أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - أنا أنتظرُ … إذن أنا موجود!














المزيد.....

أنا أنتظرُ … إذن أنا موجود!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 7625 - 2023 / 5 / 28 - 11:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أنا لا أحبُّ الانتظارَ. لكنني أنتظرُ. أنتَ أيضًا تنتظر. كلُّنا ينتظر. الإنسانُ بوجه عام يحيا حال انتظار دائمة لشيء ما. شيء ماديّ: كتاب، حبيب غائب، خطاب، فلوس، ابن ضال، أو حتى تنتظر أن ترفعَ الطعام من على الموقد. أو معنويّ: سفر، ترقية، نجاح، عدالة، ميلاد، أو حتى موت. حتى مَن سيزعم أنه الآن (في هذه اللحظة بعينها ) لا ينتظرُ شيئًا، فهو في الواقع ينتظرُ أن ينتظرَ شيئًا. ينتظرُ "الانتظار". الموتى وحدهم لا ينتظرون. حقا؟! ربما ينتظرون. بل هم قطعًا ينتظرون. أنا مثلا أنتظرُ كلَّ يوم أن أسمع كلمةً جديدة على لسان ابني الصموت "عمر". حالُ الانتظار والترقّب تلك، هي دليلُنا على أننا نحيا، وهي ما يمنحنا الشغفَ بالأشياء. أو حتى الرهبة منها. والشغفُ والرهبةُ والتوجّسُ والقلقُ والترقّبُ جميعُها مشاعرُ حيوية وصحيّة وطيبة لكي تنتظم الحياة. وبينما يمارسُ البشرُ الحياةَ فيما ينتظرون، ثمة بشرٌ "يؤجلون" حياتهم انتظارًا لهذا الذي سوف يأتي. أو لا يأتي. يرهنون أعمارَهم ولا يفعلون شيئًا سوى الانتظار، إن كان "الانتظارُ" يُفعل. عبّر عن هؤلاء الكاتبُ الأيرلندي "صمويل بيكيت" في مسرحيته الفاتنة "في انتظار جودو"، التي صُنِّفت نقديًّا ضمن مسرح العبث أو اللامعقول Absurd. رجلان لا يجمع بينهما شيءٌ إلا أنهما ينتظران شخصًا اسمه "جودو" سوف يحلُّ لهما كل أزماتهما. لن نعرف أبدًا طبيعة تلك الأزمات، ولا كيف سيحلُّها "جودو"، ولا مدى صلاحيات "جودو" وسلطانه، فهو مجرد شخصية افتراضية وهمية لا تطأ خشبة المسرح أبدًا، إلا عبر اسمها المتكرر على لسانيْ "استراجون" و"فلاديمير" اللذيْن ينتظرانه منذ نصف قرن دون يأس ودون ملل. بل ثمّة مللٌ ينتابهما فيتحايلان عليه بثرثرة مفككة تنحو نحوًا سُرياليا كوميديًّا. وهذا أجملُ ما يميز أدبَ "اللامعقول" من حيث تصدّع البنية، وعبثية الحوار، وانهيار هيكل الحبكة الدرامية؛ إذ لا حبكة أصلا ولا دراما تسير في خط متنامٍ تصاعديّ شأن المسرح الأرسطيّ التقليدي، بل ينحو "الحكيُ" نحوًا دائريًّا "عبثيًّا" مُفرّغا يُشعركَ بالتهديد؛ ولا يؤدي إلى معنى. واللا-معنى في ذاته "معنى" على نحو ما. ومن هنا كان مسمى "مسرح العبث". لكن الفكرة من وراءه عميقة على المستوى الفنيّ والمضمونيّ. إذ تشيرُ إلى عجز اللغة، أيّ لغة، عن التعبير الكامل الحقيقي عما يمور داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر. يأتي الرجلان كلَّ يوم، منذ خمسين عامًا من مشرق الشمس وحتى غروبها، إلى ذات البقعة الجرداء، إلا من شجرة، يفكران كثيرًا في شنق نفسيهما عليها ولا ينفذان قرارهما أبدًا. يثرثران بتافه الكلام، وينتظران. يسأل أحدُهما الآخرَ: "ماذا نفعلُ الآن؟ فيجيبُ الآخر: ننتظر./ هيا نمضي!/ لا نستطيع!/ لماذا؟/ لأننا ننتظر جودو/ آه./ لكنه لم يقل إنه سوف يأتي على وجه اليقين./ وإذا لم يأتِ اليومَ؟/ سوف نحضرُ إلى هنا في الغد./ ثم بعد غد.”
عشراتُ المدلولات والرموز بوسعنا أن نُحِلَّها محلَّ "جودو" المنقِذ المنتظَر. حتى وإن خلا السرد من أي دليل على وجوده؛ فيما عدا الغلام الذي يأتي ليخبر المنتظريْن أن "جودو" قادمٌ غدا. وهذا الغدُ بالطبع لا يأتي أبدًا. على أن الانتظارَ قد تحوّل إلى هدف وحياة. لا حياة خارجها. (رغم أنهما عاشا نصف قرن دون “جودو!).
يختلفُ هذا اللونُ من الانتظار "السلبي" الذي طرحه "بيكيت" عن الانتظار "الإيجابي" الذي طرحه "قسطنطين كفافيس" في قصيدة "في انتظار البرابرة". ليس وحسب في كون البرابرة عدوًا مخيفًا عكس "جودو" رمز الخلاص. لكن الأهم هو في اختلاف طبيعة الانتظار ذاته، وهو ما يهمّنا هنا. انتظار "استراجون" و"فلاديمير" سلبيّ، فيما انتظار سكان المدينة للبرابرة كان إيجابيًّا وإن لم يخلُ من عبث كذلك. القومُ محتشدون في الأسواق، وتأهّب مجلسً الشيوخ مُترقبًا، وصحا الإمبراطورُ من نومه مبكرًا على غير عادته، وارتدى أجملَ ثيابه، وازدان القناصلُ والجندُ بالصولجانات وتقلّدوا الجواهر والذهب. لماذا؟ لأن البرابرةَ قادمون اليومَ. الكلُّ خائفٌ ومرتعبٌ، والحكومةُ تتأهبُ لهذا العدوّ الشرس منتويةً أن تُسلّم إليه القيادةَ فورًا دون قيد أو شرط. وفجأة ومع نهاية اليوم تكتسي الوجوهُ بالوجوم. لماذا؟ لأن البرابرة لم يجيئوا كما هددوا. وكأن الناسَ ينتظرون عدوًّا "مجهولا"، لكي ينجوا من عدو "معلوم"، هو الانتظار. حتى أن السطر الأخير من القصيدة يقول: "ماذا سنفعلُ الآن بلا برابرة؟ لقد كانوا حلاً من الحلول".
ولأننا ننتظرُ أحدًا طوال الوقت، نحزنُ للغاية إذا لم ينتظرنا أحدٌ. لذلك تقول فيروز: "قديش كان في ناس/ ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني ويحملوا شمسية/ وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني!" عزيزي المنتظر، فيما تنتظرُ شيئًا، اعملْ وجدّ وانتج شيئًا مفيدًا.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلامُ … والنور
- أنت مصري؟ سلِّم على -عادل إمام-
- الناجحون … ماذا يضعون على رؤوسهم؟
- طاووسيةُ الموسيقارِ الجميلةُ
- فضيلةُ الحذف ... والبخل في الكلمات
- سكنتُ على مقربةٍ من هذا العظيم!
- صانعُ الجُرم … والمشيرُ إليه!
- جميعُنا: ذَوو احتياجات خاصة
- رسائل جعفر العمدة
- غنّيتُ مكّةَ … وأعزَّ ربي الناسَ كلَّهمُ
- انشطارُ واجهةِ الهرم... في عيد الحياة
- أفطروا بأمانٍ … فنحن نحمي الوطنَ!
- سعفةُ نخيلٍ خضراءُ … من أجل مصرَ
- التوحّدُ .. التنمّرُ … الإناءُ المصدوع
- في اليوم العالميّ للتوحّد … قطوفٌ من عُمَر
- شنودة يعودُ إلى بيته … شكرًا للشرفاء!
- أبله فضيلة … صوتٌ صنع طفولتَنا
- في رمضان … نصومُ معًا!
- أيها الكبارُ … لن أحتفل ب عيد الأم
- مشروع الفُلك حدوتة مصرية


المزيد.....




- أنقرة: أردوغان أكد هاتفيا لبوتين أهمية العمل معا لوقف الأعم ...
- موعد صلاة عيد الفطر 2025 في العراق واهم المساجد التي يقام في ...
- تثبيت تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي 2025 أغا ...
- 70 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
- 70 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
- اشتباكات عنيفة خلال مظاهرة لليهود المتشددين مناهضة للتجنيد ف ...
- إفطار رمضاني عربي في غرينلاند .. هل يوجد مسلمون هناك؟
- كيف توسعت مرافق المسجد الحرام على مدار العصور؟
- روايات شهود عيان عن العنف الطائفي ضد العلويين في دمشق
- الطائفة العلوية خليط من الديانات والمذاهب والفلسفات


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - أنا أنتظرُ … إذن أنا موجود!