|
فقراء ولكننا لسنا سعداء! خرافة طردية الثراء والاضطراب النفسي
مجيب العمري
الحوار المتمدن-العدد: 7634 - 2023 / 6 / 6 - 07:52
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
لم أتوقف منذ سنوات عن سماع أفكار ساذجة وساخرة هنا وهناك حول عملية ربط سمجة بين الثراء والفئة الاجتماعية التي ترتاد المشافي النفسية. بل تتجاوز المزاعم الى شيوع الاعتقاد الخاطئ بأن القلق واضطرابات الهذيان ترتبط بالثراء واليسر. هذه الأفكار، على سذاجتها وخطورتها، منتشرة بشكل كبير في الوعي الشعبي، حتى وصلت إلى حد توجيه اتهامات واصمة لمرضى الطب النفسي بالثراء المفرط والدلال المبالغ فيه. وقد تجاوزت هذه الأفكار الأفراد لتبلور سياسات بعض الدول النامية التي لا تعطي أهمية كافية لمكافحة الاضطرابات النفسية ولا تتوفر فيها حتى الأدوية المضادة للاضطرابات النفسية. بل إن بعض صناديق التأمين (ان وجدت) في تلك الدول لا تغطي حتى اثمان تلك الأدوية. تعرف منظمة الصحة العالمية التداعيprecarity بمعنى عدم وجود إحدى أو أكثر من الضمانات التي تسمح للأفراد والعائلات بتحمل التزاماتهم المهنية والعائلية والاجتماعية والاستمتاع بحقوقهم الأساسية. إن هذا التداعي لا يعني بالضرورة الفقر أو الفقر المدقع، بل هو مفهوم ديناميكي متعدد الأسباب يشمل الفقر و يرتبط أساسًا بالهشاشة الاجتماعية والصحية والاقتصادية التي قد تمنع الفرد أو مجموعة من الأفراد من الحصول على الدعم المجتمعي، مما يؤدي إلى ابعادهم واقصاءهم الى حافة المجتمع. فالمعروف في حالات التداعي والهشاشة القصوى هو أن القدرة على طلب المساعدة من الأنظمة الاجتماعية (إن وجدت) تكون في علاقة عكسية مع درجة حدة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يعني بالضرورة زيادة الانعزال والوحدة والمرض، مما يمكن أن يهدد حتى حياة الأفراد. وتعزى كل هذه الأمور إلى حالات الاستبعاد الذاتي التي تعاني منها الطبقات الهشة والتي تتطور إلى أعراض انعزالية شديدة self-exclusion تساهم في تشديد مخاطر إصابتهم بالاضطرابات النفسية.
"لو كان الفقر رجلا لقتلته"... لكنه مع الأسف ليس رجلاً ولا امرأة، بل مفهومًا هلاميًا معقدًا حصره البنك الدولي في تعريف بحفنة دولارات. فالفقر يتجاوز بضعة الدولارات سنويًا ليصبح عاملًا أساسيًا في تواصل الهشاشة الاجتماعية. فقلة اليد تعني، على سبيل المثال، مشاكل في السكن والتهوية، وذلك يعني بالضرورة مشاكل صحية وأمراض تنفسية وجلدية وجرثومية معدية.. قلة ذات اليد تعني أيضًا مشاكل مالية واشكاليات في دفع الفواتير، وربما مشاكل في التدفئة وحتى الوصول إلى الأطباء وسوء التغذية.. كان للبحر أن ينفذ قبل أن ينفذ مدادي في الحديث عن التداعيات النفسية والصحية للفقر كسبب لا يستهان به في الأمراض الاجتماعية، مرورًا بالأمراض العضوية بجميع أنواعها، وصولًا إلى جميع أمراض الإدمان والقلق وحتى الذهان. مع إنني لست متأكدًا من نوعية العلاقة بين الفقر والجريمة من جهة وبين الإدمان والجريمة من جهة أخرى، إلا أنني على قناعة شديدة بأن الأحياء الفقيرة (غالبا على حافة المدن الكبرى الثرية) تشكل مسرحًا كبيرًا لتعاطي المخدرات، والتي في كثير من الأحيان ترتبط بشبكات الجريمة المنظمة. العلاقة بين تعاطي المخدرات والضغط لم تكن أبدًا واضحة بالقدر الذي قد يبدو، خاصةً فيما يتعلق بالعلاقة السببية المبهمة وغير الواضحة. هل يتعرض الفقراء لضغوط شديدة عبر واقع هش يدفعهم إلى استهلاك المخدرات ومن ثمة يصابون بالأمراض النفسية، أم أنهم كانوا عُرضة للأمراض النفسية المتعددة ولجأوا إلى محاربتها من خلال استهلاك المخدرات؟؟ هذه الأسئلة، رغم بساطتها الظاهرية، تعتبر معقدة وليس لها إجابات سحرية، ولذلك ولي لا أسقط في التعميم الساذج فانني أستدعي نموذج استعداد المرض والضغط لإيجاد تفسير لهذه العلاقة المعقدة بين العوامل الخارجية، بما في ذلك العوامل الاقتصادية والاجتماعية والظروف النفسية الذاتية والعوامل الجينية للمرض النفسي.
يفترض نموذج الاستعداد للمرض والضغط Diathese-Stress-Modell وجود حساسية نظرية vulnerability لدى كل فرد تجاه الأمراض النفسية، ويرتبط ذلك بالعوامل الوراثية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية في ترابط معقد وغير محسوب. يقترح هذا النموذج أن الفقر وسوء المعاملة والظروف الاجتماعية الصعبة والصدمات تساهم في تقليل مستوى الحساسية وبالتالي زيادة احتمالية تطوير الأمراض النفسية المعقدة مثل الفصام والاكتئاب والقلق.. بقولي هذا فأنا لا أدعي وجود علاقة سببية مباشرة قد يفهم منها أن الفقر هو رديف أوتوماتيكي للاضطراب النفسي، بل أن القول أن انهيار الوضع الاجتماعي من فقر وعدم توفر مسكن لائق وخدمات صحية مثلا، يمثل عامل ضغط هام لدى الفئات الاجتماعية الهشة, يتفاعل مع المحفزات الجينية والنفسية الذاتية عند الأفراد قد ينتج عنها اضطرابات نفسية جمة. في سياق متصل، أجريت العديد من الدراسات (فرانسوا بورك و فان دير فين, كندا 2012) التي تشير إلى ارتفاع مستويات الفصام في الأجيال الأولى والثانية من المهاجرين إلى كندا، والذين ينتمون في الغالب إلى أوساط اجتماعية واقتصادية هشة. ولا ينخفض هذا المستوى إلى المستوى الطبيعي لمجتمعات الاستقبال إلا بدءًا من الجيل الثالث، الذي قد يكون أكثر استقرارًا واندماجًا. في دراسة فرنسية لكريستين كوهيدون وفريقها في عام 2009 حول الأمراض النفسية ومختلف فئات العمل في فرنسا، تبين أن الاضطرابات النفسية تؤثر بشكل خاص على الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة والأكثر عرضة للتمييز مثل النساء والعاطلين عن العمل والمهاجرين. وهذا يعني أن تقاطع أشكال التمييز يعني أن هذه المجموعات تتعرض بالضرورة لشتى أنواع الضغوط والوصم والأمراض النفسية العصابية والذهانية. ووجدت هذه الدراسة، مثل كثير من الدراسات الأخرى، أن مخاطر الإصابة بالاكتئاب والذهان والإدمان، وبصفة أقل اضطرابات القلق، تصيب في الغالب الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة وذلك من خلال هذه الصدمات النفسية المتتالية وحالة الضغط المستمر، وحتى عدم المساواة في الوصول إلى الأنظمة الصحية ووسائل العلاج.. في هذا السياق، تذكرت حالة شابة من البينين وصلت إلى بوركينا فاسو ثم وصلت إلى ليبيا في رحلة صعبة، حيث تعرضت لاستغلال فظيع واعتداء جسدي وجنسي في سوق العمل المضطربوالخطير هناك. وصلت هذه المرأة عبر البحر المتوسط في قارب متهالك ووجدت نفسها كامرأة سوداء البشرة من أقلية مسلمة ضائعة، بلا عمل في بلد لا تتحدث لغتها ولا تحمل أوراق ثبوتية قانونية. انتهى بها المطاف في عيادات الطب النفسي بحالة هلاوس سكيزوفرينية، حيث بدأت رحلتها مع الألم الجديد..
في نهاية مقالي، أود أن أبتعد عن أي فكرة قد تثار عن غير قصد بشأن خلو الطبقات الاجتماعية الأكثر حظًا من الاضطرابات النفسية. هذا الادعاء غير واقعي ولا يستند إلى أي أدلة علمية. بالعكس، فإن الطبقات الاجتماعية الميسورة ليست معفاة تمامًا من الاضطرابات النفسية، وقد تعاني من اضطرابات القلق والخوف والتمظهرات البسيكوجسدية في خصوصية ملفتة للانتباه. وقد نتناول هذا الموضوع بالوصف والتحليل في مناسبة أخرى. إيجاد حلول هيكلية في سياسات الصحة النفسية لا يمكن أن يتم دون تحسين الواقع الاقتصادي وعوامل الهشاشة الاجتماعية. أظهرت العديد من الدراسات تقاطع عوامل الهشاشة الاجتماعية والتمييز في نشوء الاضطراب النفسي، حيث يتحول من نتيجة إلى سبب إضافي من أسباب التمييز والوصم والعزلة الاجتماعية.
#مجيب_العمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيندروم We have been there: حالة البروفيسور العربي
-
الطب النفسي من تمائم المشعوذين الى حبات الليثيوم..
-
كرة الثلج في مدرسة الروابي: من التنمر إلى جريمة الشرف
-
الجين الجبان
-
داعش في ربوع بلوتو ..
-
الى روح سيلان اوزلاب
-
البوتاسيوم اكسير حياة في زمن داعش
-
ثورة المشرط التونسي, من فلسفة النضال الى خزي لاعقي احذية الن
...
-
الارهاب في تونس من وراء النظارة.. مجرمون ام ضحايا ؟
-
نبي الفصام.. شيزوفرينيا الثورة
-
فوضى ما بعد الثورة : الاطباء الداخليون في المستشفيات التونسي
...
-
ربيع الثورة ام كرب ما بعد الثورات .. مقاربة نفسية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|