|
المستبد وحقيقته بين جيلين
فالح عبد الجبار
الحوار المتمدن-العدد: 1723 - 2006 / 11 / 3 - 10:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المستبد هو اسم حاکم، وهو اسم کتاب. اما الحاکم فيقف اليوم أمام القضاء في مرافعات شبه هزلية تحول فكرة القانون ال? هباء، بدل ان تکون وسيلة للوصول ال? الحقيقة. ولسدّ هذ الفراغ يأتي دور الأدب. وکتاب زهير الجزائري «المستبد» قد يکون محاولة لتجاوز هشاشة القانون. وهو مسعى خاص، بحرفية التعبير، وبمجازيته أيضاً. وهو خاص لأسباب عدة. فهو محاولة لرؤية ما لا يُرى: التنقيب في حقبة البعث التوتاليتارية وهي في عز جبروتها، وذروة هوسها بالتكتم والاسرار. وخاص، بالمعنى المعرفي: فهو يتجاوزمنطق تعذر تحليل المعلومات في بلد ترتعد فرائص الدولة فيه من أي تداول للأخبار، ومن أي افتضاح لبواطنها الملغزة، ناهيك عن عسرالتحليل بوسائل الملاحظة الروائية. والمسع?، خاص أيضاً، بالمعنى الوجودي: إذ كيف يتأتى للفرد المعزول أن يقف قبالة اللوياثان، الكائن الفاتك، الكلي الجبروت، الكلي القدرة، الكلي الحضور، المسمى دولة شمولية. إن مجرد التفكير بالكتابة عن الدولة الشمولية، قبل انهيارها، كان يتطلب قدراً من الجرأة، أو مقادير من البله لتوطين تلك اللامبالاة الباردة بالعواقب: الملاحقة بكواتم الصوت، أو سم الثاليوم، أو أخذ الأهل رهائن. إن مجرد التفكير بالكتابة عن الدولة البعثية، وقتذاك، كان يتطلب ايضاً بحثاً دؤوباً عن التفاصيل في دولة تمنع تداول المعلومات، وتسد أبواب البحث، ولا تسمح بالإحصاءات. المحاولة جريئة: تنقيب في سوسيولوجيا السلطة بمعول روائي وعين أديب. ولعل هذا يشبه، في عرف البعض، القنص بالقوس والنشاب بالتنافس مع بنادق مجهزة بأحدث ناظور رصد. لكن لهذا الصيد بالنبال امتيازه: إختبار صلابة اليد، وامتحان قدرة العين على التسديد، وأيضاً، القدرة على الإنجاز بوسائل جديدة. كان ينبغي نشره قبل عقد ونيف، فهو جاهز في الأدراج منذ زمن. وكان مؤلفه يضيف إليه، كلما هزَّ العراق حدث خارق، فصلاً أو مقطعاً لتغطية المستجدّ من الأحداث. وبهذا المعنى، بات النص أشبه بتدوين مذكرات ذاتية، سوى أن السيرة هنا هي سيرة أمة منكودة، وسيرة حاكم هو أقرب الى دراكيولا (مصّاص الدماء الأسطوري) منه إلى كائن سويّ. قرأت النص مرتين: بُعيد تأليفه، وقبل السعي الى نشره. وأمتعني في الحالتين، رغم تبرّمي الأكاديمي من «هوسة» الهوامش والإحالات، أو من الإلفة المفرطة التي يخاطب المؤلف قارئه بها، وهي إلفة يستبطنها الكاتب بلا وعي حين يفكر في قارىء مجايل من وطنه، مما يدفعه إلى افتراض وجود مشتركات في الذاكرة الجمعية قد لا تتوفر في الواقع: الحديث، مثلاً، عن أول رئيس بعثي للجمهورية، أحمد حسن البكر، بلغة الإلفة والاعتياد باستخدام كلمة البكر وحسب، هذا الإحالة لن تطرق وتراً لدى الجيل الذي ولد بعد وفاة ذلك الرئيس الابله عام 1982. ثمة صورة باطنية عن النظام البعثي الشمولي، وهو يفكك، بواقعية، القول الايديولوجي ليرى إلى ما يخفيه هذا القول من وقائع. فالمقارنة، دوماً، لا تجري بين فكرة وفكرة، بل بين فكرة وواقع. أي إن تحليل المعنى يجري في مغطس الحياة، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تبدو، من موشور ما بعد الحداثة، نصاً ينتج نصاً في تواشج متصل. ثمة لجيل الشباب الذي لم يعش أهوال نشوء الدولة البعثية الشمولية أيام صعودها، أي فترة عزها ومجدها، الكثير من الزاد للتفكير في هذا الذي سبقهم وذاق الذي ذاقوه مرة أو مرتين. ففي تلك الأيام غير السعيدة، كانت الدولة التوتاليتارية قادرة على محق جيل كامل من المعترضين، وإلغائهم من خريطة الوجود. وسيجد جيل الشباب اللاحق الذي عاش أهوال فترة نكوص الدولة البعثية، بما في ذلك انهيارالنسيج المدني، والمعرفي، أن هناك الكثير من المشتركات بين الجيلين. وفي هذا المعنى، يمكن للكتاب أن يكون جسر تواصل بين جيلنا نحن، جيل الكهول الذي تجرأ على الزعيق في وجه غول الدولة المترعة بعوائد النفط، وعانى من أوجاع صعودها، وجيل الشباب الذي تحمل آلام انحلال الدولة، ودفع ثمن ذلك بالدم والدموع، من دون أن ينعم الإثنان بمسرات الآتي. وتكمن أكبر المشكلات المعرفية في العراق لا في غياب قاعدة المعلومات، أوضعف حرية تداول المعلومات، وهما الشرطان الأساسيان للمعرفة، بل تكمن أيضاً في انقطاع الصلة بين أجيال الباحثين والكتاب، وهي مشكلة تمنع التراكم المعرفي. فلا تقدم في المعرفة من دون تراكم في منتجات المعرفة، ولا تراكم في المنتجات من دون تواصل اجيال المنتجين. كان منع الكتب في الماضي يكفي لكسر مسارالمعرفة. لكن الشمولية ابتكرت أكبر فخ لعزل الأجيال التي تباعدت بسبب الهجرة القسرية فاخترعت «جماعة الخارج» و»جماعة الداخل». وللأسف، تطوع بعض الكتاب، بقدر كبير من السذاجة أو سوء النية، وربما الغباء، لترويج هذه الفكرة. هذا الكتاب فرصة للقاء معرفي بين اجيال، وفرصة للمعافاة من الشرخ. كان بودي الاستطراد في تبيين أهمية الكتاب، لكني على يقين من أنه لا يحتاج الى شرح قط. ولا أود أن أبدو كمن يضع نفسه في منزلة إطراء صديق، فالمؤلف صديق عُمرٍ كما يقال. ومن حق المؤلف، أي مؤلف، أن ينشد الثناء، فهوالمكافأة الأكبر على عنائه. ولا ضير في ذلك، لكن للمديح حدودا. تقوم فكرة الكتاب على استبطان التفاصيل التي قادت الى نشوء النظام الشمولي البعثي وترسيخه، واندماج نظام الحزب الواحد بالنظام القرابي، أو نظام العشيرة. وهي بمعنى ما سيرة النظام، وسيرة شخصية لرأسه الأول صدام حسين. يرصد المؤلف القادة مثلما يرصد الروائي شخصياته بعين تراقب التفاصيل الحميمة، رغبة في الكشف عن المستور، بروح الفرجة. ولا عجب في ذلك. فهذا هو الانتقام الوحيد الذي ينتزعه الروائي-الكاتب-الأديب لنفسه من هذه الدولة التي حطمت جيله، وحطمت وطنه، وحطمت حياته الفردية. هتك استار الحقيقة هي انتقام المثقف من الديكتاتور. الحقيقة ثأر كوني. يزول الديكتاتور الفرد، وتزول دولته، وتنطمر الحقائق، كلياً اوجزئياً، إلى حين. لكنها في النهاية ينبغي أن تطفو على السطح. وأقول ينبغي لأنها لن تفعل ذلك تلقائياً. على العكس من ذلك، فديكتاتور الأمس وأتباعه يكرهون الحفر في متعضياتهم المطمورة. إنهم يبغضون الباحث بغضهم عالم الآثار: لأنهم يريدون أن يبقى الماضي مطموراً وأن نراه بعيونهم لا بعيوننا. لن أضيف الى هذه المقدمة أية كلمة أخرى لاستكمال «الأحداث» التي وقعت منذ أن توقف الكاتب عن إضافة سطر واحد إلى الكتاب. حسبنا ما يرد فيه. إنه شهادة وتاريخ، وينبغي أن نقرأه بهاتين الصفتين.
#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الولادة العسيرة للفيديرالية في العراق
-
الهورلا: اوراق الجنون- الام ذاكرتي اللبنانية
-
في الحرب والتفكير و في الحرب والسياسة
-
مفهوم العنف، مفهوم الإرهاب
-
منطق الميليشيا، منطق الدولة
-
مائة عام على ثورة المشروطة مائة عام من الزمن الضائع
-
العراق: صراع المقدس والدنيوي في بناء الأمة
-
العراق: تصادم القبيلة والأصولية الوافدة
-
على الهامش العراقي: الرئيس قانونياً
-
أكتوبر البلاشفة، أو الثورة المنسية
-
الدستور العراقي قبل الانتخابات وبعدها
-
لائحة التعديل الدستوري
-
العراق: الأوجه الكثيرة للإستفتاء على الدستور
-
الدستور العراقي واستدراك التفويض
-
العراق وسواه من أوضاع مشابهة: الوسطية الضائعة منذ نصف قرن
-
انهيار الاتحاد السوفيتي والتجربة -الاشتراكية
-
نحن والعالم في ظلال 11 أيلول
-
المنهج النظري و التجريبية في كتاب الطبقات الاجتماعي لحنا بطا
...
-
العراق: صراع العروبة والأسلمة في الدستور وحوله
-
الدستور العراقي:المعركة الاخيرة ؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|