|
الاستدلال الكانطي أو الحجاج المتعالي
عزالدين غازي
الحوار المتمدن-العدد: 1726 - 2006 / 11 / 6 - 07:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نرى قبل فحص المنهج الاستدلالي الحجاجي الكانطي تقديم النسق الاستدلالي الديكارتي الذي ارتكز عليه كانط في انتقاده للكوجيتو مستهدفا بناء نظريته المتعالية . فقد غير الفيلسوف ديكارت مفهوم الاستدلال حيث جاء بمفهوم جديد للعقل جعله مفهوما قابلا ليصبح " منهجا " حينما يتخلص من الأفكار والمرجعيات التي استند إليها الأسياد السابقون ( الفلاسفة ) ، إن العقل بالمعنى الجديد هو" الحدس العقلاني " وقد صار مفهوم الحجاجية أيضا مفهوما عقلانيا خالصا حينما ظل مفهوم " المنطق الصوري " يرادف مفهوم " الجدلية " كفن للحجاجية .( séminaire de Bellenger p 10 ) . من هذا المنطلق شرح ديكارت عمل الجدليين المرتكز على مقدمات معطاة للوصول إلى قضايا تستنتج بشكل آلي ، ورغم اعتماد ديكارت على الرياضيات فانه يبقى حذرا من المنطق القاصر عن معالجة قضايا العقل وخاصة أسلوب الاستنباط الفلسفي الذي يجهل الملاحظة المرنة والمتأنية للمبادئ التي يعتمدها الاستنباط كأساس ، إذ يقول ، متمنيا أن يصبح المنطق وقياساته أسلوبا لمعالجة الأشياء التي نعلمها ، فالحدس يقصي كل منطق وجدلية ذلك إنهما يفسدان الذهن الجيد اكثر مما يصلحانه ويدعمانه .( نفس المرجع السابق ص 10 ) لقد ساعدت الديكارتية وفق هذا المبدأ على ظهور نزعات في مجال الحجاجية ، ومنها ما ذهب إليه شارل بيرلمان . فلا تولد نظرية حجاجية حينما تقصي الصالح لتستبدله بالخاطىء . ولقد ميز ديكارت في هذا الإطار بين الاستلال البرهاني والاستدلال الطبيعي بطريقة غير مباشرة ، فالعقلانية الديكارتية بتعبير الدكتور طه عبد الرحمان " عرضت على ديكارت نفسه في خطاب لا تنطبق عليه إلا معايير الاستدلال الحجاجي والبيان اللغوي ، فكان الأولى أن يقدم الحجاج والبيان على البرهان الذي تدعي هذه العقلانية التزامه " ( حوار مع الدكتور طه عبد الرحمان ، اللسانيات والمنطق والفلسفة ، مجلة دراسات أدبية ولسانية ع 2، 1988 ص 132) حاول الفيلسوف امانويل كانط ، على هذا الأساس ، بناء نسق فكري ، آخذا بعين الاعتبار خصوصية التمييز بين الذاتي والموضوعي أو بالأحرى تمييز الذاتي عن الموضوعي ، ذلك أن العقل لما كان قويا "انه قوي ذلك لأنه يمكنه أن ينظم هذا العالم ، العالم البشري أو عالم الظواهر " وهو كل ما يظهر أو يدرك بالمعنى وكذلك ما يمكن أن " يمثل " في الفهم البشري ، إنها كل ما يميز الكائن عن العالم . فالعقل واستدلالاته يهم الاعتقاد وليس الإقناع ، إذ أننا نقتنع بفعل حكم ما " في حد ذاته " ولن نتواصل خارج هذا النمط من الاعتقاد الذي هو الإقناع . (argumentation , Bellenger p 10 L) . وان نكون مقتنعين ، في الحقيقة ، إنما هو نتيجة حكم باسم " العقل الخالص " انه الكلي الخالص ،المؤسس والمعتمد على دليل منطقي وهنا يفترض هذا الفيلسوف تمرينا حجاجيا ، حيث ما يجب العمل به هنا هو اعتبار كل هذا ضرورة لكل العقول ، وعليه فان كل حجاجية لها علاقة ب " السامع الكلي ". وفي هذا إعادة السقوط في البلاغة بالمعنى القدحي ، ذلك أن الاستدلال هنا سيسبح استدلالا وهميا مؤسس على بيانات تجريدية أو سفسطائية ( Bellenger p 11 ) . لكن ما دمنا نتحدث عن مفهوم الاستدلال عنده ، ما هي الفكرة التي شغلته ؟ وما هي الطريقة المنطقية أو النموذج المنطقي الذي اعتمد عليه للتدليل على ما أثاره ؟ سيقدم لنا هينتيكا في كتابه الدلاليات النظرية للعب ، وجهة نظر الفيلسوف كانط ، لكن بحلة أخرى تتجلى فيما أطلق عليه ب " اللعبة اللغوية " عنده والذي حينما طرح بعض الإشكاليات الحجاجية كان لابد عليه أن يعتمد طرق الاستدلال الحجاجي لكن بشكل متعال ، وهذا ما دفع به إلى بناء نسق استدلالي ، إذ ساورت كانط هذه الفكرة واعتبرها صحيحة رياضيا ، غير أنه أخدع بالفلسفة الدوغمائية .وتبعا لهذا فان وجهة نظره في الفلسفة المتعالية كانت تثبت دائما بكيفية إبرازه دليلا معينا من خلال النسق الاستدلالي الذي وضعه لهذا الأمر ، وخاصة أن هدفه كان بناء نموذج صوري يبحث في وجود أو لاوجود الشخص ( بصيغة المفرد) ويبحث كذلك عن وجود أو لا وجود الأشخاص ، (بصيغة الجمع ) هذه إذن فكرة عميقة شغلت بال كانط وكما يقول هينتيكا " مثيرة للاهتمام " ( Hintica, Jakko , in collaboration with J.Kulas ? the game of language , studies i game theoritical semantics and its applications 1983.p33 ) . يختلف كانط عن معاصريه في تعريفاته لقضايا كثيرة في المنطق ولاسيما ما يتصل بأنواع الاستدلال ، فنجده يقيم تساؤلات في المنطق وفي الرياضيات وكان واضحا تعامله مع هذه القضايا حينما اعتبر الاستدلال المنطقي منسق القوانين ، ويظهر هذا جليا في نظريات المنطق المعاصر وخاصة منها نظرية الأسوار التي تطبق في منطق المحمولات . وعلى الرغم من هذا النجاح الكانطي فانه اخطأ حينما ماثل بين مختلف الفعاليات(الأساليب) التي بها نتعرف على وجود الأشخاص في الواقع ، وقد عين هاته الفعاليات في إدراكه للمعنى ، وبفعله لذلك تابع التقليد الفلسفي الارسطي ولكنه كذلك كان تقليدا غير صائب حينما توصل في حالات معينة على أننا حينما ننظر إلى الأشخاص الوثيقي الصلة بالموضوع نعتبرهم حجة أو برهانا ودليلا على وجودهم بشكل يبدو واضحا للإدراك لكن بالمعنى السلبي للمفهوم ( نفس المرجع السابق ونفس الصفحة ) . وهكذا يمكن القول مع هينتيكا أن " لا نظرية الاستدلال ولا نظرية الحجاج يصلحان كأساس للدلاليات أو فلسفة المنطق بالطرقية المعينة التي أسندناها لهذه الدلاليات ( نفس المرجع ص 40) واعتمادا على هذا الرأي يمكننا ملاحظة أن الفعاليات التي بواسطتها نتعرف على صدق القضايا المسورة هي أساليب البحث والإيجاد seeking and finding قبل أن تكون أساليب لحجاجية صورية ، ( نفس المرجع والصفحة ) غير أن هاته الأساليب لا تخص فقط بشكل عام ، التبرير verification والتفنيد falsification ، ولكن لنا أن نربط ذلك بألعاب اللغة الحجاجية . يتضح من كل ما ذكرناه ، على أن قواعد البرهنة ليست غير متعالقة urrelated مع الألعاب الدلالية الخاصة بالبحث والإيجاد ، فعوض ذم واستخفاف الأساليب اللغوية للبرهنة الصورية ، يقترح هينتيكا أن تكون هناك صلة بالألعاب الدلالية لهذه الأساليب اللغوية .( نفس المرجع والصفحة ) . تبقى هناك خطوة هامة جدا وتتمثل في إخراج ما كان متسترا ، إخراج تلك العناصر الابستيمية التي كانت تنطوي ضمن فكرة التبرير وكذلك ضمن فكرة الدفاع عن قضية في لعبة حوارية معينة .فهذه المحاولة الهنتيكية هي إرادة لمفهمة أساليب التبرير والتفنيد ( الدحض) والتي هي لديه عبارة عن متواليات من الأسئلة موضوعة بازاء الطبيعة ، بلغة أخرى ، يريد أن يقارب مقولات كانط الترنسنتالية وفق نظرية لورانزن Loranzen في الألعاب الحوارية ووفق كذلك مناهج نظرية البرهان لدى دوميت Dumet و براويتز Prawitz ( نفس المرجع ص:51 ). نخلص إلى أن الإنجاز الكانطي باستنباطه المقولات والقوالب الذهنية الخاصة والمتعالية هو في حقيقة الأمر إنجاز دار حول مفاهيم استدلالية وحجاجية محضة لم يتمكن من التخلص منها فتوصل إلى أن : كل تفكير " أن "ب" عليه أن يكون إلزاما مصحوبا بشكل مبدئي ب " أفكر أن " ب " ، بهذا التسوير الكلي نصل إلى استنباط بعض خصوصيات موضوعات اللغة انطلاقا من العلاقة القائمة بينها وبين الأفراد الوثيقي الصلة بالموضوع أي مستعملي اللغة ( فرانسواز أرمنكو ، المقاربة التداولية ( ترجمة سعيد علوش ) ص 100 ) ويتعلق الأمر هنا بتحصيل القيمة الموضوعية للأنماط الأساسية في تركيب الفكر ، بحيث أن الاستعمال الموضوعي تنتظمه مبادئ موضوعة سلفا. واعتبارا لهذا الإنجاز الكانطي الكبير الذي يعود بصفة أساسية إلى تقديره للمنطق كما بلغه ، انه رحابة وقوة استقرائية صورية ارسطوطاليسية متناهية وكاملة ، وبهذا فهو وضع منطقا متعاليا موجها إلى إعادة الاعتبار إلى الأشكال المكونة للتمثيلية والمعرفة . فالمنطق المتعالي هو هذا المجهود الجبار لإنجاز جدول شامل ونهائي بالعناصر الأساسية للتمثيلية ، وان الخيط الأساسي مقتبس من جدول الأحكام التقليدية ومرتبط بالمبادئ الأولية الميتافيزيقية لعلم الطبيعة ، فاعتماد فيزيائية نيوتن هو ترجمة واضحة لارادة كانط لتحليل المبدأ في شكل يشبه تقييمية موحدة لكل نظرية فزيائية . انه التركيب الفزيائي القبلي، إذن ، كمفهوم رئيسي يسمح بالخروج من التجريدية ويحافظ على تقدم المعرفة ، وهذا يضمنه الفاعل المتعالي أو أساليب النظرية المتعالية من خلال بنيته المقولية ، أما التركيب الرياضي القبلي فيضمنه التكوين في الحدس المحض لفضاء وزمان مفاهيم الهندسة والتحليل ( نفس المرجع السابق ص 21 ). ما نستخلصه هو أن الفيلسوف إمانويل كانط ساهم بفلسفته المتعالية وضع نسق فكري كلي مستند إلى " العقل الخالص " وأثناء برهنته على وجود أو لا وجود الشخص أو الأشخاص اهتدى إلى التمارين الحجاجية حيث الاستدلال الطبيعي وبإضفاء الألبسة الدلالية للغة واللعب بها كما ذهب في ذلك هنتيكا.
#عزالدين_غازي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأنموذج الاستدلالي لدى ارسطو
-
الأنموذج الاستدلالي:من الحساب الصوري البرهاني الى الخطاب الح
...
-
الأسطوري وأسطرة اليومي
-
تجليات دهاء بنو الولاء في عصر الدخلاء : أقواس من واقع الانثر
...
-
بنو الولاء في عصر الدخلاء ، أقواس من واقع الانثروبولوجيا الس
...
-
مستويات التأويل في التراث من خلال - الكتاب لسيبويه
-
الهرمينوطيقا أو علم تأويل الخطابات
-
مفهوم قواعد المعارف
-
الاستدلال بين البرهاني والرمزي
-
اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية
-
استخدام اللغة العربية في البرامج المحوسبة : اية استراتيجية ؟
-
خاطرة الحزين في فقدان رجل مناضل جهبذ وبن شهيد حرب الريف
-
الصرافة الحاسوبية العربية: محاولة في التأصيل
-
تكنولوجيا اللغة و الترجمة الآلية
-
الذكاء الاصطناعي : هل هو تيكنولوجيا رمزية ؟
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|