من المفارقات العجيبة التي باتت تهيمن في هذه الأيام على عقول وسلوك بعض الجهات، هي أن يصبح انتهاك حقوق الإنسان الكردي في بلدنا أمراً عادياً ومألوفاً، وأن يتم تبرير سياسة التنكر لواقع الوجود الكردي في سورية، وأن تتم شرعنة الإجراءات التمييزية بحق أبناء وبنات شعبنا المضطهد، وأن يتم اعتبار تلك الإجراءات حسب رأيهم (تدابير أمنية وقائية) لا بد من اتخاذها، درءاً وخوفاً من أي (خطر كردي محتمل) على شمال سورية ..؟!
ومن المفارقات أيضاً أن ينظر إلى حراكنا الديمقراطي السلمي على أنه سلبي ويسيء إلى الوحدة الوطنية، وأن تصبح في الوقت نفسه مسألة الدفاع عن الحقوق الكردية، أمراً ممنوعاً أو في أحسن الأحوال تطرفاً أو شغباً أو حتى تآمراً وارتباطاً مع (الخارج) ضد (الداخل) ..؟! وأن يتم في الحين ذاته تخوين الإنسان الكردي ووصف شارعنا الشعبي بالتعصب القومي، وأن يتم أيضاً منع أبناء الكرد هنا من التعاطف مع أشقائهم في كردستان العراق الذين أصبحوا يتعايشون اليوم مع باقي شعوب العراق الأخرى في نعيم حالة نصر حقيقية على نظام صدام الشمولي الذي انهار بسهولة إثر حرب تحرير العراق.
ومما يزيد الطين بلة، أن نصادف البعض القليل من (الكرد) الذين يدعون العقلانية والواقعية السياسية، فيطلبون من أبناء جلدتهم (المزيد من التنبه والابتعاد عن التطرف) ..! لينجرفوا هم أيضاً بمشورتهم هذه، مع ذاك التيار القومجي، فيساهموا في العزف دون أن يدروا، على نفس هذه المعزوفة القديمة - الجديدة التي تظل ترددها بعض الأوساط الشوفينية التي لا هم لها سوى التشكيك بالكرد وإلصاق التهم بهم وبحركتهم، بهدف إسكات الصوت الكردي من الأساس أو حتى اجتثاثه من الجذور.
والأغرب من ذلك كله هو أن يطلب مراراً وتكراراً من الجانب الكردي الحذر ثم الحذر من مغبة (الانزلاق إلى مواقع معادية)، إذ يجب عليه أن يفكر ويشاور كثيراً قبل أن يتخذ أية قرارات أو مواقف أو أنشطة حقوقية، هذا إلى جانب ضرورة امتثاله غير المشروط لسياسة الأمر الواقع وللخطاب الأكثري (العروبوي) الذي يرتكز دوماً على أن الضغوطات التي تواجهها المنطقة ومقتضيات المصلحة العامة وحجم التربصات ببلدنا وماهية الظروف المعقدة المحيطة به .. إلخ، كل هذه الاعتبارات وهذه التحديات وغيرها .. تقتضي من جميع السوريين تأجيل كل الأنشطة بما فيها النضال من أجل الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان، والكرد بشكل خاص يجب أن يكفوا عن المطالبة بحقوقهم، وأن ينحنوا خاشعين أمام لوحة (الأولويات والمتطلبات السورية) في هذه المرحلة التي تفرض علينا جميعاً الوقوف صفاً واحداً في وجه (العدوان الخارجي المحتمل) الذي بات بمثابة فزاعة مخيفة يرعبوننا بها ليل نهار.
أما إذا ما حدث العكس ولم يتوقف الكرد عن حراكهم السياسي وفق الأشكال التي يرونها مناسبة لظروفهم ولمتطلبات واقع حالهم، فيوصفون بالتعصب والإساءة لسمعة البلد وبالدخول في خدمة (الأعداء الخارجيين) ..؟! كما تُطلق بحقهم حينها مختلف الإجراءات والأحكام الجائرة، ويؤدي هذا التهكم إلى اللاإنصاف وإلى خلق حالة من الغربة والاستغراب لديهم، فتضعف ثقتهم بالآخرين وتختلط معهم كل الأوراق والمسائل وتسمى الأمور حينها بغير مسمياتها الحقيقية.
وفي هذا المجال يمكن القول إن بعض الجهات الحقودة قد تمادت في دأبها على التنكر للحقيقة الكردية، وهي تريد بذلك أن تضغط على الرأي العام السوري باتجاه معاداة الكرد، وتحاول جاهدة حشر الورقة الكردية عنوة في دائرة التشكيك بها لتطويقها وطمسها لاحقاً، وهي في نفس الوقت لم تدخر جهداً لإلغاء الشخصية الكردية ولإرباك الكرد وحرفهم عن موقعهم ومسارهم الطبيعي ودورهم اللائق بهم في مسعاهم النبيل صوب تحقيق حقوقهم العادلة.
هذا السلوك الفوقي الذي انتهجته كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم في هذا البلد، والذي تعتبره بعض القوى والفعاليات الوطنية السورية أسلوباً وقائياً تحسبياً لا بد من اتخاذه، كونه يسد الطريق أمام أي (بروز كردي) قادم ومحتمل .. وكأن هذا الطمس للحقائق يمكنه أن يدوم إلى الأبد وأن الأكراد سوف لن يبرزوا إلى الوجود السياسي أبداً ..؟!؛ قد اتخذ في أوقات كثيرة أشكالاً متعددة من المشروعات الاستثنائية، إذ تلاحقت مسلسلات التمييز والاضطهاد بحق المواطنين الكرد، وهي لا تزال تتواصل رغم كل هذه التطورات التي حدثت وتحدث حالياً في كل بقاع المعمورة ولا سيما في الشرق الأوسط الذي بات يعيش مخاضاً حقيقياً قد تتمخض عنه حالات ومفاجآت جيوسياسية مزعجة للبعض وسارة للبعض الآخر، لم تكن على بال ولا على خاطر أي جهة أو أحد فيما مضى.
وفي محاولة سياسية هادفة من الجانب الكردي لإزالة هذا الالتباس ولنفي هذه الشكوك التي باتت شبه عارية من الصحة والتي تحاول بمراميها العدائية أن تكتنف كل القيم والحقائق، وفي معرض ردها الهادئ على أساليب التشويش والتهويش هذه والتي أصبحت موضة ينتهجها البعض؛ تسعى الحركة الوطنية الكردية السورية من خلال التزامهاتها القومية وذهنيتها الوطنية وأساليببها الديمقراطية، بمنتهى المرونة في التعامل والأداء إلى شرح وتوضيح مثل هذه الملابسات المقصودة من قبل الجانب الآخر، فتعمل بحرص وتنبه شديدين من جانبها، كي يكون خطابها السياسي واقعياً ومراعياً لكل الظروف وحتى لبعض الأمزجة المحيطة بها. لكنها في الوقت نفسه تصر على أن نضالها هو واجب وحق مشروع تفرضه الظروف الذاتية للكرد وتجيزه كل الأعراف والمواثيق الدولية والشرائع السماوية السمحة، وهي تؤكد دوماً على أن أية محاولة مغرضة بنوايا الكرد من قبل أية جهة كانت، لا تنصب أبداً في خدمة الصالح السوري العام، وهي تسيء دون شك إلى حاضر سورية التي هي بحاجة ماسة في هذه الأيام الصعبة التي تمر بها، إلى المزيد من التلاحم والألفة بين كل أطيافها وأعراقها على اختلاف مشاربهم ومنابتهم، وذلك لن يتم على الوجه المطلوب ما لم تبادر قيادة البلد إلى الانفتاح على الداخل والبدء بالإصلاح العام الذي ألف بائه الإقرار بالتعددية السياسية، وإعادة النظر في الدستور وفق أسس ومبادئ توضع جمعاً لتخدم جمعاً، والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، والاعتراف بالوجود الكردي كثاني أكبر قومية يتكون منها النسيج الوطني السوري .. إلخ.
واستناداً إلى مقاييس ومعايير عالم اليوم، يمكن القول إن النضال العادل الذي خاضه ويخوضه الشعب الكردي عبر سنين طويلة جنباً إلى جنب مع باقي إخوانه السوريين، هو نضال إنساني بشكله وبمضمونه وبمراميه، وهو لم يجلب يوماً أي أذية لأي من الجيران بل وقف إلى جانبهم وأفادهم، وقد كانت بنادق الكرد عبر التاريخ موجهة ضد الأعداء الخارجيين في كل الأزمنة العصيبة التي مرت بها هذه البلاد، وما دام الأمر هكذا فإن نضالهم هذا مهما كان حدياً أو مرناً، ينبغي أن يلقى الاحترام والدعم والمساندة من قبل الجانب الآخر أي من قبل الأكثرية العربية في هذا البلد الذي خدمناه ونخدمه جميعاً ليؤمننا ويحمينا ويعدلنا جميعاً دونما أي تفرقة أو شطب أو تمييز.
واحتراماً للحقائق التاريخية ولمبدأ المساواة بين كل بني البشر .. ومن المنطقي جداً أن نجزم بأن هذا النضال الكردي سوف لن يتوقف أبداً ما لم تزل مسبباته ودواعيه، وحيث أن تجاهل حقوق الكرد هو رأس هذه المسببات، فإن البدء بحقبة جديدة فاتحتها الاعتراف بهم وإنهاء اضطهادهم ومنحهم حقوقهم القومية المشروعة ضمن إطار الوحدة الوطنية لسورية، سوف يضيء ويهيئ بالضرورة لمرحله سياسية جديدة تنفتح معها صفحة سورية جديدة ركيزتها الأساسية هي: الاعتراف بالآخر وإرساء العدالة وصون حقوق الإنسان وتوفير السلم والأمان والعيش اللائق للجميع على أرضية تآخي الكل المختلف لتوفير مستلزمات منعة هذا البلد.
ولنسير حينها معاً - بشفافية هذا العصر المضاء بعلومه المتقدمة - صوب سورية تعددية خالية من السلبيات والفوارق الإنسانية على طريق الإصلاح والإعمار والبناء، ليصبح هذا البلد حصناً مشتركاً منيعاً في وجه كل الضغوط والحروب التي قد تعترض سبيله في ظل هكذا ظروف دولية وإقليمية غامضة وتنذر الجميع بمفاجئات حقيقية قادمة إلى منطقة الشرق الأوسط، عاجلاً أم آجلاً.
* عضو اللجنة السياسية لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سورية (يكيتي)