الترحيب غير المسبوق الذي أبداه الشيخ أحمد الكبيسي في لقائه مع جريدة الزمان قبل عدة أيام بالخيار الملكي الهاشمي وبالعودة إلى ما سماه ( العدل المطلق ) في دولة المملكة الهاشمية صنيعة الاستعمار البريطاني والملطخة بدماء العراقيين من زاخو الى الفاو ، هذا الترحيب الحماسي الذي جاء بعد عدة قفزات بهلوانية سياسية قام بها الكبيسي من الدعوة إلى مقاومة الاحتلال ، إلى الدعوة إلى تسويغه ، إلى الاستعداد للقتال خلف صدام حسين إن عاد إلى السلطة ، إلى تأييد إعادة الملكية الهاشمية ، يأتي ليؤكد عدة حقائق منها :
- بلوغ الحمى الطائفية الرجعية درجات خطيرة في سلم صعودها لدي جميع الطائفيين السنة و الشيعة بعد هزيمة النظام الاستبدادي الدموي واحتلال العراق من قبل القوات الإنكلوأمريكية . ومن مظاهر هذه الحمى الطائفية رواج النزعات السلفية والتي كانت معزولة وهامشية طوال تاريخ العراق الحديث في ما يخص الشق السلفي السني ، أو التي لم يكن لها وجود قط فيما يخص شقها الشيعي ،و ضمور أو تلكؤ التيار الإسلامي المستنير والخط الاستقلالي التحرري والوطني على الرغم من النزوع التحرري الجماهيري العام والممتاز الذي أثبت إن الجماهير الشعبية أعمق وعيا و أكثر وطنية وجذرية من الأحزاب السياسية والشخصيات المتصيدة في مياه الاحتلال العكرة ، وقد ترافق ذلك كله مع تصاعد نشاطات عصابات وبقايا نظام المقابر الجماعية المخلوع في عدد من المدن العراقية التي شكلت الخزين البشري لماكنة القمع الوحشي لهذا النظام .ولا بد هنا من فتح قوس ضروري للتمييز بين أعمال المقاومة الشجاعة التي يقوم بها المقاومون العراقيون من مختلف الاتجاهات والفصائل والذين لا علاقة لهم بعصابات البعث وبين بعض النشاطات التي تقوم بها هذه العصابات الملطخة الأيادي بدماء مئات الآلاف من العراقيين ولا من التنبيه أيضا إلى خطورة المساعي الغبية التي يقوم بها بعض الكتبة والسياسيين الانتهازيين ( بعضهم يزعم الوطنية واليسارية .. عجبي ! ) الذين يدمغون جميع مكونات المقاومة بأنها من عمل بقايا النظام المهزوم ويصفونها "بجماعات تخريبية " يجب القضاء عليها وهنا يضيع على المتابع الفرق الجوهري بين كاتب يساري يرفع شعار وجوب التنسيق بين ( القوى الوطنية وقوات الاحتلال / جريدة الزمان 4/6/) هو كاظم حبيب وبين سفير اللوبي الصهيوني إيباك في العراق أحمد الجلبي ، علما بأن هذا الزعم لا تكذبه الوقائع على الأرض فقط بل وقد كذبه أيضا القائد العسكري للقوات البريطانية الغازية في البصرة قبل يومين و نفى أن تكون أعمال المقاومة ضد الاحتلال من فعل فلول نظام صدام التكريتي .
- الحقيقة الثانية هي ولوج العراق مرحلة تاريخية جديدة كل الجدة ، تؤذن بانتقال العراق بلدا ومجتمعا إلى طور التحرير الفعلي من الاحتلال الإنكلوأمريكي ومن حقبة الهيمنة السياسية والمجتمعية ذات النزوع الطائفي التي سادت العراق منذ الغزو البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى ، الأمر الذي يهدد مصالح الفئات ذات النزوع الطائفي السني خصوصا ، والتي استفادت من تلك الهيمنة والتي تحلم بالعودة إلى تلك الحقبة التي بدأت منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة في 1921 وشكل احتكار رئاسة الدولة من قبل لون طائفي معين أبرز معالمها . هذه الفئة الطائفية مستعدة اليوم ومع اقتراب العراق من الخروج من المنعطف التاريخي الحالي للقيام بكل شيء بهدف عرقلة ذلك التقدم بما في ذلك الدفع باتجاه تقسيم العراق إلى دويلات طائفية في حالة تقدم الخيار الديموقراطي العلماني وانتصار مبدأ المواطنة الحديثة التي لا تميز بين العراقيين على أساس الطائفة والعنصر والجنس .
- الحقيقة الثالثة هي تفاقم وتجذر المأزق القاتل الذي يعاني منه المشروع الأمريكي لاحتلال العراق وقد بلغ هذا المظهر درجات مثيرة للضحك والاستهجان . فالمحتل الأمريكي عاجز الآن عن فعل أي شيء بل هو فشل فشلا ذريعا في كل محاولة قام بها لفعل شيء ما وهذا جدول قصير بخيبات وفشل الأمريكان :
فشل في السيطرة على الوضع الأمني .
فشل في امتطاء المعارضة العراقية التقليدية بالشكل الذي يريده هو " المحتل " ، لا بسبب وطنية هذه المعارضة ممثلة بجماعة الستة أو السبعة بل لأنها معارضة جبانة ومرعوبة من رد فعل الشارع العراقي على كل خطورة معروفة الرائحة .
فشل في تشكيل إدارات محلية ناجعة وفعالة فانهار أغلبها تحت وطأة المظاهرات الجماهيرية أو المجازر التي ارتكبها الغزاة الأمريكان .
فشل في تشكيل حكومة عميلة أو حكومة احتلال مباشر .
فشل " ونضع خطا أحمر تحت هذه العبارة " في اعتقال أو تصفية نواة النظام الشمولي المخلوع .
فشل في كسب اعتراف العراقيين بشرعية الاحتلال رغم كل الضجيج الذي يحدثه دعاة " حرب التحرير الأمريكية " من انتهازيين و عملاء وتجار مناصب .
فشل في تقديم دليل ضئيل واحد على وجود أسلحة دمار شامل في العراق .
فشل في إعادة البنية التحتية الخدماتية إلى العمل كسابق عهدها .
وسلسلة الفشل أطول من أن نحصرها في هذه العجالة وهي تطوق الآن عنق الغول الأمريكي وأعناق الزواحف السياسية التي تشاطره المصير والمأزق .
وبسبب من هذا الواقع راح الأمريكان يتخبطون تخبط السكران المفلس وهم لهذا السبب قد يقدمون على إجراءات انتقامية لمعاقبة الشعب العراقي على الطريقة الصومالية ، فليس مستبعدا أن ينسحب الأمريكان انسحابا مفاجئا ومن جانب واحد في محاولة لفتح باب جحيم الحرب الأهلية على مصراعيه مما قد يؤدي إلى تجسيد مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث أو أربع دويلات طائفية وعنصرية .
مسئولية القوى التحريرية والاستقلالية وخصوصا تلك التي وقفت ضد مشروع الحرب والاحتلال مسئولية هائلة ، ولعل الشبيبة العراقية خصوصا ،والتي لم يتلوث وعيها بألاعيب الساسة الانتهازيين ستتحمل الجزء الأكبر من تلك المسئولية في الحفاظ على الكيان العراقي ودفن المشاريع الطائفية والعنصرية للتقدم صوب عصر جديد تحت راية دولة القانون والحرية غير الطائفية وغير العنصرية .
وبالعودة إلى تصريحات الكبيسي المرحبة بالملكية وبالنظر إليها من زاوية المأزق الأمريكي يتضح لنا إنها قد تكون غير بعيدة عن حل أمريكي جهنمي تتكتم عليه الإدارة الأمريكية حاليا ، وإذا ما جمعنا هذا الاحتمال الواقعي إلى درجة لا تنكر مع الجهود المنظمة والحثيثة التي يبذلها الخط الثاني لنظام البعث وأقصد تحديدا جماعة الجلاد البعثي سابقا وعميل المخابرات المركزية لاحقا أياد علاوي ، تلك الجهود التي تريد إعادة النظام البعثي الدموي بنسخة مخففة قليلا وهي تريد أيضا قطع الطريق على أية محاولة تمردية من قبل بعثيين نادمين يريدون التبرؤ من السجل الوسخ لنظامهم والقطع معه . وهدف أياد علاوي ذو شقين :
أولا : إنقاذ صدام ومن معه من المصير الذي يتطلع إليه ملايين العراقيين من ضحايا حرب الإبادة الشاملة التي شنها هذا النظام ضد الشعب العراقي، و إعاقة قيام نظام ديموقراطي حقيقي يعيد العراق للعراقيين .
وثانيا : إخراج الأمريكان من الورطة والمآزق التي يعيشونها الآن وتقديم العراق وخيراته لهم من النافذة البعثية الاحتياطية بعد أن فشلوا في الحصول عليها من باب الغزو والاحتلال المباشر والمعارضة العميلة .
إن خطورة نشاط وتصريحات الكبيسي المهووس بالأوهام الطائفية المدعومة من السعودية ومصر و الكويت تتساوق مع نشاطات الجلاد البعثي السابق أياد علاوي زعيم الخط الثاني في حزب المجازر الجماعية ، لاحظ لطفا إن الانتماء إلى طائفة بعينها لم يعد هو الأساس في الميل الطائفي بل المصالح الفئوية والارتباطات والعلاقات " العميقة " بالمحتلين فالكبيسي سني وعلاوي شيعي !
والسؤال الكبير هو : متى سيبدأ الهجوم المضاد للقوى العراقية الديموقراطية بهدف إجهاض المشاريع الطائفية والاستبدادية كمقدمة لخوض معركة تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي وفلول الدكتاتورية المهزومة ؟ أم أن هذا الهجوم قد بدأ فعلا ولكن على مستوى الجماهير الشعبية التي اعتادت وطوال تاريخ العراق الحديث على جر طلائعها السياسية من آذانها جرا إلى ميادين الكفاح من أجل الاستقلال والتحرر ؟ الأمثلة كثيرة على جر الآذان التاريخي ، ومنها هذا المثال الذي يستبطنه السؤال التالي : هل يمكن أن ننسى مثلا كيف طالبت هذه الجماهير الشعبية خلال مظاهرة المليون في عيد العمال سنة 1959 بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم في بداية العهد الجمهوري القاسمي في وقت كانت قيادة ذلك الحزب مذعورة تماما من هذا الشعار مما أدى إلى إصابتها بالشلل والتخبط حتى وقعت الكارثة وقفز البعثيون وحلفاؤهم إلى السلطة يوم الثامن من شباط الأسود فغاب العراق والعراقيون عن التاريخ والحياة منذ ذلك الحين ؟
كلمة أخيرة نختم بها هذه الوقفة عند "الحصبة الملكية" التي أصابت الإسلامي المحترف أحمد الكبيسي فنقول : ألا يعكس هذا الغرام لمفاجئ بالملكية لهاشمية التي زكاها الكبيسي بصفة "العدل المطلق" كما زكى من قبل صدام التكريتي حين شبهه بالإمام الحسين بن علي ، ألا تعكس رعبا حقيقيا من احتمال انكسار الاحتكار الطائفي لرئاسة الدولة العراقية فيصعد عن طريق الانتخابات رئيسا من الشيعة العراقيين العرب للعراق ؟ ثم أليس التصدي لهذه العقلية الطائفية الديناصورية بشكليها السني المذعور من الديموقراطية والطائفي الشيعي الساعي الى قتل الديموقراطية باحتكار تمثيل الأغلبية الشيعية التي ينفخ بقربتها يوميا ، تلك العقلية التي تقيم وتصنف الناس على أساس محتويات ضمائرهم وانتماءاتهم الدينية الطائفية والقومية التي ورثوها عن أسلافهم منذ آلاف السنوات ، أليس التصدي لهذه العقلية عملا من أعمال مقاومة الاحتلال الأمريكي الهمجي واجتثاث بقايا نظام المقابر الجماعية ؟
كم هو صحيح وملائم للحالة العراقية اليوم ذلك الشعار الذي رفعه التروتسكيون اللبنانيون خلال الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات والذي يقول :
يا كادحي جميع الطوائف اتحدوا !