فلم يكن ما عرضه الصائغ كافيا لعودة الإبن الضال. إنه تقاسم علني للجسد البعثي. لقد خاض الاتحاد معارك أخرى مماثلة, أظهر فيها ضيق نفس, وضعف مقدرة على إدارة صراع ثقافي معقد, يفرض على قادته الخروج من تقاطبات التحاصص السياسي, وامتلاك لغة عميقة, جديدة في مضمونها وفي سبل تعاملها مع المتغيرات الثقافية الحادة, في وطن يتناهشه الأعداء من الداخل والخارج, وتسوده لغة الدم والوشاية والثأر والمحاصصات النفعية. إن مواجهة الفكر البعثي بالفكر الشمولي, والفكر القومي العربي بالفكر الشوفيني الكردي, ومركزية الدولة بمركزية الفوضى, والعنف المحلي بمشاريع العنف الأجنبي, وقطع الآذان والألسن بقرارات الاجتثاث لن تحل مشكلات الواقع الثقافي, على العكس من ذلك, ستزيد من تعقيدها, وستضيف اليها مزيدا من سوء الفهم وسوء الإرادة والإنغلاق والتحجر, وستقود في النهاية الى تأبيد ظاهرة مصادرة الوعي الإنساني لصالح الصراعات الحزبية والفئوية.
تلك نماذج تطبيقة مستقاة من الواقع تشير جميعها الى أمر واحد: غياب المشروع الوطني العراقي.
فهل تقوى مثل هذه التناقضات الفاضحة المنسوبة الى قمة الهرم الثقافي والتشريعي للعهد الجديد على إقامة بديل ثقافي وطني على أنقاض فكر البعث؟ إن أعظم مصادر الخطر تكمن في مصادرة الوعي الوطني من قبل ثقافة الاحتلال, إضافة الى عجز البنى الثقافية القائمة عن إنتاج ثقافة وطنية بديلة, تبنى على أنقاض ثقافة العنف والديكتاتورية. أما الصيغ السياسية الدعائية, "التكتيكية", التي رافقت مشروع الاحتلال, كصيغة " إجتثاث البعث", أو "تطهير العراق من فكر البعث", فهي مجرد أوراق للمناورة, ذات أهداف سياسية بحتة, يراد بها خداع العامة من الناس, لأنها أوراق تخلو من أي أساس نظري وتطبيقي يمكن له أن يكون قاعدة عقلانية وإنسانية منسجمة لمراجعة ثقافية وطنية ديمقراطية حقيقية.
لنتأمل هذين الخبرين الثقافيين الطريفين: يقول الخبر الأول: "تأهيل البعثيين:اسهامة جديدة في بناء العراق الجديد"
"عقدت في قصر المؤتمرات ببغداد الندوة التأهيلية الاولى للبعثيين الذين تم اعادتهم والذين بلغ عددهم واحد وخمسين شخص والتابعين لوزارة التربية / تربية الكرخ الاولى ، وقد تضمنت هذه الدورة عددا من المحاور التي تطرق اليها مدير عام الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث السيد مثال الآلوسي مؤكدا ان الكل كان رهينة بيد البعث المجرم وان جرائم البعث اكبر من ان تحصى". فإذا كان السياسي الكردي محمود عثمان يحصر المصالحة الوطنية بالعرب, فإن مثال الآلوسي يعيد تأهيل واحد وخمسين بعثيا. واحد وخمسون بعثيا! أي خمسة وعشرون بعثيا من كل مليون بعثي وفق تقديرات بريمر والمخابرات الأميركية, وخمسة عشر بعثيا من كل مليون بعثي وفق تقديرات عزت الدوري! فكم قرنا نحتاج لكي نقوم بإعادة تأهيل هذا الجيش الجرار من البعثيين؟
أما الخبر الثاني, فيقول: " الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث تنظف الجامعات العراقية من الاطاريح الممجدة للنظام المقبور. شرعت الهيئة الوطنية العليا لاجثتاث البعث بسحب الاطاريح والبحوث والكتب والمؤلفات التي تمجد نظام البعث المقبور والطاغية صدام من الجامعات العراقية، وبالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ودار الكتب والوثائق، لغرض خزنها في مكتبة خاصة وحجبها عن التداول من قبل الطلبة في الجامعات العراقية. لأبتعاد هذه المطبوعات عن الروح العلمية، وكونها كتبت لتمجيد رأس النظام المقبور وأيديولوجية البعث المنهار ".
هذان الخبران الطريفان يؤكدان أن عملية إجتثاث البعث عملية سياسية تضليلية, ذات أهداف خفية, تمت خارج سياقها الاجتماعي, وخارج إطارها الزمني, فهي خطوة مشابهة لفتح الحدود العراقية وفتح أبواب المعسكرات ومخازن الأسلحة. لذلك يقول بول بريمر: " علينا التحرك بسرعة للقضاء على الانطباع القائل ان التحالف اطاح بصدام فقط لكي يسلم السلطة الى المراتب الثانية من البعثيين", وهذا القول يذكرنا بقول كنعان مكية : "«السلطة ستقدَّم على طبق من ذهب للصف الثاني من حزب البعث". فلم تكن مواجهة الإرث البعثي مشروعا وطنيا عراقيا, ولم تكن عملية سياسية اجتماعية منظمة, بل كانت وليدة قرارات ارتجالية, فوقية, تمت بمعزل عن عملية التغيير الاجتماعي الديموقراطي الشامل, هدفها الأساسي إعادة تحاصص حزب البعث سياسيا, وتحاصص الأرث الثقافي البعثي, بما في ذلك ثقافة العنف.
خلاصة: المصالحة عملية مركبة, لها عدد من الأوجه و الأطراف المتشابكة. لا تتم بدون التسامح, ولا يتم التسامح بدون وجود طرف متسامح يضحي بآلامه وأوجاعه الماضية من أجل المستقبل ويتقبل بتجرد تام نتائج ذلك, بما في ذلك الأوجاع الذاتية المترتبة على قبول الآخر. وفي المقابل هنالك أطراف ملزمة بأن تعترف بأخطائها وعيوبها وتتقبل نتائج هذا العمل, بما في ذلك تقبل المنغصات النفسية والأخلاقية المصاحبة لذلك. فالأطراف كلها, من دون استثناء, معنية بالقدر نفسه بالمكاشفة والمصارحة, وليس بالنسيان وتبادل الأكاذيب. إن الاتفاق على معايير أخلاقية محددة والإقرار بها خطوة تمهيدية, ضرورية, من أجل تحقيق المصالحة مع الذات, التي هي خطوة أولى لازمة في طريق تحقيق المصالحة الاجتماعية. وكل ذلك لن يتم إلا بإطلاق مبادرة وطنية قائمة على الثقة المكفولة قانونيا, لجميع الأطراف, بهدف تهيئة الأساس الحقوقي والاجتماعي والأخلاقي والنفسي, الذي يجعل الحوار الوطني ممكنا وواقعيا ومثمرا.
الملحق الثقافي, صحيفة النهار, 5 تشرين الأول 2006
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟