|
إطلالة على الفلسفة العربية منذ أصولها اليونانية إلى حضورها في أوربا (الجزء الثالث)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7676 - 2023 / 7 / 18 - 00:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
باختصار، يتم تمثيل نفس الحقيقة بطريقتين مختلفتين. فعندما قال أرسطو في كتاب "الطوبيفا" إن من أسعد فرص الإنسان أن يجد نفسه يتجول في صالة رياضية، علق ابن رشد على هذا المقطع بالقول إن أسعد فرص الإنسان أن يجد نفسه يتجول في مسجد. المسجد مثل الصالة الرياضية، مكان للتمارين البدنية أو الروحية، أو في كليهما، يشحذ فيه الإنسان عقله أو ينمي جسده، دون أن يكون ذلك ضروريا لتعريفه لأنه من قبيل الصدفة. تُظهر هذه الأمثلة القليلة كيف أنه من غير المناسب قراءة ابن رشد كمجرد معلق على أرسطو أو كمجرد قاض بسيط يفسر الشريعة الإسلامية، ولكن يجب قراءته كفيلسوف يجعل الأفكار تهاجر، بالإضافة، بالطرح والخلق إجمالا. نود الآن أن نوضح إلى أي مدى شكلت هذه الفلسفة العربية القروسطية نفسها بدورها مصدرا لفلسفة أخرى، تلك التي نسميها "الفلسفة الغربية" والتي غطت، تقريبا، فترة النهضة، ثم فلسفات القرنين السابع عشر والثامن عشر . إن الأطروحة التي بموجبها يُضاف الوجود إلى الجوهر مألوفة لأي فيلسوف مبتدئ يتلقى تكوينه حاليا في فرنسا أو ألمانيا أو في البلدان الأنجلو سكسونية. لقد أصبحت أصلا فلسفيا مجهول المصدر، ولكن من أين أتت؟ إنها أساس كل المظاهر العقلانية لوجود الله لأنها توفر التمييز الدقيق بين واجب الوجود لذاته الذي يحضن جوهره الوجود وواجب الوجود لغيره الذي يضاف وجوده إلى الجوهر. في التحديد المشترك لشيء ما، أي لجوهره، لا يتم تضمين الوجود، إلا إذا تعلق الأمر بواجب الوجود لذاته، الله، الذي بمشيئته يلف الجوهر الوجود. يقول أحد المعلقين في هذه المسألة: "الموجود، إن لم يتعلّق وجوده بغيره سمّيناه واجبا بذاته. كلّ موجود إذا لاحظه العقل، و اعتبر ذاته من حيث هي هي و جرّد النّظر عمّا أدّاه إليه، فلا يخلو إمّا أن يكون بحيث يجب له الوجود بأن يكون ذاته بذاته مصداقا لحمل الموجود بالمعنى العامّ، أو لا يكون كذلك. فالأوّل هو الواجب بذاته ...لا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته و بغيره، بل لا بدّ أن يكون الموصوف بواجب الوجود بغيره ممكن الوجود لذاته، لأنّه إن دفع الغير أو لم يعتبر وجوده لم يخل إمّا أن يبقى وجوب وجوده بحاله أو لا يبقى، فإن بقي فلا يكون وجوب وجوده بغيره، و إن لم يبق فلا يكون وجوب وجوده بذاته.فثبت أنّ كل ما وجب بغيره فهو لا يكون واجب الوجود بذاته لاستحالة اجتماع المتنافيين، فلا محالة يكون كلّ ممكن الوجود لذاته. فقد بان أنّ كلّ واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته. إنّ ذاته (الواجب الوجود بذاته) موجودة من غير حاجة إلى جاعل يجعلها، و لا قابل يقبلها. هو النّفس الوجود المتأكّد القائم بذاته. ما يكون موجودا بذاته و لذاته". بالنسبة للمواد المركبة، القاعدة هي فصل الجوهر عن الوجود وتصور الأخير كعنصر إضافي، حادث. من هذه الفرضية القوية سوف تنبثق في وقت لاحق، مماثلة بين الوجود والعدد: إذا أضيف الوجود إلى الجوهر، فيمكننا تعداده، وإلحاقه بالامتداد، وترك الجوهر في جانب المفهوم، أي الفهم. يمكننا كذلك أن نرى في الاستثناء الذي يوحد الجوهر والوجود في الله، تناقضا بين أولئك الذين يدعمون هذه الأطروحة. يبلور لنا تاريخ مفهوم وجود الله هذا الاحتمال المزدوج: الاستثناء (ابن سينا، القديس توما الأكويني، سبينوزا)، والتناقض (كانط، فريجه). اتضح أن ابن سينا هو الذي، بعد قراءة سلسلة "ما وراء الطبيعة" لأرسطو أكثر من أربعين مرة، كما قيل لنا، رأى فيها (مخترعا؟) التمييز بين الجوهر والوجود. أصبح هذا التمييز عاملاً في الفلسفة كأداة منهجية رئيسية وكخط فاصل بين الفلسفات التي تعطي أولوية (وجودية) للوجود على الجوهر، أو تلك التي تعطي أسبقية (مفهومية) للجوهر على الوجود. في الخانة الثانية، يوضع علماء المنطق مثل غوتلوب فريجه وإمانويل كانط. وهكذا أصبح ابن سينا هو الأصل المجهول للفلسفة. نجاح تمييزه هو ما جعل من الممكن نسيان أصله. الآن ماذا عن الشق العملي للفلسفة، وخاصة مجال العمل الأخلاقي والسياسي والديني؟ لننظر أولاً إلى كيفية استقبال فيلسوف مثل بليز باسكال للإسلام. إذا كان محمد في نفس المستوى مع بؤس الإنسان، كيف يمكن أن يكون، كما يخبرنا، نبي الله؟ يرسم باسكال في "خواطره" العديد من أوجه الشبه بين موسى ويسوع المسيح، وكلاهما يعتبر نبيا. لم يعتبر محمد، في أي وقت من الأوقات، رسولا من الله. هو "غير متوقع"، أي أنه غير معلن وغير ملهم، والأسباب التي يقدمها لها فقط "قوتها الخاصة"، بقدر ما يقال إنه خطيب يطلب من الناس أن يصدقوه " ماذا يقول إذن؟ عليك أن تصدق ذلك". وبالتالي فإن الرسالة الدينية التي يحملها بدون "سلطة" إلهية، بدون تقليد من الألغاز، بدون أخلاق وبدون سعادة. إن إعطاء المرء لنفسه قوانينه الخاصة ليتحدي بها "الأأكثر عدلاً وقدسية" واقعة يتميز بها "جنود محمد"، الذين لا يتردد باسكال في ربطهم بـ "اللصوص" و "الزنادقة" و"المناطقة". في مسرحية "دون جوان" لموليير لم يقل سغاناريل أي شيء آخر عن سيده، الذي يبدو أيضا أنه لا يعترف بأي قانون (ديني) غير القانون الذي أعطاه لنفسه. تم وصف دون جوان من قبل خادمه بأنه: "رجل مجنون، كلب وشيطان، تركي، زنديق، لا يؤمن لا بالجنة ولا بالجحيم" (الفصل الأول، المشهد الأول). صفة "التركي" هنا مؤطرة بصفة "الشيطان" و"الزنديق". ذلك يساعد على تحديد هذه الشخصية، المنطقية جدا فوق ذلك، لأنها تعتقد أن اثنين واثنين هما أربعة. مثل هذا اللعنة على الديانة "المحمدية" التي لا يشار إليها أبدا باسم "الإسلامية"، غير موجودة على الإطلاق لدى روبير مونتيني رغم أن الفيلسوفين الفرنسيين يستخدمان في كثير من الأحيان نفس الأمثلة. لكنهما لا يستخدمانها بنفس الطريقة. خذ جنة المسلمين، مثلا، بالنسبة لباسكال، هذه هي العلامة الواضحة على أن "محمد" ليس نبيا من الله. كيف يكون كذلك إذا وعدنا بأن ينقل إلى العالم الآخر كل بؤس حساسيتنا؟ من خلال هذه "الأفكار السخيفة" يحكم على نفسه بنفسه. ويدين نفسه. بالنسبة لمونتيني، عندما وصف محمد "جنته مفروشة بالزرابي، مزينة بالذهب والأحجار الكريمة، مليئة بجوار على آية من الجمال، بنبيذ ومأكولات فاخرة" لم يتحدث "بكل تأكيد". كل ذلك من أجل السخرية. افهموا: إنه للتكيف بشكل أفضل مع جمهوره الذي يمكنه دون صعوبة أن يتمثل كل هذه الثروات الأرضية، وليس للقول إننا سنجدها في مكان آخر. إنه يفعل مثل أفلاطون عندما يصف "بستان أفلاطون ووسائل الراحة أو الآلام الجسدية التي تنتظرنا". الغاية من ذلك هي الضحك. لا ينبغي القيام بقراءة حرفية. كيف لنا ان نقوم بذلك للحظة ونحن نعرف أن أفلاطون، يمكن أن نضيف محمدا أيضا، هو النموذج الأولي للفيلسوف ذي "التصورات السماوية"؟ كلاهما، أفلاطون ومحمد، يعلمان في الحقيقة أن "كل قناعات الفانين هي فانية" (Montaigne, Essais, L. ii, chapitre 12, p. 215). في مجال العمل الأخلاقي والسياسي، تجدر الإشارة إلى أن مونتيني لا يستشهد بالأتراك، وبشكل أعم، المسلمين، إلا من أجل الفضائل العامة وليس من أجل الفضائل الخاصة. بعد قرن من الزمن، سيعنون بيير كورني مسرحيته ب"السيد" في محاكاة للاسم الذي أطلقه المغاربة المهزومون على رودريج. يعترف دون فرناند بأن "قوته واهية جدا" لمكافأة رودريج: "لكن ملكين أسيرين عندك سيقومان بمكافأتك / كلاهما أطلق عليك لقب سيد بحضوري/ نظرا لأن سيد بلغتهم مثل مولاي / أنا لا أحسدك على لقب الشرف الرائع هذا" (مسرحية السيد، الفصل الرابع، المشهد الثالث). إن الاعتراف الذي يتمتع به رودريج هنا لا يؤدي فقط دورا أساسيا باعتباره حافزا دراماتيكيا عبر إفراغ مطلب شيمان (ابنة دون حوميس وعشيقة دون سونش ودون رودريج في المسرحية) الخاص بالانتقام من جوهره، ولكنه يمس أيضا الكوني من خلال أخذ اسم أجنبي بشكل متناقض: إذا أعطى المهزوم اسم الشرف، فهذا الاخير لا يمكن أن يكون متكبرا أو مشبوها مثل الذي أعطاه دون فرناند لوالد رودريج. يجد المرء دائما في قرارة نفسه خطأ في الاعتراف. وهكذا يتم تأكيد فضيلة رودريج من خلال اللقب العربي "سيدي" أو "سيد"، أي ما يعادل كلمة "مولاي" بالتأكيد، ولكن بحمولة دينية أكثر دعما من تلك الموجودة في معنى كلمة "مولاي". بمواجهة الموت، وقوفا، ووجها لوجه أمام الكونت، وأمام المغاربة، يكون رودريج بالتأكيد هو السيد. (يتبع)
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أخنوش في الناظور يعرض -منجزات- حكومته بادعاء مكشوف وتفاؤل زا
...
-
إطلالة على الفلسفة العربية منذ أصولها اليونانية إلى حضورها ف
...
-
أحمد عصيد يدافع عن الحريات الفردية بوضع المحراث امام الثور
-
قراءة في كتاب -من ديوان السياسة- لعبد الله العروي
-
إطلالة على الفلسفة العربية منذ أصولها اليونانية إلى حضورها ف
...
-
عزيز سيد الفنان التشكيلي يستجيب لنداء الشرق وآسيا
-
قراءة في كتاب -من ديوان السياسة- لعبد الله العروي (2/2)
-
قراءة في كتاب -من ديوان السياسة- لعبد الله العروي (2/1)
-
هل يمكن لدمج برلمانيين في تشكيلة المجلس الوطني لحقوق الإنسان
...
-
ومضات من الذاكرة عن ولعي بالكتابة في الزمن الورقي
-
عزيز سيد: شاعرية الحلم
-
المؤرخ المغربي مصطفى بوعزيز يقارن بين احتجاجات الأمس واليوم
-
الفاتورة الإلكترونية: تعريفها ومقتضياتها القانونية
-
الفئة السوسيومهنية: ما تعريفها؟ وكيف يتم؟ وما الفائدة منها؟
-
في حوار مع اندريه كومت سبونفيل: نيتشه أعظم سفسطائي عرفته الأ
...
-
مال الرمضاني؟ شكون غيرو؟
-
إدغار موران: يرون معاداة السامية في كل نقد موجه لإسرائيل
-
ساكنة إقامة -الصفاء- بالهرهورة تعبر عن ارتياحها لتطبيق القان
...
-
بيان من جمعية عزيز غالي تدين فيه الهجوم الصهيوني على جنين وت
...
-
المعطي منجب يتعرض لحملة -إعلامية- مسعورة بعد التعبير عن رأيه
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|