كاميلا رويل
الحوار المتمدن-العدد: 7591 - 2023 / 4 / 24 - 21:54
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
El lissitzky, proun G.B.A., 1923 ca
الكاتبة: كاميلا رويل
نشر المقال في العدد 141 من مجلة الاشتراكية الأممية شتاء عام 2014
—
عام 1873 بدأ فريدريك إنغلز، شريك كارل ماركس، العمل على كتاب طموح بعنوان ديالكتيك الطبيعة. (1) وصف في رسالة له إلى ماركس كيف أنه، حين كان نائماً في سريره ذات صباح، توصل إلى نتيجة مفادها أن العلوم الطبيعية هي في الحقيقة حول “المادة المتحركة”. كما طلب من صديقه التزام الصمت بشأن الفكرة حتى “لا يسرقها أي إنكليزي كريه”. (2) بدأ إنغلز بتوضيح علاقة المقاربة الماركسية بدراساته المكثفة للعلوم الطبيعية. وكانت كتابة أفكاره مشروعاً سيستمر العودة إليه طوال العقد التالي، لكنه في نهاية المطاف لم ينجزه.
بقيت فكرة ديالكتيك الطبيعة مثيرة للجدل مذاك. إن الديالكتيك كما هو مطبق في دراسة المجتمع، مسألة خاضعة للنقاش، مع وجود العديد من التفسيرات لفهم ماهية الديالكتيك وما يفترض أن يستعمل من أجله. ولكن العديد من المنظرين المؤيدين لفهم المجتمعات البشرية ديالكتيكياً قد رفضوا فكرة أن ذلك ينطبق كذلك على الطبيعة. وتثير النقاشات حول ديالكتيك الطبيعة الكثير من الأسئلة حول نوع الفلسفة الماركسية وما إذا كانت قادرة على مساعدتنا على فهم الجوانب الأساسية في العالم الذي نعيش فيه. كما أن ذلك يرتبط بما قد نعنيه بكلمة “الطبيعة”- التي هي موضوع مثير للجدل تماماً مثل الديالكتيك.
إنغلز وعلم القرن التاسع عشر
يمكن القول إن إنغلز كان من أكثر المثقفين إثارة للإعجاب في عصره (وفي أي عصر آخر). لقد علّم نفسه ليس فقط العلوم الاجتماعية والفلسفة ولكن كذلك الأنثروبولوجيا والكيمياء والرياضيات والفنون. وقد عاش وقتاً حصلت فيه تغييرات ثورية في كل المجالات. ولعل أبرز ما نشره تشارلز داروين عن أصل الأنواع عام 1859 أوضح فيه أن أنواع الكائنات الحية، بدلاً من أن تكون كائنات ثابتة ومنفصلة، قادرة على التطور إلى أشكال جديدة ومختلفة بشكل جذري. قرأ ماركس وإنغلز عمل داروين واعتبراه دليلاً على مفهوم الطبيعة التي تتغير مع الوقت- على الأقل بشكل مشابه لأفكارهما المتعلقة بالتغير التاريخي في المجتمعات البشرية. (3)
ولكن لم تكن البيولوجيا وحدها هي التي أحدثت ثورة في القرن 19. في الفيزياء، أظهر جايمس بريسكوت جول أن الحرارة يمكن أن تنتقل إلى طاقة ميكانيكية والعكس صحيح. في الجيولوجيا، اكتشف تشارلز ليل الخلق والتدمير المستمرين في طبقات قشرة الأرض. (4) يحاجج أليكس كالينيكوس أن رؤى إنغلز يجب قراءتها في ضوء التطورات الحقيقية للعلوم الفيزيائية في الوقت الذي كتب فيه. كان العلم يعتمد على نموذج- مرتبط بقوانين نيوتن- حيث تنقلب العمليات الميكانيكية في الوقت المناسب. في القرن التاسع عشر، بدأ العلم الأخذ بعين الاعتبار طبيعة السيرورات التي لا رجعة فيها مثل التطور حيث لا تتغير الطبيعة فحسب إنما تتطور. (5)
ساعدت الماركسية على زيادة فهمنا للعلماء ودورهم في المجتمع. مع ذلك، لم يكن إنغلز مهتماً فقط بالمكانة الاجتماعية للعلم- كما أنه حلل النقاشات داخل العلم. وأوضحت كتاباته حول الموضوع أنه كان نفسه كذلك على اطلاع كافٍ للمشاركة في تلك المناقشات. منذ ذلك الوقت، أثبتت صحة بعض أفكار إنغلز. في مقاله [غير المنجز] المعنون “دور العمل في تحول القرد إلى إنسان” حاجج إنغلز أن الوضع المنتصب [لأجساد] للبشر قد حرر أيديهم وسمح لهم بتطوير استعمال الأدوات، هذا الأمر حصل إلى جانب تطور أدمغة أكبر. هذه الفكرة أشاد بها علماء مثل ستيفن جاي غولد كمثال مبكر لما يسمى الآن باسم التطور المشترك للثقافة الجينية. (6)
مع ذلك، إن فكرة ديالكتيك الطبيعة ما زالت مثيرة للجدالات- مع العلم أن أنغلز لم يعش طويلاً بما يكفي لإنهاء تأليف الكتاب أو الدفاع عن مشروعه. في آذار/مارس عام 1883 توفي كارل ماركس. وضع إنغلز عمله جانباً ليعمل بالمهمة الكبيرة المتجسدة في إعداد المجلدين 2 و3 من رأس المال للنشر. ولكن مخطوطة ديالكتيك الطبيعة نجت ونشرت بالروسية عام 1925 وبالإنكليزية عام 1939. كان ج.ب.س. هالدان مسؤولاً عن النسخة الإنكليزية. وقد كان عالماً بارزاً عن تعزيز فهمنا لكيفية ارتباط التطور بعلم الوراثة. ولكنه كان ماركسياً ملتزماً في الحزب الشيوعي. وطوال حياته، بات أكثر اقتناعاً بالقوة التفسيرية للمقاربة الديالكتيكية، محاججاً في مقدمته لكتاب ديالكتيك الطبيعة أنه لو نشر في وقت سابق لكان أنقذه من “التفكير المشوش”. (7) ولكن نشر عمل إنغلز لم يكن مسألة سهلة: فقط كانت المخطوطة عبارة عن سلسلة من الملاحظات. ربما كان إنغلز يريد تحرير أجزاء منها أو حتى استبعادها.
هل من المفيد تسمية الطبيعة ديالكتيكية؟
لمناقشة ما إذا كانت لأفكار إنغلز أي ميزة، نحتاج كذلك إلى الحصول على فكرة ما عن ماهية الديالكتيك ومجال استعماله المفترض. لا فائدة من التعلم عن الديالكتيك إذا كان مجرد درس أكاديمي- إذا تعلمنا عنه في الكتب أو في المؤتمرات ومن ثم نسيناه فوراً لأنه لا علاقة له بالممارسة اليومية. وافق ماركس، في خاتمة لرأس المال، على أن الديالكتيك المادي هو الأساس للأشخاص الذين يريدون تغيير العالم “إنه في جوهره نقدي وثوري”. (8) بنى ماركس العديد من أفكاره على أفكار الفيلسوف المثالي جورج هيغل، الذي فقد تعاطفه مع الحركات الثورية، وخاصة في الفترة الأخيرة من حياته. مع ذلك، أود المحاججة أن النسخة المادية الماركسية للديالكتيك تكون منطقية فقط عند النظر إليها على أنها مركزية في مشروع التغيير الثوري.
بالنسبة للعديد من المنظرين، إن أهم جوانب الديالكتيك هي التغيير والتناقض. إنه يتيح لنا فهم طبيعة عالم يتغير دوماً، وهو أمر يضيء عليه جون مولينو ويتعامل معه في دليله الأخير للفلسفة الماركسية. (9) يمكن أن يسمى الديالكتيك فلسفة نقدية لأنه يدعو إلى التشكيك بفكرة أن عالمنا بقي دائماً كما هو وسيبقى كذلك دون تغيير في المستقبل. لكنه يحاجج كذلك أن التغيير ليس دوماً تدريجياً- يمكن أن تتغير الأشياء من خلال الوثبات (10)- ما يمكن وصفه بالتغيير الثوري. في كتاب رقصة الديالكتيك يشبه بيرتل أولمان محاولة فهم هذا العالم بمحاولة القفز إلى سيارة متحركة- هل ترغب في محاولة فعل ذلك إذا كنت معصوب العينين ولا تعرف الاتجاه الذي تتحرك نحوه السيارة وكيف لو كان حصل ذلك وهي مسرعة؟ يحاجج أولمان أن العالم من حولنا يتغير ونحن بحاجة إلى نظرية تمكننا من فهمه. (11) تعتبر معظم النظريات من المسلمات بداية أنه يمكننا البدء بالنظر إلى العالم كما لو كان ثابتاً ثم نحاول شرح أي تغييرات نراها. بالنسبة إلى المفكرين الديالكتيكيين، إن العكس هو الصحيح. التغيير هو الاحالة الاعتيادية للكون؛ والركود هو غير المعتاد ويتطلب تفسيراً.
كما حاجج الجغرافي الماركسي دافيد هارفي لعدة سنوات أن الطريقة التي يستعملها في عمله كمنظر اجتماعي هي طريقة جدلية. ربما يكون تفسير نهج هارفي أسهل من خلال النظر إلى ما هو ليس كذلك. هو يعارض الاختزال الديكارتي، الذي يقوم على افتراض أننا يمكننا دراسة العالم عبر قسمته إلى “أشياء” منقسمة. يحاجج الديكارتيون بأن الأجزاء لها خصائصها الخاصة التي تنوجد بشكل مستقل عن المجموع. بإمكاننا تحليل كل منها على حدة ثم النظر في كيفية ترابطها. (12) لذا إن الجغرافي الذي يحاول فهم المدن على أساس ديكارتي قد ينظر إلى لندن (ربما يعرّف كل شيء انطلاقاً من داخل الطريق السريع M25). يمكنه سؤال من يعيش في لندن، ونوع السكان الذين يعيشون فيها، ونوع الصناعات الموجودة في أجزاء منها والكثير من الأسئلة. ويمكنه بعد ذلك الاستمرار في فعل الأمر عينه مع مدينة أخرى، ربما نيويورك. وما أن يفهم سمات كل مدينة ككيان منفصل، سيحاول المقارنة بينها.
سيوجه المفكر الديالكتيكي أنظاره إلى السيرورات التي تشكل المدن، وسيرورات مثل الهجرة من وإلى المدن، أو نمو النيوليبرالية في الولايات المتحدة وبريطانيا. لا تعتبر المدن أشياء منفصلة إنما سيرورات مجتمعة. تتساءل طريقة تفكير هارفي عما إذا كان ممكناً التفكير بمدينة دون مراعاة سياقها. عند النظر إلى الهجرة إلى المدن، نحن بحاجة إلى فهم ما يحصل خارج المدينة التي يأتي منها المهاجرون. ولكن كذلك لفت النظر إلى التشابهات بين المدن- لذلك قد تؤثر الهجرة إلى كل من لندن ونيويورك عليهما بطرق متشابهة. تقلب مقاربة هارفي الديالكتيك رأساً على عقب. إنه يقول بشكل فعال إنه لا يوجد شيء مثل “الشيء”. ما نظن أنه جسم صلب يتكون فعلياً من سيرورات. يمكن أن تجتمع عدة سيرورات لانتاج أشياء بشكل مؤقت ولكنها دائماً ما تكون مؤقتة. الأشياء دوماً في طور التكون أو التدمير- كل ما هو صلب يذوب في الهواء. وفق هذه المقاربة يمكن لشيء أن يكون فكرة أو مفهوماً أو شيئاً ملموساً مثل مدينة. كما حاجج إنغلز بشكل مشابه في كتاب لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية: “لا ينبغي فهم العالم على أنه مجموعة معقدة من الأشياء الجاهزة، إنما كمجموعة معقدة من السيرورات، حيث تعبر الأشياء… من خلال تغيير مستمر للوجود والزوال”. (13)
بالنسبة لماركس، والعديد من مؤيديه، إن الديالكتيك يتعلق بالتناقض وكذلك بالتغيير. الاثنان مرتبطان، التناقضات الداخلية تدفع التغيير قدماً وتؤدي إلى الدينامية التي نلاحظها. كل شيء تحت الرأسمالية يبدو متناقضاً. (14) مع ذلك، يحاجج هارفي أن التفكير من ناحية التناقضات يتوافق مع مقاربته. إذا كانت الأشياء مكونة من سيرورات معقدة متغيرة، فمن المنطقي أن تتعارض بعض السيرورات مع بعضها البعض. (15) على سبيل المثال حزب العمال في بريطانيا- هو منظمة برجوازية ولكنها تستقطب على مستوى قاعدتها أبناء الطبقة العاملة. أن يطلق على الحزب صفة برجوازية وعمالية قد يبدو متناقضاً قول ذلك. هذا لأنه يدل على تناقض. المفتاح لفهم ذلك هو النظر إلى السيرورات المتعددة التي أدت إلى ظهور حزب العمال. في ذلك الوقت كانت دولة الرفاه تزداد أهمية بالنسبة إلى قطاعات رأس المال، في وقت كان العمال يتطلعون إلى الأفكار والأحزاب الإصلاحية. إن حاجات العمال والرأسماليين تتعارض مع بعضها البعض ولكنهم كانوا قادرين على الاندماج في لحظة معينة في التاريخ- في حالتنا هذه تشكيل منظمة متناقضة جداً. هذه المقاربة لمسألة التناقض تعترف بالوجود الحقيقي للتناقضات ولكن تنظر في الآليات الملموسة التي تتطور بواسطتها، من خلال السيرورات التي من خلالها تأتي الأشياء إلى الوجود وتزول. لا يكفي القول بكل بساطة إن كل شيء متناقض دون التساؤل عن السبب.
بيولوجيو الديالكتيكية
إذا كان الديالكتيك يساعد الماركسيين على فهم شيء ما عن المجتمع البشري، فهل يمكن أن يكون ذلك مفيداً كذلك لعلماء الطبيعة- الأشخاص الذين يحاولون فهم جوانب مختلفة للغاية من العالم؟ قلة من علماء الطبيعة حاججوا بصراحة بأنهم يمارسون علماً ديالكتيكياً، لكن هناك بعض الاستثناءات الواضحة. عام 1985 نشر ريتشارد ليفينز وريتشارد ليونتين مجموعة من الأبحاث بعنوان بيولوجيّ الديالكتيكية. كان الاثنان (وما زالا) أساتذة بيولوجيا متميزين في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة. كما يوحي عنوان الكتاب، تجنب ليفينز وليونتين القول إنهما كانا يحاولان تطبيق الديالكتيك على البيولوجيا. (16) إنه ليس ديالكتيك البيولوجيا لأنهما ليسا فيلسوفين يتعرفان على البيولوجيا من الخارج. بدلاً من ذلك، حاججا بأنهما تبنيا ذلك كطريقة ودمجاه في ممارساتهما كبيولوجيين. أهديا الكتاب إلى إنغلز، الذي “أخطأ كثيراً في الكثير من الأحيان ولكنه كان على حق حيث كان مهماً”. (17) يدرك القراء المطلعون على أعمال ليفينز وليونتين أن بينهما مجالاً واسعاً من الاهتمامات. لقد انتقدا بعض الطرق الإحصائية المعتمدة في البيولوجيا، وانتقدا الحتمية البيولوجية (فكرة أن السلوك البشري يفسر بشكل بحت من خلال علم الوراثة) ودافعا عن حقوق العمال المهاجرين من أميركا اللاتينية بالولايات المتحدة.
رغم ذلك، إن إحدى أكثر طرق التفكير التي طورها ليفينز وليونتين هي ما أشارا إليه بفكرة الكائن الحي كموضوع التطور وهدفه. (18) يشير ليونتين على وجه التحديد إلى أن المناهج الكلاسيكية في البيولوجيا التطورية قد نظرت إلى الكائنات على أنها أشياء سلبية لقوى خارجة عن إرادتها. (19) رأى داروين أن الكائنات الحية تستجيب للتغيرات في بيئتها. يختلف الأفراد داخل مجموعة سكانية حول قدرتهم على البقاء والتكاثر ولكن الأمر يتطلب ضغطاً خارجياً من البيئة للعمل على هذا الاختلاف وتحديد الأفراد الأكثر نجاحاً. هؤلاء الأفراد ينقلون جيناتهم إلى الجيل الآتي. عندما يشرح التطور بهذه الطريقة، ينظر إلى البيئة على أنها تقدم نوعاً ما مع مجموعة معينة من المشاكل التي يجب أن تجد حلاً لها عن طريق عملية التجربة والخطأ. على سبيل المثال، بيئة الحوت باردة ومليئة بالكريليات والكائنات البحرية المغذية. “فيحل مشكلة” كيفية العيش في هذه البيئة عن طريق تطوير دهن للبقاء على قيد الحياة في المياه الجامدة، من خلال فم ضخم وبعض التقنيات المدهشة لصيد الطعام. إن طريقة أكل الكريليات التي تسبح في الماء البارد هو ما يشير إليه علماء البيئة على أنه مكانة متميزة.
في حين يرى الداروينيون الكلاسيكيون أن الكائنات الحية تستجيب للقوى المؤثرة عليها من الخارج، يرى حتميو علم الوراثة العكس. إذ يعتبر الأخيرون أن النباتات والحيوانات تستجيب للقوى الداخلية الناتجة عن جيناتها. قارن ريتشارد داوكينز مراراً بين الكائنات الحية والروبوتات: “نحن آلات للبقاء- مركبات الروبوت مبرمجة بشكل أعمى للحفاظ على الجزئيات المعروفة باسم الجينات”. (20) وفق وجهة النظر هذه، تتطور الكائنات الحية ومن بينها البشر وفق مسار محدد مسبقاً تحدده المعلومات المحددة في جيناتنا.
هذا لا يعني أن أياً من المقاربتين خاطئ، أو أنهما غير متوافقين مع بعضهما البعض. حاول دوكينز باستمرار الدفاع عن التطور بمواجهة الخلقيين. ولكن المقاربتين، الأولى التي تركّز على العوامل الخارجية والأخرى التي تركّز على العوامل الداخلية، تنظران فقط إلى جزء من الصورة. حاجج ليفينز وليونتين أن مثل هذه المقاربات تتجاهل الدور الذي يلعبه الكائن الحي عينه في تطوره. (21) ينظر إلى الكائن الحي على أنه مكان سلبي حيث تتفاعل فيه الجينات مع البيئة. يدعي بيولوجيو الديالكتيك أن الكائن الحي هو كذلك، بطريقة ما، ليس مجرد كائن إنما هو “موضوع تطوره الخاص”. (22) تحدد الكائنات مكانة خاصة حول نفسها لأنها تحدد جوانب محيطها المباشر الأكثر صلة. على سبيل المثال، قد يجد نقار الخشب خشب الشجرة مناسباً ولكن الحجارة موجودة عند قاعدة الشجرة. الطيور الأخرى التي تستعمل الحجارة لتحطيم صدفة الحلزون ستجدها مناسبة وتعاملها كجزء من بيئتها. (23) لا يمكننا معرفة المكانة في غياب الكائن الحي الذي يعيش فيها. لم يكن هناك أبداً وظيفة شاغرة لشيء يعيش في المياه الباردة وتنتظر أن يملأها تطور حوت. هذه المكانة الخاصة تطورت في علاقة مع تطور الحوت.
لفت ليفينز وليونتين النظر كذلك إلى الأمثلة الكثيرة للطرق التي تعمل فيها الكائنات الحية على بيئتها إضافة إلى مجرد الاستجابة لها. يبني القنادس Beavers سدوداً لجعل محيطهم المباشر أكثر ملاءمة لهم؛ وتعمل جذور النباتات على تغيير مكونات التربة المحيطة بها بحيث يمكنها استخراج العناصر الغذائية بشكل أسهل. لقد غيرت الكائنات الحية الكوكب بشكل مذهل، حتى أنها غيرت الغلاف الجوي بشكل لا رجعة فيه من ناحية إضافة الأوكسيجين. نحن لسنا مجرد أشياء نتصرف وفق عوامل خارجية. درس ليفينز وليونتين الطرق التي ترتبط بها الكائنات الحية بنشاط البيئة المحيطة بها ما يعني أنه لا يمكن فهم الكائن الحي أو البيئة دون الرجوع إلى الطرف الآخر. هذا في تناقض مباشر مع المقاربات الديكارتية التي قد تحاول النظر إلى كائن حي معزول. إضافة إلى ذلك، تتطور هذه العلاقة مع الزمن مع نمو الكائن الحي- للحيوانات والنباتات تاريخ مشترك.
طبّق جاي غولد ونيلز إلدريدج كذلك فهماً ديالكتيكياً للسيرورات التي تتطور بشكل مفكك وليس بشكل سلس ومتدرج. في نظريتهما عن التوازن المتقطع، يتميز تطور التوازن بفترات طويلة من الركود تتخللها حالات تتطور فيها الأنواع بسرعة كبيرة. (24) اعترف غولد أن النظرية تأثرت بالفلسفة الماركسية وحاجج أن “التفكير الديالكتيكي يجب أخذه بجدية أكبر من قبل الباحثين الغربيين”. (25) ولكن على الرغم من التشابه الكبير بين التوازن المتقطع والرؤى الديالكتيكية حول التدرج والقفزات بقي صامداً بشكل واضح كنظرية. يستشهد ستيفن روز، عالم الأعصاب والكاتب المشهور في فلسفة البيولوجيا، بالتقاليد الديالكتيكية كواحدة من الأفكار التي تأثر بها. (26) حجته القائلة أن الأنظمة المعقدة لديها خصائص لا يمكن تفسيرها بكل جزء بمفرده تشبه بعض الأفكار الديالكتيكية لمفكرين مثل هارفي.
حجج ضد ديالكتيك الطبيعة
رغم ذلك، لم يوافق جميع الماركسيين على فكرة وجود سيرورات ديالكتيكية في الطبيعة بالطريقة التي اعتمدها بيولوجيو الديالكتيك. أثارت وجهة نظر إنغلز حول الموضوع جدلاً منذ نشر كتاب “ديالكتيك الطبيعة” لأول مرة، حيث “شوهت أفكاره من قبل كل من أعدائه والعديد من أصدقائه”. (27) ربما يعود جزء من الارتباك إلى صياغة إنغلز لقوانين الديالكتيك الثلاثة. هذه القوانين- التي أخذها أساساً من الفيلسوف المثالي هيغل- كان من المفترض بإنغلز أن يستعملها لوصف السيرورات في كل من العالمين الاجتماعي والطبيعي. القوانين هي: تداخل التناقضات، وتحول الكم إلى النوع ونفي النفي. وغالباً ما يستعمل أمثلة من العلم والطبيعة لشرح هذه القوانين. بالنسبة لقانون تحول الكمي إلى النوعي، غالباً ما يتذكر الناس تحول الماء إلى بخار بمجرد وصول الحرارة إلى درجة 100. يؤدي التغير الكمي في درجة الحرارة إلى تغير نوعي من حالة إلى أخرى. هناك كذلك موضوع الدجاجة والبيضة. عندما يكسر الصوص البيضة فإنه يدمر هذه البيضة- ينفيها- ولكن عندما يتحول إلى دجاجة/ديك فإنه ينفي الصوص، وبذلك يشكل نفي النفي.
باختيار هذه الأمثلة المحددة، غالباً ما نعتبر أن العمليات الديالكتيكية موجودة في الطبيعة أمراً مسلماً به. ولكن هذا الافتراض يرفضه العديد من المعلقين الماركسيين. إن تفاهة بعض الأمثلة هي إحدى الأسباب التي جعلت البعض يشكك بفكرة ديالكتيك الطبيعة. يشير إيان بيرشال عن حق إلى أن “صناعة الثورة… هي أكثر تعقيداً من تسخين كوب شاي- أو حتى تربية الدجاج”. (28) كما جرى انتقاد ديالكتيك الطبيعة لإيجاد دليل مناسب لمجموعة من القوانين الاعتباطية إلى هذا الحد أو ذاك. يجب أن يكون ممكناً العثور على دليل في العالم “الطبيعي” لقوانين مثل نفي النفي إذا نظرت بجدية كافية وكنت على استعداد لأن تكون انتقائياً حيال الأمثلة التي تختارها. وهذا ما قاد جان بول سارتر إلى القول “إن الديالكتيك الوحيد الذي سيجده المرء في الطبيعة هو ديالكتيك وضعه هو هناك”. (29)
يحاجج البعض أن إنغلز كان على خطأ بشكل أساسي في مقترحه. يقولون إنه لم يفهم منهج ماركس الديالكتيكي أو أفسده بتوسيع نطاقه إلى ما بعد الأسئلة الاجتماعية أو التاريخية. كتب جورج ليشتيم، في أوائل الستينيات عندما كان العديد من الأكاديميين الماركسيين يسعون إلى تحرير الماركسية من الارتباط بالستالينية، حيث حاجج أن إنغلز كان هو المشكلة. بالنسبة إلى ليشتيم وسواه من اليسار، إن فكرة وجود “قوانين” في الطبيعة لا يمكن التوفيق بينها مع فكرة بناء الاشتراكية من الأسفل. تشير القوانين إلى أن الطبيعة- وبالتالي التاريخ البشري- تتخذ مساراً محدداً سلفاً. وإذا كان التاريخ محدداً سلفاً فلا دور فيه للفعل الواعي للطبقة العاملة. وإذا أردنا تلخيص الديالكتيك بمجموعة من ثلاثة قوانين، فإننا نجازف بقطع روابطه مع الواقع المحسوس الذي من المفترض أن ينشأ منه. قد يدل تطبيق القوانين على الطبيعة إلى تمييز ثنائي بين الأفكار والواقع حيث يحدد الأول الآخر. كيف يمكن التوفيق بين هذا ومفهوم الماركسية التي تحاجج بوحدة النظرية والممارسة؟ في الستينيات والسبعينيات، أصبح مقبولاً بين الأكاديميين اليساريين من مختلف الاتجاهات أن أفكار إنغلز كانت أصل التفسير الستاليني للاشتراكية- أي كشيء يمكن أن يفرض على الطبقة العاملة من قبل نخبة تستولي على المجتمع. حتى أن البعض استشهد بتعليقات إنغلز حول الطبيعة لنفي مساهمته بالتقليد الماركسي بشكل كامل. (30) مؤخراً، وجد الكتّاب حول الجندر، مثلاً، أنه من الأسهل بكثير قبول موقف ماركس “الأكثر دقة”، في حين تبدو وجهة نظر إنغلز “علموية” و”حتمية”. (31)
رغم ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يكون ماركس وإنغلز قد اختلفا بشكل جوهري حول مسائل العلم والطبيعة خلال حياتهما. في وقت لاحق من حياتهما استعملا نوعاً من تقسيم العمل حيث تعامل إنغلز مع العلم في حين ركز ماركس على كتابة رأس المال. لكنهما تبادلا الزيارات في الكثير من الأوقات، خاصة بعد انتقال إنغلز إلى لندن عام 1870، وكانا يناقشان بشكل منتظم عمل كل منهما. لا يوجد في المراسلات فيما بينهما ما يدل على أنهما قد اختلفا بالرأي. هذا لا يعني أن ماركس كان جاهلاً بما خص العلم. في الواقع، غالباً ما اختار أمثلة من الكيمياء والفيزياء لتوضيح النقاط في رأس المال. وقد استعمل أمثلة مثل الحركة البيضاوية في الفيزياء لتفسير التناقض (32) كما استشهد بالكيمياء العضوية. يوضح ماركس أن إجراء تغيرات كمية على البنية الكيماوية للمركّب الكيميائي- إضافة نسب مختلفة من الكربون والأوكسيجين والهيدروجين- يمكن أن يؤدي إلى اكتساب تلك المواد خصائص مختلفة من الناحية النوعية. (33)
صحيح أن كتاب إنغلز ديالكتيك الطبيعة كان مؤثراً في الاتحاد السوفياتي بعد نشره هناك عام 1925. ولكن كانت نسخة الديالكتيك التي استعملها الستالينيون مرتبطة بالتطبيق الصارم لقوانين إنغلز الثلاثة. فقد كرر ستالين القوانين ووافق أتباعه على مفهوم ديالكتيك الطبيعة، وعلى ما يبدو، من دون تدقيق. وجد الأساتذة الذين كانوا في السابق قادة المؤسسات يحل مكانهم زملاؤهم المبتدئون الذين أعلنوا ولاءهم للمادية الديالكتيكية، أو التفسير الستاليني لها. وجد العديد من الباحثين المحترمين السابقين أنفسهم معتقلين أو حتى مقتولين. تروفيم ليسينكو، الذي رفض علم الوراثة باعتباره انحرافاً برجوازياً، جرى تعيينه على رأس معهد علم الوراثة. كانت هذه الهجمات على العلم جزءاً من حملة شاملة لـ”بلشفة” كل أنحاء الحياة الفكرية. وقد كان ذلك بشكل جزئي لإجبار العلم على اللحاق بالاحتياجات الخاصة بالاتحاد السوفياتي، للحفاظ على نفسه كقوة عالمية. لم يكن هناك من وقت للعلم البحت. كان على الباحثين تبرير عملهم عبر إثبات صلته بخطط ستالين الخمسية للنمو الاقتصادي. ولكن كان كذلك جزءاً من جهد أيديولوجي لتبرير وجود الاتحاد السوفياتي، سواء لمواطنيه أو لمؤيديه المحتملين في الغرب، كمجتمع يعمل بكامله لصالح البروليتاريا. (34)
لذلك يمكن أن يكون إنغلز قد لعب دوراً عن غير قصد في هذه المحاولة المروعة لمحاولة إجبار العلم على أن يكون أكثر “ديالكتيكية”. لكن آخِر ما قصده إنغلز هو اعتماد مقاربة دوغمائية في الديالكتيك. بالطبع، كان ديالكتيك الطبيعة عملاً غير منجز- مجرد سلسلة من الملاحظات التي كان يمكن أن يراجعها إنغلز بشكل كبير إذا كان قد نشرها بنفسه. تحاجج إيلينا شيهان، في كتاب الماركسية فلسفة العلم، بأن عمله حول الموضوع يجب النظر إليه على أنه مؤشر إلى المجالات التي تتطلب المزيد من البحث بدلاً من اعتباره الكلمة الأخيرة في هذا المجال. (35) هذا الموقف أشار إليه إنغلز كذلك من خلال تعليقاته المتعلقة بالعلم، من جديد، في كتاب لودفيغ فيورباخ. هنا ناقش المساهمة المفيدة المحتملة لفلسفة هيغل، والتي اشتق منها القوانين الثلاثة، ورفض بعض تفسيرات هيغل المحافظة. يفيد إنغلز: “إن المحتوى الدوغمائي الكامل للنظام الهيغلي يعلن أنه حقيقة مطلقة، بما يتناقض مع مقاربته الديالكتيكية، التي تقضي على الدوغمائية. وبذلك يصبح جانبه الثوري مخنوقاً تحت النمو المتزايد لجانبه المحافظ”. (36)
هنا يبدو أنه يقول إن قوانين هيغل يجب أن تترك مفتوحة للتقييم ولإعادة التفسير. إنها ليست مجموعة ثابتة من القوانين. رغم ذلك، هذا لا يعني أنه قصد أن يكون الديالكتيك مجرد منهج. إنما يبدو واضحاً كذلك، على الأقل بما خص إنغلز، أن طرق التفكير في العالم لا يمكن فصلها عن الطبيعة الحقيقية للعالم الذي نهدف إلى دراسته.
لوكاش وديالكتيك المجتمع
كان عمل الماركسي الهنغاري جورج لوكاش أداة قوية على نحو خاص ضد ديالكتيك الطبيعة. كان لوكاش معنياً بالتطبيق العملي للفلسفة الماركسية، مع الديالكتيك كوسيلة للثورة. اشتهرت أفكار لوكاش بتغيرها طوال حياته وسيكون مستحيلاً الكتابة عن كل أفكاره بالتفصيل في هذه الورقة. مع ذلك إن مقاربته المبكرة حول الفلسفة الديالكتيكية تظهر بشكل واضح أكبر في عمله الكلاسيكي “التاريخ والوعي الطبقي”، الذي نُشر عام 1923 خلال نفيه في فيينا. كان لوكاش عضواً قيادياً في الحزب الشيوعي الذي تزعمه بيلا كون، على الرغم من أن اليسار كان يهيمن عليه الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأكبر بكثير. وقد أجبر على الفرار من هنغاريا بعد استيلاء الجنرال هورثي على البلد الذي منع الشيوعية فضلاً عن إعدام وسجن الآلاف من أنصارها. (37)
حاجج لوكاش أنه لا يمكننا فوراً فهم الطبيعة الحقيقية للعالم حولنا. نحن نعيش ونفكر في مجتمع برجوازي يشوه أفكارنا. تحت الرأسمالية، يتخذ العديد من الأشياء الأكثر أهمية لنا شكل السلع التي يمكن استبدالها بالمال. بالتالي، إن الخصائص المادية للسلع، وأصلها الاجتماعي يحجب لأن خاصية واحدة تصبح ذات صلة: سعرها في السوق. حاجج ماركس أن التبادل الرأسمالي للسلع يتبع منطقه الخاص- ويمكن أن يعطي إحساساً بالحتمية. وكما كتب لوكاش في كتاب التاريخ والوعي الطبقي:
“موضوعياً ينبثق عالم من الأشياء والعلاقات بين الأشياء (عالم السلع وحركتها بالسوق). يكتشف الإنسان بالفعل القوانين التي تحكم هذه الأشياء بالتدريج، لكن مع ذلك فإنها تواجهه كقوى غير مرئية تولد قوتها الخاصة”. (38)
لذلك نعتقد أن النظام الرأسمالي يتكون من سلسلة أشياء مرتبطة ببعضها البعض ولكن هذا يحجب حقيقة معقدة أكثر. حاجج لوكاش أن الطبقة العاملة قادرة بشكل فريد على فهم النظام الرأسمالي بطريقة لا تستطيعها الطبقة البرجوازية. هذا لأننا أساسيين في الحفاظ على استمرار الرأسمالية. نحن نبيع قوة عملنا للرأسماليين لقاء ثمن، بالتالي إن قدرتنا على العمل، بشكل ما، تحولت إلى سلعة. لا تكتفي البروليتاريا بمراقبة كيفية عمل الرأسمالية من الخارج إنما من داخل الرأسمالية. اعتمد لوكاش نفس مقاربة ماركس في رؤيته للنظرية كأداة للنضال الطبقي التي لا يمكن فصلها عن الممارسة: “الديالكتيك المادي هو ديالكتيك ثوري”، (39) طريقة لفهم السيرورات في العمل بالمجتمع الذي نحيا فيه ولكن أيضاً أداة لتغيير هذا المجتمع. ركز لوكاش على دور الطبقة العاملة في كشف حقيقة المجتمع الرأسمالي. لكن لم يكن لديه الكثير لقوله بموضوع الطبيعة، حيث أظهر “اهتماماً على نحو خاص بالديالكتيك في المجتمع”. (40). معالم العالم الطبيعي- الحيوانات والنباتات والحجارة..- لا تأخذ ذات الدور الفريد مثل موضوع وهدف التاريخ الذي تأخذه الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي، بحسب لوكاش. هذه الكائنات لا تنخرط بالصراع الطبقي.
غالباً ما يُفترض أن لوكاش قد رفض مفهوم ديالكتيك الطبيعة بالكامل، وهو افتراض يعود كثيراً إلى المقطع التالي في كتاب التاريخ والوعي الطبقي: “إن سوء الفهم الذي ينتج عن عرض إنغلز للديالكتيك يقوم بشكل أساسي على واقع أن أنغلز- محتذياً بنموذج هيغل الخاطئ- وسّع المنهج الديالكتيكي كذلك ليشمل معرفة الطبيعة”. (41) مع ذلك، يتساءل جون ريس عما إذا كان لوكاش قد رفض بالكامل فكرة ديالكتيك الطبيعة. انتقد لوكاش إنغلز لمساواة الطرق التي ندرس فيها المجتمع مع تلك التي ندرس فيها الطبيعة. بالنسبة إلى لوكاش، لا يمكننا مقاربة دراسة المجتمع من زاوية مراقب موضوعي من بعيد، بنفس الطريقة التي (يفترض أننا) ندرس فيها الطبيعة. نحن جزء من المجتمع الذي نراقبه من الداخل. لا يعني بالضرورة عدم وجود ديالكتيك الطبيعة. رغم ذلك، إن أي سيرورات جدلية تحصل في الطبيعة دون التدخل الواعي للبشر ستكون مختلفة عن تلك التي نلاحظها في المجتمع. (42) ومن الجدير ذكره أنه عام 1923 لم يكن لوكاش قد قرأ ديالكتيك الطبيعة وبالتالي لم يكن يردّ على هذا النص على وجه التحديد، الذي لم يكن قد نشر بعد.
ماذا نعني بالطبيعة؟
تساءل المعلقون اللاحقون إذا كان ممكناً عزل المجتمع البشري ومعاملته على أنه منفصل عن العالم الطبيعي كما فعل لوكاش. قال أنطونيو غرامشي عن لوكاش إنه “إذا كان تأكيده يفترض بشكل مسبق وجود ازدواجية بين الطبيعة والإنسان فهو على خطأ”. (43) لتقييم ما إذا كان هناك أي شيء في فكرة ديالكتيك الطبيعة، يبدو أننا نحتاج على الأقل إلى الاتفاق على فكرة عما تعنيه “الطبيعة” فعلياً. هذا السؤال غالباً ما جرى استبعاده من هذه الحجج. يتركز النقاش حول ما هو الديالكتيك- وهذا الأمر ما زال موضع نقاش. ولكن من الصعب تحديد مفهوم الطبيعة. يشير ريمون ويليامز على أن [الديالكتيك] “ربما هو الكلمة الأكثر تعقيداً في اللغة”. (44) لذلك إن التوصل إلى تعريف محدد سيكون بكل تأكيد خارج نطاق هذه الورقة. ولكن يمكننا على الأقل التساؤل عن بعض الافتراضات الأكثر رجعية حول ما تعنيه كلمة الطبيعة.
جرى تطوير بعض أكثر الأفكار الثاقبة حول الطبيعة في تخصصي، الجغرافيا. ربما يعود ذلك إلى تاريخ الموضوع. تقليدياً، كان الجغرافيون هم الأشخاص الذين يسافرون حول العالم ويراقبون المجتمعات البشرية المتعددة ويقترحون كيف يمكن للبيئات التي يعيشون فيها أن تؤثر عليهم. مثلاً، نشر الجغرافيون الأوائل أسطورة عنصرية تعتبر أن الناس من المناطق الحارة يميلون إلى أن يكونوا أفقر لأن الظروف المناخية تشجع على الكسل. اليوم (أغلب) الجغرافيين هم الأكثر انتقاداً لفكرة أن البيئة تؤثر على المجتمع بشكل بسيط وأحادي. لكن الاهتمام بالعلاقة بين المجتمع والطبيعة ما زال قائماً. وغالباً ما توصف الجغرافيا بأنها فرع من فروع المعرفة الرابطة بين العلم الاجتماعي، والعلم الطبيعي. (45)
كان الراحل نيل سميث أحد أبرز الجغرافيين الذين اتخذوا مقاربة ماركسية واضحة لهذه الأسئلة (نشرت أطروحته للدكتوراه في كتاب: التطور المتفاوت). (46) حاجج سميث أن العديد من أفكارنا حول الطبيعة يمكن ربطها بأيديولوجية المجتمع الطبقي، والرأسمالية كشكل محدد من المجتمع الطبقي. هدف بحثه إلى إضافة جوهر إلى الرؤى الجزئية التي تركها ماركس في مقاربته حول الطبيعة. نميل إلى رؤية الطبيعة على أنها شيء خارج الإنسانية. العالم “الطبيعي” هو البرية خارج حدود المدن، وجنة لم يمسها التدخل البشري. تعتبر صور الطبيعة هذه أساسية في أيديولوجية الكثير من المفكرين البيئيين “العميقين”. بالطبع، الكثير من الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم من البيئيين قلقين جداً بما خص رفاهية البشر. مع ذلك، إن أيديولوجية حماية الطبيعة الخارجية يمكن أن تكون غير مفيدة سياسياً. لقد تعزز الاعتقاد أن حاجات البشر تتعارض مع حاجات العالم الطبيعي والتي يمكن سماعها في الحجة المستمرة بأننا بحاجة إلى الحد من النمو السكاني بهدف حماية الطبيعة. وقد أثبت ذلك عبر ملاحظات دافيد أتينبورو الأخيرة التي تفيد أن البشر “وباء على الأرض”. (47) كذلك، هناك تأكيد على دعم فكرة الشكل المثالي للطبيعة الذي يمكن فصله عن المجتمع البشري من قبل أشخاص لا يهتمون كثيراً بحمايتها. يحاجج التكنوقراطيون بأنه يمكن السيطرة على الطبيعة. ويقترحون أنه يمكننا حل كل المشاكل البيئية عبر تطوير تكنولوجيا معقدة أكثر. يمكننا إدارة مجتمعاتنا وفق نفس القواعد الاقتصادية كما في السابق ومعالجة الطبيعة بكل بساطة كعامل خارجي يمكن إدارته. (48) سواء كانت الطبيعة جنة أو مورداً لنا لاستغلاله، لا تزال تعرّف على أنها من خارج المجتمع. كل هذه المقاربات مبنية على ثنائية الطبيعة-المجتمع.
كما تعزز الثنائية فكرة الطبيعة العالمية غير المتغيرة. يحاجج المفكرون البرجوازيون أنه بما أن الطبيعة موجودة بشكل مستقل عن المجتمع إذاً فما هو “طبيعي” يجب ألا يتغير أبداً. يمكن استعمال مناشدات [الحفاظ على] الطبيعة لتبرير بعض الأفكار الأكثر تحفظاً حول المجتمع، مثل الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتغير أبداً. كذلك ينظر إلى المؤسسات مثل الزواج، كمسألة غيريّة حصراً، وأنها جزء من النظام “الطبيعي” للأشياء. تلاحق الرأسمالية العالم للبحث عن طرق جديدة لتدمير الموارد الطبيعية، لكن المدافعين عنها يلحون على أن أسلوب حياتهم يجب أن يبقى كما هو.
إذا كان الفكر البرجوازي يعتبر الطبيعة برية لم تمس فهذا لا يخدم إلا إلى حجب الواقع الحقيقي. البشر ليسوا موجودين في الطبيعة فحسب، إنما يؤثرون كذلك على هذا العالم. تُعامل أنواع مختلفة من المجتمع الطبيعة بطرق عديدة جداً. تميل الرأسمالية إلى معاملة كل جانب من جوانب الطبيعة على أنه شيء يمكن أن يصبح سلعة للتبادل في السوق. لا يوجد عالم طبيعي خارج تأثيرها. حتى من خلال التفكير بالطبيعة، نحن مضطرون إلى التفكير بها بطريقة محددة وفقاً لاحتياجات أي نوع من المجتمع نعيش فيه. ولكن بشكل عام نحن لا نفكر في البيئة فقط، إنما نجد طرقاً جديدة لتحويلها إلى مصدر ربح أو مكب لنفاياتنا. حاجج سميث بأنه “على شكل بطاقة سعر، تسلم كل قيمة استعمالية دعوة لعملية العمل، ورأس المال- بحكم طبيعته الاجتماعية المثالية- يندفع لتحقيق السلع مع كل دعوة”. (49)
لقد أصبح واضحاً بشدة مع ظهور أسواق الكربون، والتي تضع قيمة نقدية فعلية للهواء الذي نتنفسه. بالنسبة لسميث وآخرين، كانت نظرية “إنتاج الطبيعة” ترياقاً للافتراضات الثنائية. المحاججة بأن الطبيعة منتجة لا يعني أننا نحن البشر نخلق فعلياً جوانب منها؛ نحن لا نبني الجبال. مع ذلك، نحن فعلياً ننتج كائنات جديدة (من خلال التعديل الوراثي) وأنظمة بيئية جديدة مثل التصحر الذي حصل نتيجة قطع الغابات. يمكن القول إن أفعالنا تنتج طبيعة جديدة داخل تلك القديمة. هناك أجزاء قليلة من العالم لا تتأثر بالبشر. حاجج ماركس بأنه حتى في أيامه لم يبقَ سوى القليل من “البرية”. (50)
اعتبر ماركس أن الفصل الأيديولوجي بين المجتمع والطبيعة هو جانب من جوانب المجتمع الطبقي، وليس شيئاً كان موجوداً دوماً. وبحسب سميث: “إن فكرة هيمنة الطبيعة بدأت بالنظر إلى الطبيعة والمجتمع كعالمين منفصلين وتحاول توحيدهما. في حين اعتبر ماركس العكس. إذ يبدأ بالعلاقة مع الطبيعة كوحدة وتُشتق منها كنتيجة تاريخية ومنطقية في الوقت عينه مهما كان الفصل بينهما”. (51)
يمكن كذلك وصف هذه المقاربة بأنها ديالكتيكية. بحسب الطريقة التي طورها ماركس واستعملها في كتاب رأس المال، استعمل ما اعتبره أولمان مستويات مختلفة من التعميم. (52) الكون بمجمله معقد ومتغير دوماً. كل شيء مرتبط بكل شيء آخر. لكن سيكون مستحيلاً محاولة التفكير عن مجمل الكون كله مرة واحدة. لذا استعمل ماركس الديالكتيك لتركيز انتباهه على جوانب عديدة في العالم. في بعض الأوقات أشار إلى السيرورات على مستوى المجتمع الرأسمالي، وأحياناً المجتمع الطبقي بشكل عام. أحياناً وسّع نطاق حججه بشكل أكبر من خلال اقتراح أن ما يشير إليه يرتبط بالعالم الطبيعي بمجمله. غالباً ما يكون من المنطقي الإشارة فقط إلى ما يحدث بين البشر لإثبات نقطة محددة، على سبيل المثال، لتفسير العلاقة بين الرأسمالي والعامل. في بعض الأوقات يكون من المنطقي الإشارة كيف يتعامل الرأسماليون والعمال في المجتمع الرأسمالي، لكن هذه العلاقة لا تنوجد على نحو مستقل عن السياق الموجودة فيه. بالنسبة إلى أولمان، الداعم للحجة القائلة إن ماركس، كما إنغلز، قصد أن يكون الديالكتيك قابلاً للتطبيق على المجتمع والطبيعة- وليس المجتمع فقط. إن النظر إلى العالم الطبيعي ككل، حيث يعتبر المجتمع البشري جزءاً منه، هو رؤية الأشياء على مستوى مختلف من التعميم عن المستوى الذي قد يستعمله أحدهم لتقديم حجة محددة عن المجتمع البشري.
إذاً، إن السؤال المطروح على ماركس والماركسيين لا يتعلق كثيراً بكيفية ارتباط المجتمع والطبيعة ببعضهما البعض. عوضاً من ذلك، ينبغي التساؤل كيف حصل فصل هذين الجانبين من المجموع بالدرجة الأولى. هذه النقطة اشتغل عليها جون بيلامي فوستر، الذي أعاد إحياء مفهوم ماركس عن الصدع الاستقلابي. (53) حاجج ماركس أن البشر يتفاعلون بشكل استقلابي مع العالم الذي يحيط بنا. إن قدرتنا على العمل- استعمال قوة عملنا- تسهل هذا التفاعل. تسلع الرأسمالية قوة العمل وتحولها إلى مصدر ربح. إنها تخلق كذلك في الوقت عينه صدعاً استقلابياً بين البشرية والطبيعة. لذا إن الصدع هو عرضي تاريخياً، وقد نشأ مع تطور الرأسمالية. يصف ماركس في إحدى فقرات الجزء الثالث من كتاب رأس المال كيف أن الظروف التي أنتجتها الرأسمالية “تسبب صدعاً لا يمكن إصلاحه في السيرورة المستقلة للاستقلاب الاجتماعي، استقلاب نجده في القوانين الطبيعية للحياة نفسها”. (54) أكد ماركس في هذا المقطع أن هناك شيئاً مثل الطبيعة (لا بل يذهب أبعد من ذلك ليشير إلى وجود قوانين طبيعية). لم يكن ليرى الطبيعة على أنها مبنية اجتماعياً بالكامل بالمعنى الأقصى الذي يستعمل فيه هذا المصطلح أحياناً. سيكون غير متسق مع مقاربة ماركس وإنغلز التركيز بالكامل على الطبيعة/البيولوجيا كما لو أنهما منفصلين عن المجتمع. ولكن إذا كان الاثنان غير منفصلين، سيكون صعباً كذلك تركيز انتباه المرء بالكامل على الجانب الاجتماعي للمعادلة والنظر إلى الطبيعة على أنها محددة من المجتمع فقط.
إذا أنتجنا الطبيعة، إن علاقتنا معها ستكون أكثر تعقيداً بكثير من علاقة الهيمنة أو الإدارة. مع ذلك، إن هذا يعني كذلك أنه يمكننا تغيير الطريقة التي ننتج بها الطبيعة. يجب أن نستمر بمحاولة منع سيرورات مثل التغير المناخي وانقراض الأنواع ولكن لا ينبغي تخيل أن ما نقوم به هو إعادة البيئة إلى حالة طبيعية متخيلة قبل وجود البشر.
بدلاً من ذلك، يجب توجيه انتباهنا إلى الطرق التي تنتج فيها الطبيعة، ونحو أهداف ومصالح من. رفض نيل سميث الحجة المتشائمة القائلة أن البشرية تستغل البيئة دوماً. وقد حاجج من أجل اشتراكية تقوم على سيطرة الناس العاديين على إنتاج الطبيعة. إذا رأينا الديالكتيك الموجود فقط في المجتمع فإننا نجازف بتعزيز وجهة النظر القائلة بأن الطبيعة هي عالم منفصل تماماً، وذلك هو نوع من الثنائية التي حاجج ضدها نيل سميث وجون بيلامي فوستر وسواهما. ربما تكون هذه الثنائية هي السبب بأن أشخاصاً مثل غرامشي قد شككوا في ميل لوكاش لمحاولة الفصل بين الطبيعة والمجتمع. رغم ذلك، كان لوكاش على خطأ بشأن الطبيعة، لكن هذا لا يعني أن أفكاره لا أهمية لها بما يتعلق بالسياسات البيئية التقدمية. طبق المفكرون الحديثون، وخاصة في مجال الجغرافيا، أفكار الماركسيين مثل لوكاش وغرامشي والفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر على الأسئلة المتعلقة بالعالم الطبيعي. (55)
النقاشات حول ديالكتيك الطبيعة لها أهمية أكبر للنظرية الماركسية من العلاقة بين ماركس وإنغلز أو حتى السؤال المهم حول مقاربتنا للطبيعة. إنها تأخذنا إلى جذور الأسئلة حول أي نوع من الفلسفة الماركسية وماذا يفترض أن تستعمل هذه الفلسفة. يبدو أن إنغلز كان يحاول فهم أمر أساسي حول الطريقة الأساسية التي يعمل بها العالم. لقد رأى أن الديالكتيك يصف سيرورات مادية حقيقية. وعندما يقول إن التغيير الكمي يؤدي إلى تغيير نوعي هذا لا يعني فقط أنه طريقة مفيدة التعامل مع العالم كما لو كان يحصل ذلك أو للتفكير بهذه الطريقة. إنه يعني أن ذلك يحصل بهذه الطريقة. لا يتفق كل الفلاسفة حتى على أن العالم موجود خارج عقل الإنسان الذي يفكر. ومحاولة فهم شيء ما حول كيفية عمل هذا العالم ليس دوراً مقبولاً عالمياً للفلسفة. (56) بالنسبة للعديد من المفكرين، إنه لطموح كبير جداً محاولة المحاججة بأن هناك قوانين أو سيرورات أساسية تحكم الواقع وأنه يمكننا فهم هذه القوانين.
مع ذلك، إن هذه المقاربة المادية للفلسفة تتماشى مع مقاربة ماركس حيال المسائل الاجتماعية. وافق ماركس، في أطروحاته حول فيورباخ، أن “الخلاف حول واقع ولاواقع التفكير المنعزل عن الممارسة هو سؤال أكاديمي بحت”. (57) إذا كنا نهدف إلى تغيير العالم، فمن المنطقي أننا يجب أن نتفق على وجود العالم. ويجب التعامل بجدية أكبر مع مشروع محاولة فهم هذا العلم. إن الماركسية، بالطبع، تتعلق بالتدخل في العالم، وليس مجرد تفسيره. ولكن الاثنين، بالنسبة ماركس، لا ينفصلان. نحن نفسر العالم من خلال التدخل فيه والتدخل يكون بناء على تفسيرنا.
لماذا لا يوجد المزيد من علماء الديالكتيك؟
ولكن إذا كانت تحصل سيرورات ديالكتيكية حقيقية في العالم الطبيعي، فإن ذلك يطرح سؤالاً حول سبب اعتراف عدد قليل من العلماء الذين يدرسون الطبيعة به علناً. لماذا لا يوجد المزيد من علماء الديالكتيك؟ يمكن الرد بأن هناك الكثير من الحجج، ليس فقط في العلوم، حيث يشعر الماركسيون أن أفكارهم صحيحة ولكن لا يوافق عليها أغلبية الناس. لماذا لا يوجد المزيد من الاقتصاديين الذين يقبلون بنظرية ميل معدل الربح إلى الانخفاض؟
غالباً ما نفترض أن العلم محايد. بكلمات أخرى، نميل إلى الاعتقاد بأنه عندما يلاحظ العلماء العالم الطبيعي، أن أساليبهم في الاستقصاء تسمح لهم باكتساب فهم موضوعي للعالم لا يستطيعه بقيتنا. مع ذلك لا يعيش العلماء خارج المجتمع. تعكس نظرياتهم، إضافة إلى أنواع الأسئلة التي تعتبر جديرة بالبحث، نوع المجتمع الذي يعيشون ويعملون فيه. لذلك يمكن القول إن العلماء يراقبون العالم الطبيعي ولكن من منظور اجتماعي يشوه وجهة نظرهم. (58) تحتاج الرأسمالية، كما اعترف لوكاش، إلى تحويل جوانب العالم الطبيعي إلى سلع للتبادل في السوق. ركز الباحثون العاملون على زيادة معدلات التمثيل الضوئي (photosynthesis) في النباتات على أنزيم واحد في ورقة نبات تسمى روبيسكو. إنهم يحاولون جعل هذا الأنزيم يعمل بكفاءة أكبر حتى يتمكنوا من هندسة نبتة تنتج محاصيل أكبر للمزارعين من الأصناف الموجودة. (59) من الممكن رؤية كيف يمكن لمثل هذا النظام تشجيع العلم على رؤية العالم بطريقة اختزالية بدلاً من طريقة ديالكتيكية. حاجج فيل غاسبر بأن الميل إلى الاختزالية يعكس هيمنة الفردية على المجتمع الرأسمالي. (60) ليس مفيداً لهؤلاء العلماء على نحو خاص أن يروا الأنزيم الذي يحاولون تحسينه كمجموعة معقدة من السيرورات أو أن ينظروا إليه في علاقة متطورة تاريخياً مع بيئته. هم أكثر قدرة على العمل على هذا الأنزيم إذا كان بإمكانهم التعاطي معه كما لو كان منفصلاً عن بقية النباتات.
يطرح جون بارينغتون وجهة نظر مماثلة. يحاجج بأن الاختزالية هي “الاعتقاد أن النظام يمكن فهمه بشكل أفضل من خلال تشريحه إلى أجزاء ودراسته بشكل فردي”، وقد وفر أداة قوية في بحثه في البيولوجيا الجزيئية لخصوبة الإنسان. (61) رغم ذلك، إن الاختزالية تصل إلى حدود فائدتها عند محاولة فهم كيف تتناسب رؤاها مع صورة أوسع. إنها مسألة إشكالية على نحو خاص عند استعمالها لمحاولة تفسير الآثار الاجتماعية للبحوث البيولوجية- عندما تنتقل من كونها طريقة إلى أيديولوجيا.
يمكن اتهام بيولوجيي الديالكتيك- ليفينز وليونتين وعدد قليل سواهما مثل ستيفن روز- باتباع نسخة مخففة من الديالكتيك. إنهم لا يأخذون بعين الاعتبار صراحة قوانين الديالكتيك الثلاثة الشهيرة. حاجج كريس هارمان بأنه إذا لم نعترف بالدليل على وجود هذه القوانين الهيغلية في الطبيعة، وخاصة نفي النفي، فإننا نفتقد “مسألة مركزية”. (62) حاجج هارمان بأن الكائنات الحية لا ترتبط فقط ببيئاتها ولكنها “تنفى” من قبل هذه البيئات. يجب اعتبار الطريقة التي تتفاعل فيها مع تلك البيئات كمثال على نفي النفي. بالنسبة إلى هارمان، إن القدرة على التصرف بالبيئة أمر شائع للعديد من أنواع الكائنات الحية. ولكن، وعلى العكس من ليفينز وليونتين، حاجج أن أولئك الذين طوروا الوعي- أي البشر- يمكن اعتبارهم بأنهم انتقلوا من كونهم أشياء إلى أن باتوا مواضيع. وحدهم البشر قادرون على التحكم بالعالم من حولنا بدلاً من الاستجابة للبيئة “استجابة عمياء”. (63)
أشار كريستوف نيرس، عالم الأجنة الألماني، بشكل واضح إلى أوجه الشبه الرسمية بين السيرورات في البيولوجيا وقوانين هيغل في ورقة علمية حديثة. (64) أضاء نيرس على الطريقة التي تتطور فيها أجنة الحيوانات في المراحل المبكرة جداً، قبل وقت طويل من انتقالها من كونها كرة من الخلايا إلى جنين يمكن التعرف عليه. تطلق مواد كيماوية تسمى مورفوجينات بواسطة الخلايا الموجودة من جانب واحد في الجنين. هذا الجانب يبدأ بالتطور إلى ما سيصبح عليه، في الفقريات، الجانب الذي يوجد في الحبل الشوكي. ثم يؤدي ذلك إلى إطلاق مواد كيماوية مختلفة في الجانب الآخر تعمل ضد انتاج المجموعة الأولى من المورفيجينات (تنفيها). وتنفي هذه بدورها في الجانب الظَهري. تعتبر هذه من أهم مراحل نمو الحيوان. بها تبدأ السيرورة التي ستؤدي إلى تكوين حيوان يبدأ برأس وينتهي بذيل بدلاً من كتلة متجانسة من الخلايا. ولا يمكن أن يكون أكثر شبهاً بمقولة نفي النفي.
مع ذلك، إن الإشارة إلى أمثلة مثيرة للاهتمام لقوانين هيغل في “الطبيعة” لا تعطي الكثير من الأدلة حول كيف يمكن للعلماء استعمال هذه القوانين. إذا كان من المتوقع أن يبدأ العلماء من فكرة أنهم يخرجون ويبحثون عن أمثلة للقوانين في عملهم (وهذا لم يقترحه كريس هارمان)، إن ذلك يخاطر بتحويل الديالكتيك إلى مسألة أكاديمية. يذكر جميع البيولوجيين المذكورين أن ما يفعلونه عندما يذهبون إلى المختبر هو نفس العلم باستعمال نفس الأساليب مثل أي شخص آخر. يعتبر الديالكتيك بالنسبة لهم وسيلة لتفسير تجاربهم وليس عذراً لعدم القيام بهذه التجارب. إن معرفة قوانين الديالكتيك ليست بديلاً عن الفهم العلمي القائم على فهم ظواهر مادية محددة.
الخلاصة
غالباً ما نفسر الديالكتيك باستعمال أمثلة من العلم والطبيعة- لكن الفكرة القائلة إن الديالكتيك وثيق الصلة بهذه المجالات ليست مقبولة عالمياً. يرفض العديد من الماركسيين فكرة ديالكتيك الطبيعة بشكل تام. ولكن هناك كذلك تقليد من المقاربات الماركسية التي ترى في فصل الطبيعة عن المجتمع جزءاً من الأيديولوجيا الرأسمالية. إذا شككنا في الفجوة بين المجتمع والطبيعة واتفقنا على أن الديالكتيك يوضح لنا شيئاً حول المجتمع، فهل يمكن بعد ذلك المحاججة باستمرار أنه ليس لديه ما يقوله عن الطبيعة؟
ديالكتيك ماركس وإنغلز هو فلسفة مادية. إنه يتعامل مع العالم كما لو أنه يتغير لأنه يتغير، ومتناقض لأنه متناقض. العالم “الطبيعي” يتغير حقاً. تجاوز تركز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي مؤخراً 400 جزء في المليون لأول مرة منذ بدء قياسه عام 1958. هذه المستويات من الغاز في الغلاف الجوي تتأرجح بين معدلات مختلفة، ولكن من الممكن أن تصل قريباً إلى مستويات ستتسبب بمتغيرات لا عودة فيها. إذا بدأ الجليد السيبيري بالذوبان، يتوقع العلماء أن تطلق كميات كبيرة من غاز الميثان الموجود في الجليد. الميثان هو كذلك من الغازات الدفيئة وهو أقوى بكثير من ثاني أوكسيد الكربون، لذلك يمكن أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع قياسي بدرجات الحرارة- من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى ذوبان المزيد من الجليد. ليس الأمر أن الأرض لم تكن حارة من قبل- فذلك ليس غير طبيعي- إنما سيكون له نتائج كبيرة على الناس الذين عليهم التعايش مع ذلك. يتسبب البشر بحصول هذه التغيرات في بيئتنا ولا يمكن فهمها بأي طريقة معقولة دون النظر إلى علاقتها مع مجتمعاتنا.
الديالكتيك هو أداة لفهم حقيقة العالم الذي نحيا فيه. كما حاجج إنغلز، يتعلق الأمر بالمادة المتحركة. إذا حاولنا التعامل مع العالم كما لو كان يمكن قسمته إلى عناصر منفصلة وكأن كل شيء فيه يبقى كما هو فإننا نخاطر بترك شيء مهم يفلت من تحليلنا. ولكن الماركسيين لا يفسرون العالم فقط؛ نحن نغير هذا الواقع أيضاً. تنظر المقاربات الديالكتيكية إلى صدعنا الإشكالي مع الطبيعة على أنه جزء من أجزاء المجتمع الطبقي- وككل الأشياء، يمكن تغييره.
الهوامش:
1: Engels, 1939. Thanks to Paul Blackledge, Alex Callinicos, Joseph Choonara and Alex Loftus for their invaluable advice and comments on an earlier version of this article.
2: Quoted in Sheehan, 1993, p24.
3: Marx and Engels famously described Darwin’s theories as providing, in the field of natural history, “the basis for our views”-Foster, 2000, p197. Although the claim that Marx proposed to dedicate Capital to Darwin is, unfortunately, false, the persistence of this myth shows that it is plausible enough that people still believe it (see Blackledge, 2002, p11).
4: Sheehan, 1993. The young Marx was also trained in geology having studied under Johann Steininger, who was himself a student of Abraham Werner-an early exponent of the then radical idea that the earth has a history-Foster, 2000, p117.
5: Callinicos, 2006, pp210-211.
6: Foster, 2000, p203.
7: Sheehan, 1993, pp316-326.
8: Marx, 1976, p15.
9: Molyneux, 2012.
10: See John Molyneux’s article in the previous issue of International Socialism-Molyneux, 2013.
11: Ollman, 2003 (although the moving car metaphor had previously been used by Louis Althusser-thanks to Alex Callinicos for pointing this out).
12: Harvey, 1996.
13: Engels, 1947, p52, emphasis in original.
14: Ollman, 2003.
15: Harvey, 1996.
16: This discussion of the role of dialectics in biology is not intended to imply that there is no role for dialectical thought in other areas of science such as physics. I chose biology because of the particular influence of Levins and Lewontin and also because it is the subject I am most familiar with. For a useful overview of physics see McGarr, 1994.
17: Levins and Lewontin, 1985.
18: Levins and Lewontin, 1985 Lewontin, 1982.
19: Levins and Lewontin, 1985, pp85-106, see also Clark and York, 2005.
20: Dawkins, 1976, p.ix.
21: Levins and Lewontin, 1985, pp87-89.
22: Levins and Lewontin, 1985, p89.
23: Levins and Lewontin, 1985, p99.
24: Eldredge and Gould, 1972.
25: Gasper, 2002.
26: Rose, 1997.
27: McGarr, 1994.
28: Birchall, 1983.
29: Sartre, 2004, p31.
30: See Rees, 1994.
31: Brown, 2012, p211.
32: Marx, 1976, p70 Weston, 2012.
33: Marx, 1976, p215.
34: Sheehan, 1993. The proletarian science episode and Lysenko in particular are described by the historian of science Loren Graham (1993) and also by Levins and Lewontin, 1985, pp163-196.
35: Sheehan, 1993.
36: Engels, 1947, p16.
37: Rees, 1998.
38: Lukács, 1971, p87.
39: Lukács, 1971, p2.
40: Rees, 1998, p252.
41: Lukács, 1971, p24.
42: Rees, 1998, p252.
43: Gramsci, 1971, p448.
44: Williams, 1976, p219.
45: Castree, 2000.
46: Smith, 1990.
47: Gray, 2013.
48: Castree, 2000.
49: Smith, 1990, p56.
50: Marx refers to a nature separate from human history as no longer existing anywhere “except perhaps on a few Australian coral islands of recent origin”-Foster, 2000, p116. It could be added that humanity doesn’t have much of an impact on outer space (besides adding a few satellites and space junk) although for many followers of Smith’s ideas on the production of nature these are academic questions.
51: Smith, 1990, p48.
52: Ollman, 2003.
53: Foster, 2000.
54: Marx, 1981, p949.
55: See for example Loftus, 2012.
56: Molyneux, 2012.
57: Marx, 1947.
58: Parrington, 2013.
59: Mackenzie, 2010.
60: Gasper, 1998.
61: Parrington, 2013, p104.
62: Harman, 2007.
63: Harman, 1988.
64: Niehrs, 2011.
المراجع:
Birchall, Ian, 1983, “Dialectics: The Whole Truth”, Socialist Review (January), http://www.marxists.org/history/etol/writers/birchall/1982/12/dialectics.htm
Blackledge, Paul, 2002, “Historical Materialism: From Social Evolution to Revolutionary Politics”, in Paul Blackledge and Graeme Kirkpatrick (eds), Historical Materialism and Social Evolution (Palgrave Macmillan).
Brown, Heather, 2012, Marx on Gender and the Family: A Critical Study (Brill).
Callinicos, Alex, 2006, The Resources of Critique (Polity Press).
Castree, Noel, 2000, “Marxism and the Production of Nature”, Capital and Class, volume 24, number 5.
Clark, Brett, and Richard York, 2005, “Dialectical Nature: Reflections in Honor of the Twentieth Anniversary of Levins and Lewontin’s The Dialectical Biologist”, Monthly Review, volume 57, number 1, http://monthlyreview.org/2005/05/01/dialectical-nature
Dawkins, Richard, 1976, The Selfish Gene (Oxford University Press).
Eldredge, Niles, and Stephen Jay Gould, 1972, “Punctuated Equilibria: An Alternative to Phyletic Gradualism”, in Thomas J M Schopf (ed), Models in Paleobiology (Freeman Cooper and Company).
Engels, Frederick, 1939 [1883], Dialectics of Nature (Lawrence and Wishart).
Engels, Frederick, 1947 [1888], Ludwig Feuerbach and the end of classical German philosophy (Lawrence and Wishart).
Foster, John Bellamy, 2000, Marx’s Ecology: Materialism and Nature (Monthly Review Press).
Gasper, Phil, 1998, “Bookwatch: Marxism and Science”, International Socialism 79 (summer), http://pubs.socialistreviewindex.org.uk/isj79/bookwatc.htm
Gasper, Phil, 2002, “Stephen Jay Gould: Dialectical Biologist”, International Socialist Review 24 (July-August), http://isreview.org/issues/24/gould.shtml
Graham, Loren, 1993, Science in Russia and the Soviet -union-: A Short History (Cambridge University Press).
Gramsci, Antonio, 1971, Selections from the Prison Notebooks (International Publishers).
Gray, Louise, 2013, “David Attenborough—Humans are plague on earth”, Telegraph (22 January), http://www.telegraph.co.uk/earth/earthnews/9815862/Humans-are-plague-on-Earth-Attenborough.html
Harman, Chris, 1988, “To Be and Not to Be”, Socialist Worker Review 108 (April), http://www.marxists.org/archive/harman/1988/04/beandnotbe.html
Harman, Chris, 2007, “Dialectics of Morality—a Review of Alex Callinicos The Resources of Critique”, International Socialism 113 (winter), http://www.isj.org.uk/?id=281
Harvey, David, 1996, Justice, Nature and the Geography of Difference (Blackwell).
Levins, Richard, and Richard Lewontin, 1985, The Dialectical Biologist (Harvard University Press).
الإعلانات
الإبلاغ عن هذا الإعلانالخصوصية
Lewontin, Richard, 1982, “Organism and Environment”, in H C Plotkin (ed), Learning, Development, and Culture (John Wiley & Sons).
Loftus, Alex, 2012, Everyday Environmentalism: Creating an Urban Political Ecology (University of Minnesota Press).
Lukács, Georg, 1971 [1923], History and Class Consciousness: Studies in Marxist Dialectics (Merlin Press).
Mackenzie, Debora, 2010, “Supercrops: Fixing the Flaws in Photosynthesis”, New Scientist,
issue 2777, http://www.newscientist.com/article/mg20727776.600-supercrops-fixing-the-flaws-in-photosynthesis.html
Marx, Karl, 1947 [1845], Theses on Feuerbach in Marx, Karl, and Frederick Engels, Collected Works, volume 4 (Progress), http://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/theses/theses.htm
Marx, Karl, 1976 [1867], Capital Volume 1 (Penguin), http://www.marxists.org/archive/marx/works/1867-c1/
Marx, Karl, 1981 [1894], Capital Volume 3 (Penguin), http://www.marxists.org/archive/marx/works/1894-c3/
McGarr, Paul, 1994, “Engels and Natural Science”, International Socialism 65 (winter),
http://pubs.socialistreviewindex.org.uk/isj65/mcgarr.htm
Molyneux, John, 2012, The Point is to Change it: An Introduction to Marxist Philosophy (Bookmarks).
Molyneux, John, 2013, “History Without Nature? A Response to Nancy Lindisfarne, Jonathan Neale and Colin Wilson”, International Socialism 140 (autumn), http://www.isj.org.uk/?id=920
Niehrs, Christof, 2011, “Dialectics, Systems Biology and Embryonic Induction”, Differentiation, volume 81, issue 4.
Ollman, Bertell, 2003, Dance of the Dialectic: Steps in Marx’s Method (University of Illinois Press), http://www.nyu.edu/projects/ollman/docs/dd_ch01.php
Parrington, John, 2013, “The Human Genome Project: Brave New World of Scientific Understanding´-or-False Dawn?”, International Socialism 139 (summer), http://www.isj.org.uk/?id=906
Rees, John, 1994, “Engels’s Marxism”, International Socialism 65 (winter), http://pubs.socialistreviewindex.org.uk/isj65/rees.htm
Rees, John, 1998, The Algebra of Revolution: The Dialectic and the Classical Marxist Tradition (Routledge).
Rose, Steven, 1997, Lifelines: Life beyond the Gene (Vintage).
Sartre, Jean-Paul, 2004 [1960], Critique of Dialectical Reason (Verso), http://www.marxists.org/reference/archive/sartre/works/critic/sartre2.htm
Sheehan, Helena, 1993, Marxism and the Philosophy of Science: A Critical History: 2nd edition (Humanities Press International).
Smith, Neil, 1990, Uneven Development: Nature, Capital and the Production of Space (University of Georgia Press).
Weston, Thomas, 2012, “Marx on the Dialectics of Elliptical Motion”, Historical Materialism, volume 20, issue 4.
Williams, Raymond, 1976, Keywords: A Vocabulary of Culture and Society (Fontana).
#كاميلا_رويل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟