|
لبنان: حول الإنتخابات النيابية ...الطريق اللينيني إلى الثورة
جريدة -المناضل- اللبنانية
الحوار المتمدن-العدد: 1726 - 2006 / 11 / 6 - 10:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
كانت دائما مسألة الإنتخابات النيابية من أهم مسائل التكتيك الثوري، وقد شهدت الحركة الثورية طوال تاريخها نقاشا بين دعاة الإشتراك في الإنتخابات ودعاة مقاطعتها. كما كان هناك نقاش آخر بين الثوريين بجميع فروقاتهم التكتيكية من جهة، والإصلاحيين المؤمنين بإمكانية الوصول إلى الإشتراكية عبر الطريق البرلماني. وكلا النقاشين على قسط كبير من الأهمية، إلا أن الأول نقاش تكتيكي صرف ويمكن أن يحصل داخل الحزب الثوري الواحد، بينما الثاني نقاش حول الإستراتيجية وبالتالي محك للصفة الثورية لأطراف النقاش ولماركسيتها.
--------------------------------------------------------------------------------
إن اقتراب موعد الإنتخابات النيابية في لبنان هو فرصة مناسبة لدراسة معطيات النقاش حول الموقف من الإنتخابات، وهو نقاش عالمي البعد، حيت نجد بين صفوف دعاة الماركسية في لبنان تمثيلا لشتى المواقف المذكورة. وسوف نعتمد في هذه الدراسة على التكتيك اللينيني كما شرحه لينين في مؤلفاته وخاصة "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية" وكما نجده في قرار المؤتمر الثاني (1920) للأممية الشيوعية " الحزب الشيوعي والنزعة البرلمانية".
الحزب الشيوعي اللبناني والطريق البرلماني
كان الحزب الشيوعي اللبناني طوال الفترة الشهابية ونتيجة لصغر حجمه و"سريته" حزبا لا يلعب دورا مباشرا في المعركة الإنتخابية، بل يكتفي بدعم المرشحين "الوطنيين والتقدميين" أي الشهابيين قبل انتقال البيرقراطية الشهابية إلى العمالة المباشرة للإمبريالية الأمريكية (بعد أزمة بنك أنترا وبعد حرب حزيران : 1966 - 1967) والجنبلاطيين (جناح الشهابيين اليساري ) بعد هذا الإنتقال.
يصف الحزب الشيوعي مرحلته السوداء (1958 – 1964 ) في وثائق مؤتمره الثالث ( 1968 ) وصفا واقعيا ينطبق على عواقب هذه المرحلة الممتدة حتى سنة 1967: " في مثل هذه الظروف ( وقوف الحزب ضد الوحدة السورية – المصرية وضد عبد الناصر) لا يمكن حتى الكلام عن النشاط الجماهيري للحزب، ولا عن سياسية تحالفات جدية مع القوى الوطنية الأخرى، مادمنا قد عزلنا أنفسنا عن القوى الأساسية التي كنا نعمل معها ... " ( صفحة 208 ) وليس في هذا الإعتراف الواقعي سوى اعتذار الحزب من "القوى الوطنية الأساسية" ( الناصريين) للخط "الفظيع" ( على حد تعبير الحزب نفسه ) الذي اتبعه اتجاهها. وفي قوة الإعتذار دليل درجة تبعية الحزب لهذه القوى ! فكان على الحزب بعد أن أدرك الطابع " اليساري الإنعزالي" لخطته السابقة وبعد أن برزت تجمعات تنافسه الماركسية من على يساره، أن يعود إلى "النشاط الجماهيري". حذار أن يظن أحد أن الحزب قرر القيام بحملة تحريض ثوري ضد النظام في صفوف الجماهير العمالية و الفلاحية ! استغفر الله مثل هذا الظن ! فمفهوم الحزب للنشاط الجماهيري هو خير تعبير عن استراتيجيته.
وقد رسم الحزب خطة تحتوي على مراحل أولاها الحصول على الشرعية: "يعمل الحزب لفرض علنيته على اعتباره طليعة الطبقة العاملة (...) إن شرعية الحزب الشيوعي وإلغاء القوانين والتدابير الرجعية الكيفية التي تعوق نشاطه ونضاله ليست قضية هامة ومسألة رئيسية بالنسبة للطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين والمثقفين الثوريين وغيرهم من الديمقراطيين وحسب، بل هي إلى ذلك، وبالدرجة الأولى، ضرورة وطنية (؟)، وهي المسألة الرئيسية بالنسبة لآفاق كل تطور ديمقراطي وطني في البلد " . (وثائق المؤتمر الوطني الثاني – صفحة 96 ).
إن هذا التقديس المفرط للشرعية في اعتبارها " مسألة رئيسية لآفاق كل تطور ديمقراطي وطني" ينم عن نزعة أخرى وهي تقديس الطريق البرلماني. إذ أن الغاية الأولى والأساسية من الشرعية ليست سوى إتاحة المجال للحزب في تقديم مرشحين منه إلى الإنتخابات النيابية.
وبالفعل ، كانت الخطوة التالية بعد أن حصل الحزب على الشرعية ( بفضل مناورات جنبلاط وليس بفضل "نضالاته" كما يزعم) أن أعلن في مؤتمره الثالث ( الذي انعقد مؤخرا ) عن اشتراكه في الإنتخابات ( وهي المحاولة الثانية بعد الأولى الفاشلة في 1968 ) ، تنفيذا لهدف " تمثيل الحزب الشيوعي اللبناني في المجلس " . ويشدد الحزب في الوقت نفسه على ضرورة "التعاون الإنتخابي بين القوى التقدمية" ( وهي في رأيه مؤلفة من "الحزب التقدمي الإشتراكي" والبعثيين والناصريين ) وضرورة تشكيل جبهة تضمها.
ومما لا شك فيه أن الخطوة التالية للحزب ( المتوقفة على نجاح السابقة ) سوف تكون محاولة إيصال "الإتحاد الوطني التقدمي" إلى السلطة عبر حصوله على أكثرية مقاعد المجلس النيابي.
إن هذه المحاولة غير الواقعية هذا العام حيث لا أوهام لدى الحزب في إمكانية "معجزة" انتخابية توصله و حلفائه إلى موقع الأكثرية البرلمانية، وربما تكون على جدول أعمال المؤتمر القادم ( ليس من العجيب في هذا الصدد أن تجري مؤتمرات الحزب كل أربع سنوات شأنها شأن الإنتخابات النيابية).
أين الإنتهازية في كل هذا ؟ أليس لينين هو الذي دافع عن ضرورة الإستفادة من الإنتخابات ؟ نعم ولكن ليس الإنتهازية في الإشتراك بالإنتخابات بحد ذاته ، إنما هي كامنة في نظرة الحزب لاشتراكه في الإنتخابات، طريقة خوضه المعركة الإنتخابية. "إن الإنتقاد وأقصى الإنتقاد الذي لا يعرف الهوادة والمسالمة أبدا، ينبغي أن يوجه، ولكن لا إلى البرلمانية والنشاط البرلماني، بل إلى أولئك الزعماء الذين لا يستطيعون ، وبالأحرى إلى أولئك الذين لا يريدون،أن يستفيدوا من الإنتخابات البرلمانية ومن منبر البرلمان بالطريق الثورية ، بالطريق الشيوعية." ( لينين " السيارية...." ).
كيف ينظر الحزب الشيوعي اللبناني إلى الإنتخابات ؟ نجد الجواب على ذلك في تصريحات عديدة، منها ما ورد في "البيان السياسي العام الصادر عن المؤتمر الثالث" ( جريدة " الأخبار" ): " يعلق الشيوعيون أهمية كبيرة على الإنتخابات النيابية والبلدية ويناضلون مع الجماهير الشعبية من أجل استخدام المجلس النيابي، قدر الإمكان، وسيلة لطرح المطالب الشعبية والعمل على تحقيقها. ويدرك الشيوعيون أن وحدة القوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية كفيلة بفرض الإصلاحات وإيصال ممثلين عنها إلى المجلس النيابي". إن نظرة الحزب الشيوعي اللبناني للبرلمان نظرة غيبية، وكأن المجلس النيابي أداة محايدة طبقيا، ليس لها طبيعة محددة، أداة تصلح في كل زمان ومكان ولم تطرأ عليها عشرات السنين بل قرن بكامله أي تبديل يذكر حتى يصلح استعمالها كما في القرن التاسع عشر " لفرض الإصلاحات الديمقراطية".
ينطلق الماركسيون الثوريون في نظرتهم إلى البرلمان من فهمهم لطبيعة العصر بكامله، عصر اهتراء الرأسمالية العالمية أي عصر الإمبريالية. وهي النظرة التي نجدها لدى الأممية الشيوعية في فترتها الثورية قبل التدهور الستاليني: " لقد أصبح البرلمان ، في الشروط الحالية، المتميزة بهيجان الإمبريالية، أداة كذب وتزوير وأعمال عنف وتدمير وأعمال لصوصية، صنع الإمبريالية، وقد فقدت الإصلاحات البرلمانية، غير المنسقة والمستقرة وغير المصوغة وفقا لخطة شاملة، كل أهمية بالنسبة للجماهير الكادحة ( ... ) على الشيوعية أن تأخذ كمنطلق الدراسة النظرية لعصرنا ( ذروة الرأسمالية، ميول الإمبريالية إلى نفي أو تدمير نفسها، تفاقم مستمر للحرب الأهلية ، إلخ ) ( ... ) بالنسبة للشيوعيين، لا يمكن للبرلمان في أي حال من الأحوال، في الوقت الحاضر، أن يكون مسرح نضال في سبيل إصلاحات وفي سبيل تحسين وضع الطبقة العاملة، كما جرى في بعض الأحيان، في العصر السابق. وقد انتقل مركز ثقل الحياة السياسية الحالية، نهائيا وبشكل كامل، إلى خارج البرلمان" (قرار المؤتمر الثاني للأممية الثالثة الشيوعية ( 1920 ) حول "الحزب الشيوعي والنزعة البرلمانية" ).
أما الحزب الشيوعي اللبناني، فيبدو أن تطور الظروف بالنسبة إليه تطور "ديالكتيكي" إلى حد أننا في مرحلة انتقال الثقل السياسي من خارج البرلمان إلى ...داخله ! ولا نبالغ ! فهذا ما ستخلصه الرفيق جورج حاوي في تقريره أمام المؤتمر الثالث: مزيد من العمل الإنتخابي ! " لقد اتضح ( ... ) أن الحزب كان يمارس بعض النشاط الإنتخابي مرة كل أربع سنوات وشهرين قبل الإنتخابات بينما يقتضي العمل الإنتخابي نشاطا يوميا دائما طوال الأربع سنوات التي تفصل بين دورتين انتخابيتين. إن إعادة النظر بشكل شامل بهذه الممارسة قد جرى التأكيد عليها بوضوح أثناء النقاش تحضيرا للمؤتمر من قبل الشيوعيين ". ("الأخبار"). إن الحزب الشيوعي اللبناني سائر على خطى زملائه الكبار في البلدان الأخرى ( أوربا خاصة ) فهو في طريق التحول إلى حزب انتخابي. لا بل يجيد في هذا الطريق: إنه على استعداد في هذا السبيل للقيام بتحالفات مع أطراف لا تمت بصلة حتى إلى "الديمقراطية" وذلك بهدف " عزل غلاة الرجعية" أي التحالف مع الرجعية لعزل غلاتها ! "... الحد الأدنى الضروري من المرشحين التقدميين في لوائح قد تضم فئات غير تقدمية ( ! ) دون أن تفقد طابعها التقدمي العام (؟)، والحد الأدنى الضروري من الإتفاقات مع قوى أخرى (؟) في مختلف المناطق على أساس إضعاف وعزل غلاة الرجعية (؟) وتعزيز تناقضات البرجوازية (؟؟). " (جورح حاوي. "الأخبار". العدد 913).
وليست هذه التحالفات بمجملها سوى وسائل تكتيكية ( أليس الهدف مبرر الوسيلة ؟) سوف تسمح بلا ريب بتحقيق الأمنية الكبرى ، " الوصول إلى زيادة ملحوظة لتمثيل الإتجاه الوطني التقدمي داخل المجلي النيابي" وذلك طبعا انسجاما مع المبادئ والتعاليم اللينينية ! " يجب خوض الحملة الإنتخابية، ليس في اتجاه الحصول على أكبر عدد من النيابات بل في اتجاه تعبئة الجماهير تحت شعارات الثورة البروليتارية." ( المؤتمر الثاني للأم.ش).
إن التشابه بين لغة الحزب الشيوعي اللبناني ولغة الأممية الشيوعية، لغة اللينينية، هو بدرجة التشابه بين اللغتين الصينية والعربية ! وحتى يستولي "الإتجاه التقدمي" على أكثرية المقاعد النيابية، تنتقل البلاد إلى المستقبل الوردي اللون (مثل علم "الحزب التقدمي الإشتراكي") وهو مستقبل "الحكم الوطني الديمقراطي" ( بالتحالف مع البعثيين والناصريين الذين اشتهروا في أقطار أخرى بديمقراطيتهم المفرطة !) الذي يفسح المجال (؟) أمام الإنتقال (السلمي ، بلا ريب !) إلى الإشتراكية" ويكون لبنان قد لحق حينئد بقطار الطريق السلمي البرلماني إلى الإشتراكية.
وتمهيدا لهذا المستقبل المشرق لا يتردد الحزب ( بلسان جورج حاوي في المؤتمر الثالث) في منح شهادة رضاه لشخص رئيس الجمهورية بالذات " نحن الشيوعيون سبق وأعلنا، ونؤكد اليوم، ترحيبنا بما صرح به رئيس الجمهورية عندما قال: (إن الذين يطمعون بتغيير نظام لبنان عليهم أن يسلكوا إلى ذلك الطرق الشرعية الديمقراطية، طرق الإستفتاء. وإذا حملتهم الأكثرية الشعبية إلى السلطة بعد إنتخابات يؤمن فيها تكافئ الفرص لكل الفرقاء فأهلا وسهلا بهم)". ("الأخبار").
هل نتجنى إذا اتهمنا الحزب الشيوعي اللبناني بتضليل الجماهير وزرع الأوهام في صفوفها حول استعدادات البرجوازية الحاكمة في التخلي عن منصبها ! وهل نتجنى إذا وصفنا أطروحاته بأنها أبعد ما يكون عن اللينينية؟ إن رأي الشيوعيين الثوريين معروف ولا تجهله سوى التحريفية الستالينية. نجده في كتابات مؤسسي الماركسية وفي تعاليم الأممية الشيوعية: "إن البرلمانات البرجوازية تشكل أحد الأجهزة الرئيسية لآلة الحكومية البرجوازية، ولا يمكن بالتالي الإستيلاء عليها من قبل البروليتاريا كما لا يمكن الإستيلاء على الدولة لبرجوازية، بوجه عام. إن مهمة البروليتاريا هي في تفجير الآلة الحكومية البرجوازية، في تدميرها، بما فيها المؤسسات البرلمانية، أكانت في الأنظمة الجمهورية أم الدستورية الملكية. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات البلدية. إنها في الحقيقة، هي أيضا جزء من الآلة الحكومية البرجوازية: يجب تدميرها من قبل البروليتاريا الثورية واستبدالها بمجالس (سوفيات) النواب العمال.
ترفض الشيوعية أن ترى في البرلمانية أحد أشكال المجتمع المستقبل، ترفض أن ترى فيها شكل الديكتاتورية الطبقية للبروليتاريا. وتنفي الشيوعية إمكانية استيلاء مستديم على البرلمان، إنها تهدف إلى إزالة البرلمانية. لا يمكن مذاك التكلم عن استخدام المؤسسات الحكومية البرجوازية سوى بهدف تدميرها. ولا يمكن طرح المسألة سوى في هذا المعنى وحده." ( المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية). وما أبعد ذلك الطرح عن "استخدام المجلس النيابي وسيلة لطرح المطالب الشعبية والعمل على تحقيقها" كما يريد الحزب الشيوعي اللبناني.
لكننا نصل هنا إلى المحك الحقيقي، للإختلاف الإستراتيجي: فبينما يرى الحزب أنه يمكن تحقيق البرنامج "الوطني الديمقراطي" من ضمن إطار الدولة البرجوازية، يرى الشيوعيون الثوريون، كما أكد عليه تروتسكي في وجه التحريف الستاليني، "أن الحل الحقيقي والكامل للمهام الديمقراطية ومهام التحرير القومي ( في البلدان المتخلفة) لا يمكنه أن يكون إلا دكتاتورية البروليتاريا، التي تقود الأمة المضطهدة، وبشكل خاص جماهيرها الفلاحية"، أي أن السبيل الوحيد إلى إنجاز البرنامج الديمقراطي الوطني إنجازا فعليا هو سلطة العمال والفلاحين.
الغباوة الديمقراطية ونقيضها الطفولي
لقد رأينا في نهاية التحليل، كيف أن نقاش خطة الحزب الشيوعي للبرلمانية يقودنا إلى نقاش استراتيجية الستالينية في الثورة على مراحل. لكن التأكيد على أن حل المهام الديمقراطية والقومية يقتضي تحطيم الدولة البرجوازية، غطاء النهب الإمبريالي، وقيام دكتاتورية البروليتاريا، هذا التأكيد لا يشكل جوابا على مسألة الموقف من الإنتخابات البرلمانية.
فلم ينقض لينين الغباوة البرلمانية للإشتراكية الإصلاحية، اتجاه معظم أحزاب الأممية الثانية، بل كان عليه أيضا وعلى البلاشفة دحض أطروحات اليسار الطفولي " المعادية مبدئيا للإشتراك في الإنتخابات االنيابية.
لكن لا بد من التنويه في صدد هذا بأن النقاش مع الطفوليين يدور بين أصحاب المنطلق الإستراتيجي الواحد، أي أنه نقاش حول التكتيك. ويمكن صياغة موضوعه كالتالي: ما هو دور البرلمان في نضال البروليتاريا في سبيل الإستيلاء على السلطة ؟ حيث لا جدال حول هدف الثورة البروليتارية.
إن الموقف الطفولي متفش في قطاع واسع من الشبيبة الثورية في لبنان، وتعود أسباب هذا إلى غياب التقاليد اللينينية الثورية في بلد، بل منطقة، لم يشهد في تاريخه حتى الآن سوى التيار الإنتهازي الستاليني من تيارات الحركة العمالية. ولا عجب إذا حاولت بعض الأطراف اليسارية تنظير مقاطعة الإنتخابات.
يتحجج الطفوليون بطبيعة البرلمان: أليس المجلس النيابي، وفي لبنان خاصة مجلسا برجوازيا مهترئا، مجمع لصوص ووصوليين لا يرون في المقعد النيابي سوى وسيلة لتعبئة جيوبهم ؟ أليس مجلسا طائفيا رجعيا يضم أبناء "العائلات"، رجال"الإقطاع السياسي" ؟ أليس القانون الإنتخابي اللبناني طائفيا رجعيا ؟ كل هذا صحيح، بلا ريب. فيستنتج الطفوليون من ذلك أن واجب الثوريين هو في مقاطعة البرلمان، عدم الإشتراك في الإنتخابات النيابية. لكن الحجة قديمة ودحضها سهل: إن وصف البرلمان كما أعلاه كان قد يشكل سببا لعدم الإشتراك في الإنتخابات لو كانت الغاية من الإشتراك تغيير نظام الحكم أي لو كان يراد القضاء على أوضاع الإستغلال السائدة، بواسطة البرلمان. إن الحجة على هذا المستوى صائبة تماما في دحض أوهام الحزب لشيوعي اللبناني الإصلاحية حول إمكانية الطريق البرلماني إلى "حكم وطني ديمقراطي يفسح المجال أمام الإنتقال إلى الإشتراكية".
لكن هدف اللينينيين من اشتراكهم بالإنتخابات ليس، كما بينا، الإستيلاء على البرلمان، بل هو بالعكس وعلى وجه التحديد: فضح المهزلة الإنتخابية وتعبئة الجماهير في سبيل الثورة البروليتارية، التي تعني، في التحليل الأخير، القضاء على البرلمان.
إن مثلا حديثا لتطبيق التكتيك اللينيني كان اشتراك "العصبة الشيوعية" ( الفرع الفرنسي للأممية الرابعة ) في انتخابات الرئاسة الفرنسية سنة 1969، ومن الشعارات التي خاض تحتها المرشح التروتكسي حملته: "الإنتخابات لن تحل شيئا ! لن يستولي الشغيلة على السلطة بواسطة صناديق الإقتراع بل بنضالاتهم ! وأيضا " لتسقط الغباوة البرلمانية ! عاشت الثورة الإشتراكية!".
فعندما تخاض حملة انتخابية على هذه الصورة لا مجال للتحجج بطبيعة المجلس النيابي لتبرير المقاطعة. وهذا ما أكدت عليه الأممية الشيوعية: " لا يمكن التذرع ضد النشاط البرلماني بالصفة البرجوازية للمؤسسة ذاتها. فلا يدخل إليها الحزب الشيوعي للقيام بعمل نظامي، بل لتهديم الآلة الحكومية والبرلمان من الداخل (...) ليست "معاداة البرلمان" المبدئية أي الرفض المطلق والقاطع للإشتراك في الإنتخابات وفي النشاط البرلماني الثوري ، سوى مذهب صبياني وساذج لا يصمد أمام النقد ، وينتج أحيانا عن اشمئزاز من الساسة البرجوازيين ، لكنه لا يرى من جهة أخرى ، إمكانية البرلمانية الثورية " (المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية).
هل يعني ذلك أن اللينينية تدعو إلى الإشتراك مهما كانت الظروف؟ لا يعترف اللينينيون بأي مبدأ مطلق سوى مصالح النضال الطبقي للبروليتاريا. وكل الإعتبارات التكتيكية تخضع لهذه المصالح. فكما يرفضون مبدأ المقاطعة، يرفضون أيضا أن ينظروا إلى الإشتراك في الإنتخابات كمبدأ دائم ومطلق. على عكس ذلك، فقد دلت تجربة البلاشفة أنه، كما يقول لينين، "عند الجمع بين أشكال النضال العلنية وغير العلنية والبرلمانية وغير البرلمانية، يكون من المفيد بل من اللازم أحيانا الإمتناع عن الأشكال البرلمانية." ( "اليسارية...").
إن قرار الإشتراك في الإنتخابات أو مقاطعتها يستند في نظر اللينينيين إلى تحليل ملموس لوضع ملموس " وليس إلى مبدأ مطلق غيبي. لقد سمحت تجربة الحزب البلشفي في روسيا بتحديد الظروف التي تلزم فيها مقاطعة الإنتخابات. ويذكر لينين تجربة المقاطعة في غشت 1905 ونجاحها التام لكنه يفسر أسباب هذا النجاح بتناسب شعار المقاطعة مع الظروف الملموسة التي رفع فيها: "إن المقاطعة كانت آنذاك صحيحة لا بسبب أن عدم الإشتراك في البرلمانات الرجعية هو بوجه عام أمر صحيح ، بل لصحة تشخيص الحالة الموضوعية التي كانت تؤدي إلى تحول الإضرابات الجماهيرية بسرعة إلى إضراب سياسي ثم إضراب ثوري وبعد ذلك إلى انتفاضة." ("اليسارية...").
أما خارج ظرف مماثل ( نهوض جماهيري ثوري)، فيصبح شعار المقاطعة شعارا في غير محله يؤدي إلى انعزال الطليعة وانقطاعها عن جماهير الشغيلة. فالجماهير ليست واعية باستمرار للطابع الطبقي الرجعي للمؤسسة البرلمانية لكنها بالعكس تنظر إلى البرلمان، في الفترات "الهادئة" نظرة اهتمام، حينها يكون من واجب الطليعة البروليتارية أن تستغل هذا الإهتمام، أن تستغل فترة الإنتخابات وإذا تمكنت، منبر البرلمان، لتفضح أمام الجماهير خدعة الديمقراطية البرجوازية وتبث في صفوفها برنامج الثورة البروليتارية. هذا هو التكتيك اللينيني الذي يجهله الطفوليون الذين يرفعون شعار المقاطعة في ظروف كظروف لبنان الحالية.
" ما دمتم عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، فإنكم ملزمون بالعمل من داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال استحمقهم الكهنة وتركتهم الحياة الريفية في الظلمات، وإلا نشأ خطر تحولكم إلى مجرد مهذارين." ( لينين " اليسارية ...). نجد تلخيص الموقف اللينيني من مسألة الإشتراك في الإنتخابات في البند الثامن من قرار الأممية الشيوعية آنف الذكر. " مع اعترافه، كقاعدة عامة، بضرورة الإشتراك في الإنتخابات البرلمانية والبلدية والعمل داخل المجالس النيابية والبلدية، على الحزب الشيوعي حسم المسألة وفقا للوضع الملموس، على ضوء الميزات الخاصة للوضع. إن مقاطعة الإنتخابات أو البرلمان، كذلك الخروج من البرلمان، هي مقبولة بوجه خاص في وجود شروط تسمح بالإنتقال المباشر إلى النضال المسلح للإستسلاء على السلطة".
الطريقة اللينينية في الإشتراك بالإنتخابات
إذا كان موقف المقاطعة يفترض إمكانية الحركة الثورية في حل البرلمان، يفرض الإشتراك مثله شروطا محددة أسهل منالها من شروط المقاطعة لكنها ضرورية أيضا: نعني بهذه الشروط وجود منظمة تملك حدا أدنى من القوة والمتانة يسمح لها بخوض عمل تحريضي بهذا المستوى. هذا فيما يتعلق بتنفيذ موقف الإشتراك. لكن غياب هذه الشروط لا يمنع شرح الموقف شرحا دعائيا وتثقيفيا.
لو وجدت منظمة لينينية ثورية ...
كان عليها اتجاه الإنتخابات النيابية في لبنان أن تشترك بترشيح أعضاء منها ( تحدد عددهم إمكانية المنظمة) في المناطق حيث لها أقوى نفوذ. لكنها في هذا الترشيح لا تنجر في التقاليد الإنتخابية السائدة بل تقف ضدها عمليا: أي أنها لا تكتفي بفضح تحريضي لمهزلة الإنتخابات والديمقراطية البرجوازية، بل ترشح قدر إمكانها رفاقا ينتمون إلى الأوساط البروليتارية ويجمعون ثمن الترشيح (3000 ل. ل) على شكل تبرعات على أبواب المعامل أو بين مسحوقي الريف والمدينة.
أي أن على المرشحين الشيوعيين الثوريين في حملتهم، كما لو تم انتخابهم، أن يسلكوا الطريق الثوري الذي حددته الأممية الشيوعية: " على النواب الشيوعيين، وإن لم يكن منهم سوى واحد أو إثنين، أن يتحدوا الرأسمالية بكل تصرفهم وأن لا ينسوا أبدا أن وحده جدير الشيوعي الذي برهن عن نفسه، ليس كلاما بل بالأفعال، انه عدو المجتمع البرجوازي وخدامه الإشتراكيين – الوطنيين." ( المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية).
أما واجب نائب شيوعي ( إذا فاز أحد مرشحي الحزب) فنجد أفضل تصوير لها في ما رواه زينوفييف عن حديث لينين إلى النواب البلاشفة، هذا الحديث اللاهف بالروح البروليتارية الثورية: " سعى لينين إلى تعليم قلة من النواب العمال في الدوما (برلمان روسيا القيصرية) على طرق البرلمانية الثورية. ليتكم سمعتم الأحاديث بين لينين ونوابنا الشباب عندما كان يعرض عليهم دروس هذا النوع من البرلمانية. كان يأتي إلينا بروليتاريون بسطاء من بيتروغراد ( بادييف وآخرون) ويقولون: " نريد أن نبدأ عملا تشريعيا جديا، نريد أن نشاورك حول الميزانية، حول المشروع هذا أو ذاك، حول بعض التعديلات في بعض المشاريع أدخلها حزب الكاديت (الليبراليون) " إلخ. وجوابا قهقه الرفيق لينين من صميم قلبه وعندما سألوه، مدهوشين بعض الشيء، عن سبب ضحكه، أجاب لينين بادييف: " ماذا تريدون من ميزانية وتعديل ومشروع القانون؟ أنتم عمال والدوما موجودة للطبقة الحاكمة. عليكم فقط أن تتقدموا وتخبروا عامة روسيا بلغة بسيطة، حول الطبقة العاملة. صفوا فضاعة العبودية الرأسمالية، اجمعوا العمال للقيام بالثورة وأرموا في وجه هذه الدوما الرجعية أن أعضائها لصوص ومستغلون! من الأفضل لكم أن تقترحوا "مشروع قانون " ينص على أننا سوف نأخدكم جميعا بعد ثلاث سنوات، أيها الإقطاعيون الرجعيون، وسوف نشنقكم إلى عواميد المصابيح. هذا سوف يكون مشروع قانون فعلي ! " تلك كانت دروس "البرلمانية" التي يعرضها لينين على النواب" ( 1918 " خطاب في مناسبة محاولة اغتيال لينين الفاشلة").
إن هذا الوصف بليغ بما فيه الكفاية ! ولا نحتاج إلى قدرات خاصة على التنجيم للتكهن أن تصرف ممثلي الحزب الشيوعي اللبناني ( إذا نجحوا أو نجح أحدهم في الوصول إلى المجلس) سوف يكون مختلفا تماما، إن لم نقل مناقضا تماما ! يبقى على الحزب الثوري أن ينطلق دائما من أن عمله البرلماني عمل تكتيكي ليس أكثر من وسيلة للتحريض الثوري في خدمة النضال الحقيقي، النضال الطبقي.
" إن العملا لبرلماني، الذي يقوم خاصة على استخدام المنبر لأغراض التحريض الثوري ولفضح مناورات الخصم ولتجميع الجماهير حول بعض الأفكار، تلك الجماهير التي، وخاصة في البلدان المتخلفة، تنتظر إلى البرلمان بأوهام ديمقراطية كبيرة ، إن هذا العمل يجب أن يخضع كليا لأهداف ومهام نضال الجماهير خارج البرلمان. ( م 2 أ . ش ) .
في ظروف الطليعة الثورية الحالية ...
ليس لدى الشيوعيين الثوريين في الوقت الحاضر ونظرا لحداثة نشأتهم ونشأة اليسار الثوري بمجمله من جهاز تنظيمي متين ليتمكنوا من الإشتراك في الإنتخابات، أي أننا لم نحقق لحد الآن "التراكم الأولي" الضروري قبل الإنطلاق بعمل تحريضي واسع النطاق. إن واقعنا الآن واقع تجمعات دعائية تفرض علينا ظروفنا الإقتصار على نشاط دعائي (بالمعنى اللينيني للكلمة – أنظر "ما لعمل ؟ "). لن يبقى موقفنا موقفا دعائيا يجب نشره وشرحه في أوساط الطليعة كمساهمة في النقاش العام بين الثوريين. لكن هناك مسالة أخرى تبقى مطروحة وهي موقفنا من مرشحي الحزب الشيوعي اللبناني: إن هذه المسألة كسواها من مسائل التكتيك تخضع للظرف الملموس.
إن تأييد مرشحي الأحزاب العمالية الأخرى يشكل في بعض الأحيان موقفا تكتيكيا تقفه الطليعة اللينينية سعيا منها إلى إقامة "جبهة بروليتارية موحدة"، ويكون هذا الموقف بمثابة برهان أمام الطبقة العاملة عن أن اللينينيين هم المدافعون عن وحدة الطبقة العاملة في وجه الرأسمالية. لكن هذا الموقف ليكون مبررا يفترض وجود أحزاب عمالية أخرى أي أحزاب ، أو حزب تسيطر رغم انتهازيتها على قطاع واسع من الطبقة العاملة وتظهر في مظهر تيار يعبر عن مصالح الطبقة العاملة العامة.
في رأينا إن طريقة الحزب الشيوعي اللبناني في خوض الإنتخابات أي هذه الطريقة التي تخطت حتى التقاليد الستالينية إلى عقد تحالفات مع فئات وأطراف لا تمت إلى "التقدمية" ( بمفهومها المائع) بصلة، وتبعية الحزب التامة تجاه جنبلاط التي تؤدي نتيجة لميزان القوى (ضعف الحزب نسبة إلى غيره من الأحزاب الشيوعية العالمية) إلى أن يبرز الحزب الشيوعي كمجرد ذيل للحزب التقدمي الإشتراكي حتى في نظر الجماهير، إن هذه العوامل تجعل أن تأييد الحزب الشيوعي اللبناني لا يستطيع أن ينجم عن موقف طبقي (حيث يفتقر الحزب إلى الطابع البروليتاري) وسوف يكون دعما للعبته الإنتهازية للغاية.
على الشيوعيين الثوريين، وخاصة أنهم غير معروفين من أوسع الجماهير وحتى من صفوف العمال المتقدمين، أن يسعوا إلى فضح لعبة الإصلاحيين والإنتهازيين وإلى ترويج النظرة الماركسية الثورية للإنتخابات قدر إمكانهم.
في سبيل بناء حزب لينيني ثوري !
جريدة "المناضل" – العدد التاسع. آذار 1972 ( ضمن كراس انتصارا للينين. صفحة 111 )
#جريدة_-المناضل-_اللبنانية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|