|
تقاطعات بين الأديان 25 إشكاليات الرسل والأنبياء 10 موسى الحلقة الثانية
عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 7598 - 2023 / 5 / 1 - 16:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقاطعات بين الأديان 25 إشكاليات الرسل والأنبياء 10 موسى الحلقة الثانية
إذاً، في بداية هذه الحلقة تعالوا نستذكر معا ما كنا قد أشرنا له في الحلقة السابقة ، من حقيقة أن احتفاء الكتابين المقدسين بموسى ؛ الرسول والرسالة ، لم يحظ به أي من الرسل الذين سبقوه أو لحقوه . قلنا أن التوراة منحته أربعة أسفار كاملة بأكثر من أربعة آلاف أية ، فيما ذكره القرآن ذكرا مباشرا 136 مرة وَفي 36 سورة ، أما سيرته فقصها في 13 سورة وبما يزيد على أربعمائة آية .
1 لا تكمن المشكلة في هذا العدد الضخم من الآيات ، وإنما في أن سيرة الرسول كما الرسالة ، تَحفلان بالكثير الكثير من الإشكاليات . لكن أسلوب السرد يجعل من الصعب ، إن لم يكن من المستحيل ، على القارئ الناقد ، ناهيك عن القارئ المؤمن ، وضع اليد على تلك الاشكاليات . وأصعب من ذلك فك ألغازها وإعادة عرضها بصورة مقنعة . مثال ذلك أننا في الحلقة السابقة صرفنا حبرا وجهدا في عرض صور للعبودية التي قال الكتابان المقدسان أن بني إسرائيل كانوا يئنون تحت وطأتها ، ودون أن نتساءل : هل صحيح أن بني إسرائيل سقطوا فعلا تحت نيرها ؟ لم نتساءل بالرغم من أن التوراة قدمت لنا العديد من القرائن ، وفي مواقع مختلفة من أسفارها ، بأن هذه العبودية لم تقع أصلا ولم يعانِ بنو إسرائيل من تبعاتها . كيف ؟ أشرنا ، في الحلقة الأولى ، أن اصطفاء الرب لموسى نبيا ورسولا ، كما يؤكد الكتابان المقدسان ، حدث لتحقيق هدفين مترابطين و متلازمين . يتمثل الهدف الأول في ما وصف بتحرير بني إسرائيل من نير العبودية المصرية . فيم يتمثل الثاني في التوجه بهؤلاء " المحررين ! " نحو الأرض التي قال وكرر لهم موسى بأن الرب وعد آباءهم ؛ إبراهيم ، إسحق ويعقوب - إسرائيل - ، بإعطائها لذريتهم . لكننا لم نُشر إلى حقيقة أن تحقيق هذين الهدفين حفل بالعديد العديد من الإشكاليات ، بدءا باختيار الأساليب ، الوسائل ،الأدوات والآليات ، وصولا إلى مناهج التطبيق ذاتها . على سبيل المثال لم نشر إلى أن بني إسرائيل ، المطلوب تعبِئتهم لتحقيق الهدفين ، لم يعانوا العبودية من جهة ، ولم يكونوا على أدنى معرفة بوعد الرب لآبائهم من جهة أخرى . أكثر من ذلك أنهم عاندوا كثيرا ورفضوا كل الحكايات التي حكاها لهم موسى سواء عن التحرر من نير العبودية أو عن تلك الخاصة بأرض اللبن والعسل وتملكهم لها . 2 هكذا ، وفي محاولة لفهم الإشكالية السابقة ، نصل إلى حقيقة أن الهدفين يطرحان علينا ، من بين سلسلة الأسئلة ، سؤالين مِفصليين ، تُمكننا الإجابة الصحيحة عليهما من معرفة وفهم كيفية التعامل مع المادة الضخمة الخاصة بموسى ، في الكتابين المقدسين ؛ القرآن والتوراة . يتعلق السؤال الأول بحقيقة عبودية بني إسرائيل . هل بالفعل ، وباستقراء التوراة ذاتها ، سقط بنو إسرائيل تحت نير العبودية المصرية ؟ وإذا كان السقوط قد وقع فعلا ، فهل كانت عبودية قاسية كما وصفتها التوراة ؟ أول إشكالية نصطدم بها هنا تظهر في حقيقة انعدام وجود مادة تاريخية توثق تلك الفترة ، سواء أكانت كتابات على جدران المعابد الفرعونية ، أو كتابات في البرديات المكتشفة . وتأتي الإشكالية الثانية من واقع أن عصر العبودية خيم قرون مديدة على أجزاء واسعة من العالم المعروف آنذاك ، والذي اتخذ اسم العالم القديم . وفي مسار تطورها تشكلت للعبودية سمات عامة مشتركة لا نجد أيا منها فيما روته التوراة عن عبودية بني إسرائيل في مصر . وتأتي الثالثة من واقع أن علوم الآثار الحديثة نفت تاريخية التوراة نفيا كاملا وقاطعا ، وبديهي أن نفت هذا الجزء الخاص بالعبودية . ولكن .. ولكن لأن نفي تاريخية التوراة ، يترتب عليه أوتوماتيكيا نفي تاريخية القرآن ، فَإثارة حساسيات ، وربما صدامات لا لزوم لها ، تعالوا نضع هذه المسألة العلمية " الخلافية !" الآن جانبا . ثم ، ولأن المادة القرآنية شديدة التكثيف ، شديدة الإيجاز ، ولأنها تقريرية ولا شروحات فيها ، تعالوا نذهب ، كما كان دأبنا ، إلى رأس النبع ، إلى التوراة وحكايات شروحها المفصلة ، وإلى البداية . 3 يطالعنا الإصحاح الأول من سفر الخروج ، بأن بني إسرائيل الذين جاءوا مصر مع يعقوب ، وبلغوا آنذاك سبعين نفسا ، وبعد موت يوسف وإخوته وكل الجيل :" … أَثمروا وَتوالدوا وكثروا كثيرا جدا وامتلأت الأرض منهم " الآية 7 . إثمار بني إسرائيل ، وامتلاء الأرض منهم ، بعث الخشية في قلب ملك مصري بعدت به الأيام عن معرفة يوسف ودوره في إنقاذ مصر من مجاعة السنوات السبع العجاف . مبعث الخشية ، حسب الآيات اللاحقة ، استند إلى احتمالية انضمامهم لِعدو قادم من خلف الحدود . وبحثا عن الطمأنينة ولتسكين هذه الخشية لجأ الملك - الفرعون - إلى الحيلة ، وليس إلى القوة ، لوقف نموهم : " ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف 8 فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا 9 هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض 10 فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس 11 ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا فَاختشوا من بني إسرائيل 12 فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف 13 و مرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللَبِن وفي كل عمل في الحقل كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفا 14 " . تذكرنا هذه الآيات بما كنا توقفنا عنده في سيرة يوسف ، من إسكان بني إسرائيل ، البدو رعاة الماشية ، في أرض جاسان ، البوابة الشرقية للدلتا المصرية . نمو بني إسرائيل ، ومضاعفة أَعدادهم مرات ومرات ، وَزيادة هذه الأعداد عن أعداد المصريين في المنطقة ، يضاف له عدم اطمئنان الملك المصري لولائهم ، هو ما استنفر عند الملك المصري ما نصفه اليوم بمسألة ضمان الأمن القومي لمصر . بنو إسرائيل كانوا ينتشرون في المنطقة التي استخدمها كل الغزاة على مر التاريخ ، بوابة عبور للدلتا المصرية ، ومن ثم لبسط السيطرة على مصر . الآيات تقول أن خشية الملك المصري من احتمالية تعاون بني إسرائيل مع الغزاة المحتملين ، هي ما دفعته للتفكير في التحوط لدرء هذا الخطر المحتمل . الملك المصري دعا جماعته إلى اللجوء لِلحيلة . وحيث الهدف وقف نمو جماعة بني إسرائيل ، أو عمل توازن سكاني مع أهل الدلتا ، أو مصر بحري كما كانت تعرف آنذاك . تفتقت ذهنية الحيلة عن ابتداع أسلوبين فَمرحلتين . تمثل الأول في فرض السخرة على بني إسرائيل . والسخرة كما نعرف ، بالرغم من قساوتها ، درجة أدنى كثيرا من العبودية . السخرة ، أو التسخير ، لا تجرد المرء من حريته وإنسانيته وأملاكه ، وتحوله إلى مجرد شيء أو متاع .. الخ كما تفعل العبودية . وكان أن انتبه الملك أن السخرة ، وعنف ضغط رؤساء التسخير ، بالرغم من النجاح في بناء مَدينتين ؛ مخازن فيثوم ورعمسيس ، لم توقف عملية نمو بني إسرائيل . نَما بنو إسرائيل و تكاثروا كثيرا ، الأمر الذي دعا الملك للانتقال بحيلته إلى الطور الثاني ؛ فرض العبودية . . لا تسعفنا الآيات في معرفة الوسائل التي لجأ المصريون إليها في فرض العبودية . و تسعفنا أقل في فهم أن هذا الاستعباد وقف عند تشغيل هؤلاء العبيد في : الطين ، اللبن ، أي عمل طوب اللبن من القش والطين ، وفي العمل في الحقول - الزراعة - . لكن المدهش أن الآيات اللاحقة من 15 إلى 22 تحكي جزءاً آخر ، سخيف وساذج في واقع الحال ، من حيلة وقف نمو جماعة بني إسرائيل . إيلاء هذه المهمة لقابلتين مصريتين ، من خلال قتلهما لأي طفل ذكر يولد لبني إسرائيل . سذاجة الحيلة تستدعي عند القارئ سؤالا مفصليا جديدا : كم هو يا ترى عدد بني إسرائيل ، وكيف يفرز هذا العدد هكذا خشية لملك مصر منهم ، حين تكفي قابلتان لتوليد كل نسائهم ؟ لكن الإصحاح الثاني يفاجئ القارئ أن كل قصة عبودية بني إسرائيل ، ونموهم وإثمارهم كثيرا جدا ليست أكثر من تهيئة المسرح لعرض درامي عن ظهور ودور موسى . إذ يختتم الإصحاح روايته بالآيات التالية : " وحدث في تلك الأيام الكثيرة أن ملك مصر مات . وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية 23 فسمع الله أَنينهم فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب 24 ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله 25 " . يفهم من هذه الآيات أن فترة استعباد بني إسرائيل ، إن كانت قد حدثت فعلا ،اقتصرت على فترة حكم ملك واحد من ملوك مصر . هذا يعني أن كل فترة العبودية ربما قد لا تقل عن عشرين سنة ، ولكنها في أعلى التقديرات لا تزيد عن الخمسين . وبمعنى محدد هي فترة لا تقارن بأي من نظيراتها في بلدان العالم القديم . والآن ، وقد عرفنا مدى فترة العبودية ، إن وقعت فعلا ، يعاود السؤال : وماذا عن طبيعتها ؟ 4 يطالعنا الإصحاح الخامس ليس فقط بتعريفنا على طبيعة أثقال العبودية التي قيل أن بني إسرائيل سقطوا تحت نيرها ، وإنما أيضا على صورة من " تشديد !" هذه الأثقال . كيف ؟ تعالوا نطالع الآيات ، متجاوزين التمهيد إلى اللب ، وخيث تنص على :" فأمر فرعون - هو فرعون موسى هنا - في ذلك اليوم مسخري الشعب و مدَبِّريه قائلا 6 لا تعودوا تعطون الشعب تبنا لصنع اللبن كأمس وأول من أمس . ليذهبوا هم ويجمعوا تبنا لأنفسهم 7 و بمقدار اللبن الذي كانوا يصنعونه أمس وأول من أمس تجعلون عليهم . لا تنقصوا منه . فإنهم متكاسلون لذلك يصرخون قائلين نذهب ونذبح لإلهنا 8 لِيُثَقَّل العمل على القوم حتى يشتغلوا به ولا يلتفتوا إلى كلام الكذب 9 فخرج مسخرو الشعب ومدبروه وكلموا الشعب قائلين هكذا يقول فرعون لست أعطيكم تبنا 10 اذهبوا أنتم وخذوا لأنفسكم تبنا من حيث تجدون . إن لا ينقص من عملكم شيئا 11 فتفرق الشعب في كل أرض مصر ليجمعوا قشا عوضا عن التبن 12 وكان المسخرون يُعجلونهم قائلين كملوا أعمالكم أمر كل يوم بيومه كما كان حينما كان التبن 13 فَضُرِب مدبرو بني إسرائيل الذين كانوا الذين أقامهم عليهم مُسخرو فرعون وقيل لهم لماذا لم تكملوا فَريضتكم من صنع اللبن أمس واليوم كما كالأمس وأول من أمس 14 فأتى مدبرو بني إسرائيل وصرخوا إلى فرعون قائلين لماذا تفعل هكذا بعبيدك 15 التبن ليس يعطى لعبيدك واللبن يقال لنا اصنعوه . وها هو عبيدك مضروبون وقد أخطأ شعبك 16 فقال متكاسلون أنتم متكاسلون . لذلك تقولون نذهب ونذبح للرب17 فالآن اذهبوا واعملوا . وتبن لا يعطى لكم ومقدار اللبن تقدمونه 18 " . بعد ذلك يلتقي مدبرو الشعب موسى وهارون ، يشتكون لهما ، وموسى يرفع الشكوى إلى الرب الذي وصفه موسى بأنه أساء للشعب لكونه ترك فرعون يسيء للشعب دون أن يتحرك هذا الرب لتخليصه . أطلت الاقتباس عامدا متعمدا . كنت قد قرأت النص مرات بعد مرات ، غير مصدق لعينيَّ ما تقرآن . أضحك أحيانا ، وتمسك بي الحيرة أحيانا أخرى . ثم أتساءل : هل أنا أمام لغز غير قابل للفهم فَالحل أم ماذا ؟ إن كانت عبودية بني إسرائيل حقيقة ، كما تؤكد التوراة والمؤمنون ، فنحن إذن أمام عبودية سبع نجوم . إذ تقول الآيات ، بوضوح لا يشوبه أي غموض ، أننا أمام نوع من التنظيم لأفعال التسخير والعبودية لم تعرفه البشرية قبل بني إسرائيل كما لم تعرفه بعدهم ، بل وقبل عصر البرجوازية . كيف ؟ المصريون ، أصحاب الحضارة الحجرية إن جاز التعبير ، استعبدوا بني إسرائيل في صناعة الطوب اللَّبِن . مادة البناء البسيطة والمصنعة من طين مخلوط بالتبن أو القش ، تجفف في الشمس ، وتستخدم في بناء بيوت فقراء الفلاحين ليس في مصر وحدها وإنما في كل بلدان أحواض الأنهار . المصريون ، كما نصت الآيات ابتكروا إدارة عمل متقدمة جدا . تقوم الدولة بتعيين مسؤولين مصريين - مُسَخِّرون - لتشغيل مجموعات العبيد ، وهؤلاء بدورهم - المسخرون - يساعدون في انتخاب أو تعيين مدراء عمل ، أو مسؤولي مجموعات عمل ، من بني إسرائيل . ينحصر عمل المسؤولين المصريين في تحديد كمية العمل المطلوب إنجازه ، وتبليغ ذلك للمدراء ، فيما تترك المتابعة والتنفيذ لهؤلاء الأخيرين . يزود المسخرون المصريون المدراء والعاملين بمواد العمل المطلوبة ؛ التبن ، القش والطين ، ويحددون الكميات المصنعة على أساسها ، و فيما يتكفل المدراء الإسرائيليون بالإشراف والتنفيذ . والملخص إدارة ذاتية داخل إدارة عامة وفضفاضة أيضا . والخلاصة أن الإِثقال في كمية المنتج المطلوب إنجازه وليس في إدارة وأساليب العمل ذاته . أكثر من ذلك ، قالت لنا الآيات أن العاملين لا يملكون حق الشكوى فقط ، وأن المدراء المحليين يملكون حق إعلان الإضراب ، وأكثر حدثتنا الآيات ربما عن أول إضراب حدث في التاريخ . وأكثر من ذلك حدثتنا عن تطبيق حق المضربين في التظلم ، وعن حق مدرائهم ، كَممثلين نقابيين ، في رفع مطالب الإضراب ، ليس فقط لرؤسائهم المباشرين ، المسخرين ، وإنما إلى رأس الدولة ، الفرعون ، ومباشرة . والفرعون لا يَلتقيهم فقط ، ولا يسمع الشكاوى والمطالب فقط ، ولكنه يحاور حاملي الشكوى ، ويبت فيها أيضا وبأريحية عجيبة لا نظير لها حتى في عصر البرجوازية التي وصلت البشرية بعد أكثر من 3300 سنة . والأهم أن الفرعون لا يعاقب أحدا ، لا يجلد أحدا ، ولا يصلب أحدا في الشمس ، ولا يدع الكلاب تنهش لحم أحد .. الخ . 5 والملفت للنظر في هذه الحدوتة ، ليس فقط أن عمر الإِثقال الذي تسبب في هذه الشكوى ، لم يزد على بضعة أيام . الملفت للنظر تلك الآيات التي لحقت بالشكوى : " فرأى مدبرو بني إسرائيل أنفسهم في بلية إذ قيل لهم لا تنقصوا من لَبِنِكم أمر كل يوم بيومه 19 و صادفوا موسى وهارون واقفين للقائهم حين خرجوا من لدن فرعون 20 فقالوا لهما ينظر الرب إليكما ويقضي . لأنكما أنْتنتما رائحتنا في عيني فرعون وفي عيون عبيده حتى تُعطيا سيفا في أيديهم ليقتلونا 21 فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيد لماذا أسأت لهذا الشعب . لماذا أرسلتني 22 فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء لهذا الشعب وأنت لم تخلص شعبك 23" . ليس الملفت للنظر في هذه الآيات أن موسى وهارون اْنتظرا خروج القادة النقابيين - المدبرين - لسؤالهم عن نتائج المفاوضات مع الفرعون . الملفت للنظر عزو المفاوضين أسباب الفشل ، وتشديد الأثقال قبله ، إلى دور موسى وهارون فيما أسماه النقابيون المفاوضون أنهما أنتنا :" رائحتنا في عيني فرعون وفي عيون عبيده " ، وأنهما وضعا السيف " في أيديهم ليقتلونا " . والملفت للنظر أكثر رجوع موسى لعتاب الرب وبصيغة اتهامية :" يا سيد لماذا أسأت لهذا الشعب . لماذا أرسلتني . فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء - فرعون - إلى هذا الشعب . وأنت لم تخلص شعبك " . والآن ، والقارئ يطالع دلال بني إسرائيل على الرب الذي اختارهم شعبا له من دون سائر الشعوب ، ألا يحق له أن يتساءل : إذا كان رب بني إسرائيل ، هو الله ، رب البشرية كلها ، لماذا ، وهو يواجه دلال وغنج بني إسرائيل هذا ، أغلق عينيه ، أصم أذنيه ، عن رؤية وسماع صراخ ملايين العبيد في الإمبراطوريات المختلفة ، صراخهم من عبودية أقسى وأكثر وحشية بما لا يقاس ، ولفترات تطاولت إلى قرون بعد قرون ؟ لماذا لم يسمع صراخ عبيد الإمبراطورية البابلية مثلا ، وحيث سجل حمورابي تشريع عبوديتهم على مسلته واستعارت الديانات السماوية ذاتَ التشريع هاديا للتعامل مع الرق والأرقاء ؟ ولكن … ولكن تعالوا نتجاوز ذلك ونشير إلى شكل للعبودية كان يمكن أن يقع في مصر بدل استغلال العبيد في صناعة طوب اللبن مواد بناء . 6 يمكن القول ، ودون وقوع في أي زلل ، أن شواهد الحضارة المصرية ، تقول بأنها حضارة حجرية ، إن جاز التعبير ، وليست حضارة طوب اللبن ، كما كان حال حضارات أخرى معاصرة ، في المنطقة أو خارجها آنذاك . المشاهد لِأهرامات الجيزة ، لأِهرامات سقارة ، للمعابد في طول مصر وعرضها ، لِمقابر الملوك ، للمسلات ، للتماثيل .. الخ ، لا يهاله فقط حجم الحجارة المقامة بها هذه الصروح ، ولا الكيفيات التي تم بها قطعها ، نقلها ، بناؤها ، ونحتها ، وإنما يهاله مجرد تصور حجم الجهد البشري في كل ذلك . صحيح أن الطوب اللبن دخل في أجزاء من بعض المعابد ، كسور معبد كوم امبو على سبيل المثال ، ولكن في المحصلة بقيت مساهمة الطوب اللبن متواضعة جدا قياسا بالحجر . والمنطق يقول أن ملوك مصر - الفراعنه -، وهم يبنون تلك الصروح ، احتاجوا لطاقات بشرية هائلة . وكان الاستعباد ، سمة العصر آنذاك في كل العالم القديم ، كفيل بحل هكذا مشكلة أو مسألة بكل تلك الضخامة . وإذاً .. وإذاً لو كان قد وقع استعباد لبني إسرائيل ، بالقسوة والوحشية التي حكت عنها بعض آيات التوراة ، ومنها ما ثبتناه سالفا ، لكان قد تم الاستعباد في مقالع الحجر وليس في عمل الطوب اللبن ، والصراخ من حجب التبن وَالتلزيم بنفس إنتاجية العمل . على كل حال ، قد يقال بأن ما سبق مجرد فكرة افتراضية ، يدور طرحها مع أبواب المماحكة ، دون خدمة للحقيقة ، أو للفكرة . إذاً ، تعالوا ننتقل لقرينة ثانية . 7 يحكي الإصحاح الثالث من سفر الخروج قصة اللقاء الأول بين الرب وموسى ، وتكليف الرب لموسى مقابلة الفرعون والطلب منه إطلاق سراح بني إسرائيل . وبسبب محاججات موسى عن الصفة ، عن الحيثية التي تمكنه من فعل كل ذلك ، يسرد الإصحاح تعليمات الرب لكيفية الدخول على الفرعون ، مخاطبته ، ومن ثم مطالبته بتحرير بني إسرائيل ، وأيضا يسرد تعليمات للكيفية التي تمكن موسى وهارون من إمساك زمام الترؤس على بني إسرائيل ، ولكن .. ولكن ، ربما أكثر ما يلفت انتباه القارئ ، تلك الفقرة الخاصة ، وفي هذا اللقاء الأول ، بتعليمات التعامل مع الشعب المصري ، لحظة فكاك بني إسرائيل من أسر العبودية ، وبدء انطلاقهم في رحلة الحرية . إذ تنص الآيات على التالي : " ولكني أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون ولا بيد قوية 19 فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أَصنع فيها ، وبعد ذلك يُطلقكم 20 وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين . فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين 21 بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين 22 " . ويعود الرب في الإصحاح الحادي عشر ليكرر على موسى تكليف سرقة المصريين كما يلي :" ثم قال الرب لموسى ضربة واحدة أيضا أَجْلُب على فرعون وعلى مصر . وبعد ذلك يُطلقكم من هنا . وعندما يطلقكم يطردكم طردا من هنا بالتمام 1 تكلم في مسامع الشعب أن يطلب كل رجل من صاحبه وكل امرأة من صاحبتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب 2 وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين . وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر في عيون عبيد فرعون وعيون الشعب 3 " . ويعود الإصحاح الثاني عشر ليؤكد أن موسى والشعب نفذوا تكليف الرب بسرقة شعب مصر ، وكما يلي :" وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى . طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا 35 وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أَعاروهم . فسلبوا المصريين 36 " . في ظني لا تكمن المفارقة في هذه الآيات أن الرب لعب أدوار المخطط ، المكلف ، المدبر والمعين على سلب بني إسرائيل للمصريين . تكمن المفارقة في هذا الاعتراف الواضح بأحد التقاليد الراسخة للعبودية ، والخاص بواحدة من قواعد ملكية العبيد للأشياء ، متاعا كانت ، لباسا ، أو غير ذلك ، وتقرر أن بني إسرائيل بسبب العبودية كانوا لا يملكون شيئا ، وأن تحريرهم على هذا النحو يخرجهم من مصر فارغي اليد . وكحل ، كلف الرب موسى تبليغ بني إسرائيل أن تقوم نساؤهم بالتحايل على سيداتهن ، الجارات قبل المالكات ، ثم عاد الرب ووسع التكليف بأن يقوم الرجل أيضا بالتحايل على صاحبه ، مطمئنا الكل بأن يتكفل الرب بمعجزاته ليس فقط بالتغطية على عيون المصريين والمصريات ، وإنما كفالة إتمام هذه السرقة بنجاح . وهكذا يكون لافتا لِنظر القارئ تأكيد الآيات أن كل رجال ونساء بني إسرائيل كانوا عبيدا للمصريين والمصريات ، وإن لم تقل الآيات كيف ستتم التغطية على عيون المصريين والمصريات وتمييل قلوب الجميع ليتقبل مالك العبد ، وتقبل الجارة قبل مالكة العبدة بالخروج على كل التقاليد والقواعد المرعية ، وتلبية طلبات العبد والعبدة الإسرائيلية بِإستعارة أمتعة الفِضة وأمتعة الذهب إضافة إلى الملابس . وقد يعترض قارئ ليقول : ولكن الآيات قالت ذلك . قالت أن الرب تعهد بأن يعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين ، أي بعبارة أخرى أن يطمس على عقولهم ، قلوبهم وأبصارهم ، فيسلم الرجل ، قبل زوجته ، بإعطاء العبد والعبدة الإسرائيلية ما تطلب ، وبما يمكن تفسيره بأن الرب شارك مشاركة مباشرة في هذه السرقة وليس بِالتخطيط والتكليف فقط ، إحقاقا للعدالة بالتعويض على العبيد بعض ما كانوا سُلبوه . ولكن .. ولكن الرب لم يقل شيئا عن تحقيق عدالة ، من خلال تعويض أو غيره . هو أكد في الآيات أن ما وقع كان عملية سرقة وسلب كاملة الأركان . وهذا أمر يدفع بسؤال أعمق . هل قصد الرب بهذه التعاليم ، ومادتها ، الكذب ، التحايل ، النصب ، الغدر .. الخ رفع هذه القيم من مهابطها إلى ذرى القيم السامية ، ودعوة بني إسرائيل لإشهارها والعمل بها كلما عنَّ لهم أن حقا لهم عند الآخرين ؟ ثم ، وهو الأهم في بحثنا : إذا كان الرب في هذه الآيات ، قد تذكر بعض قواعد وتقاليد العبودية الثابتة وَالراسخة ، فكيف السبيل إلى تفسير حقيقة أنه ، وعلى ما يبدو ، إما كان قد نسيها أو تجاهلها قبل ذلك . كيف؟ 8 في ذات الإصحاح - الثالث - ، وقبل التكليف السابق بسرقة أموال المصريين ، كان الرب قد كلف موسى قائلا :" فالآن هَلُمَّ فارسلك إلى فرعون وتحرج شعبي بني إسرائيل من مصر 10 " . وبعد جدال من موسى مع الرب ، حول الصفة ، الحيثية - الهوية - التي تمكنه من الدخول على فرعون ، والطلب إليه بإخلاء بني إسرائيل ، وجهود الرب في إقناع موسى بامتلاكه هذه الحيثية ، تفاجئنا الآيات بطلب الرب من موسى اصطحاب شيوخ بني إسرائيل لمقابلة الفرعون والطلب إليه إخلاء سبيل بني إسرائيل . وبعد جدال آخر عن الصفة التي سيتقدم بها لِشيوخ بني إسرائيل ، وجهود الرب بإقناعه يطالعنا النص بالتالي :" إذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم إله إبراهيم واسحق ويعقوب ظهر لي قائلا إني قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر 16 " . " وإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الرب إله العبرانيين التقانا . فالآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا 18 " . قلنا أن الرب في تبليغ موسى بهذا التكليف إما أنه نسي التقاليد ، أو القواعد الحاكمة لنظام العبودية ، أو أنه تعمد تجاهلها لكونها غير قائمة . كيف ؟ القواعد الحاكمة لنظام يجرد الإنسان من إنسانيته ، يحوله لمجرد شيء ، لا حقوق ، لا احْتياجات ، لا مطالب …الخ وبديهي أن لا تترك هذه القواعد لمجموعة مستعبدة تنظيما اجتماعيا ، قبليا كان ، أدنى أو أعلى ، يدير لها حياتها . والإبقاء على دور شيوخ لمجموعة كهذه ، لا يعني تساهلا مع القواعد ، بل يعني خروجا كاملا عليها . والآيات تقول أكثر من ذلك . تقول أن قائد المستعبِدين ، بكسر الباء ، لا يقبل فقط بكسر القواعد وإبقاء دور لِلشيوخ في إدارة حياة المستعبَدين ، بفتح الباء ، وإنما يستقبلهم ، يستمع لطلباتهم ، ويرد عليها بالرفض أو بالقبول ، دون مجرد التفكير في تَعريضهم لِأي عقاب . وأكثر من ذلك يُبقي على ديانتهم ، يحترم طقوسهم ، ويمنحهم حقوق وحرية ممارستها ، كما يشير نص الآية 18 . الأمر الذي يدفع القارئ للتساؤل : هل اخترع الرب لبني إسرائيل عبودية خاصة ،عبودية سبع نجوم ؟ 9 ويأتي الدور على قرينة ثالثة ،و تناقض جديد مع قواعد وتقاليد نظم العبودية . يطالعنا الإصحاح العاشر بالتالي :" فقال عبيد فرعون له إلى متى يكون هذا لنا فخا . أطلق الرجال ليعبدوا الرب إلههم . ألم تعلم بعد أن مصر قد خربت 7 فَرُدَّ موسى وهارون إلى فرعون فقال لهما . اذهبوا اعبدوا الرب إلهكم . ولكن من ومن هم الذين يذهبون 8 فقال موسى نذهب بِفتياننا وشيوخنا . نذهب بِبنينا وبناتنا بِغنمنا وَبقرنا . لأن لنا عيدا للرب 9 " . ثم يعود ذات الإصحاح ليكرر القول :" فدعا فرعون موسى وقال اذهبوا اعبدوا الرب غير أن غنمكم وبقركم تبقى . أولادكم أيضا يذهبون معكم 24 فقال موسى أنت تعطي أيضا في أيدينا ذبائح ومحرقات لنصنعها للرب إلهنا 25 فتذهب مواشينا أيضا معنا . لا يبقى ظلف . لأننا منها نأخذ لعبادة الرب إلهنا . ونحن لا نعرف بماذا نعبد الرب حتى تأتي إلى هناك 26 " . ويصادق الإصحاح الثاني عشر على حقيقة أن ما وصف بعبودية بني إسرائيل لم تسلبهم حقوق ملكيتهم للأشياء ، قائلا في وصف فك أسر بني وبدء خروجهم من مصر :" فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو ست مئة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد 27 وصعد معهم لفيف كثير أيضا مع غنم وبقر ومواش وافرة جدا 28 " . في كل هذه الآيات يتفاجأ القارئ بأن بني إسرائيل الذين قيل أنهم سقطوا تحت نير العبودية حافظوا على ملكيتهم لمواشيهم ، غنمهم و بقرهم ، وأنهم ، حين ظفروا بحريتهم وغادروا مصر ، أخذوا معهم مواشيهم هذه وكانت وافرة جدا . ليعود السؤال من جديد : إذاً ، هل فعلا وقعوا في أسر العبودية ، أم أنها كانت عبودية من نوع خاص لم تعرفه باقي شعوب العالم ؟ ولكن .. ولكن لم تكن هذه القرينة هي الأخيرة . 10 إذ يطالعنا الإصحاح الحادي عشر بالتالي :" وقال موسى هكذا يقول الرب إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر 4 فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى . وكل بكر بهيمة 5 ويكون صراخ عظيم في كل أرض مصر لم يكن مثله ولا يكون مثله أيضا 6 ولكن جميع بني إسرائيل لا يسنن كلب لسانه إليهم لا إلى الناس ولا إلى البهائم 7 " أما كيف سيجنب الرب بني إسرائيل الكارثة ، بحيث لا يسنن كلب لسانه إليهم ، فيبادر الإصحاح التالي ، الإِصحاح الثاني عشر إلى التعريف في الحديث عن عيد الفصح :" ….. ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية 6 ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يَأكلونه فيها 7 " . ويضيف :" فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين أنا الرب 12 ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها . فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر 13 " . أما تنفيذ التكليف بعلامة الدم فيتم على النحو التالي : " فدعا موسى جميع شيوخ إسرائيل وقال لهم اسحبوا وخذوا لكم غنما بِحسب عشائركم واذبحوا الفصح 21 وخذوا باقة زوفا وَاغمسوها في الدم الذي في الطست ومسوا العتبة العليا والقائمتين بالدم الذي في الطست . وأنتم لا يخرج أحد منكم من باب بيته حتى الصباح 22 فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب 23 " . هذه الآيات لا تقول فقط أن الرب ، كي ينجي بني إسرائيل من ضربة قتل الأبكار ، يحتاج علامة يراها لتمييز بيوت بني إسرائيل عن بيوت المصريين . الآيات تقول أن هؤلاء العبيد كانت لهم بيوت مماثلة تمام المماثلة مع بيوت المصريين ، وأكثر من ذلك متشابكة معها ، والتماثل والتشابك بلغا حد احتياج الرب ، بكل قدراته المعرفية والتمييزية ، إلى وضع علامات واضحة على بيوت بني إسرائيل لتمييزها عن بيوت المصريين ، ومن ثم تجنيبها ضربة الأبكار . وهنا يعود السؤال : هل حدث في تاريخ عصور العبودية أن امتلك العبيد بيوتا خاصة بهم ؟ بديهي أنهم كانوا يسكنون بيوتا ، يوفرها لهم مالكوهم ، ولكنها لا تماثل بحال بيوت هؤلاء المالكين . بيوت تميز ذاتها بذاتها ، من حيث الحجم والشكل والضعة ، وأيضا تكون منفصلة ، وتمكن أي رائي ، كانت ما كانت قدراته ، من تشخيصها ، معرفتها ، فَالتفريق بينها وبين بيوت الأسياد المالكين . 11 وقرينة أخيرة بعد النجاح الذي تحقق فيما وصف بِالفكاك من أسر العبودية ، والاستقرار المؤقت في سيناء ، كثرت تذمرات المحررين من جهة ، والإعراب عن الحنين فَالشوق للعودة إلى الحياة السابقة في مصر من جهة أخرى . ولكن … لكن أكثر ما يلفت انتباه القارئ في تذمرات المحررين تلك التَّذكرات عن يسر الحياة التي كانوا يتمتعون بها ، وبالأخص وفرة الطعام ، وأصناف المأكولات . كيف ؟ يطالعنا الإصحاح السادس عشر من سفر الخروج بالتالي :" ثم ارتحلوا من إيليم وأتى كل جماعة إسرائيل إلى برية سين التي بين إيليم وسيناء في اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني بعد خروجهم من أرض مصر 1 فتذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البرية 2 وقال لهما بنو إسرائيل ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع . فإنكما أَخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع 3" . لم يرد عليهم الرب بتكذيب وصفهم لحالهم السابق . رد عليهم بإمطار الخبز عليهم من السماء - المن - ، وبسمك السلوى من البحر . ويختم الإصحاح حديث تذمر بني إسرائيل ، ومعالجة الرب له بالتالي : " وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة . أكلوا المن حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان 35 " . وعن معاودة بني إسرائيل التذمر والشكوى ، يطالعنا الإصحاح الحادي عشر من سفر عدد بالتالي :" وكان الشعب كأنهم يشتكون شرا في أذني الرب وسمع الرب فحمي غضبه فاشتعلت فيهم نار الرب وأحرقت في طرف المحلة 1 فصرخ الشعب إلى موسى فصلى موسى إلى الرب فَخمدت النار 2 فدعي اسم ذلك الموضع تبعيرة لأن نار الرب اشتعلت فيهم 3 واللفيف الذي في وسطهم اشتهى شهوة . فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا من يطعمنا لحما 4 قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم 5 والآن قد يبست أنفسنا . ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن 6 …." و " فلما سمع موسى الشعب يبكون بِعشائرهم كل واحد في باب خيمته وحمي غضب الرب جدا ساء ذلك في عيني موسى 10 " . وكالعادة نقل موسى شكوى الشعب للرب ، مضيفا إليها شكواه الشخصية وتذمره مما اعتاد وصفه بإساءة الرب للشعب . وكان مما يلفت الانتباه في شكوى وتذمر موسى التالي : " فقال موسى للرب لماذا أسأت إلى عبدك ولم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل ثقل جميع هذا الشعب عليَّ 11 ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه 12 من أين لي لحم حتى أعطي جميع هذا الشعب . لأنهم يبكون علي قائلين أعطنا لحما لنأكل 13 " . ولأن الرب كما موسى نسيا أنهما سبق وأكدا على أن الشعب اصطحب معه مواشيه ، غنمه وبقره ، وأنها كانت مواش وافرة ، وأن الناس في العادة يأخذون احتياجاتهم من اللحم من هذه المواشي ، لأن الرب نسي ذلك أو تجاهله كان أن رد بالتالي :" ….. وللشعب تقول تقدسوا للغد فتأكلوا لحما . لأنكم قد بكيتم في أذني الرب قائلين من يطعمنا لحما . إنه كان لنا خير في مصر فيعطيكم الرب لحما فتأكلون 18 لا تأكلون يوما واحدا ولا يومين ولا خمسة أيام ولا عشرة أيام ولا عشرين يوما 19 بل شهرا من الزمان حتى يخرج من مناخِركم وتصير لكم كراهة لأنكم رفضتم الرب الذي في وسطكم وبكيتم أمامه قائلين لماذا خرجنا من مصر 20 " . بقية الآيات حوار بين موسى و الرب . موسى متشكك من وعد الرب . والرب يرد :" فقال الرب لموسى هل تقصر يد الرب . الآن ترى أَيوافيك كلامي أم لا " . ثم كان تنفيذ الوعد على النحو التالي :" …….ثم انحاز موسى إلى المحلة هو وشيوخ إسرائيل 30 فخرجت ريح من قبل الرب وساقت سلوى من البحر وألقتها على المحلة نحو مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك حوالي المحلة ونحو ذراعين فوق وجه الأرض 31 فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد وجمعوا السلوى . الذي قلل جمع عشرة حوامِر وَ سَطحوها لهم مساطيح حول المحلة 32 " . ولأن شكاوى وَتذمرات بني إسرائيل تواصلت وتواترت ، ولأنها بالأساس دارت حول الصعوبات والمشاق التي يواجهونها وَيكابدونها في سيناء ، وفي المقابل تثير حنينهم إلى حياتهم الرغيدة في مصر ، سأكتفي ، كَخاتمة لهذا الفصل ، بآية المقارنة بين ما ينتظرهم من العمل في أرض فلسطين ، أرض الوعد ، أرض تفيض لبنا وعسلا ، وما كانوا يؤدونه من عمل في أرض مصر ، كما يوردها الإصحاح الحادي عشر من سفر تثنية : " لأن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها ليست مثل أرض مصر التي خرجت منها حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول 10 بل الأرض التي أنتم عابرون إليها لكي تَمتلكوها هي أرض جبال وبقاع من مطر السماء تشرب ماءاً 11" . 12 والآن ، وبعد كل هذه القرائن عن المعيشة الرغيدة ، عن تملك البيوت ، قطعان المواشي ، الغنم والبقر ، وحتى عن تملك الأرض واستثمارها كما يحلو لمالكيها ، عن احتفاظ الشعب بِمراتبه الاجتماعية ، عن احترام الفرعون والمصريين لدينه ، عن الحرية في ممارسة الطقوس الدينية .. الخ نعود إلى السؤال : هل بالفعل كان بنو إسرائيل قد سقطوا تحت نير عبودية المصريين ؟ القرائن السالفة تقول جوابا قطعيا : لا ، ذلك لم يحصل . صحيح أن الرب ظل دائم التذكير ، وفي عشرات الآيات ، بإنقاذه لبني إسرائيل من ربقة العبودية . لكن الصحيح أيضا أن القرائن ، وقد وردت كلها على لسان الرب ذاته ، تقول وبكل وضوح ، وبدون أية مواربة : هذه العبودية ، وبعيدا عن انعدام السند التاريخي ، كما تؤكد لنا علوم الآثار ، لم تقع . ربما أوقع المصريون بهم مظالم ، ربما أجبروهم على السخرة ، ربما كان شقاء … لكن لم تكن عبودية كالتي كانت سائدة في أركان الأرض آنذاك . والآن .. يوصلنا تأكيد انعدام وقوع العبودية إلى السؤال الصعب الآخر : ألا يفسر ذلك أسباب فشل الدينين اللاحقين ، المسيحية والإسلام في وضع تشريعات لتحريم الرق ، وإنقاذ البشرية من هذا الظلم الأبشع في كل تاريخها ؟ 13 وسؤال تالٍ : وماذا عن الخروج وغزو فلسطين ، ومن استقراء الكتابين المقدسين ، ومع تجاهل حقائق علوم الآثار ، هل وقع أي منهما ؟ بحثا عن الجواب تعالوا نعود إلى التوراة وفاتحة كل الكلام في الإصحاح الأول من سفر الخروج . لا أظنكم إلا ما زلتم تتذكرون أن خشية الملك المصري من نمو بني إسرائيل ، وتصوره غلبتهم على المصريين عددا ونوعا ، هي ما دعته إلى التحايل لبسط السيطرة عليهم حسب زعم التوراة . والسؤال الآن ، وقد تكرر رقم ست مئة ألف ماش غير الأولاد ، مع شكاوى بني إسرائيل بعد التحرير : هل كان هناك تقدير ، تعداد ، إحصاء لبني إسرائيل آنذاك ؟ الجواب : نعم كان هناك مثل هذه الإحصاء قدمه لنا سفر عدد . فيه يطالعنا الإصحاح الأول بالتالي : في السنة الثانية بعد الخروج ، وفي خيمة الاجتماع في برية سيناء ، أمر الرب موسى ، يساعده هارون ، بعمل إحصائية لعدد رجال بني إسرائيل من سن عشرين فصاعدا ، أي لمن ينطبق عليهم ، من حيث العمر ومواصفات الرجولة ، وصف رجال حرب . ولا يكتفي الرب بذلك ، بل ويعين له مساعدا من كل سبط وعلى النحو التالي : " وكلم الرب موسى في برية سيناء في خيمة الاجتماع في أول الشهر الثاني في السنة الثانية لخروجهم من أرض مصر قائلا 1 أحصوا كل جماعة بني إسرائيل بِعشائرهم وبيوت آبائهم بعدد الأسماء كل ذكر برأسه 2 من ابن عشرين سنة فصاعدا كل خارج للحرب في إسرائيل . تحسبهم أنت وهارون حسب أَجنادهم 3 ويكون معكما رجل لكل سبط . رجل لبيت آبائه 4 " . الآيات التالية ، حتى الآية 18 تعدد أسماء المعاونين لموسى وهارون على العد من الأسباط الاثني عشر . وكانت نتائج العد الذي حدث في برية سيناء حسب الآية 19 ، العد للرجال من سن عشرين فصاعدا ، الرجال القادرين على الحرب ، بدءا من الآية 20 وحتى الآية 45 كما يلي : بنو رأوبين 46.500، بنو شمعون 59.300 ، بنو جاد 45.650 ، بنو يهوذا 74.600 ، بنو يساكر 54.400 ، بنو زبولون 57.400 ، بنو يوسف ، بنو أفرايم 40.500 ، بنو منسي 32.200 ، بنو بنيامين 35.400 ، بنو دان 62.700 ، بنو أشير 41.400 ، بنو نفتالي 53.400 . وبمجموع عام 603.550 . الآية 48 أشارت إلى أن الرب استثنى بني لاوي - اللاويين - من العد ، كون الرب اصطفى رجالهم كهنة . لكن الرب ، وفي الآية 29 من الإصحاح الثالث يعود ويأمر موسى بعد الذكور من بني لاوي ، ومن ابن شهر فصاعدا ، وتقول الآية 43 أن تعدادهم بلغ 22.273 فردا . إذاً ، وبالنظر في هذه الأرقام ، وبافتراض أن لكل رجل أسرة ، مكونة في حدودها الدنيا من زوجة ، ابن أو ابنة ، وأحد الوالدين ، يكون مجموع الشعب الذي كلف الرب موسى بإخراجه من مصر قد تجاوز ، وفي أدني الحالات ، المليونين ونصف المليون فرد . وهو رقم يجب أن يبقى في البال أثناء قراءة خطوات التحرير ، الأساليب ، الوسائل والأدوات من جهة ، وخطوات الهروب ، والاحتياجات البشرية ، قبل وبعد الاستقرار في سيناء من جهة أخرى . لماذا ؟ لأنه في الوقت الذي يصر فيه المؤمنون على تاريخية الأحداث وواقعيتها كما تسردها التوراة ، لا تمكن طريقة السرد القارئ من الوقوف والتمعن في منطقيتها . إذ لو حدث ونجح في ذلك سيرى مجافاة هذه الأحداث لكل منطق ، وسيرى عدم حدوثها من الأصل . ولأن حكم التيه أربعين سنة استهدف الخلاص من هؤلاء الخارجين من مصر ، والرافضين لدخول أرض الميعاد ، و اسْتلابها عنوة من أهلها بِإبادتهم ، كان ضرورة أن يعاد العد فترة الاستعداد للدخول . يطالعنا الإصحاح السادس والعشرين أن الرب ، وبنو إسرائيل يتجمعون في عربات موآب / الأردن ، ويستعدون للعبور فلسطين من أريحا ، أن الرب أمر موسى بإعادة العد بذات الطريقة السابقة . وقالت نتيجة العد أن عدد الرجال من سن عشرين فصاعدا ، المعدين للحرب قد بلغ 601.730 ، وحيث لا أحد من الذين جرى عدهم في سيناء بينهم . وكما في العدْ السابق أضاف الإصحاح أن عدد ذكور بني لاوي من شهر فصاعدا بلغ 23.000 . هذا يعني ، مرة أخرى ، أن مجموع الشعب الذي جرى تَحريكه لدخول فلسطين ، والحلول محل أهلها ، من خلال إِزاحتهم بالإبادة أو بغيرها ، بلغ في أدنى التقديرات ذات التقدير السابق ، أي مليونين ونصف المليون فرد . 14 وقبل وبعد الذهاب إلى الحديث عن ممتلكات المليونين ونصف المليون إنسان ، وماذا سيحل وحل باقتصاد مصر يفاجئنا سؤال : ترى كم كان عدد سكان مصر في ذلك العهد أي قبل 3500 عام من الآن ؟ من الصعب تحديد رقم للإجابة ، وإن كان يمكن القول أنه ، في أعلى التقديرات ، ونحن نتحدث عن مصر الموحدة ، مصر العليا ومصر السفلى ، مصر الموحدة من هذين القطرين ، يمكن القول أن العدد ، بمن فيهم بنو إسرائيل ، لم يتجاوز العشرة ملايين بأي حال . النظر من زاوية أخرى لموضوع تحرير بني إسرائيل من العبودية ، أي من زاوية ديموغرافيا مصر ، هذا إن صحت الرواية وخرجت من نطاق الأسطورة ، يعني أن التحرير ذهب إلى انتزاع ربع سكانها وفجأة ، وبما يعني إيقاع كارثة ديموغرافية محققة . وإذا كان هذان المِليونان ونصف المليون عبيدا ، فإن خروجهم كان أيضا يعني كارثة اقتصادية محققة . وتصور مثل هذه الكارثة هو ما شكل المبرر الذي استند إليه من يوصفون بعلماء الدينين المسيحي والإسلامي ، في تعليل إقرار الدينين ليس فقط لواقع الرق ، وإنما تَشريعهما كذلك لديمومة هذا الظلم الفادح الذي عانت منه البشرية جمعاء . هنا يفاجئ القارئ المدقق سؤال : هل كانت الوسائل التي زود الرب موسى بها ملاءمة لإنجاز مثل هذه المهمة الهائلة ؟ ولأن الإجابة على السؤال تتطلب حفرا إِضافيا ومطولا في نصوص الكتابين المقدسين ، نرجئها إلى الحلقة القادمة ، كي يتوفر الوقت ، الجهد والمكان ، لتسليط الضوء على الهدف الثاني من رسالة موسى ، هدف إيصال بني إسرائيل لأِرض الميعاد ، أرض فلسطين التي تفيض لبنا وعسلا واغتصابها من أهلها . 15 نعيد التذكير أن الرب ، وفي أول لقاء له مع موسى ، بَلَّغ موسى باختياره رسولا ، لِإنجاز هدفين : الأول إخراج بني إسرائيل من العبودية التي أوضحنا ، استنادا لنصوص توراة موسى ذاتها ، أنها لم تقع . والثاني ، تنفيذ الوعد الذي كان هذا الرب قد قطعه على نفسه لإبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب على التوالي . ولأننا تركنا حدث هذا اللقاء ، كيفية وقوعه ، واختيار موسى رسولا إلى حلقة تالية ، تعالوا نعود ونطالع نصوص التكليف بالهدفين ، كي نباشر التركيز على الهدف الثاني . طالعنا الإصحاح الثالث من سفر خروج بالتالي : " ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب . فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله 6 فقال الرب إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مُسخريهم . إني علمت أوجاعهم 7 فنزلت لِأنقذهم من أيدي المصريين وَأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة واسعة . إلى أرض تفيض لبنا وعسلا . إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين 8" ويعود الإصحاح قائلا :" اذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ظهر لي قائلا إني قد افتقدتكم وما صنع بكم في مصر 16 فقلت أُصعدكم من مذلة مصر إلى أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين إلى أرض تفيض لبنا وعسلا 17 " في ظني ، أن ليس المهم هنا إعادة الإشارة إلى ترابط الهدفين : هدف التحرير من عبودية لم تقع كما بينا ، وهدف الانتقال بهم إلى أرض الوعد ، الأرض التي تفيض لبنا وعسلا . المهم ، حسب رؤيتي ، أن الرب يحدد في توصيف الأرض البديلة لأرض مصر أمرين : الأول أنها أرض يملكها المذكورة أسماؤهم ، والذين لا يعرفنا الرب إن كانت أسماء شعوب أم أسماء قبائل ، وإن واصل تحديد عددها بستة . الثاني أن بني إسرائيل سَيحلون مكان هذه الشعوب أو القبائل الستة . وفي ذات الوقت لم يحدد أمرين آخرين : الأول مكان هذه الأرض ، ويبدو أنه اكتفى بما سبق وحكى عنها سفر التكوين ، في عرض سير كل من إبراهيم ، إسحق ويعقوب ، ثم بعرض مواصفاتها : أرض تفيض لبنا وعسلا . والثاني لم يعرض هنا للكيفية التي سيتم بها إحلال بني إسرائيل مكان هذه الشعوب أو القبائل الستة . ولكن .. ولكن ، وكي لا يطول بنا المقام مع عدم التحديد السابق لاسم أرض الشعوب أو القبائل الستة تعالوا نواصل المطالعة . الإصحاح السادس يطالعنا بالآتي : " ثم كلم الله موسى وقال له أنا الرب 2 وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء . وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم 3 وأيضا أقمت معهم عهدي أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها 4 وأنا أيضا قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون وتذكرت عهدي 5 لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأُنقذكم من عبوديتهم وأُخلصكم بيد ممدودة وبأحكام عظيمة 6 وأَتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها فتعلمون أني أنا الرب إلهكم الذي يُخرجكم من تحت أثقال المصريين 7 وأُدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب وأعطيكم إياها ميراثا . أنا الرب 8 " . 16 إذاً ، حلت لنا الآيات اللغز المتعلق باسم أرض الشعوب أو القبائل الستة ؛ الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، مؤكدا على أنها أرض كنعان التي سبق وأن عرفها في سفر التكوين بأرض غربة إبراهيم . ولكن .. ولكن الدهشة تمسك بِالمرء وهو يقرأ في الإصحاح الثالث عشر :" اليوم أنتم خارجون في شهر أبيب . ويكون متى أدخلك الرب أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والحويين واليبوسيين التي حلف لِآبائك أن يعطيك أرضا تفيض لبنا وعسلا أنك تصنع هذه الخدمة في هذا الشهر 4 " . دهشة تبعث تساؤلاً : هل نسي الرب الفرزيين وأرضهم أم أنه أخرج أرضهم ومصيرهم من العهد الذي قطعه لآباء بني إسرائيل ؟ ولأن الإصحاح لا يعطينا جوابا على هذا التساؤل ، يكون علينا مواصلة القراءة . نقرأ في الإصحاح الثالث والعشرين :" ولكن إن سمعت لصوته - الملاك الذي بعث به الرب دليل طريق - وفعلت كل ما أتكلم به أُعادي أعداءك وأضايق مضايقيك 22 فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فأُبيدهم 23 لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها ولا تعمل كَأعمالهم بل تبيدهم وتكسر أَنصابهم " . هذه الآيات تعود وتقول ها هو الرب لم ينس الفرزيين وأرضهم . عاد وتذكرهم ، وأضاف لتذكره حل لغز مصير هذه الشعوب والقبائل : الإبادة . ثم … ثم تفاجئنا الآيات التالية بتفصيل آخر لمصير هذه الشعوب ، إضافة للإبادة ، وهو الطرد من الأرض ، وهو ما نصفه اليوم بأحد أشكال التطهير العرقي ، ومن بين وسائل عديدة : " أرسل هيبتي أمامك وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين 27 وأرسل أمامك الزنابير فتطرد جميع الحِويين والكنعانيين والحثيين من أمامك 28 لا أَطردهم من أمامك في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية 29 قليلا قليلا أَطردهم من أمامك إلى أن تثمر وتملك الأرض 30 " . ولكن .. 17 ولكن ، يبدو أن الاستطراد في نقل هذه الآيات ، قد أصابنا بشيء من الابتعاد عن المجرى الذي ابتغينا . إذ نحن نعرف من سفر التكوين أن أرض الوعد ، الأرض التي تغرب إبراهيم ، إسحق ، ويعقوب فيها هي أرض كنعان . وأرض كنعان ، من متابعة حركة الآباء الثلاثة هؤلاء ، هي المنطقة الوسطى من فلسطين ، المعروفة الآن باسم الضفة الغربية ، بالإضافة إلى مرج ابن عامر والجليل الأسفل . ولكن لأن الآيات في سفر الخروج بدأت الحكي عن أرض مرتبطة بأسماء بعض القبائل ، وهي ليست شعوبا ، التي تسكنها ، فقد أغرانا ذلك بالتفكير فَالبحث عما إذا كان الرب ، الأدق والأصح موسى ، قد غير من نص الوعد ، كما اعتاد . ففي كتابي :" الوعد في التوراة " ، الصادر في العام 1993 ، وقفت في فصل كامل عند هذه التغييرات . ولكن .. كان أن فاتني آنذاك ، بداية عهدي مع البحث ، أن الوعد العالق في الذهن ، هو القائل بإعطاء نسل إبراهيم أرض غربته والتي تمتد من النيل إلى النهر الكبير نهر الفرات . آنذاك فاتني أن أنتبه ، من خلال التدقيق في الآيات ، أن مساحات الأرض المحصورة بين هذين النهرين ، لم تكن أرض غربة إبراهيم ، أو أيا من نسله بأي حال . صحيح ، كما تقول التوراة ، أن إبراهيم ارتحل من أور الكلدانيين جنوب العراق ، وسار في طريق غرب الفرات إلى حران في الجزيرة الفراتية ، ومن هناك ، بعد توقف لبعض الوقت ، واصل المسير عبر سوريا حتى استقر في المنطقة الوسطى من فلسطين . وفيها عاش ، فيها تغرب هو ونسله ، أما البلدان الأخرى فكانت مسارات عبور لا غير ، وبما في ذلك مصر التي التجأ إليها بعض الوقت هربا من القحط . ولكن مرة أخرى … ولكن يبدو أن الرب ، أو موسى ، انتبه لقدرات البشر على تأويل أقواله ، فأحب أن يفسر ، أن يصحح ، أن يدقق في ماهية مصطلح أرض الغربة ذاك . هكذا رأينا أنه ، كما أشرت في كتابي المذكور ، غير في صيغة الوعد ثماني عشرة مرة . وَليستقر الوعد على أرض كنعان وأرض كنعان فقط . ولكن التغييرات ، التفاسير والتصحيحات ، وإن أخذت في التوراة صورة النسخ ، صورة مما جرى التعبير عنها في القرآن والأدبيات الإسلامية ، إلا أنها أبقت على النص وعلى حكمه كذلك . الأمر الذي أتاح لأصحاب التوراة بحبوحة في التأويل من جهة ، و اختيار النص الملائم للحالة القائمة من جهة أخرى . كيف ؟ 18 في الإصحاح الأول من سفر تثنية ورد التالي : " الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا ، كفاكم قعودا في هذا الجبل 6 تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات 7 انظر قد جعلت أَمامكم الأرض . ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وَإسحق ويعقوب أن يعطيها لهم وَلنسلهم من بعدهم 8 " . والآن ، ونحن نتغاضى عن اللخبطة الجغرافية في الآيات ، تعالوا نقرأ ما تبعها في الإصحاح الثاني :" ثم تحولنا وارتحلنا إلى البرية على طريق بحر سوف - خليج العقبة - كما كلمني الرب ودرنا بجبل سعير أياما كثيرة 1 ثم كلمني الرب قائلا 2 كفاكم دوران حول هذا الجبل . تحولوا نحو الشمال 3 وأَوصِ الشعب قائلا ، أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير فيخافون منكم فاحترزوا جدا 4 لا تهجموا عليهم لأني لا أعطيكم من أرضهم ولا وطأة قدم لأني لعيسو قد أعطيت جبل سعير ميراثا 5 " . ثم :" فقال لي الرب لا تعاد موآب ولا تثر عليهم حربا لأني لا أعطيك من أرضهم ميراثا لأني أعطيت عار لبني لوط ميراثا 9 " . وأيضا :" أنت اليوم مارٌّ بتخم موآب بعار 18 فمتى قربت إلى نُجاهِ بني عمون لا تعادهم ولا تهجم عليهم لأني لا أعطيك من أرض بي عمون ميراثا لأني أعطيتها لبني لوط ميراثا 19 " مثل هذه الاقتطاعات من الوعد تتكرر مع سيناء ، مع لبنان .. الخ . والملفت للنظر أنها نزلت كلها على لسان موسى ، هي وسائر الأسفار المعروفة بتوراة موسى . ومع ذلك ، وبالرغم من ذلك يفاجئنا موسى ، وهو يقود جموع بني إسرائيل بمحاذاة بحر سوف - خليج العقبة - بقوله لهذه الجموع التالي : " وأجعل تخومك من بحر سوف إلى بحر فلسطين ومن البرية إلى النهر فإني أدفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك 21 " سفر خروج الإصحاح الثالث والعشرون . ونختم بسؤال : ترى هل كانت الذاكرة تخون موسى ، تخون الرب أم ماذا ؟ 19 وإذا ً ، تعالوا نخرج من هذا الاستطراد ، لنسأل السؤال الذي كان علينا طرحه من البداية : ما الذي دعا الرب ، وفي اللقاء الأول مع موسى ، وقبل عملية التفاوض مع فرعون لإخراج بني إسرائيل ، وقبل خطو بني إسرائيل خطوة واحدة على طريق الحرية ، إلى الحديث عن الوعد وعن القبائل مالكة أرض الوعد ؟ الجواب نعثر عليه في التالي : " وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق الفلسطينيين مع أنها قريبة . لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر " . الآية 17 الإصحاح الثالث عشر . إذاً ، بقية الحكاية ، غدت معروفة . بنو إسرائيل ، بقبائلهم البدوية ، سكنوا أرض جاسان ، وحيث تؤكد التوراة على ذلك مرة بعد مرة . و أرض جاسان هي بوابة الدلتا المصرية للقادمين من سيناء . ولأن بني إسرائيل كانوا بدوا ، وكذلك كان أهل سيناء آنذاك ، كان الاختلاط بينهما أمرا طبيعيا . ومعرفة بني إسرائيل للطريق الصحيح والقريب الموصل لأرض فلسطين فَأرض كنعان ، كان بديهيا كذلك . ولكن .. ولكن رأينا ، كما تقول التوراة ، أن موسى لم يسلك ببني إسرائيل في هذه الطريق . اتجه بهم من جاسان جنوبا حتى خليج السويس - بحر سوف حسب التوراة -، ومن هناك دخل بهم إلى ما يعرف الآن بمحافظة سيناء الجنوبية . وفيها كان التيه أربعين سنة . ولكن لماذا لم يعاود موسى عبور ممرات سيناء إلى حدود فلسطين والعبور منها إلى أرض كنعان ؟ جواب التوراة أنه حاول ذلك بعد مكوثه في سيناء سنة . اصطدم بِقيبلة العماليق الفلسطينية التي ردت بني إسرائيل على أعقابهم . وحينها صرخ بنو إسرائيل مطالبين بالعودة إلى ما كانوا عليه في مصر . ثم أعاد موسى المحاولة ، بعد سنة ثانية ، بأن أرسل مُستطلعين ، من كل سبط واحد ، وعلى رأسهم يشوع بن نون فتى موسى ، لِيجوسوا أرض كنعان ، وَيستطلعوا أحوالها . ذهب المُستطلعون ، مارين بأرض الفلسطينيين ذهابا وإيابا ، وبعد العودة قال أحد عشر منهم في تقريره بعدم قدرة بني إسرائيل على العبور من أرض الفلسطينيين أولا ، وعلى مواجهة أهل الأرض ثانيا ، خصوصا بني عناق سكان منطقة الخليل . ومن جديد صرخوا في وجه موسى :{ قالوا يا موسى إنَّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فإذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون 24 المائدة } . كان ذلك سبب التيه ، كما سنرى في حلقة تالية . وبعدها لم يجرب موسى العودة للدخول عبر بوابة الفلسطينيين . سار بِجموع بني إسرائيل ، محاذيا شاطئ خليج العقبة - بحر سوف حسب التوراة - ، حتى وصل أيلة على رأس الخليج ، ومنها تسلق جبال الشراه عابرا شرق الأردن التي مات ودفن فيها في قبر مجهول ، وحيث ينهي يشوع بن نون ، الرحلة عند معبر على نهر الأردن قبالة أريحا . وهنا يثور سؤال : هل كان موسى ، أو الرب ، قد خطط ، ومنذ البداية ، كما أشارت آيات البدء السالفة ، لِرحلة الالتفاف الكبرى ، تجنبا للاحتكاك بالفلسطينيين ، أم أن سير الأحداث التي لم ينجح الرب وموسى في التحكم بها ، هي التي أملت على مدوني التوراة تلك البداية المحيرة لِلقارئ المدقق؟ محاولة الإجابة تفرض البدء من التنويه ، أو ربما تَسليط الضوء على التالي : البداية تلك ، الحكي عن القبائل الستة وأرضها ، تُوقف القارئ على معلومة ذهبية . معلومة تقول أن الرب ، أو موسى ، أو ربما مدوني التوراة ، عرض لنا جغرافية فلسطين التاريخية بأنها : أرض كنعان ؛ الجبال الوسطى ، مرج بن عامر والجليل الأدنى أو الأسفل . أرض الفلسطينيين ؛ الساحل ، من منطقة ما شمال يافا ، وحتى نهايته جنوبا . وأكثر من ذلك أن أرض الفلسطيين لم تكن فقط خارجة عن الوعد ، وإنما دامت منيعة طوال كل ما قالته التوراة بتاريخ بني إسرائيل . كيف ؟ 20 قلنا أنه بعد موت موسى ودفنه في موآب ، وفي قبر ما زال مجهولا حتى الآن - سنتوقف عندها في حلقة قادمة -، قاد يشوع بن نون جماعة بني إسرائيل ، - أكثر كثيرا من مليونين حسب إحصائيات سفر عدد السالفة الذكر - عابرا بهم نهر الأردن إلى أريحا ، بوابة فلسطين الشرقية آنذاك ، بادئا عمليات تنفيذ الوعد من جهة ، وعمليات تطبيق وصايا الإبادة والطرد ، فحلول بني إسرائيل وتملك وتوزيع أرض كنعان على الأسباط العشرة - خلافا لأوامر الرب بقي سبطان في الأردن - التي عبرت نهر الأردن ، من جهة ثانية . خصصت التوراة ، توراة ما بعد موسى ، سفر يشوع كاملا لسرد عمليات اجتياح أرض كنعان من جهة ولعرض صور ونماذج تطبيق تعليمات الرب ، أو موسى ، بالإبادة والتطهير العرقي من جهة أخرى . ولكن … ولكن لأننا هنا مقيدون بسيرة ورسالة موسى ، وما طَفحتا به من إشكاليات ، سأكتفي بإيراد بعض التعليمات الخاصة بالتعامل مع أهالي أرض كنعان من جهة ، وبعض التطبيقات ، فَالنتائج العامة من جهة أخرى ، و بادئا بما يطالعنا به الإصحاح الأول من سفر يشوع وهو الآتي : "وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلا 1 موسى عبدي قد مات . فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل 2 كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى 3 من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات . جميع أرض الحثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم 4 لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك . كما كنت مع موسى أكون معك . لا أهملك ولا أتركك 5 تشدد وتشجع . لأنك أنت تقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أعطيهم 6 إنما كن متشددا وتشجع جدا لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي . لا تمل يمينا ولا شمالا لكي تفلح حيثما تذهب 7 " . في ظني أن ليس المهم هنا الانتباه بأن يشوع هو الآخر كليم الله ، وأنه رسول مثله مثل موسى ، ذلك أن كل أنبياء بني إسرائيل ، حسب التوراة ، كلموا الله ، وأكثر من ذلك حاوره بعضهم ، وذهب الحوار مع إبراهيم إلى درجة الجدل ، ومع يعقوب إلى المصارعة بالأيدي ، وإلى حد أن كاد يعقوب أن يحقق الفوز . اللافت في هذه الآيات ، ليس الابتعاد عن الدقة الجغرافية في تسمية الأماكن ، أو التغيير في صيغة الوعد . اللافت ، كما المثير للانتباه أمران : الأول يتمثل في أن ما سيصبح اكتمالا لتحقيق الوعد، وأرضا لبني إسرائيل هو كل موضع تدوسه بطون أقدامهم ، أي ما يتمكنون من سلبه ، من كل هذا المحيط الواسع ، والثاني وعد الرب ليشوع بالوقوف معه في كل حين ، مع توصية بالتشدد في تطبيق وتنفيذ كل الشريعة التي علمها موسى له ، ووصايا ، أو تعليمات الإبادة جزء أساسي منها . إذاً ، ولأن تعليمات التعامل مع أهل أرض كنعان ، تعليمات الإبادة والطرد شكلت العمود الفقري لتلك الشريعة ، تعالوا نستذكر ، وسريعا ، بعض تلك التعليمات . واسمحوا لي بأن أبدأ بهذه الترنيمة من الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج :" من مثلك بين الآلهة يا رب . من مثلك معتزاً بِالقداسة . مخوفا بالتسابيح . صانعا عجائب 11 تمد يمينك فَتبتلعهم الأرض 12 ترشد برأفتك الشعب الذي فديته . تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك 13 يسمع الشعوب فَيرتعدون . تأخذ الرعدة سكان فلسطين 14 حينئذ يندهش أمراء أدوم . أقوياء موآب تأخذهم الرجفة . يذوب جميع سكان كنعان 15 تقع عليهم الهيبة والرعب . بعظمة ذراعك يصمتون كالحجر …. 16 " . 21 ونندهش نحن ، وليس أمراء أدوم وحدهم ، من أن كل رأفة للرب مع شعبه تقابلها استشاطة كره وحقد فغضب على أهل البلاد ، تنعكس في تعليمات صارمة حازمة بِإبادتهم من خلال تحريمهم بحد السيف .كيف ؟ تعالوا نطالع بعض الغيض من عميم الفيض . في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر خروج ورد الآتي :" احفظ ما أنا موصيك اليوم . ها أنا طارد من قدامك الأموريين والكنعانيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين 11 احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك 12 بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سَواريهم 13 فإنك لا تسجد لإله آخر . لأن الرب اسمه غيور . إلهٌ غيور هو 14 احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض . فَيزنون وراء آلهتهم و يذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم 15 وتأخذ من بناتهم لبنيك . فتزني بناتهم وراء آلِهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلِهتهن 16 " . ومن سفر عَدد ، وَمن الإصحاح الثالث والثلاثين نقرأ :" وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلا 50 كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان 51 فَتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وَتمحون جميع تَصاويرهم و تخربون جميع مُرتفعاتهم 52 " . " وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبْقون منهم أشواكا في عُيونكم ومناخيس في جوانبكم وَيضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها 55 فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم 56 " . ومن سفر تثنية ، من الإصحاح السابع نقرأ : " متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لِتمتلكها وطرد شعوبا كثيرة من أمامك الحثيين و الجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، سبع شعوب - لاحظوا زادهم الرب بِالجرجاشيين من ستة إلى سبعة - أكثر منك وأعظم منك 1 ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم . لاتقطع لهم عهدا ولا تشفق عليهم 2 ولا تُصاهرهم . بنتك لا تعط ِ لابنه وبنته لا تأخذ لابنك 3 …..ولكن هكذا تفعلون بهم . تهدمون مذابحهم وتكسرون أَنصابهم وتحرقون تماثيلهم بالنار 5 " . والتحريم يعني الإبادة بحد السيف . وتزداد هذه التعاليم عددا في سفر يشوع ، وتفاصيلا في وصايا الإبادة ، وحيث يطالعنا السؤال : وماذا عن تنفيذ يشوع لهذه لِوصايا أو تعليمات الرب هذه ونتائجها ؟ 22 إذاً ، ونحن نخرج مؤقتا من سيرة موسى ، ولأن أريحا كانت أولى ضحايا غزو بني إسرائيل ، وأول تطبيق لوصايا الإبادة ، يجود علينا الإصحاح السادس من سفر يشوع بالتالي :" وكان في المرة السابعة عندما ضرب الكهنة بالأبواق أن يشوع قال للشعب اهتفوا لأن الرب أعطاكم المدينة 16فتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب . راحاب الزانية فقط تحيا هي وكل من معها في البيت لأنها خبأت المرسلين - الجاسوسين - اللذين أَرسلناهما 17 وأما أنتم فاحترزوا من الحرام . لئلا تحرموا وَتأخذوا من الحرام . وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وَتكدروها 18 وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسا للرب وتدخل في خزانة الرب 19 ……. وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة 20 وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف 21 " . جديرة بالانتباه تلك المعاملة التي حظيت بها راحاب الزانية تقديرا من الرب لخيانتها لقومها ، كما ثبتها النص :" وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض ادخلا بيت المرأة الزانية وَأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حَلفتما لها 22 فدخل الغلامان الجاسوسان وَأخرجا راحاب وأباها وأمها وإخوتها وكل ما لها وَأخرجا كل عشائرها وَتركاهم خارج محلة إسرائيل 23 وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها . إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب 24 واستحيا يشوع راحاب الزانية وبيت أبيها وكل ما لها . وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم . لأنها خبأت المرسلين اللذين أَرسلهما يشوع لكي يَتجسسا أريحا 25 " . أطلت الاقتباس عامدا كي أُساعد القارئ على الوقوف عند ثلاثة أمور : الأول تذوق الإسرائيلي لطعم فعل القتل وسفك دم الأبرياء ، وتحوله في عملية تربوية مستمرة إلى مكون أساسي من مكونات الشخصية . والثاني موقف الرب من الغنائم وحقه المتقدم في الاصطفاء منها لنفسه . أما الثالث ، وفي ظني أنه الأهم فهو تشريع الخيانة والإثابة عليها . المحطة الثانية لتطبيق الوصايا كانت من نصيب بلدة اسمها عايْ . تقع خرائب البلدة ، إن كانت بالفعل قد وجدت ، حسب توصيف الإصحاح السابع ، شرق مدينة رام الله ، وربما في مكان ما من أراضي بلدة دير دبوان الحالية . يشوع ، ربما ثملا بالنصر على أريحا ، وربما استهانة بقدرات هذه البلدة ،وعلى الأغلب أنه انخدع بمعلومات جواسيسه عنها ، بعث لها بثلاثة آلاف مقاتل ، مع توصية بأن يفعلوا بها ما سبق وَفعلوه بأريحا . عايْ ردت الغزاة وقتلت منهم عددا كبيرا . جأر يشوع بالشكوى إلى الرب كما فعل سلفه في سيناء . رد الرب بأنه فعل هذا بهم لأن أحدهم لم يلتزم بوصية الرب عدم أخذ شيء من الغنائم . وطلب البحث عنه وحرقه وحرق الغنيمة بالنار . وبعد أن نفذ يشوع طلب الرب عفا الرب ووضع ليشوع خطة للاستيلاء على عايْ ، ومن جيش قوامه ثلاثون ألف رجل . طبق يشوع الخطة . وبعد احتلال عايْ جاء دور تطبيق وصايا الإبادة مع تعديل هام في موضوع الغنائم ، حسب الإصحاح الثامن وكما يلي : " فقال الرب ليشوع لا تخف ولا ترتعب . خذ معك جميع رجال الحرب وقم اصعد إلى عاي . انظر . قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه 1 فتفعل بِعاي وملكها كما فعلت بأريحا وملكها . غير أن غنيمتها وَبهائمها تنهبونها لنفوسكم 2 " و " ويكون عند أَخذكم المدينة أنكم تُضرمون المدينة بالنار . كقول الرب تفعلون . انظروا قد أَوصيتكم 8 " . سقطت عايْ ، وكان ما فعله بها يشوع :" وأما ملك عاي فأمسكوه حيا وتقدموا به إلى يشوع 23 وكان لما انتهى إِسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحقوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا أنّ جميع إِسرائيل رجع إِلى عايْ وضربوها بحد السيف 24 فكان جميع من سقطوا في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا جميع أهل عاي 25 ويشوع لم يرد يده التي مدها بالمزراق حتى حرم جميع سكان عاي 26 لكن البهائم وغنيمة تلك المدينة نهبها إِسرائيل لِأنفسهم حسب قول الرب الذي أَمر به يشوع 27 وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبديا خرابا إِلى هذا اليوم 28 وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء …….29 " . على هذا المنوال تواصلت غزوات يشوع وتطبيقه لوصايا الإبادة ، كما تواصل وقوف الرب معه . وفي أكثر الأوقات ،وقد تحول اسم الرب إلى رب الجنود ، قاد الرب الجيوش بنفسه وضرب الأهالي بيده العظيمة ، وحيث نختتم الاقتباس ، ومن الإصحاح العاشر، بالمعجزة التي لا ينفيها العقل والمنطق فقط وإنما يدحضها العلم وبشكل قاطع وجازم : " حينئذ كلم يشوعُ الربَّ يوم أسلم الرب الأموريين أمام بني إسرائيل وقال أمام عيون إسرائيل يا شمس دومي على جبعون ويا قمر على وادي أيلون 12 فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه . أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر . فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل الغُروب نحو يوم كامل 13 ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان . لأن الرب حارب عن إسرائيل " . ونأتي إلى السؤال : ترى عم أسفرت حروب الرب وغزوات يشوع من نتائج ؟ الجواب قدمه لنا الإِصحاحان الحادي عشر والثاني عشر ، ملخصه هزيمة وسقوط كل ممالك وملوك أرض كنعان وعددهم واحد وثلاثين مملكة وملكا ، واستيلاء بني إسرائيل على أرضهم وممتلكاتهم . ثم ماذا عن نتائج تطبيق وصايا الإبادة ؟ 23 يطالعنا الإصحاح الحادي والعشرون من سفر يشوع بالآتي :" فأعطى الرب إسرائيل جميع الأرض التي أقسم أن يعطيها لآبائهم فَامتلكوها وسكنوا بها 43 فَأراحهم الرب حواليهم حسب كل ما أقسم لآبائهم ولم يقف قدامهم رجل من جميع أعدائهم بِأيديهم 44 لم تسقط كلمة من جميع الكلام الصالح الذي كلم به الرب بيت إسرائيل بل الكل صار 45 " . يفهم القارئ من هذا الكلام أن الرب ، يشوع وجيوشه احتلوا و امتلكوا كل شبر من أرض الميعاد . ولكن .. ولكنه يفاجأ وهو يقرأ تنفيذ يشوع لأمر الرب بتقسيمها على الأسباط ، كل سبط حسب حجمه ، أن أجزاء كبيرة من حصة كل سبط لم يتم استملاكها بعد ، وأن يشوع يكلف رؤساء السبط بقيادة رجاله لاستكمال عملية السلب هذه وإبادة وطرد الأهالي منها . كيف ؟ لا يفسر سفر يشوع ذلك . وعلى العكس يضع قارئ عملية التقسيم في دوامة . لكن سفر قضاة التالي ، يتكفل بمهمة التفسير . كيف مرة أخرى ؟ يبدأ الإصحاح الأول من سفر قضاة بسرد حروب الأسباط مع الأهالي الذين لم يمتلكوا أرضهم في تقسيم يشوع . ولكن الإصحاح يفاجئ القارئ بالتالي : " وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد 19 " ، " وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم - كان اسمهما يبوس آنذاك وليس أورشليم - فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم 21 " . و :" ولم يطرد مَنَسَّى أهل بيت شان وقراها ولا أهل تعنك وقراها ولا سكان دور وقراها ولا سكان يَبْلَعام وقراها ولا سكان مجدو وقراها . فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض 27 وكان لما تشدد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم يطردهم طردا 28 وأَفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر 29 زبولون لم يطرد سكان قِطرون ولا سكان نهلول فسكن الكنعانيون في وسطه وكانوا تحت الجزية 30 ولم يطرد أشير سكان عكو ولا سكان صيدون وأَحلب وأَكريب وحلبة وأفيق ورحوب 31 فسكن الأَشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض لأنهم لم يطردوهم 32 ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس ولا سكان بيت عناة بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض . فكان سكان بيت شمس وسكان عناة تحت الجزية لهم 33 وحصر الأموريون بني دان في الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي 34 فعزم الأموريون على السكن في جبل حارس في أيلون وفي شعلبيم . وقويت يد بيت يوسف فكانوا تحت الجزية 35 وكان تخم الأَموريين من عقبة عَفْرَييم من سالَع فصاعدا 36 " . أما لماذا حدث هذا ، وبالتالي تواصلت حروب بني إسرائيل طوال الوقت مع سكان البلاد الأصليين وبين كر وفر ، تعيد الإِصحاحات التالية الأسباب إلى : أولا لأن الأسباط لم يتقيدوا بتعليمات الإبادة والطرد فما كان من الرب إلا أن تخلى عن نصرتهم ، وثانيا لأن بني إسرائيل دأبوا على النكوص عن عبادة الرب والانتقال لعبادة آلهة السكان الأصليين البعل وعشتاروت .. الخ ، ودأب الرب بالتالي على الحرد منهم وتركهم عرضة للسقوط في أيدي أعدائهم . كمثال نقرأ في الإصحاح الثاني من سفر قضاة :" وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من أيدي أعدائهم كل أيام القاضي . لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مُضايقيهم وَزاحميهم .18 وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراء آلهة أخرى لِيعبدوها و يسجدوا لها . لم يكفوا عن أفعالهم وطريقهم القاسية .19 فحمي غضب الرب على إسرائيل وقال من أجل أن هذا الشعب قد تعدوا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي . 20 فأنا أيضا لا أعود أطرد إنسانا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته . 21 لكي أمتحن بِهم إسرائيل أَيحفظون طريق الرب لِيسلكوا بها كما حفظها آباؤهم أم لا . 22 فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعا ولم يدفعهم بيد يشوع . 23 " .
24 وبهذا نصل إلى الشق الأخير من هدف تمليك بني إسرائيل لأرض الميعاد . فإذا كان ذلك ما حدث مع الجزء الذي سمته توراة موسى بأرض كنعان ، يكون السؤال : إذاً ما الذي حدث مع الجزء الآخر الذي سمته توراة موسى بأرض الفلسطينيين ؟ قبل الغوص في البحث للإجابة على السؤال ، أعيد تذكير القارئ بأن منهج التوراة في قول الشيء ونقيضه في الوقت ذاته ، يدفع بالقارئ إلى دوامة ، ويضعه أمام معضلة تتمثل في محاولة معرفة أيهما ، الشيء أَم النقيض ، هو الصحيح . كيف ؟ تعالوا نقرأ ونتدبر . يطالعنا الإصحاح الثالث عشر من سفر يشوع بالتالي :" وشاخ يشوع . تقدم في الأيام . فقال له الرب أنت قد شخت . تقدمت في الأيام . وقد بقيت أرض كثيرة جدا للامتلاك .1 هذه هي الأرض الباقية . كل دائرة الفلسطينيين وكل الجَشوريين . 2 من الشِّيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالا تُحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة الغزي والأشدودي والأشقلوني والجتي والعقروني والعويين . 3 " . هذه الآيات تقول بوضوح أن الجزء من أرض الميعاد المسمى توراتيا بأرض الفلسطينيين لم يتم دخوله فَامتلاكه في زمن يشوع . ولكن .. ولكن يفاجئنا الإصحاح الأول من سفر قضاة بالتالي : " وذهب يهوذا مع شمعون أخيه وضربوا الكنعانيين سكان صفاة وحرَّموها ودعوا اسم المدينة حرمة 17 وأخذ يهوذا غزة وتخومها وأشقلون وتخومها وعقرون وتخومها 18 . " وقد يظن القارئ أن ذلك حدث بعد زمن يشوع . ولكن .. ولكن المفاجأة تكبر مع الإصحاح الثالث ، إذ يقول :" فهؤلاء هم الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل كل الذين لم يعرفوا جميع حروب كنعان .1 إنما لمعرفة أجيال بني إسرائيل لتعليمهم الحرب . الذين لم يعرفوها قبل فقط . 2 أقطاب الفلسطينيين الخمسة - ولا يعرف القارئ لماذا أخرج الرب مدينتي جازر وجرار وَملكيها ، كما أخرج عماليق من تعداد أقطاب الفلسطينيين - وجميع الكنعانيين و الصيدونيين والحويين سكان جبل لبنان من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماة . 2 " . ثم … ثم يتواصل تضخم المفاجأة مع مواصلة قراءة باقي سفر قضاة و أسفار صموئيل الأول ، صموئيل الثاني ، الملوك الأول ، الملوك الثاني ، أخبار الأيام الأول و أخبار الأيام الثاني . في هذه الأسفار السبعة يتكرر اسم فلسطين والفلسطينيين 253 مرة ، فيما لم يتم ذكرهم في الأسفار السابقة سوى 15 مرة . وأكثر ما يلفت الانتباه في تكرار اسم فلسطين والفلسطينيين في الأسفار السبعة السابقة ، حالة الصراع التي دارت واستمرت مع الفلسطينيين بالاسم ، إذ هي لا تشمل صراعات مع قبائل فلسطينية ، عماليق مثلا ، ومع مدن وملوكها ، جازر وجرار مثلا ، دون نسبها لفلسطين والفلسطينيين . وغير ذلك تشير أرقام ذكر الفلسطينيين في أسفار قضاة 32 مرة ، صموئيل الأول 156 مرة ، صموئيل الثاني 27 مرة إلى حالات اشتداد الصراع ، بين كر وفر ، غلبة للفلسطينيين وتسلطهم على بني إسرائيل تارة ، وانعكاس الوضع ، فَغلبة لبني إسرائيل وتسلطهم على الفلسطينيين تارة أخرى . فيما يلحظ القارئ فترات هدوء ، أو :" هدأت الأرض " بلغة التوراة ، وهي الفترات التي تشهد تثبيت تسلط طرف على آخر ، وذلك في الأسفار التي يتراجع ذكر الفلسطينيين فيها . ونختم هذه الفقرة بالسؤال : إذاً ، إلامَ آلت نتيجة الصراع بين بني إسرائيل والفلسطينيين ، وكما تقررها التوراة ؟ نعثر على الجواب في سفر الملوك الأول ، وفي سيرة الملك - النبي سليمان . إذ الراسخ في الأذهان أن الملك سليمان ، بما ملك من قوى عظيمة ، تسخير الطير والحيوان ، والأهم تسخير الجن ، أقام أوسع مملكة ، ولا نقول امبراطورية لإسرائيل . وفي حال أن فارقنا ، أو جافانا التدقيق ، نركن إلى الاعتقاد بأن مملكة سليمان تسلطت على الفلسطينيين ، أبادتهم وطردتهم ، ضمت أرضهم وامتلكها بنو إسرائيل . ولكن .. لكن الإصحاح الرابع من سفر الملوك يشوط بقدمه بعيدا بهذا الاعتقاد . كيف ؟ في حين أن الآية 1 تقول :" وكان الملك سليمان ملكا على جميع إسرائيل " ، تأتي الآية 21 لترسم لنا حدود المملكة وكالتالي :" وكان سليمان متسلطا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر . كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته ." . إذاً ، وبصريح نطق وَشهادة التوراة ، كان هذا الجزء المسمى بأرض فلسطين قد نجا من طغيان بني إسرائيل . 25 إذاً ، وفي ختام هذه الحلقة نصل إلى التالي : أما وقد أكدت لنا نصوص التوراة ذاتها أنه لم تكن هناك عبودية لبني إسرائيل في مصر ، وأنه لم تتم عملية إبادة كاملة وطرد تام لأهل أرض الميعاد ، ولم تنجح إسرائيل في استلاب وامتلاك ذلك الجزء من أرض الميعاد الذي عرفته التوراة بأرض فلسطين ، وكل ذلك ما كشفته ، ثبتته و أكدته كشفيات علوم الآثار ، يبرز أمامنا سؤال مفصلي جديد : مستشهدين بنصوص التوراة ، و بقراءة نقدية مدققة لهذه النصوص ، وَمتجاهلين لمعطيات كشوفات علوم الآثار ، هل كان هناك خروج لِبني إسرائيل من مصر ؟ ومن ثم : هل كان هناك دخول لِبني إسرائيل إلى فلسطين ، أرض الميعاد التي تفيض لبنا وعسلا ؟
#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقاطعات بين الأديان 24 إشكاليات الرسل والأنبياء 9 موسى
-
تقاطعات بين الأديان 23 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 يوسف
-
تقاطعات بين الأديان 22 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 الأسباط
-
تقاطعات بين الأديان 21 إشكاليات الرسل والأنبياء 6 يعقوب
-
تقاطعات بين الأديان 20 غشكاليات الرسل والأنبياء 5 إسحق
-
تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط
-
تقاطعات بين الأديان 18 ، إشكاليات الرسل والأنبياء 3 إبراهيم
-
تقاطعات بين الأديان 17 إشكاليات الرسل والأنبياء 2
-
تقاطعات بين الأديان 16 إشكاليات الرسل والأنبياء 1
-
يا مثقفي التنوير اتحدوا
-
تقاطعات بين الأديان 15 الحكمة والحكماء
-
تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب
-
تقاطعات بين الأديان 13 الصعود إلى السماء
-
تقاطعات بين الأديان 12 الروح والموت
-
تقاطعات بين الأديان 11 المرأة في روايات الخلق
-
تقاطعات بين الأديان 10 غايات الآلهة من خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 9 خلق الإنسان
-
تقاطعات بين الأديان 8 قراءة في رواية حلق الكون القرآنية
-
حدود الدولة
-
تقاطعات بين الأديان 7 قراءة في روايات خلق الكون
المزيد.....
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|