|
قراءة في كتاب -إشكاليات الفكر العربي المعاصر- للجابري
صلاح الدين ياسين
باحث
(Salaheddine Yassine)
الحوار المتمدن-العدد: 7698 - 2023 / 8 / 9 - 00:25
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
كتاب من تأليف المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 1990، وهو بمنزلة تأليف لمجموعة من الدراسات والأبحاث السابقة، التي تناولت جملة من القضايا الإشكالية المتشابكة في جوهرها، المتصلة بالفكر العربي ومدى قدرته على الصمود في وجه المتغيرات والرهانات المستقبلية التي تواجهه. أولا: الفكر العربي بين التراث والحداثة يذهب الكاتب إلى أن إشكالية "الأصالة والمعاصرة" لا يجدر بنا مقاربتها كمسألة اختيار أو مفاضلة بين نموذجين حضاريين (تراثنا الثقافي / الحضارة الغربية المعاصرة)، لأن النموذج الغربي قد فرض نفسه كأمر واقع، من خلال عملية تحديث شُرع في تطبيقها منذ الحقبة الكولونيالية دون تبيئة شروطها الداخلية، وذلك بالموازاة مع استمرار سطوة بعض البنى التقليدية الموروثة، الأمر الذي أفضى إلى ازدواجية سافرة في شتى المجالات (العمران، الاقتصاد، الإدارة، الثقافة... إلخ)، فضلا عن أنماط الوعي والتفكير. كما أن تلك الإشكالية (= الأصالة والمعاصرة) ليست امتدادا للصراع الطبقي داخل المجتمعات العربية، في تقدير الكاتب، بحيث يفند الأخير الطرح القائل إن دعاة الحداثة يدافعون عن مصالح الطبقة البرجوازية، فيما ينزع الأصاليون إلى الذود عن الطبقة الإقطاعية التقليدية، فذلك الطرح – عنده – لا يتلاءم ومعطيات الواقع العربي. وبالمقابل يشدد الجابري على الطابع الثقافي الفكري المحض لتلك الإشكالية، باعتبارها تجسم الهوة التي يشعر بها المثقف العربي بين ثقافة ماضيه وتراثه من جهة، وثقافة الحضارة الغربية المعاصرة من جهة ثانية. وهكذا فإن تلك الإشكالية المطروحة على الوعي العربي لا نجد ما يقابلها عند الأوروبيين، ولعل ذلك يعزى إلى أن الفكر الأوروبي يتعاطى مع التراث تعاطيا خلاقا وبناء، فالتراث عندهم يستوعب الماضي والحاضر في آن من دون أن يقيم بينهما تناقضا، إذ ينظر الأوروبيون إلى تاريخهم كصيرورة متصلة الحلقات، السابق فيها يؤسس للاحق، وبالتالي فإن التراث وفق هذا التصور يعد منطلقا للتجديد والمضي نحو المستقبل، الشيء الذي يملي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي متوسلين بروح نقدية وعقلانية، على نحو يؤسس للحاضر ويفتح أبواب المستقبل. ثانيا: خلفيات أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر تطرق صاحب الكتاب إلى أزمة الإبداع التي يعانيها الفكر العربي، الراجعة إلى جملة من العوامل وفي مقدمتها ما يدعوه ب "النموذج السلف"، الذي يحكم تفكير المثقف العربي مهما تنوعت منازعه الأيديولوجية (سلفي، ماركسي، ليبرالي... إلخ)، بحيث لا يجرؤ على التفكير من خارج قالبه. وعليه فإن المفاهيم التي يتوسلها الخطاب العربي المعاصر مستمدة إما من الماضي العربي الإسلامي الممجد، أو من الحضارة الغربية الحديثة، مما يؤدي إلى انقطاع الصلة بين الفكر والواقع العربي القائم بمشاكله وظواهره المعقدة، التي تستلزم تفكيرا نقديا واقعيا يقطع مع المسبقات والتفكير التجريدي. هذا بالإضافة إلى العامل المتمثل في انتصار النظام المعرفي "العرفاني" في الثقافة العربية، القائم على التصوف وما يشوبه من معتقدات لاعقلانية سرعان ما وجدت طريقها إلى عامة الناس حيث الأمية متفشية، في مقابل اندحار النظامين المعرفيين البياني والبرهاني المستند إلى الفلسفة اليونانية، منذ عصر الانحطاط الذي أعقب العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. وصولا إلى عامل خضوع الفكر العربي لتأثير السياسة بمصالحها وهواجس مشروعيتها، فارتبط مصيره مدا وجزرا بمصيرها. ومن هنا، يقترح الكاتب بعض المداخل القمينة بتجاوز الاستعصاء الجاثم على الفكر العربي، من قبيل تعميم المعرفة باللغات الأجنبية من حيث هي مفتاح الولوج إلى حضارة العصر بعلومها وتقانتها وفكرها، فضلا عن نشر المعرفة العلمية لا بمنتجاتها الاستهلاكية فحسب، وإنما - في المقام الأول – بطرائق التفكير المنتجة لها، ونعني بذلك الروح النقدية العقلية، في أفق التحول إلى مساهمين في إنتاج الحضارة المعاصرة، بدل أن نبقى مجرد مستهلكين ومتفرجين سلبيين. ثالثا: الفكر العربي وتحديات المستقبل يضيء الجابري على ثلاثة نوازع للمشروع الحضاري العربي – الإسلامي في صبغته التاريخية، والتي بوسعها أن تلهم أي أفق نهضوي مستقبلي في الوطن العربي: 1) النزوع الوحدوي: عملت الدولة العربية الإسلامية (ابتداء من دولة المدينة) على توحيد الشعوب والقبائل العربية، والتي كانت منقسمة ومتصارعة في ظل عدم انتظامها في كيان سياسي واحد، إذ يشدد الكاتب على راهنية تحقيق الوحدة العربية كشرط ضروري للنهضة المنشودة. 2) النزوع إلى التمدين عبر الانتقال من مجتمع البداوة (القبيلة والعشيرة) إلى مجتمع المدينة، بوصفها محركا للانطلاقة الحضارية الكبرى، والعكس صحيح، فقد اقترن عصر الانحطاط بالارتداد إلى البداوة مثلما لاحظ ذلك ابن خلدون. وهكذا فلا مندوحة عن تجاوز البداوة بمعناها الواسع (العمران، الاقتصاد، الاجتماع، السياسة، الثقافة... إلخ. 3) النزوع إلى العقلنة: عقلنة الدين (الانتقال من الوثنية إلى التوحيد)، عقلنة الفلسفة بفصلها عن الدين، عقلنة العلم بفصله عن السحر والكهانة... إلخ. كما انصرف المؤلف إلى تناول إشكالية نقل التكنولوجيا إلى الوطن العربي، والتي تفرض نفسها بقوة لا سيما في سياق الانتقال من العصر الصناعي إلى عصر الثورة العلمية والتكنولوجية. إن نقل التقانة إلى الدول النامية عموما، والوطن العربي خصوصا، يصطدم بجملة من العوائق، بعضها موضوعية تتعلق برفض الغرب تصدير التكنولوجيا المتطورة إلى دول "العالم الثالث"، وأخرى داخلية بنيوية من قبيل ترييف المدن، تفشي الأمية مما يؤدي إلى خصاص في المهندسين والفنيين، هجرة الأدمغة، شح الميزانية المخصصة لهذا القطاع... إلخ. وعليه فإن السعي لبلوغ أية تنمية حقيقية يقتضي – في نظر الكاتب – تحقيق الوحدة العربية أو نوع من التنسيق العربي للتحرر من براثن الاحتكارات الأجنبية، بالإضافة إلى محو الأمية ونشر الثقافة العقلانية النقدية كموجه للسلوك والتفكير. ومن جهة أخرى، انصرف المؤلف إلى قراءة نقدية لثورة 23 يوليو ومشروعها القومي العربي الذي جسمته الناصرية في مصر، وهي الثورة التي استندت إلى ثلاثة مفاهيم تؤلف المضمون الحقيقي لها: الوحدة، الاشتراكية، التحرر، الأمر الذي أسفر عن ثلاثة أنماط من الوعي متزاحمة يصعب تركيبها، ولعل ذلك يُعزى - في تقدير الجابري – إلى أن الثورة كانت نتاج التجربة ورد فعل على واقع مأزوم أكثر من كونها وليدة نظرية متماسكة، وهو أمر يمكن تفهمه في ذلك السياق التاريخي، الذي اتصف بارتفاع منسوب الحلم الأيديولوجي التقدمي في ضوء الزخم الذي عرفته حركات التحرر الوطني. على أن المشروع القومي العربي لثورة 23 يوليو يواجه جملة من التحديات الوجودية (وجب التنويه هنا إلى صدور هذه الدراسة في فترة الثمانينيات)، إذ ينبه الكاتب إلى "ضمور الروح" فيه منذ خروج مصر التي تشكل بؤرته من الصف العربي، فضلا عن تحد موضوعي قديم تمثله "الإمبريالية العالمية وربيبتها إسرائيل"، دون إغفال تحديات جديدة ظهرت على نحو صارخ بعد نكسة 1967 التي أفسحت المجال ل "عودة المكبوت"، والمقصود هنا ظواهر التطرف الديني والتعصب المذهبي والاقتتال الطائفي، بالإضافة إلى مشكلة الأقليات في الوطن العربي، والتي تتطلب في مجموعها حلا ديمقراطيا برأي الكاتب. وفي الختام يرى الجابري بأن مهام الفكر العربي في عالم الغد يجب أن تتركز على نقد الواقع بثوابته الموروثة من الماضي والمعرقلة للتقدم، وذلك بنقد المجتمع (من مجتمع القبيلة إلى المجتمع المدني الحديث)، نقد الاقتصاد (من اقتصاد الغنيمة والريع إلى اقتصاد الإنتاج)، نقد العقل (من العقل الطائفي الدوغمائي إلى العقل النقدي المؤمن بالنسبية).
#صلاح_الدين_ياسين (هاشتاغ)
Salaheddine_Yassine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في كتاب -الأناركية- لدانيال غيران
-
قراءة في كتاب -الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتص
...
-
قراءة في كتاب -في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟- لمؤلفه عزمي
...
-
قراءة في كتاب -استعادة ماركس- لسعد محمد رحيم
-
فترة الحماية الفرنسية للمغرب: جدلية التقليدانية والتحديث
-
مساعي الإصلاح السياسي في مغرب أوائل القرن العشرين
-
قراءة في كتاب -نقد الحقيقة- لعلي حرب
-
قراءة في كتاب -حصار الثقافة بين القنوات الفضائية والدعوة الأ
...
-
قراءة في كتاب -مراكز الفكر أدمغة حرب الأفكار-
-
قراءة في كتاب -قادة الفكر- لطه حسين
-
قراءة في كتاب -الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغ
...
-
قراءة في كتاب -نقد الخطاب القومي- لمؤلفه عبد الإله بلقزيز
-
قراءة في كتاب -هل نسير إلى الهاوية- لإدغار موران
-
قراءة في كتاب -نقد الليبرالية-
-
بلقزيز ناقدًا الاستشراق الإيديولوجي ومركزية الغرب
-
كتاب -من النهضة إلى الردة- لجورج طرابيشي: هل يملك فكر النهضة
...
-
كتاب -لماذا يكذب القادة؟-: دراسة حول أبعاد الكذب في السياسة
...
-
كتاب -دنيا وأديان- لنقولا فياض: سياحة في عالم الفكر والفلسفة
-
قراءة في كتاب -دراسات في تاريخ المغرب- لمؤلفه جرمان عياش
-
قراءة في كتاب -المسألة الثقافية في الوطن العربي- لمحمد عابد
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|