أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - الله الذي لا نراه















المزيد.....

الله الذي لا نراه


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 7628 - 2023 / 5 / 31 - 13:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في رحلة البحث عن الذات
يمتاز الإنسان على سائر المخلوقات بوعي قادر ليس فقط على أن يجعله واعياً بوجوده الذاتي ووجود كل ما يصادفه في الطبيعة المادية المرئية، بل قادر أيضاً على أن يتصور وجود حتى ما لا وجود محسوس ومرئي له في الطبيعة. إن وعي الإنسان لا يقتصر على ما هو محسوس ومعلوم ومرئي له، لكنه قادر على أن يَسع كذلك اللامحسوس والمجهول واللامرئي. ومن عجائب تصاريف النفس البشرية أن تكون الغلبة والهيمنة على وعي الإنسان على مر العصور وحتى اللحظة من نصيب اللامحسوس والمجهول واللامرئي أكثر منها للمحسوس والمعلوم والمرئي. والله، بالطبع، ينتمي إلى الفئة الغالبة.

الوعي هو سوفت وير الإنسان، نظامه التشغيلي. ولا شيء في الوجود يؤثر على هذا النظام التشغيلي أكثر من مكوني الوعي النفسيين ’الخوف‘ و’الرجاء‘. بواسطة الخوف والرجاء يمكن تأديب وتهذيب المرء، والسيطرة عليه وتوجيهه وتسخيره لخدمة أغراض وأهداف أسمى وأنبل من أغراض المرء الذاتية الدونية الأنانية- حفظ وتنمية الجماعة البشرية. فما كان لهذه الأخيرة أن تنهض وتستمر إلا بنشأة هاتين العاطفتين، أو بالتزامن معهما، لضرورتهما المُجربة وغير المشكوك فيها من أجل تسخير جهد الفرد الأناني في السابق لخدمة غايات الجماعة التي انضم حديثاً إلى عضويتها. الخوف والرجاء نتيجتان طبيعيتان لوعي الإنسان بوجوده وسط عالم زائل مليء بالأخطار، لكنهما اتخذتا أبعاداً فوق طبيعية أو ميتافيزيقية عقب انخراطه في حياة اجتماعية صقلتهما وارتقت بهما من حيز المصلحة المادية الذاتية الفردية الأنانية إلى فضاء المصلحة الجمعية العامة. وبنشأة الجماعة وتجاوز الخوف والرجاء حدود العالم الأرضي، كان ميلاد جديد لم يألفه وعي الإنسان من قبل: الإله خالق الجماعة وحافظها ومدبر أحوالها. وكان الله المجسد الأعظم في الكون لوازعي الخوف والرجاء الطبيعيين في أعماق الوعي البشري الفردي والجمعي.

عبر التاريخ، قد افترقت أعظم العقول البشرية الواعية في نظرتها حول ’الله‘ بين ثلاثة تيارات عريضة:

1- الله الميتافيزيقي، المكتفي بذاته فيما وراء الطبيعة
هي النظرة الكلاسيكية المتراكمة عبر عصور ما قبل الميلاد لكي تُتوج في مدن اليونان القديمة، وبالأخص أثينا. وتقوم على تصور محوري مفاده أن المنطق يقتضي وجود فاعل لكل فعل، مسبب لكل سبب، خالق لكل مخلوق، أو عِلة لكل مَعلول. ولما كان الوجود حقيقة واقعة ومرئية، إذن لابد من مُوجد له في مكان ما حتى لو كان غير مرئي للإنسان. وفق هذه النظرة، الله موجود فعلاً لأن وجود الكون ذاته شاهد عيان على ذلك، لكن وجوده لا يمكن أن يقع ضمن الكون الذي صنعه أو كان موجده ومسببه الأول. ولأنه من غير المتصور منطقياً أن يوجد الله الخالق ضمن الوجود الطبيعي الذي خلقه أو سببه بنفسه، وكان وجوده ضرورياً لا يزال لارتباطه المؤكد بوجود الكون، فقد هرب هؤلاء القدماء من التناقض عبر تسكين الإله في عالم الميتافيزيقا، فيما وراء الطبيعة. وترتب على ذلك وجود عالمين منفصلين من المستحيل أن يلتقيا أو يتصلا معاً بأي طريقة متصورة منطقياً. ومن ثم يكون أي ادعاء بخلاف ذلك- مثل الادعاء الديني القائم على إمكانية الاتصال المباشر أو غير المباشر بين الله والبشر- مجرد أوهام وأحلام يقظة في أفضل الأحوال وكذب بواح في أسوأها. وكان من نتيجة هذا الفكر الناقض والهدام للمعتقدات السائدة في عصره تقديم سقراط للمحاكمة، والحكم بإدانته وإعدامه بتهمة الهرطقة والإساءة للتقاليد الدينية.

لقد وقعت هذه النظرة الكلاسيكية لله في تناقض أهلها فيما بعد لنعتها بالسذاجة الفكرية. كيف يستقيم منطقياً تصور كيان يخلق الكون أو يسبب وجوده من خارجه؟! نحن هكذا أمام وجودين منفصلين ومنعزلين- إلهي وبشري- حيث لا يمكن لأحدهما الاتصال بالآخر؛ إذن كيف، وأين، تمكنت الآلهة من خلق البشر إذا كان وجود خالق للمخلوقات ضرورة منطقية لابد منها كما تصوروا؟! وإذا كان هناك كونان حقاً، واحد ضمن الطبيعة (مادي) وآخر وراء الطبيعة (ميتافيزيقي)، ألا يستلزم ذلك منطقياً وجود كون ثالث لايزال يحوي الاثنين معاً، أم أنهما موجودان في فراغ؟!

2- الله صاحب الملكوت، مُرسل الرُسل، الحاكم في مُلكه
هي النظرة الدينية التي سادت خلال القرون الوسطى، وتُوجت في مدرستين عظيمتين: المسيحية والإسلام. شيد رواد هذا التيار الفكري نظرتهم لله من حيث انتهى الفلاسفة القدماء، وتبنوا نفس نظرتهم حول وجود الله وكونه الخالق والسبب الأول للوجود الكوني والبشري. لكنهم سرعان ما سلكوا في وجهة معاكسة تماماً وخلصوا إلى نتيجة مختلفة جوهرياً عن سابقيهم الوثنيين. لقد أنهى هؤلاء المؤمنون عزلة الإله الكلاسيكي، خلصوه من أسره الميتافيزيقي وجاءوا به إلى كوننا ودنيانا وأسكنوه في بيوت من الحجارة وغرسوه في أفئدة المؤمنين على الأرض، وسط الطبيعة. وكان سر نجاحهم يكمن في ابتكارهم لحلقة الاتصال المفقودة بين العالمين القديمين، الطبيعي وما وراء الطبيعي أو الميتافيزيقي، ليصبحاً عالماً واحداً والعالم نفسه، عبر تمكين الله من الاتصال بالبشر وتبليغهم كلماته المقدسة من خلال الرُسل. كان من نتيجة هذا التصور المغلوط وغير المنطقي من منظور الفلاسفة القدماء أن أصبح وجود الله حقيقياً ومحسوساً ولو في صورة غير مرئية؛ أصبحت كلماته وأحكامه وشرائعه التي ضمَّنَها كُتبه المقدسة، أو كَلَّم أو أوحى بها لرسله، أو ألهم أو أسرَّ بها للحواريين والصحابة، أو فتح أو أنار بها عقول الكهنوت والفقهاء صالحة وواجبة النفاذ في كل مكان وزمان. تحول الله إلى ما يشبه الإمبراطور الكوني، ملك الملوك، أو "السوبر سوبرمان" بنكهة معاصرة.

3- الله الإنسان الذي بداخلنا
كوَّنَ المحدثون نظرتهم لله انطلاقاً من ذات اللبنات الفكرية الأساسية القديمة والوسطى لكنهم، مثل من سبقوهم، قد سلكوا طريقاً جديدة ومبتكرة بدرجة جوهرية. إذ بينما انتهى المطاف الفكري بالفلاسفة القدماء إلى تسكين آلهتهم في عالم الميتافيزيقا، وجاء المتدينون خلال القرون الوسطى بربهم إلى الحياة بيننا على الأرض ووسط الطبيعة، متدثرين به في سلطة طاغية الاستبداد والجبروت، تصور المحدثون ربهم في موضع جديد بالكلية: في الوعي، داخل دماغ الإنسان.

لقد غاب عن فلاسفة الأقدمين والأوسطين أن الوعي هو وسيلة الإنسان الأساسية والوحيدة لأي وكل تساؤل على الإطلاق يخطر ببال الإنسان؛ وهو كذلك الوسيلة الأساسية والوحيدة للتوصل لأي وكل إجابة ممكنة أو متصورة على الاطلاق. بعبارة أخرى، السؤال في حد ذاته- وإجابته- ملكية حصرية للوعي، لا أي شيء آخر على الاطلاق حتى لو كان خالق الكون والوعي ذاته، إن وُجد. في قول آخر، الإنسان الفاقد للوعي غير مدرك لوجود الوجود، أو حتى وجوده هو ذاته؛ وبالتالي، لن يطرح تساؤلات عن شيء غير موجود أصلاً في إدراكه- حتى لو كان هذا الشيء موجود فعلاً كحقيقة مادية محسوسة في واقعه المحيط- ولن يبحث عن إجابات. إذن، حتى لو كان الله موجوداً وجوداً مادياً ملموساً من لحم ودم وسطنا أو من حولنا، أسوة بسائر مفردات الكون، سيظل إدراكنا له محكوم في الأول والأخير بوعينا به، لكون الوعي وسيلة المعرفة والإدراك الحصرية. وطالما كانت معرفتنا بالأشياء محكومة دائماً وأبداً بمقدار ما نملك من الوعي بها، إذن الأشياء لا توجد في عيننا- ولحواسنا كافة- إلا بمقدار استكشافنا لها وما نراكمه من وعي (معرفة) حولها، وإلى هذا الحد فقط، حتى لو كانت موجودة بالفعل في الوجود المادي الملاصق لنا منذ ملايين السنين قبل تعرفنا عليها بهذا الشكل. كل معرفة وعي. والوعي مبتدؤه ومنتهاه في مخيلة الإنسان، داخل الدماغ.

وقد ترتب على ذلك نتائج عظيمة الأثر، أسست لمجموعة من القيم والمبادئ الجديدة التي خدمت كرأس الحربة لميلاد العالم الحديث والمعاصر، من ضمنها:
* تحرير الإنسان من أي وكل سلطة على الإطلاق من خارجه، سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية. أصبح الإنسان هو في حد ذاته السلطة المطلقة، التي تستمد منها أي سلطة تنظيمية أخرى شرعيتها. وضعت الدساتير التي تؤكد وتصون هذا المبدأ، وتشكلت الحكومات التي تجسده.
* وضعت المواثيق والعهود الدولية لحماية وصون حقوق الإنسان حول العالم، باعتباره- كإنسان- المرجع الوحيد والحصري المتجاوز لأي اختلافات في العرق أو اللغة أو لون البشرة أو الدين أو النوع أو أي شيء آخر.
* تم تحرير الإنسان مرة واحدة وللأبد من ربقة الأديان، ومن استغلال شعوره الطبيعي بالخوف والرجاء باسم الدين، ليصبح حراً في اعتقاد ما يشاء، أو عدم الاعتقاد في شيء على الإطلاق. أصبح الدين، مثل كثير من جوانب الحياة البشرية الثرية، شأن شخصي بحت لا يحق للآخرين، أو أي سلطة عامة، مسائلته عنه أو التدخل فيه.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بوتين في المصيدة- كش مات
- حتى لا ننهش جُثَة الوطن
- حين تُفسد الحكومة مواطنيها
- مصاحفُ فوق الأسنة وأمةُ بلا نبي
- أليست الجمهورية الإيرانية -إسلامية-؟
- ماذا لو حكم الإخوان المسلمون؟
- في الإسلام، الديمقراطية حلال أم حرام؟
- نظرة على مستقبل الجيوش في الجمهوريات العربية
- ميلشياوية من أزمة شرعية
- كيف حُشِّرت مصرَ في العُنُق
- الاستعمار بين المثالية والواقعية
- حتى لا نخون الوطن بسبب طاغية: صدام نموذجاً
- كيف نتطور؟
- غزوة الصناديق الإسرائيلية
- لماذا نعيش؟
- هل كان غزو العراق كارثة أمريكية أسوأ من فيتنام؟
- حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة 2
- حلفاء روسيا هم قلة من الأمم المتنافرة والمتناقصة
- روافد السلوك السوفيتي .
- إصلاح ما لا يمكن إصلاحه- الإسلام


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - الله الذي لا نراه