|
قضيتى .. وبيت القصيد الذى أتوق الى كتابته
منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 7661 - 2023 / 7 / 3 - 20:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ أن وعيت انفصالى عن جسد أمى ، وأنا يشغلنى ويحيرنى معنى " الوطن ". اكتشفت مبكرا أن هناك تشابها كبيرا ، بين " الأم " ، و" الوطن " . لكن معنى الوطن ، كان يظهر ويختفى ، يضئ ويظلم . الأم ، والوطن ، كلاهما " رحم " . فالانسان " يخرج " من رحم الأم ، و " يدخل " فى رحم الوطن . وحين يفقد الانسان أمه ، يعرف مذاق ألم ، وضياع ، وتشرد ، يكبر مع الزمن . وهذا أيضا ، حال منْ يفقد وطنه ، حيث يتجرع مع كل اشراقة شمس ، وهبوط الليل ، كأسا مُرة يطفو على وجهها خريطة الوطن . ان معاناة الغجر ، أنهم بلا وطن ، ويقضون حياتهم فى الانتقال والترحال . والانسان يرى أمه ، أروع أمهات الأرض . ويرى وطنه أجمل الأوطان .. الأم مهما غلطنا فى حقها ، يظل حضنها الحنون مفتوحا لنا ، فى أى وقت . والوطن قد نهمله ، أو نؤذيه ، لكنه دائما جاهز لاستقبالنا بالدفء والورود . الأم لها رائحة .. والوطن له رائحة . مهما ابتعدنا ، تظل عالقة بثيابنا ، وجلدنا ، وأحلامنا ، تطير فوقنا أينما تذهب خطواتنا ، لتحرسنا وتحمينا . نحب الأم كما هى ، بعيوبها ومساوئها ، فى لحظات غضبها ولحظات رضاها . والوطن نحبه كما هو ، فى صحوه ومطره ، فى فقره وغِناه ، حزينا أو سعيدا ، أيام العواصف وأيام الروقان . الأم ، لو أجرمت ، ندافع عنها . والوطن ننصره ظالما أو مظلوما . من أجمل أقوال " ألبير كامو " 7 نوفمبر 1913 - 4 يناير 1960 ، " العدل قضيتى .. لكننى اذا خُيرت بين أمى والعدل ، ساختار أمى ". مهما امتد العمر بالأم ، نراها دائما فى ذروة الشياب ، والوطن رغم مرور آلاف السنين ، هو فى عيوننا ، شاب وسيم ، يجذب الفتيات ، وتقع النساء فى حبه . الأم لا تشيخ ، والوطن لا يشيخ . بل نحن الذين نشيخ اذا راحت الأم ، واذا راح الوطن . لكن ما هو الوطن ، بالتحديد ، وبدقة ؟؟. ما كنت على يقين منه ، أن الوطن ليس الأنظمة والحكومات والشعارات والتشريعات والدساتير والبرلمانات والبرلمانات والنشيد الوطنى ، والحضارات والعادات والتقاليد . الوطن ليس الديانة وبيانات البطاقات اللشخصية وجوازات السفر . فهذه أمور تتغير مع تغير الأزمنة . لا أتفق مع " ميخائيل نعيمة " 17 اكتوبر 1889 - 28 فبراير 1989 ، حين قال : " الوطن عادة .. والبشر عبيد لعاداتهم ، ولذلك قسموا الأرض فيما بينهم ، الى مناطق صغيرة اسمها الأوطان ". دعونى أسرد تجربتى الشخصية عن الوطن ، وربما من التجارب المتنوعة للبشر ، نكشف وجه الوطن ، أو بعضا من ملامحه . بعد أن أنهيت دراستى الثانوية ، أردت أن أدخل جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، قسم اقتصاد . وكان هذا القرار مستنكرا من زملائى وأصدقائى . قالوا لى : " حد يسيب الجامعة الأميركية ويروح جامعة القاهرة ؟ ". وأدهشنى أيضا ، أن كلهم يداعبهم حلم مشترك بعد التخرج ، وهو العمل والاقامة والزواج وتكوين أسرة ، ومستقبل ، فى أمريكا وانجلترا وفرنسا وكندا . " الحلم الأميركى " الذى كان ، ومازال يجذب عقول وقلوب الكثيرين من النساء والرجال ، لم يأتنى فى منامى ، أو فى يقظتى . قرار أن أبقى فى مصر ، لم يكن يحتاج الى تفكير عميق ، أو غير عميق . كان طبيعيا ، مثل التنفس . هل نفكر قبل عملية الشهيق والزفير ؟؟. ولم أجد أى منطق أو دافع ، وراء هذا القرار ، مثل حب الوطن ، و أن مصر أم الدنيا . كل ما كنت أعرفه ، أننى لا أستطيع ، ولا أحب " تكوين نفسى " و " بناء مستقبلى ، الا فى مصر . وعندما ذهبت الى " لندن " ، وحصلت على الماجيستير ، حدث الأمر بمحض الصدفة . لم أخطط له . قضيت سنتين فى " لندن " ، من أجمل سنوات العمر . ورغم ذلك ، كنت أتعجل يوم اعداد حقيبتى ، والرجوع الى مصر . لماذا التعجل ؟. فلم يكن عندى أى تخطيط للمستقبل ، ولم يكن لى حبيب ينتظر عودتى ، وأشتاق اليه . عندما أعلن قائد الطائرة ، الاستعداد للهبوط فى مطار القاهرة ، ومن خلال النافذة الصغيرة ، رأيت معالم مصر تبدأ فى الظهور ، تسارعت دقات قلبى ، وأخذ العرق يتصبب من جبينى ، والرعشات الخفيفة تربك جسدى ، وهمست : " ما أحلى الرجوع اليه ". على مدى مراحل العمر ، لفيت العالم ، شرقا وغربا ، شرقا وجنوبا . لم أسافر أبدا ، للترفيه والتنزه . كنت أتلقى دعوات فى مؤتمرات عن المرأة ، والابداع ، والبيئة ، والقاء أشعارى ، فى الأمسيات الشِعرية . كان من السهل جدا ، أن أستقر خارج مصر ، فى احدى المدن التى فتنت بها ، حيث أن لغتى الانجليزية تساعدنى ، وعاداتى وتقاليد وأفكارى ، ومزاجى ، وأخلاقى ، تتناغم أكثر مع النمط الأوروبى ، والأميركى . ودائما كنت أندهش من الزوجات والأزواج ، الذين يقضون شهر العسل ، خارج مصر . لم أفهم أبدا العلاقة بين شهر العسل ، وبدء أيام الزواج . " أنا مصرية " ، اذن من الطبيعى جدا ، أن يداعبنى " الحلم المصرى " ، وليس " الحلم الأميركى " ، أو أو " الحلم الأوروبى ". عمل الفلوس ، أو رفاهية العيش ، التى " تزغلل " العيون ، لم تكن تعنى لى شيئا . لم تكن " قضيتى " ، أو بيت القصيد الذى أتوق الى كتابته . قلت لنفسى ، سأكون ناجحة ، وفى رفاهية اقتصادية ، لا دوشة ميكرفونات ، ولا قمامة متناثرة فوق الأرصفة ، الدين منفصل عن المجتمع ،لا فتاوى دينية تأمر بارتداء الحجاب أو النقاب ، لا تكفير دينى أو نبذ اجتماعى، ولا تشويه أو تجاهل اعلامى للكاتبات والشاعرات المتمردات ، لا تطفل على حياة النساء ، الكتابة تؤتى ثمارها ماديا ، وأدبيا ، نظام منضبط من الألف الى الياء ، فى كل الأشياء ، والمجالات ، أعيش بكامل حريتى ، وطاقاتى الكامنة ، لا تطفل على خصوصيات النساء ، أمارس هواياتى ، وأسمع وأشاهد الفنون الراقية ، واذا مرضت سأجد مستشفيات طبية ترعانى فورا دون أن أكون فاحشة الثراء ، واذا تعرضت لحادثة على الطريق أو فى المنزل ، سوف تأتى سيارة الاسعاف ، أو سيارة البوليس فى ثوان معدودة . وماذا بعد ؟؟؟. أهذا كل شئ ، فى تحقيق السعادة ، والرفاهية ، والاستمتاع ؟؟. لا أعتقد . ستظل هناك " حتة ناقصة " ، تنغص حياتى . لا أستطيع أن أكون مجرد مستهلكة للتقدم فى بلاد أخرى . أريد وأحب أن أكون منتجة وصانعة ومحفزة للتقدم فى مصر . هذه هى المتعة الكبرى فى الحياة ، ومنها تنبع المتع الأصغر الأخرى . وهذا بالضبط المعنى ، الذى كنت أبحث عنه ... أن تقدمى ، وتقدم الوطن ، لا ينفصلان . هما وجهان لعملة واحدة ، اسمها " الوجود " . كل مجتمع له مشاكله ، وكل شعب له ما عليه ، وكل حضارة لها عيوبها ، وكل ثقافة لها سلبياتها ، وكل بيئة لها أمراضها . هناك مشاكل ، وأزمات ، وأمراض ، وعيوب ، وسلبيات ، تدفع الناس الى الهجرة . كيف تتغير مصر ، الى الأفضل والأعدل والأجمل ، اذا كان أهلها يتركونها ؟؟. هل نستورد شعبا آخر ، ليغيرنا ؟؟. لا أحد يستطيع تحمل عيوبنا ، الا أنفسنا ، أصحاب العيوب أنفسهم . كل انسان له دور ، لابد أن يؤديه ، تجاه الوطن الذى يحمل جنسيته . فى مصر لست مرتاحة وراضية . لكننى مخلوقة بشكل يجعلنى أجد " نصف الراحة " ، أو " ربعها " ، هنا على أرض مصر ، أكثر متعة ، من الراحة "الكاملة" ، و " الرضا " الكامل ، على أرض أخرى . لم أرغب أبدا فى مثل هذه الأحلام " المستوردة " . كنت دائما أريد دائما ، ومنذ نعومة أظافرى ، حلما مغروزا فى تربة مصر ، مثل القطن المصرى . ولأن الكتابة قدرى ، فهى مرتبطة ارتباطا عضويا حميما ، بالعيش فى مصر ، والاحتكاك المباشر بمشاكلها ، وأزماتها ، وأحداثها وتحدياتها ، والمشاركة الحية فى السراء والضراء . هل من المعقول ، أن تخلو مصر من العمالة الماهرة ، وأصحاب الشهادات العلمية فى كل التخصصات ؟؟. لقد أجريت فى مصر ، ثلاث عمليات جراحية . وفى كل مرة ، لم أفكر فى اجراء أى منها بالخارج . قالوا لى : " الا بقى الصحة .. مافيش أغلى منها .. ألا تسمعين عن حال الطب والأطباء فى مصر ؟... روحى اعملى الجراحة بره ، واتفسحى شوية بعدها ". أجريت الثلاث عمليات فى مصر . يا لها من فرحة ، وفخر ، أننى تعافيت على أيدى أطباء مصريين ، وممرضات مصريات . هناك النساء والرجال المصريين ، الذين صنعوا " حياة " ، ناجحة ، ومتحققة ، وسعيدة ، خارج مصر . لكننى لست واحدة منهم . فرق كبير ، بين أن أعاصر بشكل حى ، يوميا ، ثورة 30 يونية 2013، التى أنقذتنا من بيع الوطن للقتلة والمجرمين النصابين ، المتاجرين بالأديان والأخلاق وتغطية النساء ، وبين أن أشاهدها ، وأنا خارج الأحداث ، على شاشات التليفزيون فى لندن أو برلين أو باريس . أنا المواطنة السمكة التى تموت ، اذا خرجت من ماء مصر . امرأة أنا ، تبهرها الأهرامات ، وتمثال أبى الهول، وبرج القاهرة ، أكثر مما يبهرها الأكروبوليوس ، أو تاج محل ، أو برج بيزا المائل ، أو تمثال الحرية . امرأة ، لا يرويها ، نهر الميسسبى ، أو نهر الدانوب ، أو نهر التيمز ، وانما نهر النيل الذى يشق طريقه ، يتحمل طول وعناء الطريق ، ليصل سالما ،الى بيتى ليروينى ، حاملا ، أفراحى ، وأحزانى . أتذكر عندما كنت أستقبل أمى " نوال " فى المطار ، عائدة من السفر ، أول جملة تقولها لى ضاحكة ، وهى تأخذ نفسا عميقا : " رائحة الوطن يا مُنى ". أقول لها : " رائحة الوطن ايه يا ماما اللى مليانة تراب وعفار و طين وعرق ومعاناة وتعب ". نضحك ، ونمضى الى طريقنا ، سعيدتان برائحة الوطن ، التى نعيش ، ونموت وهى فى أنفاسنا ، رغم شدة انتقادنا لها . رائحة الوطن ، نرتمى فى أحضانها ، وان خنقتنا . رحلت أمى ، " نوال " ، وتركت لى ضحكتها وكلامها . رحلت أمى " نوال " ، وبقيت " رائحة الوطن ". ما أجمل " فولتير " 21 نوفمبر 1694 - 30 مايو 1778 ، حين قال : " خبز الوطن خير من كعك الغربة ".
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمى وأنا نتنافس على حب رجل واحد
-
عزيزى الرجل : - اقعد فى البيت اذا لم توفق بين بيتك وشغلك -
-
ما أهمية الفحولة الجنسية ؟
-
22 مايو 2023 الرحيل السادس لأبى شريف حتاتة عشت عمرى معه ولم
...
-
رد شرف الراقصة
-
التنميط والبرمجة لافتعال الفرح فى الأعياد
-
لا أحد يحب الفقراء الا أمهاتهم
-
حتى - فساتينى التى أهملتها - فرحت بى وأنا أكتب لذكرى ميلاده
...
-
كانت أمى .. قصيدة فى يوم ذكرى الرحيل الثانية
-
الصفقة .. أخيرا قررت قصيدتان
-
رجل أحبه اسمه - عادل خيرى - النجم اللامع رغم الجحود والنسيان
-
8 مارس والبيعة الفاسدة
-
رائحة العُهر المرخص ... خمس قصائد
-
الكهنوت الذى يمشى مختالا فى طرقات الدولة المدنية
-
رجل .... أربع قصائد
-
يا منْ تتسلق الجبال .. لك الاختيار ....... قصيدتان
-
ليلة فالنتين ... قصيدة
-
- مى - أختى لم تنجبها أمى وشبيهتى الى حد الأسى والمرارة
-
اعادة فهم العاطفة .. أرقى ما نملك
-
يا أنت .. ماذا أريد منك .. امرأة البحر ...... ثلاث قصائد
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|