|
من هو تروتكسي؟
روب غرام
الحوار المتمدن-العدد: 7663 - 2023 / 7 / 5 - 15:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
نشر المقال باللغة الفرنسية في موقع FRUSTRATION MAGAZINE بتاريخ ٢ أيار/مايو ٢٠٢٣
خلال فترات الحركات الاجتماعية، في المظاهرات والاجتماعات النضالية، غالباً ما يستشهد بشخصية تروتسكي. نخفض رؤوسنا حتى لا يبدو علينا قلة المعرفة، ولكن غالباً ما لا نعرف ما الذي يتحدثون عنه… كتاب أستاذ التاريخ المعاصر، جان باتو، اكتشف تروتسكي، والذي نشرته دار نشر Editions sociales (دار النشر التي تصدر الكتب الماركسية التاريخية في فرنسا)، يعرّفنا عليه. هو كتاب تعليمي، مشغول بشكل جيد، يتضمن العديد من الاقتباسات من نصوص تروتسكي فضلاً عن لائحة بالقراءات المقترحة المرفقة مع وصف قصير إذا كان القارئ يرغب بالتعمق أكثر في الموضوع (وآسف لعدم وجود أي تقييم نقدي للتروتسكية…)
ولكن عمن نتحدث؟ كان ليون تروتسكي (١٨٧٩١٩٤٠) منظراً ماركسياً وأحد القادة الأساسيين في الثورة الروسية عام ١٩١٧، وكان كذلك مؤسس الجيش الأحمر، قبل أن يرغم على الفرار من الستالينية، إلى أن وصل به الأمر إلى المكسيك حيث اغتالته [الأخيرة]. كما أسس الأممية الرابعة عام ١٩٣٨ (تحالف دولي للأحزاب الشيوعية [الثورية] ذات الاتجاه التروتسكي).
ولكن لماذا نهتم اليوم بثوري روسي مضى عليه قرن من الزمن؟ حسناً لأنه وفي مواجهة ازمة عميقة للرأسمالية، المترافقة مع خطر الانهيار الاقتصادي، والتشدد الاستبدادي، واحتمال اندلاع حرب نووية شاملة، إضافة إلى كارثة بيئية بدأت فعلياً، كل شيء يدل على أن الفكرة الثورية راهنية (أو ينبغي أن تكون كذلك)- ويمكن [ويجب] أن تدعونا للتعلم من الثورات الماضية.
ما هي الثورة؟
كيف تنشأ ثورة؟ هذا سؤال يطرح نفسه في أعمال تروتسكي، الذي كان منظّراً وفاعلاً في الوقت عينه.
أ. الوعي
نحن لم نولد ثوريين، إنما نصبح كذلك. على الرغم من وجود الكثير ممن لديهم مصلحة في الإطاحة بالرأسمالية، إلا أننا لسنا جميعاً على علم وإدراك بشكل تلقائي.
إضافة إلى ذلك، غالباً ما نلاحظ سلوكاً سياسياً متعارضاً مع المصالح الموضوعية لمن ينفذها. إنها، في أغلب الأوقات، الطبقة العاملة (البروليتاريا وقتها) التي هي “طبقة بذاتها”، أي طبقة تشغل مكاناً معيناً في علاقة انتاجية، وعدداً معيناً من الشروط المادية الموضوعية المشتركة، ولكن دون اعتبار نفسها ذاتياً كطبقة.
من خلال النضال الجماعي تصبح هذه الطبقة “طبقة لذاتها”، أي طبقة واعية لنفسها ومصالحها وتعمل لصالح الأخيرين.
إن الأسطورة الأولى التي يدمرها تروتسكي هي القائلة إن إقامة “ديمقراطية” برجوازية ستجعل ممكناً حل كل المسائل السياسية عبر الإصلاحات ضمن عملية سلمية. ولكنه يشرح: “إن التدهور المستمر للظروف المعيشية للعمال يجعل من غير الممكن للبرجوازية أن تمنح الجماهير حق المشاركة في الحياة السياسية، حتى في إطار ضيق من البرلمانية البرجوازية”.
هذا الجدل عاشته الاشتراكية الفرنسية منذ نشأتها. على سبيل المثال، قارنوا بين إصلاحية جان جوريس، الذي اعتبر الانتقال إلى الاشتراكية عبر سلسلة من الإصلاحات، بموقف جول غيسد الذي رأى أن العنف الثوري لا مهرب منه. بعد قرن، من الواضح أنه على الرغم من المشاركات العديدة لـ”الاشتراكيين” في الحكومات، لم يبدأوا بأي “انتقال إلى الاشتراكية”.
بالنسبة لتروتسكي، إن الوعي الثوري يمر عبر “مطالب انتقالية”. لا جدوى من إعلان الثورة، فانطلاقاً من أوضاعنا الملموسة الحالية سنستنتج الحاجة إلى المضي قدماً. إن مَثل السترات الصفراء لافت للنظر: في البداية، كانت التعبئة تتعلق بمسألة ضريبة الكربون وبالتالي مسألة الضرائب والقدرة الشرائية. ولكن سرعان ما طرحت مسألة السلطة لأنها طرحت إصلاحات ظالمة وتعسفية.
لذلك، من الضروري دوماً، ربط المطالب الحالية بما يلحقها منطقياً. نفس الأمر بما يتعلق اليوم مع الحركة [الاجتماعية] ضد إصلاح نظام التقاعد: هذا الإصلاح الذي لا يريده أي أحد بكل قوة. لذلك إذا أردنا وقف المشروع، فإن هذه السلطة هي التي يجب أن تتغير.
يلاحظ تروتسكي أن الاشتراكيين الديمقراطيين لا يربطون دوماً بين المطالب الآنية للعمال وتأسيس الاشتراكية: “لا تحتاج الاشتراكية الديمقراطية إلى هذا الجسر، لأنها لا تتحدث عن الاشتراكية إلا أيام الأعياد”. ومع ذلك، هو يشير إلى استحالة الإصلاحات وبالتالي بطلان المشروع الاشتراكي الديمقراطي: “ليست المسألة مسألة إصلاحات اجتماعية ممنهجة أو رفع لمستوى معيشة الجماهير؛ فالبرجوازية تستعيد باليد اليمنى ضعف ما أعطته باليد اليسرى (الضرائب، الرسوم الجمركية، التضخم، “الانكماش”، غلاء المعيشة، البطالة، تنظيم أمني للإضرابات…)؛ في حين أن كل مطلب جاد للبروليتاريا أو حتى مطلب تقدمي للبرجوازية الصغيرة يقود حتماً إلى ما وراء حدود الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية”. من جديد، هذا هو الوضع الذي نجد أنفسنا فيه: لم تعد الدولة الرأسمالية تسمح بتقديم تنازلات جديدة، بالتالي إن سعينا للحصول على حقوق جديدة يمر عبر الإطاحة بها. كذلك المسألة البيئية التي أضيفت مذاك تتبع ذات المنطق.
ب. دور المنظمة [الثورية]
كما يؤكد جان باتو “إن تروتسكي مؤمن بإبداع والقدرات التنظيمية وبقوة الجماهير”. إنه يعطي دوراً مهماً للغاية للأحزاب والمنظمات العمالية التي يتجسد دورها في دعم “النشاط الذاتي” للبروليتاريا مع التشديد على رفض “الاستبدالية”.
مع ذلك، فهو يعتقد أنه من دون منظمة قيادية، تتبدد هذه الطاقة.
كما يشدد على الدور المبهم والمحافظ للمنظمات “الإصلاحية”: “إن الجماعة الإصلاحية تسعى جاهدة من أجل السلام مع البرجوازية. ولكن لكي لا تفقد نفوذها بين العمال، هي مجبرة، خلافاً للإرادة العميقة لقادتها، على دعم الحركات الجزئية للمستغلين ضد المستغلين”. لا يزال هذا الاتجاه واضحاً جداً اليوم حيث تسعى البيروقراطية النقابية دائماً إلى “تهدئة الأمور” في حين تُجبر على اللحاق بالحركات الاحتجاجية العميقة.
ج. الانتفاضة
يشير تروتسكي في كتابه “تاريخ الثورة الروسية” إلى أن استيلاء المستغلين على السلطة لا يمكن أن يحصل على طريقة سيطرة البرجوازية على السلطة (الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩) لأن “البرجوازية، خلال الثورة، يمكنها السيطرة على السلطة ليس لأنها ثورية، ولكن لأن البرجوازية: تمتلك الملكية والتعليم والصحافة وشبكة من نقاط الدعم، والهرمية المؤسساتية”. بكلمات أخرى، لا يمكن للبروليتاريا، وعلى العكس مما حققته البرجوازية منذ نهاية العصور الوسطى، أن تصبح “مسيطرة رويداً رويداً” من خلال الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
بالتالي، إن الانتفاضة بالنسبة لتروتسكي، تتأتى من الإضراب الجماهيري، ومن الإصرار ومن “الراديكالية المستمرة للمستغلين”. إن هذا الإضراب الجماهيري هو الذي يسمح للعمال/ات “باختبار قوة عددهم من خلال النضال”. وعندما يصبح عاماً، فإنه “يسيّس” المضربين ويطرح مشكلة السلطة.
د. الأممية
بالنسبة لتروتسكي، إن الأممية ليست “مبدأ مجرداً”، إنها ضرورة لأن العدو، أي الرأسمالية، معولم. لذلك يشير إلى أن هزائم أو انتصارات شعب مضطهد في بلد ما لها تأثير على هزائم أو انتصارات الآخرين. بالفعل، خلقت الثورة الروسية عام ١٩١٧ دفعاً ثورياً في كل أوروبا. يمكن تطبيق ذات الملاحظة على الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، و”ربيع الشعوب” عام ١٨٤٨، وانتفاضات عام ١٩٦٨ أو حتى مؤخراً “الربيع العربي [في منطقة السوانا]”.
دون أن يؤمن بثورة متزامنة في عدة دول، كان يعلم أن الثورة الاشتراكية تبدأ في دولة ولكن انتشارها ضروري. والسبب في ذلك على وجه الخصوص هو أنه إذا عُزلت “الدولة العمالية”، ستكون الهدف الأول للقوى الامبريالية التي سترى فيها خطراً مميتاً.
لا يمكن للثورة الحقيقية إلا أن تكون نسوية
حتى لو أن النسوية هي مسألة مطروحة حالياً، إلا أن تروتسكي يصر على حقيقة أن النساء “يتعرضن لاضطهاد مزدوج من قبل الطبقة الحاكمة وعائلاتهن”.
بالنسبة له، إن تحرر النساء (والأفراد بشكل عام) يمر، خاصة، من خلال أشركة/جمعنة المهام المنزلية، أي عبر إنشاء المغاسل والمطاعم الجماعية. هذا هو موقف الماركسية الأفرو-نسوية الأميركية أنجيلا دايفس في كتابها “النساء والعرق والطبقة” (١٩٨١).
إذا ذهبت النسويات أبعد من هذا التحليل لناحية نقدهن للنظام البطريركي، إلا أن تروتسكي مع ذلك اقترب من مجال العلاقة الحميمة: “لن تحدد الروابط إلا من خلال الإنجذاب المتبادل، ولهذا السبب بالتحديد ستكون أكثر صلابة، ومختلفة بالتأكيد بالنسبة لكل منهما، وليست قسرية لأي أحد”.
إذا كان على الثورة أن تدمج في جوهرها تحرر النساء، فلا يكون الأمر عبر انتظارها لمحاربة النظام البطريركي. لذلك يدافع تروتسكي عن إقامة التجارب حيثما كان ذلك ممكناً، من “الآن”، وخاصة عن طريق التجمعات، حتى ولو على نطاق محدود، لإقامة هذه الأشركة/الجمعنة للمهام المنزلية.
مناهضة الكولونيالية والامبريالية في قلب الثورة
في ظل الرأسمالية المعولمة، لا تحتل كل الأمم المكانة نفسها: “ثروات إسبانيا وهولندا وإنكلترا وفرنسا كانت تتجمع، ليس فقط من فائض القيمة المأخوذة من البروليتاريا في هذه الدول، وليس أيضاً من نهب البرجوازية الصغيرة فيها، إنما أيضاً من النهب المنظم للموارد في الخارج. وقد اكتمل استغلال الطبقات وزادت قوتها باستغلال الأمم. ووجدت برجوازية المدن الكبرى نفسها في وضع يمكّنها من تأمين وضع متميز للبروليتاريا فيها، وخاصة للفئات العليا منها، عن طريق الأرباح الهائلة التي راكمتها من المناطق المكلينة.
بعبارة أخرى، إذا كانت الرأسمالية قادرة، في بعض الأوقات على منح العمال تحسينات تطال راحتهم المادية في الدول الأوروبية أو في الولايات المتحدة، فإن ذلك لن يكون إلا على حساب استغلال العمال والعاملات في الأمم المكلينة: “على نطاق أشمل، باتت الديمقراطية البرجوازية وما زالت، شكلاً من الحكم لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الدول الأكثر أرستقراطية واستغلالية. كانت الديمقراطية القديمة قائمة على العبودية، والديمقراطية الامبريالية اليوم تقوم على نهب الكولونيات”. وينطبق هذا القول على نحو أكبر مع القضية البيئية حيث يقوم النموذج الرأسمالي على الاستغلال غير المتناهي للموارد المحدودة، والتي لا يمكن إلا أن تكون مصدراً للتوترات بين الدول المهيمنة والدول الخاضعة للسيطرة.
يصر ليون تروتسكي على المكانة الخاصة للولايات المتحدة في الرأسمالية العالمية التي باتت: “أقوى معقل للإمبريالية” ويذكّر بأصلها: “جاء المهاجرون من أوروبا واستولوا على قارة غنية جداً، وأبادوا الشعوب الأصلية، واستولوا على أفضل جزء من المكسيك وأخذوا حصة الأسد من ثروة العالم”.
لهذا السبب يعتقد التروتسكيون أنه من الضروري دوماً الوقوف دوماً في جبهة واحدة في النضال ضد “الهيمنة الكولونيالية أو النيوكولونيالية” لأن هذا يرقى إلى مرتبة تقويض إحدى أسس “العالم الرأسمالي”.
للكولونيالية آثار عميقة ما زالت باقية. لقد أوجدت علاقات اجتماعية “عرقية” (لاتفهم بالمعنى البيولوجي إنما بالمعنى الاجتماعي). لهذا السبب أصر ماركس في كتابه نقد برنامج غوته (الصادر عام ١٨٧٥) على واقع أن الاشتراكية يجب أن تخلق ثورة في كل العلاقات الاجتماعية للسماح بـ”التطور المتعدد للأفراد”، والذي يمر، كما أشار جان باتو، بـ”إلغاء كل أشكال التمييز، خاصة القائمة على أساس نوع العمل، والجنسية و”العرق””.
حالة أوكرانيا
من بين الحالات التي ذكرها تروتسكي، هناك واحدة شديدة الراهنية: حالة أوكرانيا. في نهاية حياته، دافع تروتسكي عن حق أوكرانيا بالانفصال عن الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين: “إن نشأة النظام الشمولي وتكثف وحشيته أكثر فأكثر، خاصة في أوكرانيا، يشكلان دليلاً على أن الإرادة الحقيقية للجماهير الأوكرانية معادية بشكل لا يمكن التوفيق بينها وبين البيروقراطية السوفياتية. لا يوجد نقص في الأدلة التي تشير إلى أن أحد مصادر هذا العداء هو قمع الاستقلال الأوكراني (…) إن الجماهير الأوكرانية غير راضية عن مصير بلدها وتأمل بتحقيق تغيير راديكالي (…) لم يكن التطهير والقمع في أي مكان وحشياً وشاملاً كما هو الحال في أوكرانيا”.
هذه المعاملة الوحشية للرجال والنساء في أوكرانيا من قبل روسيا السوفياتية تفسر جزئياً أصل رغبة البعض منهم في التحرر من الوصاية الروسية، وهي رغبة مشتركة بين العديد من دول أوروبا الشرقية.
مع ذلك (وهذا نقص كبير) نسي [إقرأ/ي تناسى] الكاتب التذكير بأعمال تروتسكي نفسه في أوكرانيا… في الحقيقة، عام ١٩١٩، كان الجيش الأحمر وقتها بقيادة تروتسكي، هو الذي اجتاح أوكرانيا خلال الحرب الأهلية. تميزت هذه الحملة العسكرية بعدد من الفظائع، وخاصة ضد المدنيين (قصف، إعدامات بعد إجراءات مختصرة، ترحيل ونهب…). كما كان مسؤولاً بدرجة كبيرة عن سحق الانتفاضة الماخنوية عام ١٩٢١، الحركة الأناركية والفلاحية الأوكرانية الداعية إلى تشكيل حكومة تحررية قائمة على السوفيتات المحلية بدلاً من السلطة البلشفية المركزية.
ما هي الفاشية؟ من أين تأتي؟ هل عادت؟
يتذكر جان باتو أنه “بالنسبة للماركسيين، الديمقراطية البرلمانية والفاشية هما نظامان برجوازيان يضمنان الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. ولهذا السبب يشكلان، في آخر المطاف، أشكالاً متميزة لـ”الديكتاتورية الطبقية” نفسها.
بالنسبة لتروتسكي، تهدف الفاشية إذاً، إلى سحق “المنظمات العمالية” و”تحويل البروليتاريا إلى حالة من اللامبالاة الكاملة” وإلى “خلق شبكة من المؤسسات تخترق الجماهير لمعارضة أي تبلور مستقل للبروليتاريا. وهنا بالضبط يكمن جوهر النظام الفاشي”.
في الواقع، ولدت الحركة الفاشية في ميلانو عام ١٩١٩ مع إنشاء وحدات فاشية مقاتلة، في الوقت عينه أنشأ العمال في إيطاليا مجالس عمالية في المصانع، وسيطر العمال على أماكن العمل من خلال الإضرابات واحتلال المصانع، و”أقاموا وحدات دفاع ذاتية”. لذلك أكد الفاشيون للطبقات المهيمنة، بهدف الحصول على دعمها، أنها ستحصل على “الهدوء لسنوات طويلة”.
كما يوضح تروتسكي “يرى النظام الفاشي أن دوره قد حان عندما لا تكفي الوسائل العسكرية والأمنية العادية للديكتاتورية البرجوازية، بغطائها البرلماني، للحفاظ على توازن المجتمع”.
إذا كانت الفاشية هي إحدى أشكال الديكتاتورية البرجوازية، هذا لا يعني أنه يساوي بين الأخيرة والأشكال الأخرى: إذ أدان بشدة استراتيجية الأحزاب الشيوعية التي تشكلت، خلال العشرينيات وحتى بداية الثلاثينات حين ساوت بين البرجوازية الاشتراكية الديمقراطية بالفاشية.
لذلك، يمكننا من خلال تشبيهات مشككة، أن نلوم أولئك (وأنا واحد منهم) الذين أوضحوا أن الفرق بين التجمع الوطني وبقية الجسم السياسي المهيمن (الماكرونية، والجمهوريون وجزء من اليسار) هو اختلاف بالدرجة وليس بالطبيعة. ولكن اليمين المتطرف اللوبيني، على الرغم من تراثه الفاشي (مثل كل اليمين الفرنسي، والذي تعامل بأكمله مع الاحتلال [الألماني]، ولن نتوقف عن قول ذلك)، ليس فاشياً بالمعنى الدقيق للكلمة- هذا مهم لأنه يغير التحليل. إنه على أقصى اليمين تماماً مثل الآخرين في أوروبا، وبالنتيجة بنفس الطريقة مثل… ماكرون. لذلك يمكننا توقع ما نراه اليوم: إفلات الشرطة من المعاقبة، اعتقالات المعارضين، والعنف والقمع الشرس للمهاجرين والمعرقنين، واستمرار سياسات الاستثناء ضد المسلمين، وضد مناضلي الحركة الاجتماعية، والحد من مساحة حرية الصحافة والتعبير… وهذا يعني أن السياسات التي وضعتها بولندا والسويد وهنغاريا وإيطاليا (وبدرجة أقل فرنسا، نعم) حيث لم يتمكن من الوصول إلى السلطة إلا بتحالف ومشاركة أحزاب البرجوازية الكلاسيكية. الأمر نفسه هنا: يجب على لوبان الإئتلاف مع الماكرونيين والجمهوريين (إنها العملية الأيديولوجية الكاملة للجبهة المعارضة للـ نوب [Nupes] لتحضيرنا على مثل هذه التحالفات حتى لا تبدو لنا “غير طبيعية”)- وسيصبح هذا صحيحاً كذلك على العكس (للحفاظ على الأغلبية التي لا يمكن تحقيقها سيكون على الجمهوريين والماكرونية التعامل أكثر فأكثر مع التجمع الوطني). بكلمات أخرى: إن صد التجمع الوطني من خلال التصويت لصالح الماكرونية أو الجمهوريين يعني في نهاية المطاف التصويت لقوتين سياسيتين لهما في نهاية المطاف مهمة التحالف مع التجمع. عند هذه المرحلة إن “سياسة الصد” (عدم مناهضة الفاشية التي لا ينبغي أن تكون موضوعنا حالياً، لكنه من الواضح أن الهاجس الانتخابي لوسائل الإعلام ومنظمات اليسار البيروقراطي والبرلماني تجبر بذلك)، وبالتالي تقوم على لعبة حمقى، من خلال التفكير بمنع حزب من خلال التصويت لآخر، فإننا في نهاية المطاف نصوت لحركة سياسية، والتي، في نهاية المطاف، ستشكل تحالفاً مع الحزب الذي أردنا مواجهته وسيطبق نفس السياسة (التسويات ستكون على القضايا الاقتصادية وليس السياسات ضد الأقليات وضد الاستبدادية، والمواقف التي يتلاقى حولها هؤلاء).
إذاً، العناصر المذكورة فوق تشكل سياسة يمينية متطرفة. من غير المرجح أن تتمكن (أو ترغب) لوبان حين تصل إلى رئاسة الحكومة أو الجمهورية، بإنشاء نظام حزب واحد، ودعاية شمولية، وسياسة إبادة جماعية مع عمليات ترحيل جماعية ومعسكرات إبادة ضد اليهود والمسلمين والمثليين والمعارضين… أي ما يمثل الفاشية. وما أقوله لا يعني تلطيفاً للعدو إنما فهمه. يمكن أن يتكرر هذا النوع من السياسة (بأشكال وأنواع مختلفة بالضرورة) في حالة انتفاضية أو ثورية، مع وجود مسلح بالكامل، وتعرُّض رأس المال إلى التهديد- كما كان هو الحال في إيطاليا وألمانيا ومناطق أخرى في العشرينيات والثلاثينيات- وهذا ليس هو الحال اليوم (حتى الآن).
هذا هو تحليلي لـ”[موضوع أن] الفاشية هي هنا بالفعل”: الديكتاتورية موجودة فعلاً، نحن نعيش في ظل سياسة يمينية متطرفة كلاسيكية مع عناصر فاشية، ولكن إنشاء نظام فاشي (في هذه المرحلة) ليس ضرورياً للبرجوازية والفاشيين الحقيقيين (هي أقلية ولكنها موجودة) الذين لا يملكون وسائل تحقيق طموحاتهم.
هذا التحليل مشابه تماماً لتحليل أنس كازيب وحزب الثورة الدائمة التروتسكي، والأخير يفسر سبب عدم اندفاعه للدعوة للتصويت لصالح ماكرون، والتحالف مع أي منظمة من اليسار البرجوازي.
اتحاد ستالين السوفياتي: “دولة عمالية منحطة بيروقراطياً”
هكذا وصف تروتسكي اتحاد ستالين السوفياتي، النظام الشمولي والإجرامي والبيروقراطي.
في كتاب يحمل عنواناً مثيراً، الثورة المغدورة، أجرى تروتسكي تحليلاً طبقياً للوضع في الاتحاد السوفياتي: لم يضع الاتحاد حداً للصراع الطبقي، وبالتالي لم يحقق الشيوعية، إنما كرس حكم وهيمنة البيروقراطية.
تحليله الذي يقارن فيه بين البيروقراطية السوفياتية بالفاشية، هو قريب (بشكل مدهش) من تحليل حنة آرنت (إحدى الفلاسفة المرجعيين/ات حول موضوعة التوتاليتارية) في عدة نواحٍ: “من خلال وظيفتها كمنظمة ووسيطة، ومن خلال اهتمامها بالحفاظ على الهرمية الاجتماعية، من خلال استغلال جهاز الدولة لأهدافها الخاصة، تشبه البيروقراطية السوفياتية كل بيروقراطية أخرى وخاصة الفاشية”. هذه البيروقراطية هي “الشريحة الاجتماعية صاحبة الامتيازات والمهيمنة، بالمعنى الكامل للكلمة، في المجتمع السوفياتي”. “إن وسائل الانتاج هي ملك الدولة. والدولة “تنتمي” بشكل ما إلى البيروقراطية”.
مثل البرجوازية، تنكر البيروقراطية السوفياتية نفسها كطبقة: “إنها تتظاهر بأنها غير موجودة كفئة اجتماعية. إن استيلاءها على جزء كبير جداً من الدخل الوطني هو حقيقة طفيلية اجتماعية”.
بكلمات أخرى، صادرت البيروقراطية السوفياتية السلطة السياسية واستعملت ملكية الدولة لضمان هيمنتها وإيراداتها.
تستحق التروتسكية تقييماً نقدياً لن نجده حقاً في كتاب جان باتو.
من شأن هذا التقييم النقدي أن يبحث في مسألة القمع الوحشي لثورة كرونشتاد من قبل تروتسكي عام ١٩٢١، حين طالب البحارة في تلك القاعدة البحرية عند بحر البلطيق بإنهاء ديكتاتورية الحزب الشيوعي وتشكيل سوفيتات مستقلة، فضلاً عن معارضتهم لمركزية السلطة السياسية. وكان سيناقش [النقد] شطحات كتاب تروتسكي الإرهاب والشيوعية (١٩٢٠) الذي لم يستشهد به باتو في كتابه على الإطلاق. يجب علينا التساؤل كذلك عن مدى راهنية أو عدم راهنية استراتيجية الطليعة والحزب الجماهيري في القرن الـ ٢١.
مع ذلك، إن قراءة هذا الكتاب تقدم نظرة ثاقبة للمفاهيم الأساسية للفكر التروتسكي ونظريته الثورية، والتي أخذت بالحسبان المطالبات الآنية للعمال، ومكانة النساء، ودور الامبريالية والكولونيالية، مع التنبيه من مخاطر البيروقراطية.
Jean Batou, Découvrir Trotsky (2023), Editions sociales, coll. Les propédeutiques, 10 euros, 184 pages
#روب_غرام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من هو تروتكسي؟
المزيد.....
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|