(تعليق حول ما نشر عن تقديم 278 شخصية معروضاً حول ضرورة الإصلاح السياسي في سورية )
ترك الزلزال الذي أصاب المنطقة العربية نتيجة احتلال الجيوش الأمريكية والبريطانية للعراق والسقوط المخذي للنظام الديكتاتوري في العراق ـ ذلك السقوط الذي يعده الكثيرون ، بمن فيهم شخصيات رسمية مقربة في الأنظمة العربية ، سقوطاً للنظام السياسي العربي الحالي ككل ـ ترك آثاراً وخيمة على المنطقة ، وفي نفس الوقت ساهم في تحريك المستنقعات الراكدة ، وزاد الغيورين على مستقبل شعوب المنطقة شعوراً بالمسؤولية ، وتعمقاً في البحث عن أفضل السبل لخلق عناصر المنعة والقوة في مجتمعاتنا ، وسبل النضال لتحرير أراضينا العربية المحتلة في الجولان وجنوب لبنان ، وتحقيق حقوق الشعب العربي الفلسطيني في تحرير أراضيه وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس ومعالجة مأساة لاجئيه .. ونزع الذرائع من أيدي الأعداء ..
وأصبح واضحاً للعيان أنّه علينا البحث في أنفسنا عن عناصر الضعف ، وأسباب الهزيمة ، وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخر .. وأنّ ما وصلنا إليه هو نتاج لتناقضات شاملة دولية ومحلية ، وتتويج لأزمة شاملة يعيشها العرب شعوباً وأنظمة .. تتداخل فيها عناصر وأسباب كثيرة ، تبدأ من أزمة النظام القمعي الشمولي البائد في العراق ، والنظام العربي الرسمي ، والتنظيمات المنضوية تحت لوائه ، وتلك التي شتتها ومزقها شرّ تمزيق ، إلى مأزق الحكومة الصهيونية العنصرية الفاشية في إسرائيل المفضوحة أمام صمود الشعب العربي الفلسطيني ، وصولاً إلى الحكام في الولايات المتحدة الأمريكية المتحالفين مع الصهيونية ، ومخططاتها ، والمبهورين من الانتصارات السريعة التي حققتها ترسانتهم العسكرية في أوروبا الشرقية ...
وفي نفس الوقت نجد أنّ مأساة احتلال العراق ، وسرعة سقوط نظامه ؛ تقدم دروساً وحقائق لا بد من أخذها في الحسبان ، منها :
* ـ وجود أسباب جوهرية داخلية لهذا السقوط والهزيمة ، تتعلق بطبيعة الأنظمة الشمولية ( العلمانية ـ الثيوقراطية) التي تلغي كافة البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية الفاعلة ، ويستعاض عنها بهياكل تنظيمية غير فاعلة ، ويرتفع حاجز بينها وبين المواطنين ..
* ـ إن البنى الشمولية وتفريغ المجتمع من بناه ومؤسساته المدنية والأحزاب السياسية تقزم الوطن والمواطن ، وتفرغه من كل إمكانيات النمو والتطور ، والحماية الذاتية..
* ـ إنّ فرض الأحكام والقوانين العرفية الطارئة لفترة زمنية طويلة ، لن يعزز صمود البلاد في وجه الأعداء ، بل يربي أبناء المجتمع على الخوف ، ويسحق قيم الإقدام والشجاعة ، ويخلق الظروف المناسبة لترعرع ونمو الفساد .. إن حالات الطوارئ التي تسن دون مبرر مقنع ، ولفترات طويلة ، تسحق كرامة المواطن ، وهي حاضنة الفساد وحاميته ..
* ـ إنّ شعباً لا يملك منابر ديموقراطية حرة للتعبير تقتل لدى أغلبية أبنائه جذوة الإبداع ..
في البحث عن عناصر القوة :
إنّ التمعن في الظروف والأسباب التي أفرغت مجتمعاتنا وشعوبنا من عناصر القوة ، وجعلت الأمة العربية بملايينها وإمكانياتها وقدراتها تقف عاجزة في أحلك الظروف ، وقادتنا إلى الهزيمة ، يبين أنّه لا يمكن تجاوز هذه الأزمة من دون معالجة تلك الأسباب عن طريق القيام بإجراءات ملموسة في مجتمعاتنا تسمح بالتأسيس لبنية جديدة تفتح إبداعات الشعوب ، وتحصنها ، وتخلق الآليات الضرورية لحمايتها .. من الضروري لنا نحن العرب بناء مجتمعاتنا وفق بنى وآليات عمل وممارسة ديموقراطية ، تستند على العلم ، وتستفيد من تجارب الشعوب المتحضرة ، تنعكس في الممارسة المستمرة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، والتخلص من الأساليب القائمة على الشعارات والخوف وتقديس القادة الذين لا (يخطئون) !
ولقد اتفق الباحثون العرب الغيورون على مستقبل بلادهم ، على تلك الإجراءات ، والتي تتلخص في بناء أنظمة ديموقراطية متحضرة ، تنطلق من مصلحة الشعب والوطن ، وتصون التراث الذي ينسجم مع الحضارة والتقدم .. ومن أهم الخطوات الضرورية للسير في هذا الطريق ، إجراء إصلاح سياسي شامل في البنية التي تقود إلى إضعاف البلاد ، وتفرخ الفساد يوماً وتنهك الوطن وتحرمه من طاقاته وإبداعاته ، فالبنية السياسية هي المحرك الرئيس الذي يغذي بالطاقة جميع مجالات الحياة الاقتصادية ، والاجتماعية في أي بلاد ، وأي إصلاح لا يبدأ من البنية السياسية لا يمكن أن يصل إلى مبتغاه .
لو أتيح المجال لطرح سؤال واحد على المثقفين والمفكرين والمهتمين بالشأن العام من مختلف طبقات الشعب في بلداننا ، كل بمفرده ، حول سبيل الخروج من هذا المأزق الذي وصلنا إليه ، لأتى الجواب متشابهاً ، ومؤكداً على ضرورة الإصلاح السياسي الديموقراطي ..
ومن هذا المنطلق ، منطلق الشعور بالمسؤولية وضرورة الخروج من هذه الحالة المأساوية التي وصلنا إليها شعوباً وأنظمة ، تطالعنا الصحف ومنابر الإعلام يومياً بمعاريض وبيانات ومقالات لمفكرين ومثقفين ومهتمين بالشأن العام تدعو وتطالب بضرورة البدء دون تأخير بعمليات الإصلاح السياسي الديموقراطي في بلداننا ..
ونتيجة للحالة السياسية والاجتماعية غير السليمة التي نعيشها لا مفر من وجود ثغرات في كيفية وآلية التعبير عن هذه المطالب ، وبنفس الوقت في آلية تلقيها والتعامل معها .. إذ لا بد لهذه الحالة غير السليمة من أن تطبع كل نشاط بطابعها .. عندما تسود في المجتمعات علاقات غير سليمة ، حتى قوى المعارضة تحتاج إلى (واسطة) مع الجهات المسؤولة لإيصال صوتها ، ومطالبتها بما تراه ضرورياً لخدمة الوطن وتحصينه .. وفي غالب الأحيان لا يمكنها إيصال صوتها مباشرة ، بل عبر فلاتر تعد على المواطن أنفاسه بحجج أمنية مختلفة ..
هكذا تجد من يُغمز له أن يدلي بتصريح صحفي رنان حول سلبيات الحالة التي كان البارحة يتغنى بإيجابياتها .. ولا تستغرب من هذا المسؤول الذي كان البارحة يتغنى بالجمود على أنّه استقرار ، والذي ما يزال يتمسك بالقوانين العرفية الطارئة يدعوك بأعلى صوته إلى الحوار ، بل يلومك لأنّك لا تؤدي واجبك الوطني بإجراء الحوار ، فالصمت أصبح خيانة ، وفي نفس الوقت يتمسك بالحدود التي إن تتجاوزها حسب زعمه يستطيع أن يستخدم قوانين الطوارئ ليزج بك في غياهب السجون ..
وتجد من تؤمن له قناة ، غير متاحة لغيره ، لإيصال صوته إلى أعلى المستويات .. بعض من تتاح لهم إمكانية إيصال آرائهم إلى الجهات المسؤولة يدلي بدلوه منفرداً وكـأنّه حصل على غنيمة ، وبعضهم يؤثر أن يشاركه الآخرون هذه ( النعمة ) فيسطر معروضاً يدعو البعض لتوقيعه ـ بشرط أن لا يحذف الموقع أو يضيف كلمة على ما يراه حقيقة ناجزة ( عفواً ؛ يمكن لبعض المقربين دون سواهم ، وفق الآلية الاجتماعية السياسية المشوهة التي نعيش ، أن يعدلوا بعض الشيء في المعروض ) ـ بشكل سري ، أو شبه سري ..
مع كل أسف نستطيع القول أنّه وحتى الآن ، في كلا الجانبين ، كل يغني على ليلاه ..
يكمن السبب الأساسي لكل ذلك في الحالة السياسية غير السليمة التي نعيش ، والتي تتلخص في غياب الجو السياسي الديموقراطي السليم .. فالإصلاح الديموقراطي السياسي أصبح مطلباً اجتماعياً اقتصادياً وطنياً ملحاً يطالب به جميع الغيورين على مصلحة ومستقبل بلداننا في الأنظمة والمعارضة ، وليس مطلب شخصيات فحسب ، مع كل التقدير والتأييد والمساندة لجهود تلك الشخصيات وهؤلاء الأفراد ، التي تنشد مصلحة الوطن وقوته ومنعته ..
ويجد السائل عن ماهية هذا الإصلاح السياسي الديموقراطي المطلوب ، في كل الخطوات الرئيسية التي يتفق المفكرون والباحثون جماعات ووحدانا على أن تشمل المسائل الملحة والضرورية التالية :
* ـ إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وعدم فرضها إلاّ في الحالات الاستثنائية ولوقت محدد وفي أمكنة معينة من البلاد ، في أيام الكوارث المحدقة بالوطن فقط . وإطلاق سراح السجناء السياسيين وأهل العلم والفكر .. واعتبار أحكام المحاكم الاستثنائية في قضايا الرأي باطلة ..
* ـ فسح المجال لتفتح مؤسسات المجتمع المدني التي تشكل جهاز المناعة المراقب للحكومات ، واحتياطياً للوطن في إبداع وسائل الدفاع عنه ، وحمايته ..
* ـ إصدار القوانين التي تكفل تأمين الحقوق الثقافية والحقوقية والمواطنة الكاملة لجميع أبناء الوطن ..
* ـ إصدار قوانين : أحزاب ، ومطبوعات ، وانتخابات متحضرة وفق قوانين تصون الحرية ، بعد طرح مشاريعها للنقاش العام يشارك فيه المفكرون والمثقفون ورجال السياسة والعلم ، وعموم أبناء الشعب ، والتأكيد على "الحرية الأكاديمية " التي تحظر اعتقال رجال العلم والأكاديميين على ما يطرحونه من أفكار علمية ..
* ـ إطلاق حوار وطني ديمقراطي شامل حول المخاطر العظمى، التي تواجهها البلاد ، على أن يؤسس الحوار على أسس علمية بعيداً عن الثأرية وروح التعصب والانغلاق.
* ـ بناء مؤسسات التضامن العربي على أسس ديموقراطية ، ونشر مؤسسات المجتمع المدني على الصعيد العربي ..
* ـ تطوير لغة الخطاب العربي للوصول والتأثير في الرأي العام العالمي بمجمله ، والنظرة الموضوعية عند البحث في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية .. إن تحرير اليهود والإسرائيليين من الفكر العنصري هي مهمة إنسانية وعربية ستترك آثارها على مستقبل العالم ككل ..
ومما لا شك فيه أنّ حكام الولايات المتحدة الأمريكية ونتيجة حربهم غير الشرعية ضد العراق ، قد هزوا ديكتاتوريات كادت تصف نفسها بالإلهية والمقدسة ، وفي الوقت ذاته وجهوا صفعة قوية للديموقراطية ودعاتها في العالم العربي ، وقد أساءت هذه الحرب لقيم الديموقراطية ، لقد كانت حرباً على الأسس ، والقيم القانونية ، والفكرية الديموقراطية والحرية والليبرالية ، وقيم سيادة القانون ، التي تشكل الضمانة الرئيسية لتطور الولايات المتحدة ، وتخطيها لأزماتها الدورية ..
إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ليست شعاراً وهمياً يعادينا ونعاديه ، إنّها ليست خرافة أو عنقاء ، إنّها مجتمع ودولة موجودة على الكرة الأرضية التي نعيش ، إنّها واقع موضوعي يحوي تناقضات داخلية وتناقضات خارجية تنعكس على سياساته ، علينا معرفته والتعامل معه للاستفادة من إنجازاته واتقاء شرور أشراره ..
من هنا تنتصب مهمة أساسية أمام الغيورين على مستقبل الإنسانية في العالم ككل وفي وطننا العربي على وجه الخصوص ، في البحث عن سبل التفاعل مع الآخر ، ونقل تلك الأفكار إلى التطبيق العملي ، لمواجهة تبعات حالة تحكم قطب واحد بمصير العالم ، ولتجاوز هذه الحالة الشاذة في تاريخ البشرية .. ومما لا شك فيه أن أولى أولويات هذا الفعل هي وجود حالة ديموقراطية حقيقية في مجتمعاتنا ، تساعد في مكافحة الفساد ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وتنزع الذرائع والسلاح من العدو ، وتكسبنا عناصر القوة وتتيح القيام بالمبادرات وتطبيقها في الواقع ، على طريق المقاومة المشروعة لتحرير أراضينا المحتلة وإحقاق حقوق شعوبنا ، فضلاً عن تجاوز الحاجز الذي يجعلنا غير مقبولين سلفاً من الآخر .. لنخاطبه ونؤثر فيه لمصلحة قضايانا العادلة ، باستخدام وسيلة ولغة مجربة ألا وهي :الاعتماد على الشعوب المسلحة بالديموقراطية ..
طرطوس 7/6/2003
[email protected]