|
قُرآنُ السَّيْفِ أم سَيْفُ القُرآن؟ (1)
نجيب علي العطّار
طالب جامعي
(Najib Ali Al Attar)
الحوار المتمدن-العدد: 7645 - 2023 / 6 / 17 - 07:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليسَ ثَمَّةَ فِعلٌ ابتكرَه الإنسانُ أشدُّ منَ القتلِ في لاإنسانيَّتِه. ولَوْ أُريدَ للتَّعبيرِ أنْ يكونَ أكثرَ عِلميَّةً لوَجَبَ القَولُ أنْ ليسَ الإنسانُ العاقلُ، المَعروف عندَ مَعشَرِ التَّطوُّريِّين بالـ Homo Sapiens، ليسَ هوَ من ابتكرَ القتل، وإنَّما هو مَنْ طَوَّرَ أساليبَه وتَبريراتِه. ولا رَيْبَ أنَّ أسلافَنا، الذينَ تَطَوَّرْنا مِنهُم قبلَ نَيِّفٍ وثَلاثِمئةِ ألفٍ منَ السِّنين، هُمُ الذينَ ابتكروا القتلَ لأنَّهم كانوا أكثرَ مِطواعيةً للغريزةِ، إذْ أنَّهم كانوا أقربَ إلى التَّجمُّعِ الحَيوانيِّ مِنهُم إلى «المُجتمعِ البشري»، معَ شَديدِ التَّحَفُّظِ العِلميِّ على مُقاربةِ «تَجمُّعِهِم» إلى «المُجتمع البشريِّ». وتاليًا؛ إنَّ فِكرةَ القتلِ، مِنْ حيثُ هي إعدامٌ للحياةِ، أكثرُ قِدَمًا من الإنسانِ العاقل على هذه الأرض. بيدَ أنَّ هذا التَّطوير لأساليب القَتلِ وتبريراتِه قدْ بلغَ مَبلَغًا شَرْعَنَ، بصورةٍ أو بأُخرى، نِسبةَ فِعلِ الابتكارِ إلينا؛ نحنُ الإنسانَ العاقلَ.
لو أنَّ مُطِّلِعًا على الغَيْبِ أرادَ أنْ يُؤَرْشِفَ حالاتِ القَتلِ بعدِّ أسماءِ المَقتولينَ وهُويَّاتِهم لَمَا توانَى أنْ يُقَرِّرَ أنَّهُ ليسَ ثَمَّةَ حضارةٌ إنسانيَّةٌ ليسَ لها سِجلٌّ حافلٌ، أو غيرُ حافلٍ، بالقَتل. ورَغمَ أنَّه، أيْ القَتلُ، ليسَ إنسانيًّا إلَّا أنَّ هذا لا يَحولُ دونَ تقريرِ بديهةٍ، ليستْ ضرورةً بالضَّرورة، مفادُها: حيثُ ثَمَّةَ قَتلٌ فثَمَّةَ إنسانٌ. بعبارةٍ مُغايرة؛ إنَّ القَتلَ، مِنْ حيثُ هو، أمرٌ غيرُ عاديٍّ ولكنَّ وجودَ القَتلِ في الحضاراتِ هو أمرٌ يُمكنُ للمُطَّلِعِ على التَّاريخِ أنْ يعتادَه. واقتضاءً على الذي تقدَّمَ؛ إنَّ الحُكمَ على إنسانيَّةِ حَضارةٍ منَ الحضاراتِ لا يكونُ بالاستنادِ على وجودِ القَتلِ فيها أو عدَمِه، وإنَّما على تعاطيها معَ فِكرةِ، أو مَفهومِ، القَتل.
الإسلامُ، مِنْ حيثُ هو حَضارةٌ ليستْ بِدْعًا منَ الحضاراتِ، كانَ له موقِفُه الخاصُّ، نِسبيًا، من فِكرةِ القَتل. والمُسلمون، مِنْ حيثُ هُم مُفسِّرونَ للـ «نصِّ المُقدَّس»، كانتْ لهُم مواقفُهمُ الخاصَّةُ أيضًا، والتي لا يُمكنُ، بأيَّةِ حالٍ منَ الأحوالِ، أنْ نجعلَها مُرادفةً للنَّصِّ؛ أيْ القُرآن. وحَقيقٌ بمَنْ يَشتَغلُ في دِراسةِ الإسلام أنْ يتساءَلَ بكُلِّ ما أُوتِيَ منْ واقعيَّةٍ ومَنهجيَّةٍ يفرِضُهُما التَّاريخُ، بوصفِه عِلمًا، عنْ هذا النَّصِّ الذي يدعو إليهِ إنسانٌ مثلُ جلال الدِّينِ الرُّوميِّ، مَثلًا، بقَدْرِ ما يَدعو إليهِ، أو يَتوَهَّمُ ذلكَ، رجلٌ شَرِبَ، أو أُشرِبَ، التَّطرُّفَ حتَّى الإجرام. وليسَ ثَمَّةَ مُفارقةٌ شديدةٌ في غَرابَتِها مثلَ أنْ يُبرَّرَ الإجرامُ بنصٍّ قرَّرَ أنَّ «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا». ومِنْ هُنا تتبدَّى مَشروعيَّةُ السُّؤالِ المَطروحِ: قُرآنُ السَّيفِ أم سَيفُ القُرآن؟
وإذْ يُطرحُ السُّؤالُ على هذه الهيئةِ، وإذْ أنَّ المُشكلةَ ليستْ في النَّصِّ وإنَّما في فَهمِ النَّصِّ، فالأَوْلى لِمَنْ أرادَ أنْ يتَبَيَّنَ موقفَ الإسلام من القَتل، الأَوْلى أنْ يُصارَ إلى مُناقشةِ القُرآنِ نفسِه بدلًا مِنْ مُناقشةِ آراء المُجتهدينَ الذينَ يُبرِّرون القَتلَ تبريرًا يخلُقُ للمُسلمينَ أوَّلًا، ولغيرِهم ثانيةً، جماعاتٍ تمتَهِنُ القَتلَ وتعتقدُ فيه «أُوتوسترادًا» سريعًا إلى الجَنَّة. وعندَ مُناقشةِ القُرآنِ، أو حتَّى مُساءلتِه، لا بُدَّ أنْ تُؤخذَ بعُيونِ الاعتبار قواعدَ ضروريَّةٌ، كُلَّ الضَّرورةِ، للتَّبَيُّن.
أوَّلُ هذه القواعدِ أن يُقرأَ القُرآنَ كما دَعَا النَّاسَ أن تقرأه؛ أيْ كاملًا لا تجوزُ تجزئتَه وتفسيرُ آياتِه بمَعزِلٍ عنْ بعضِها البعضِ من جِهة، وعنْ سِياقِها في النَّصِّ مِن جِهةٍ أُخرى، إذْ يقولُ القُرآنُ؛ «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه». أمَّا التَّجزِئةُ، أو التَّبعيضُ، فإنَّها قادرةٌ على تبريرِ الإجرامِ منْ شِرعَةِ حقوق الإنسانِ، فضلًا عنِ القُرآن. ثُمَّ لا بُدَّ منَ التَّمييزِ بينَ «الفتوى» الدِّينيَّةِ و«الفتوى» السِّياسيَّةِ وعدمَ الانزلاقِ إلى هَاويةِ التَّماهي الذي كان بينَ «الدِّيني» و«السِّياسي»، والذي أسَّسَ له مُعاويةُ ابنُ أبي سُفيان ثُمَّ توالى عليه مَنْ ذَهَبَ مَذهبَه منَ الأُمويِّينَ والعَبَّاسيينَ وصولًا إلى «القاعدةِ» ومُتفرِّعاتِها. ثُمَّ، والأَوْلى أنْ يأتيَ هذا أوَّلًا، يجبُ أن نتخلَّصَ من يوتوبيا السَّلام التي تجعلُ من فِكرةِ السَّلامِ فِكرةً مُبتذلةً وسخيفةً ليستْ أقلَّ إجرامًا منَ القَتلِ نفسِه. لا يُمكنُ أنْ يَدَّعيَ مُدَّعٍ أنَّ القَتلَ دِفاعًا عنِ النَّفسِ ضِدَّ مُعتدٍ يحملُ سَيفًا أو مُسدَّسًا، فضلًا عنِ المِدفَعِ والصَّاروخ، هو قَتلٌ غيرُ مُبرَّر. مِنْ حقِّ الإنسانِ أنْ يَرُدَّ القاتلَ عنه حتَّى لوِ اضطُّرَّهُ ذلكَ لأنْ يَرُدَّه بالقَتْل. إنَّ هذا الحقَّ بالنِّسبةِ للفرد لا يُصبحُ واجبًا بالنِّسبةِ للمُجتمع، بل هو ضرورةٌ. ومِنْ هُنا تتبدَّى ضرورةُ التَّمييز بين الآياتِ القُرآنيَّةِ التي تتوجَّهُ للفرد وتلكَ التي تُخاطبُ الجماعة، أو المُجتمع الإسلامي. وبطبيعةِ الحال؛ لا بُدَّ أن يحوزَ المُشتَغلُ عِلمًا كافيًا بما يُعرفُ بعلومِ الآلة؛ أيْ تلكَ التي تُطلبُ لغَيرِها، مثلَ علوم اللُّغةِ وأصولِ الفِقه، إضافةً إلى التَّاريخِ الذي يُلحظُ منه أسبابَ نزولِ القُرآنِ وظروفَه الموضوعيَّة. بمعنى آخر؛ مَنْ أرادَ البيان عليه أن يملكَ أداتَه.
إنَّ القُرآن يُبرِّرُ القَتلَ في حالةٍ واحدةٍ ليسَ لها تَثنية؛ الاعتداء، أو العدوان بلُغةِ القُرآن. وليسَ الاعتداء ههُنا اعتداءً معنويًا، كالقَدْحِ والذَّمِّ، وليسَ مِن معاني الاعتداء مُحاربةُ الإسلام مُحاربةً فِكريَّةً، إن جازَ التَّعبير؛ أيْ بالأفكار التي تدعو إلى الابتعادِ عن الإسلامِ، فضلًا عن الإلحاد. إنَّ المُرادَ منَ العدوان هُو الحَرب العَسكريَّة؛ أيْ أن تُحارَبَ بالعَسكرِ لا بالأفكار. وعلى سبيلِ الاستزادةِ في التَّضييقِ على المُسلمِ إنْ أقدمَ على القَتل؛ إنَّ القُرآنَ، وهذا ما أقرَّه كثيرٌ منَ المُفسِّرين، لا يسمحُ بالقَتلِ إلَّا في حالةِ التَّقاتُل؛ ووزنُ «تفاعُل» و«مُفاعلة»، لُغةً، يُوجبانِ وجودَ طَرفَيْنِ يتشارَكانِ الفعلَ نفسَه. وتاليًا، فإنَّه من غيرِ الجائزِ قَتلُ جُنديٍّ في غيرِ أرضِ المَعرَكة، فضلًا عن أن تقصدَه إلى بلدِه وتقتُلَه. وفي هذا المَجال لا مَفرَّ من الإقرارِ بأنَّ الإسلامَ، بالقُرآنِ وأحاديثِ الرَّسولِ وكثيرٍ منْ آراءِ الفُقهاءِ، كانَ سَبَّاقًا إلى تقريرِ التَّمسُّكِ بالإنسانيَّةِ في ظِلِّ الحَربِ، مِنْ حيثُ هي حَدَثٌ ضِدُّ إنسانيٍّ.
خُلوصًا: إنَّ تَبرير الإجرامِ وتأصيلَه قُرآنيًا هو أمرٌ يلزَمُ عنه تضادٌّ صارخٌ مع القُرآن الذي كانَ، في شَرعنَتِه للقتلِ، أكثرَ إنسانيَّةً وتَقدُّمًا وواقعيَّةً وتَفهُّمًا للنَّفسِ الإنسانيَّةِ من يوتوبيا السَّلام التي هي إمعانٌ في القتل.
#نجيب_علي_العطّار (هاشتاغ)
Najib_Ali_Al_Attar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما لم تَسمعْه ليلى
-
عائدٌ إلى «الضَّاحية»
-
أديانُ الإسلام
-
دِيكتاتورِيَّةُ البُؤس
-
مِفصليَّةُ الإعلان عن الإندماج النُّووي
-
رَبيعُ تِهران
-
مأساةُ الحِمار العَربيّ
-
سيمفونيّة الإرهاب
-
قَوْنَنَةُ الثقافة
-
ظاهرةُ عدنان إبراهيم
-
رسالةٌ الى الله
-
مأزوميّة الخطاب الإسلامي
-
الصراع على السلام
-
خصامٌ مع الذاكرة
-
الأزمةُ البيضاء
-
التَّسميمُ بالأسماء
-
كارثيّة الإختزال
-
الهولوكوست الأسديّ
-
تسقط دولة فلسطين
-
الهولوكوست اللبناني
المزيد.....
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|