|
ذكريات مؤجلة في (الرحلة الناقصة)
قيس كاظم الجنابي
الحوار المتمدن-العدد: 7700 - 2023 / 8 / 11 - 09:21
المحور:
الادب والفن
-1- يبدو عنوان سيرة فاطمة المحسن (الرحلة الناقصة) مبلبلاً للقارئ حين يلامسه بطريقة أو بأخرى، فما المقصود بالرحلة وما المقصود بالناقصة؟ يحيل العنوان - في غالب الأحيان - الى مجمل فصول الكتاب وعنواناته الداخلية وموضوعه الرئيس، ففي البدء تواجهنا الكاتبة بأحلامها التي تكون (كلّها ناقصة)؛ ثم في النصف الأخير من الكتاب تشير الى مرض السرطان الذي يشعرها أو يشعر الانسان بأنه (ناقص) في عُرف من حوله. ثم تشير الى انها تكتب لتكون "امرأة كاملة غير منقوصة إزاءَ الآخرين، الأقربين والأبعدين".[ص210/ دار الجمل ، بيروت- بغداد 2021م]. كما تشير في نهايات رحلتها هذه الى أسباب ودوافع كتابة هذه الرحلة بوضوح أكثر، فتقول:" كتبت مذكراتي بعد مرضي، وأهديتها الى فالح عبد الجبار ، كان عنوانها "الرحلة الناقصة" . سألني لماذا هي ناقصة؟ كنت على ثقة بمعرفة قصدي،ولكنه رفض أن تخلف رحلتي موعدها،وما كنت أظن انه هو الذي سيتركها على نقصانها. رحلة عمر معه فكيف لي ان أتذكر الآن نتفاً منها".[ص219] وهنا يوجد تصريح واضح بأنها مذكرات ،أو كما تروي ذلك بقولها:(مذكراتي)، والحقيقة ان كتاب (الرحلة الناقصة) هو ليس مذكرات،وانما هو كتاب ذكريات،لأنه يفترض بالمذكرات، وجود وثائق ومصادر وحوارات وكل ما له علاقة بكلمة(مذكرة)؛ وهذا ما يقود الكتاب الى نوع من الاستذكارات الت عاشتها وحاولت استدراجها الى زمنها بعد حادثة تعرضها للسرطان، كما فعل أدوار سعيد في كتابه (خارج المكان). في هذا الكتاب تهيمن الذاكرة وليست الوثيقة، مما يبعده عن الأهمية التاريخية، في أن يكون مصدراً لأحداث وصراعات ثقافية وسياسية ويقربه من النص الأدبي الاستذكاري، منذ الصفحات الأولى، فهي تصف ذاكرتها بقولها:" لطالما تخيّلت ان ذاكرتي في يديّ قبل ان تكون رأسي، لعلها نبض الأصابع ، حيث تتجمع في لحظة التدوين، أو هي خلاصة نشاطات متعددة متخيلة ،ولعقولنا البعيدة والقريبة"[ص10]. وهي تشير الى نجيب المانع ، وكيف وجدته شخصية أخرى حين قرأت مذكراته" فقد كان قادراًعلى معرفة نفسه وخيباتها ،وهو غير متساهل معها مثل انطباعاته على الآخرين".[ص45] كما تشير الى ذاكرتها أكثر من مرة، وهي المعين الذي تستقي معلوماتها عنها، وعليها أن تقدر الشقة الزمنية بين زمن حصولها وزمن تدوينها، فلعلها تعرضت للخراب والازاحة والتلاشي، لهذا كانت تعترف على حين غفلة هنا وهناك فتقول:" لاأثق بذاكرتي"[ص54]، ثم تقول:" ضعفت ذاكرتي ،ولم استطع محو تلك الابيات التي قرأت عندما كنت طالبة في الثانوية"[ص93]، كما تقول :" ربما تكون ذاكرتي على خطأ"[ص100] ولهذا عدلت عن استخدام كلمة(ذاكرة)،واتجهت نحو تسجيل التجربة الشخصية ،وحاولت قدر الإمكان ربط هذه الذكريات بأدب الاعتراف منذ وقت مبكر من خلال استذكارها لشخصية يوسف الصائغ الذي وصفته بأنه" أسير مخيلة البوح والاعتراف من حيث يدري ولا يدري".[ص23] كما تشير الى مفكرتها التي رافقتها في هجرتها، فلم تسجل " فيها حرفاً واحداً بعد رحيلي ،وبقيت مليئة بالخطوط المتقاطعة لأيامي العراقية"[ص101]؛ مما يشير بكل وضوح بانه لا توجد لديها وثائق، وان ما جاء في (الرحلة الناقصة) مجرد ذكريات ،واتهامات لوطن اضاعه أهله، وبقيت تستدرج ذكرياتها في المنفى ، بعدما رمت بدفتر مذكراتها "في مكب الزبالة ببودابست بعد" أحساسها باليأس من العودة، فضاعت تلك المفكرة "بين حقائب" ارتحالها"ولكن فقدانها جرى في عقلها"الباطن"، كما لو انه امحاء متعمد لماضي الأيام "الحزينة"، حيث كانت لا ترغب في العودة؛ فكانت مجرد ذكريات مفعمة بالخذلان واللوم. وكأنها لا تعلم أن يوسف الصائغ استعار فضيلة الاعتراف، من تربيته المسيحية، التي ترسخ فيها هذا الفن من الناحية الدينية، وهو فن عريق في الثقافة الاوربية،أما في الثقافة العربية أو الشرقية، فهو فن التكتم والمراوغة وعلاقات المخادنة والسرانية،وهي التي تضع تجربتها وعلاقتها مع فالح عبد الجبار بجانب تجربة( سيمون دي بوفوار) عشيقة سارتر، في كتابها (الجنس الآخر) الذي يمثل مرحلة مهمة من مراحل الكتابات النسوية، ثم تحاول ان تبرر ذلك بالعودة الى جذورها الريفية التي تتحاشى ذكر تفاصيلها، بوصفها امراة شرقية، وكذلك علاقاتها العاطفية، واكتفت بشعورها بعقدة الكترا، في كراهيتها الدفينة لوالدها، وهو احساس ربما له أسبابه الشرقية والسياسية ؛ بسبب ميل الاب الى النظام الملكي وتربيته الملكية، ومحاولتها الإيحاء الى أن صورتها لدى فالح عبد الجبار، هي صورة النخلة ،وعزت قطع رؤوس النخيل في بغداد بين العراقيين وقوات الاحتلال الأمريكي ، ومقاومة ثلة من العراقيين للاحتلال الى شخصية صدام حسين؛ وهذه واحدة من المغالطات الكبيرة التي تحاول بها تشويه مواقف الشعب العراقي، حين تقول:" لم أعرف ما تعني في تراث العراقيين، الا عندما شهق فالح وهو يرى رؤوس النخيل المقطوعة . كان صوته أقرب الى النحيب: ماذا فعلوا بالعراق؟"[ص249] لقد عرفت النخلة في الحضارات الشرقية القديمة ، فقد ظهرت نخلة التمر على ختم اسطواني في "قصة آدم وحواء واغراء الثعبان لهما"، يعود الى العهد السومري القديم، وتمثل صورة الختم شجرة نخل تتوسط آدم وحواء مع ثعبان يقف خلف حواء. وأما شجرة معرفة الخير والشر في التوراة فما هي الا شجرة النخل بالنسبة للسومريين. وقد كانت تقدس في العراق القديم من قبل الآشوريين بجانب المحراث والثورة والشجرة المقدسة، ذلك ، دون شك لأهميتها الاقتصادية".[ 18-19/ الطعام في الثقافة العربية:نينا جميل، دار رياض الريس، لندن، 1994م]. -2- تعد الأمكنة هي المعين الذي يستقي منه كاتب الذكريات مادته، بوصف الانسان سليل البيئة والمكان وظروفه التي تحيط به، وبالتالي تكون هي الموجهات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لحياته الموزعة بين الطفولة والصبا والبلوغ؛ وتبدو (الرحلة الناقصة) جزءاً من مؤثرات الأمكنة التي مرت بها الكاتبة( الناصرية ، بغداد، بيروت، بودابست، دمشق، لندن،...) الخ. المدن لها ذاكرة تشبه ذاكرة الناس، تؤسس وجودها على هذه الذاكرة، وحين تغيب عنها، ثم تعود وأنت تحمل صورتها التي حفظتها في ذهنك، تفاجئك بأنها تغيرت تماماً، وفقدت الفتها، وكشّرت عن انيابها عليك، ولهذا فان ذاكرة فاطمة المحسن عن بغداد جعلتها تشعر حين عادت اليها بأنها المكان الخطأ والزمان الخطأ. يقول (باشلار): (( المكان، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمن مكثفاً)) [جماليات المكان: باشلار، ترجمة غالب هلسا، دار الحرية للطباعة - كتاب مجلة الاقلام ( بغداد، 1980م)، ص46]. فيصور الابعاد الفلسفية للمكان أكثر مما يصور الأبعاد الجغرافية، والمحسن تنظر للمكان نظرة خاصة هي مزيج بين الادب والسياسة،والمزاج الذاتي المشحون بالذكريات عن الأصدقاء والصديقيات والمقاهي والازقة والشوارع،لكونها حرمت من البقاء في المكان أو الوطن، وعاشت فيه وخارجه متنقلة ؛ فان الإحساس بسطوة المكان تبدو مرتبطة بالانعكاسات السياسية، التي واجهتها،ولهذا لا تبدو على علاقتها بالمكان مباهج الحياة بشكل طبيعي، فليس للمكان علاقة بالحب واللقاءات الرومانسية الخاصة، وان كان لها مثل ذلك فقد كتمتها نتيجة تربيتها الشرقية المحافظة، التي كانت تقمع في داخلها فضاءات البوح ،وتمنع عنها كشف الأسرار؛ فالأسرار جزء من الحكايات والأحلام والتصورات، بقيت مخبوءة في ذاكرة تتعرض للصدأ، والاضمحلال، والمناورة،وموقفها من الآخرين الذين فارقوها مبكراً واختاروا طريقاً آخر تعرض اما للاهمال أو للتغاضي أو للتجريح. تأرجح جماليات السيرة وجماليات الذاكرة بين وجهين لديها: الأول، الوجه السياسي، الذي بقي ظاهراً أو تلاشى مضمراً، وهو نفسه لم يتغير قبل التخلي عن التنظيم في الحزب الشيوعي أو بعده، ذلك لانها بقيت في الدائرة نفسها، دائرة زهير الجزائري وفالح عبد الجبار، وفاضل العزاوي، وفخري كريم؛ مثلما بقيت في دائرة الأمكنة التي ترتبط بها. الثاني، الوجه الثقافي، الذي راوح في مكانه بين بدايات غير موفقة، في القصة والصحافة،وبين الاقتراب من الثقافة والنقد، بالرغم من حيازتها على شهادة جامعية عن شعر سعدي يوسف، فكانت كتاباتها أقرب الى التاريخ السياسي- الثقافي للحركة الأدبية في العراق من دون التوغل الى نصوصها، وربما كان ذلك سبباً في احساسها بالتهميش، فكان أن مالت الى تهميش الآخر/الخصم الذي لا يتفق مع توجهاتها. تختزن الكاتبة في ذاكرتها عن بغداد، مواقف متعارضة، فهي تمثل بالنسبة لها بدايات حياتها وثقافتها، لهذا تقارنها مع بيروت؛ فالأمكنة يفاضل بعضها بعضاً، حين تصف صباحها ببغداد:" لعله لا يشبه صباحات بغداد الصاخبة، فبغداد مدينة كل شيء فيها يمضي مسرعاً، لا ثبات في الأماكن، ولا معالم تدلُّ على تلك الحميمية التي تُشعر النساء بالاسترخاء".[ص13] بالطبع في السبعينات كانت بغداد هي شارع الرشيد، وبالنسبة للنساء شارع النهر، حيث الحكايات والبضائع النسائية ونفحات نهر دجلة،والعطور وألوان الملابس الأوربية والشرقية المثيرة، زمن الملابس القصيرة ،والضيقة، زمن الحرية وبدايات عهد النساء بالمساواة، لهذا كان شارع الرشيد مركز بغداد وايقاعها الثقافي والاجتماعي، حيث تقول عنه:" وهكذا وجدتني أقف عند أعمدة شارع الرشيد بعد عودتي، لأسأل نفسي عن تلك النقوش الآيلة الى التلاشي، حيث تقبع هناك خارج ذاكرتي وخلف التوقّع".[ص13] كان شارع الرشيد مركز المقاهي من الميدان حتى مقهى المربعة، فالباب الشرقي؛فلما زارت العراق مع قوات الاحتلال، عام 2003م، هربت وضاعت صور بغداد، في (زحام الذاكرة)، فكانت " احداثيات العراق كلها في الثمانينات والتسعينات تبدو"[ص31] أقرب الى الوهم أو الحلم، الذي ضاع في تضاريس الزمن الرديء، فكانت تنظر اليها من فوهة الدبابة الامريكية التي تقف أمام فندق الشيراتون، لتبدو معلوماتها عن بغداد، والعراق مشوهة لأنها تعيش في برج بعيد عن حياة ومعاناة الناس الذين أرهقتهم الحروب والحصارات ونزوات المتسلطين؛ لهذا باتت هذه الذكريات موشومة بنظرة أحادية غير منصفة لأهل بغداد، ولأدبائها كما فعل زهير الجزائري في كتابه(حرب العاجز)،وكأنهما لا يعرفان أن بغداد لا تشبه غيرها من مدن العالم. أما مدن النفي ، من بودابست الى بيروت ودمشق فلندن، فهي الأخرى مختلفة يشيع فيها دفء التصالح،لأنها لا تحمل معها ذكريات الماضي ،ومعاناة المنفى. بيروت تمثل الحرية مثلما تمثل الصرعات العربية – العربية ، والخيار الأصعب وربما الوحيد في السبعينات كان مدينة الحلم والخوف والتحولات، وتكاد بودابست عاصمة (المجر) تمثل الوجه الأوربي الشرقي لبيروت، ثم انتقلت منها الى دمشق، فانتقلت من غربة اللغة والواقع الى حياة جديدة، فهي كما تقول:" كانت دمشق أجمل هدية تلقيتها في حياتي، ببساطة روحها الشرقي وعذوبة مناخها، وتلك حرية التي استشعرتها وأنا أجوب شوارعها وحية من دون ارتباطات بزواج أورثني الشقاء والألم. وجدت في دمشق، دون المدن التي مررت بها، حلم العودة الوحيدة الى الوطن".[ص162] والحقيقة هذا كان شعورها الداخلي؛ فبغداد لا تختلف عن دمشق في الكثير من زواياها، ومنفاها الداخلي ،في الأيديولوجيا والالم والاحلام الموؤودة. لقد رافق الكثير من الأمكنة التي مرت بها نزعة حلمية لها صلة بيوتوبيا الأمكنة ورغبة الانسان في البحث عن الزمن المفقود والأحلام الآفلة، فللأحلام قدرة تعويضية عن الحرمان، لهذا صاحبت تلك الذكريات الكثير من الأحلام، مثل حلم الطيران ومؤثرات اللاوعي والايمان بالثورة الكاسحة، بحيث بدت تلك الاحلام فعلاً توازي الكتابة. وتوازي تحقيق نوع من الحكايات المضمرة المنبثقة من لاوعيها،وهي جزء من عنوان ذكرياتها، لهذا دعتها بـ(الاحلام الناقصة)،وأحياناً الأحلام المؤجلة، وهي تمزج الرؤيا بأحلام اليقظة، وأحلام الواقع؛ وهذا ما يربط الذات بالمكان والطموحات التي تحيط به. تصطدم الاحلام في رحلتها هذه بالامنيات بين المتخيل والواقع، بتجربة الغربة والمنفى والخوف،وتجربة الموت البطيء ،والتسكع على أرصفة المقاهي والشوارع في العالم بحثاً عن الوطن المفقود، لهذا تقول:" يخرج المنفي خاسراً من فكرة الانتماء، فحكاية العودة الى المطارح الأولى وهناءات البيت القديم والاهل والأصدقاء والشارع والماضي كله الذي خلّفه ،تبقى تصاحبه ، لتفسد عليه مقامه الجديد".[ص39]
ارتبطت تلك الذكريات بالاجيال الأدبية في العراق منذ الخمسينات والستينات فالسبعينات،...، وتضم هذه الأجيال جمهرة من الادباء الذين رافقوها في رحلتها هذه، فكان أبرزهم فالح عبد الجبار، في رحلة الثقافة والانتماء والحياة، والملاحظ ان الشيوعيين الأوائل الذين تشبعوا بالفكر الماركسي ، بعد ان تنضج ثقافتهم وقدراتهم وأدواتهم يتخلون عن الارتباط بالحزب،ويبقون أسيري ثقافتهم اليسارية التي تميل في نهايات العمر الى شيء من السكينة والاستسلام، والليبرالية القريبة من الفكر الرأسمالي، والثقافة الامريكية والغربية؛ بسبب تصاعد المد الأيديولوجي والقمع السياسي والفكري في البلدان العربية ذات الطبيعة الراديكالية، ويصبح الماضي بعرف الشرقيين لذيذاً، بالرغم من قسوة الأيام التي صاحبته،وقد لعبت العلاقات الشخصية بينها وبين بعض الشخصيات التي رافقتها دوراً مهماً في رسم صورة للكثير من تلك الشخصيات الى حدّ غياب الانصاف والحقيقة، في ظل شعور واضح بالاخفاق،أو الإحساس بالظلم من خصومها السياسيين وغير السياسيين، ولم يرافق ذلك ادانة أو لوم للاصدقاء والمقربين؛ مما يشير الى رؤيتها الأحادية، فقد صورت عالم صادق الصائغ وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وشريف الربيعي وقاسم حول وزهير الجزائري وشوقي عبد الأمير .. وسواهم بأنهم مجموعة من الحالمين الأبرياء، في نوع من الاتهام المضمر لأدباء الداخل ، كما فعل زهير الجزائري في كتابه(حرب العاجز)؛ وكأنهم تناسوا أن دخول الحزب الشيوعي مع حزب البعث في جبهة واحدة ، كان كميناً ومطباً استراتيجياً وفخاً نصب للاقتلاعهم من الأرض الرخوة التي سادت أيام حكم الرئيس عبد الرحمن عارف،ومواقف الاتحاد السوفييتي منهم ، كما حصل ابان حركة 8شباط 1963م، كما يذكر ذلك حازم جواد، حيث لم يفعل من أجلهم أي شيء. تحدثت الكاتبة عن يوسف الصائغ، كصديق سابق وخصم لاحق، وهذا ماوسم أفكارها عنه بالازدواجية، والمعروف أنه كان شيوعياً وكاتباً ومحرراً في صحيفة (طريق الشعب) التي يصدرها الحزب الشيوعي بعد خروجه من السجن عام 1968م،ولكن رؤى وأفكار الصائغ بدأت تتحول نحو الابتعاد عن حزبه، والاتجاه للبقاء داخل العراق منذ عام 1978م. بدءاً يمكن القول ان ثمة جملة من المبادئ لها صلة برصد شخصيات الآخرين، ومصداقية الحديث عنهم، وان أغلب هذه الأفكار التي أدانت الصائغ وبوّقت بطبولها المثقوبة ضده، هم من خصومه، ومواقفهم مبنية على ما ذكرته فاطمة المحسن في رحلتها الناقصة عن يوسف؛ وهي مواقف مشكوك في براءتها وصدقها ،لأن الكاتبة كتبت هذه الذكريات من دون وثائق عن أحداث حصلت قبل نحو أربعين عاماً؛ بينما كتب يوسف الصائغ يومياته بالدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة،أي أن ما كتبه يوسف على وفق المحاكمة التاريخية يمتلك حرارة الحدث وصدقه،ولأن اليوميات هي نصوص أدبية لا تؤخذ على ظاهرها، في الأعم الأغلب ، وان تحمل الكثير من الاحالات والرموز،وشخصياتها ربما لا تكون هي الشخصيات المقصودة،وخصوصاً اذا كان كاتبها يضع احتمالاً كبيراً لنشرها في خريف العمر. لقد كان يوسف واحداً من كوادر جريدة(طريق الشعب) في السبعينات شاعراً وصحفياً، يكتب نثراً من الطراز الأول، فلم تمنح السلطة يوسف فرصة لاسترداد أنفاسه، ورسم خواطره بالصورة المطلوبة، فقد كان يعاني الكثير من الاحباطات والخذلان والخيانات والخسارات، وكانت حساسيته المفرطة تلقي بظلالها حوله، فلم يبق لديه سوى سلطة القلم، ومن هنا باتت الصورة التي رسمتها فاطمة المحسن عن يوسف مشوشة،وفيها الكثير من الاسراف في استخدام المفردات التي تدينه وتفكك مشروعه الثقافي وتحاول أن تلغيه، فهي تراه من جانب واحد فقط في أن يبقى شيوعياً فقط، وهي التي تخلت عن هذا الحزب واتجهت صوب خصومه، وكأن رؤية جيل الستينات التي سادت في الداخل سادت في الخارج أيضاً، فكأن جيل الستينات الذي عاش على منجزات الرواد ، صار يشعر بأنه أهم منه ولابد أن يمحوه من الخارطة، عقدة الستينات رفض من سبقه ومن جاء بعده، وهي عقدة مستعصية سواء لدى من اختار الغربة أو اختار البقاء، فقد كان جيل السبعينات في الداخل مقموعاً بما يكفي، وقد ذكرت في كتابي قيد الصدور(تاريخ الحركة الأدبية في العراق...) ما يكفي عنه،حيث أشاع الستينات مصطلح جيل ما بعد الستينات ،ولم يصفهم بالسبعينات؛ وكذلك سايرهم الدكتور علي جواد الطاهر، في مقالة له في مجلة(الكلمة) التي أصدرها جيل الستينات فخصصت عددين من أعدادها عن (شعراءما بعد الستينات)و(قصاصو ما بعد الستينات) وقد ناقشت ذلك في فصل خاص، ومازالت عقدة الستينات في الداخل، هي وجود جيل أدبي لا يقبل التدجين ويفرض مفاهيمه عليهم من الخارج، وكان خزعل الماجدي أكثرنا تمرداً وتصريحاً وقدرة على اختراق الصحافة ،وحين كان محرراً في جريدة( القادسية) في أواخر الثمانينات اقترح عليّ وعلى عدد من أدباء جيلنا فيما سماه(حوار الاجيال) لكن الفكرة لم تنفذ،لأسباب اجهلها. غالب الذين انتقدوا يوميات يوسف الصائغ التي تتراوح بين عامي 1975-1980م، كانوا محملين بأفكار مسبقة عن يوسف حملوها معهم من أدباء الخارج، في تخوين أدباء الداخل، ومنها كتاب المحسن هذا، فليس من المعقول أن يهرب الجميع من بلدانهم ولا يبقى فيه أحد، مع أن ردود الأفعال كتبها أدباء من الداخل يتملقون بها أدباء الخارج، وهم خاضعون لعقدة(الخواجة) المصرية ،وعقدة الخصاء السياسي السائدة في العراق. فليس من المعقول أن تكون ذكريات مثقوبة مثل (الرحلة الناقصة) هي المرجع ولا تكون يوميات يوسف التي كتبها قبل أكثر من أربعين عاماً، فهي تقول عنه:" أتذكر صوت يوسف الصائغ في كل مرة أسمعها، فقد غناها في صباح شتوي خلال زيارته اليومية لغرفتنا. نُثرثر ونقشب ونضحك. زهير الجزائري ومؤيد نعمة الابرع بيننا في تحديد الأهداف وتوزيع القفشات التي تستهدف، في الغالب ، هيئة التحرير وقيادة الحزب".[ص21] ثم تتابع حركة سلوك يوسف وصديقته (الهام) التي أطلق عليها في يومياته اسم(لهومة) وهي مهندسة من أسرة من الكاظمية، ثم تذكر زوجته(جولي) التي رحلت في حادث سيارة فأصدرعنها مجموعته (سيدة التفاحات الآربع) فتقول عنها:" كانت طليقة قوية الشخصية والحضور، وتكاد تطغى على شخصيته، ولعلني أجهل نوع المنافسة الخفية بينهما".[ص23] لعل ذكرها ليوسف في بدايات رحلتها هذه جاء تزامناً مع نزعته في البوح(الاعتراف) حيث كتب أولاً قصيدته (اعترافات مالك بن الريب)، ثم سيرته (الاعتراف الأخير لمالك بن الريب)؛ فثمة ما يجمع بينها وبينه هو الكتابة عن الذات، فتشير الى أنه كان من فزعه " يشتم الشوعيين وفخري كريم الذي بعث اليه سرّاً جواز سفر أو وثيقة مزورة للخروج".[ص24] فثمة الكثير من الأسئلة حول شخصية يوسف واستهدافه،وثمة نوعاً من النكوص في هذه الذكريات المثقوبة. تبدو ثقافة التخوين ثقافة عراقية بامتياز، سدرت عليها الأنظمة السياسية والأحزاب المتصارعة منذ 14 تموز 1958م، داخلاً وخارجاً،أما لماذا بقي يوسف فهذا شانه هو، وتبدو غالب الاحتجاجات على صدور يوميات يوسف الصائغ مستقاة من هذه الرحلة الناقصة،وهي فعلاً ناقصة لأسباب عدة: 1- انها كتبت بعد أكثر من أربعين عاماً ،وبالتالي فهي مجرد ذكريات طالتها يد النسيان. 2- انها تنظر بروح العداء ليوسف وغيره، بسبب الاختلاف في المواقف والشعارات والثقافة. 3- ولأنها كما قالت عنها ذكريات عن رفيق عمرها فالح عبد الجبار، الذي تركها ورحل الى بيروت واستقر مع امرأة أخرى ، وقد لامست كبرياءها هذه التجربة التي لا تستطيع البوح بها كامرأة لا تقبل أن تنام أخرى في فراشها مع الرجل الذي رافقته نحو نصف قرن. 4- وصفتها بالناقصة وهي تسترجع موقف الدين الإسلامي من المرأة بوصفها ناقصة،ولأنها شيوعية متحررة تحاول أن تخفي موروثها الديني،ولا تتطرق الى أن مجتمعها العربي الإسلامي لم يتحرر، ولم تتحرر فيه المرأة من نقصها هذا. في ضوء ما سبق ذكره، ما الذي يمكن استخلاصه من هذه الرحلة، هل هي مذكرات كما أرادت لها كاتبتها، أم ذكريات؟ بالتأكيد يبدو الفرق بين الذكريات والمذكرات بعض الأحيان طفيفاً،ولكنه أحياناً يوغل في الأعماق، حين نعرف أن الذكريات تعني التذكر،واستحضار بعض الحوادث والمواقف من دون ان نمتلك الوثيقة المطلوبة، ولأنها ليست مذكرات وليس فيها ما يشير الى وجود نص وثائقي، فان أهميتها تنبع من كونها نصاً سردياً وليس وثيقة سياسية أو أدبية، حالها حال (الروح الحية) لفاضل العزاوي، و(الموجة الصاخبة) لسامي مهدي. وما يحاكيهما من كتب الاستذكارات كما فعل محمد مظلوم وهاشم شفيق وغيرهما.
#قيس_كاظم_الجنابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السرد والمقام في كتاب (العبرة الشافية والفكرة الوافية)
-
هل كانت قصيدة النثر سومرية..؟
-
شعرية التزوير في حكايتين عربيتين
-
ذكريات سياسية في كتاب (مقتطفات من الذاكرة)
-
بنية التوقيع في قصائد : اكليل موسيقى على جثة بيانو - للشاعر
...
المزيد.....
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|