أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الطيّب الجلاصي - المقاربة المنظوميّة: الأسس الإبستيمولوجيّة والتبعات البيداغوجيّة















المزيد.....



المقاربة المنظوميّة: الأسس الإبستيمولوجيّة والتبعات البيداغوجيّة


الطيّب الجلاصي
(Taïeb Jlassi)


الحوار المتمدن-العدد: 7582 - 2023 / 4 / 15 - 13:58
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


تجمع المقاربة المنظومية، انطلاقا من توسّع مجالات تطبيقها من السيبرنيطيقا إلى إدارة الأعمال، بين أكثر من دلالة: المنظوميّة بما هي براديغم علميّ، والمنظومية بما هي طريقة في تنظيم العمل واتّخاذ القرار والمنظومية بما هي طريقة في تنظيم المعارف، بل وأساسا طريقة في التفكير، وهي على هذا المستوى لا تطلب منّا معارف جديدة بقدر ما تطلب منّا طريقة مغايرة في التفكير وفي التدريس وفي التعلّم، مثلما تفترض تناولا مغايرا للعقل التربوي والبيداغوجي.
تهتمّ هذه المقاربة، في مرحلة أولى، بالنظر في المنظوميّة أو السيستيميّة من جهة اعتبارها طريقة في التفكير وفي كيفية استخدام العقل. وينجم عن ذلك التساؤل عن تطبيقاتها البيداغوجية في مرحلة ثانية، إذ أنّ مقاربة المنظومة التربوية من هذه الزاوية، تستدعي إعادة النظر في كافّة العناصر المكوّنة لها، من تحديد ملامح المتخرّج ووضع المرجعيات والمناهج والبرامج التربوية إلى استراتيجيات التعليم واستراتيجيات التعلّم وطرق التقييم والضوارب وسياسة الانتداب والتكوين. فأيّة صورة للتربية المنظوميّة أو السيستيميّة، وأيّ دور للمدرسة، وأيّة دلالة للتعلّم في ظلّ التحوّلات التي نعيشها؟ إنّ الخاصّية السيستيميّة لهذه المقاربة تفترض اختراق الحدود الفاصلة بين المواد وبين مجالات التعلّم وتجاوز التركيز على المضامين والمعارف، نحو مقاربة إدماجيّة تراهن على القدرات والمهارات والغاية من التعلّم؟ والبحث، من وراء ذلك، عن المبدأ الدامج العابر لكافّة التعلّمات، المتمثّل هنا في التربية على التفكير المركّب والتفكير النقدي من جهة اعتباره غاية تربوية ومبدأ دامجا للتعلّمات .
الأسس
اقترن مفهوم المنظوميّة بعدّة مصطلحات ومفاهيم، نشأت وتطوّرت في مجالات علميّة متجاورة. ومن هذه المفاهيم والمصطلحات: النسق، البنية، الوظيفة، الشمولية، التركيب، بالإضافة إلى التداخل بين نظريّة الأنساق وتحليل الأنساق أو نظريّة النظم والتحليل النسقي والتحليل البنيوي والتحليل الوظيفي. وما يجمع بين هذه المجالات هو الوعي منذ النصف الثاني من القرن الماضي بمحدودية المقاربة التحليلية في معالجة الظواهر المركّبة، بما هي ظواهر متغيّرة، ضعيفة البنية، تفتقر إلى الثبات والانسجام، متعدّدة الأبعاد، تحكمها علاقات سببيّة متشعّبة. إنّ اتّساع مجال استخدام المنظومية ليشمل كافّة المجالات والظواهر: من مجال نظرّية النظم إلى مجال العلوم الاجتماعية ومجال التصرّف وإدارة الأعمال والاقتصاد والسياسة والتربية، يجعل منها اليوم مدخلا ضروريا لمعالجة القضايا التربوية ولتطوير المنظومات التربوية وقد يستبطن ذلك، في ظلّ تأثير التصوّر الليبرالي والعقلانيّة الإجرائية، التعامل مع المدرسة باعتبارها مؤسّسة خاضعة لنفس منطق السوق الذي يحكمه مبدأ العرض والطلب . وهو ما يطرح مشكل مدى وجاهة هذا التصوّر الذي يُخضع منطق المعرفة والتعلّم إلى منطق السوق ويستبدل كوجيتو الفكر بكوجيتو البضاعة. إنّ السياق الذي نشأت فيه المقاربة المنظوميّة، وارتباط تطبيقاتها التربويّة منذ النصف الثاني من القرن الماضي بتكنولوجيا التربية، برغم ما ارتبط بذلك من نجاحات، يكشف في ذات الوقت، حدودها، ما يدعو إلى التعامل معها نقديّا، حتّى لا تتحوّل إلى حلّ سحري لكلّ معضلات التربية والتعليم. في مقابل ذلك يجدر بنا اليوم مقاربة هذا المدخل من جهة مساهمته في معالجة السؤال المركزي في فلسفة التربية والذي يدور حول دور المدرسة والغاية من التعلّم، في ظلّ التحوّلات الحرجة التي يعيشها المجتمع البشري اليوم والتي تدفع إلى وضع العقل البيداغوجي موضع مساءلة.
إنّ اتّساع مجال المدخل المنظومي جلب معه جملة من الالتباسات التي تدعونا إلى العودة إلى جذور المقاربة المنظومية، التي يمكن التمييز في طيّاتها بين إطار علمي ابستيمولوجي وإطار نظري فلسفي وإطار تربوي بيداغوجي وإطار مفاهيمي. ويعود أساسها الابستيمولوجي إلى النظريّة العامّة للأنساق عند "لودفيك فون بارتلانفي" والتي تهتمّ بدراسة الأنساق المركّبة والظواهر غير المنتظمة واللاخطّية التي تكون أكبر من مجموع أجزائها ما يفرض دراستها شموليا في مقابل الظواهر الخطّية التي تساوي مجموع أجزائها بما يعني إمكانية دراستها تحليليا. (بارتالنفي)، وهي تنطلق من ردّ كلّ الظواهر إلى أنساق، من الذرّة إلى الهباءات ومن الخليّة إلى الكائن الحيّ ومن المؤسّسة إلى المجتمع، وترتبط بالبحث في تفاعلات العناصر المكوّنة للنسق سانكرونيا ودياكرونيا والنظر في أهميّة الأثر الرجعي واتّخاذ القرار. وتكمن أهميّة النظرية العامّة للأنساق في تجسيد منعطف أساسي في تاريخ الفكر العلمي يضع مبادئ جديدة لعلميّة العلم، تقوم على الوعي بمحدودية التمشّي الخطّي والتحليلي الذي يردّه بارتلانفي إلى أرسطو وديكارت في قواعد المنهج. ويكمن وجه الجدّة في أنّنا لسنا أمام كشف علميّ جديد ينضاف إلى ما راكمه العلم من إنجازات، بقدر ما يتعلّق الأمر بالانتقال إلى براديغم جديد، بما يعنيه ذلك من تغيّر في منطق التفكير وبناء المعرفة ووضع شبكة مفاهيم مغايرة، شاملة لكلّ المجالات بما في ذلك مجال التربية، إذ يؤكّد بارتلانفي في الفصل المتعلّق بنظرية الأنساق العامّة في مجال التربية على أهميّة هذه النظرية في التربية الإدماجيّة والتخلّص من داء الفصل بين العلوم والمواد الدراسيّة والتخصّصات، حتّى أضحت مجالات العلوم المختلفة غريبة عن بعضها البعض. "ينظر التعليم التقليدي إلى الفيزياء والبيولوجيا والبسيكولوجيا أو العلوم الاجتماعية على أنّها مجالات متميّزة عن بعضها البعض، في ظلّ توجّه عام تبرز في إطاره، أكثر فأكثر، مجالات صغرى، تتحوّل بدورها إلى تخصّصات علميّة متميّزة. وتتكرّر هذه العمليّة إلى الحدّ الذي يغدو فيه كلّ اختصاص بلا معنى ودون رابط يصله بباقي المجالات. تبعا لذلك فإنّ المقتضيات التربوية في تكوين علماء متعدّدي الاختصاص وفي تطوير المبادئ الأساسية متعدّدة التخصّصاتـ هي ما تضطلع به نظريّة الأنساق العامّة... بهذا المعنى تمثّل نظريّة الأنساق العامّة تطوّرا هامّا نحو تأليف متعدّد التخصّصات ونحو تربية إدماجيّة." . وقد تجسّد هذا التوجّه على مستوى المجال التربوي، في نشأة المقاربة البنائيّة التي تقوم على اعتبار المعرفة بناء وعلى التفاعل بين الذات والموضوع وعلى أهمّية البعد الميتاعرفاني في تعلّم التفكير وتطوّره. إنّ إدراج المنظوميّة ضمن براديغم جديد في مقاربة الظواهر، بدأ في التشكّل مع نشأة الفيزياء الكوانطيّة وتواصل مع نظريّة النظم ونظريّة المعلومات والتواصل، يعني وضعها في مقابل طريقة التفكير الخطيّة والتجزيئية التي حكمت العقل العلمي في إطار هيمنة النظام الحتمي الآلي، وربطها بالتحوّل من البراديغم التبسيطي إلى براديغم التفكير المركّب والمتمثّل في التحوّل من من العقلانية الصوريّة إلى العقلانية الإجرائية وتجاوز اعتبار الترييض شرطا لعلمية العلم، والتحوّل من النظام الحتمي الآلي (النموذج النيوتني) إلى النظام الاحتمالي، الذي صاحب نشأة الفيزياء الكوانطية، ومن النموذج الفيزيائي الآلي (اعتبار الطبيعة مكنة واعتبار الحيوان آلة) إلى النموذج البيولوجي مع بارتلانفي، إلى جانب المرور من اختزال علميّة العلم في الترييض إلى النمذجة العلميّة. وإجمالا نشأت المقاربة المنظوميّة نتيجة لقاء عدّة مجالات علميّة تمثّلت في البيولوجيا ونظريّة المعلومات والسيبرنيطيقا ونظريّة الأنساق. وهي ليست مبحثا علميّا في ذاته، بقدر ما هي طريقة تفكير في كيفية بناء وتنظيم معارفنا وكيفية بنائنا للواقع وكيفية معالجة التحدّيات والصعوبات الناجمة عن الطابع المركّب للواقع الذي نعيشه. ويشكّل هذا الإطار شرط إمكان تبلور المنظوميّة في مقابل التصوّر الوضعي الذي يهيمن على العلم منذ أوجست كونت.
إنّ المقاربة المنظومية نتيجة تفاعل مباحث علمية تبدو في الظاهر متباعدة مثل الرياضيات والسيبرنيطيقا (روبرت فينر) والفزيولوجيا وعلم الأعصاب والبيونيك (فارن ماك كولوش) والبيولوجيا (لودفيك فون بارتلانفي) وعلم التصرّف في الموارد (جوي فورستر). وقد أدّى هذا الحوار بين تخصّصات متنوّعة إلى وضع حلول لمشاكل مركّبة، كانت تستبعد في الغالب من مجال العلم، على أساس أنّها ظواهر هامشيّة أو فوضويّة أو ميتافيزيقيّة. وهي ظواهر لم يكن بالإمكان معالجتها بمعزل عن بعضها البعض وذلك على قاعدة بناء تصوّر جديد للأنساق طبيعية كانت أو اصطناعيّة، انطلاقا من مفهوم التعديل الذاتي، الناجم عن التفاعل بين المكوّنات، الذي يسمح للنسق بالحفاظ على ذاته وبالتطوّر في تفاعل مع محيطه، تجاوزا للآلات الكلاسيكية التي تعمل وفق برمجة وضعت بشكل مسبق. وقد كان هذا الإطار النظري مقدّمة أساسية لنشأة الإعلامية والذكاء الاصطناعي وتطوّرهما. والانتقال تبعا لذلك من مجال الظواهر الطبيعيّة والاصطناعيّة، إلى الظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبئيية والتربويّة. وتتمثّل دلالتها الأولى في اعتبار كلّ الظواهر والمؤسّسات، أنساقا، ومعالجتها على هذا الأساس، بما في ذلك مجال التربية والتعليم والتعلّم.
في مقابل المقاربة التحليلية – الخطّية، التي تدرك المجموع انطلاقا من الجزئي، وفي مقابل المقاربة الشمولية (هوليزم)، التي تهمّش الاختلاف والتناقض لصالح الوحدة، تنطلق المقاربة النسقية من النسق في مجموعه وتدرك الفردي في إطار العلاقات التي تربطه ببقيّة عناصر النسق، بهدف فهم النسق في شموليته وكلّيته وفي تفاعلاته الداخلية بين العناصر المكوّنة له وتفاعلاته الخارجية مع محيطه الزماني والمكاني. وهي طريقة في التفكير تعتمد المنطق المتعدّد في مقابل المنطق الديكارتي الذي يقوم على التجزئة والفصل وعزل الظاهرة المدروسة عن كلّية الواقع. وهي تقوم على بناء العلاقات والروابط وعلى تجميع العناصر المكوّنة للنسق، سانكرونيا ودياكرونيا، في ارتباط بمجاله الحيوي ومحيطه، بالإضافة إلى دراسته في سعيه أو جهده نحو تحقيق أهدافه أو تحقيق توازنه أو الحفاظ على دوامه وذلك بشكل شمولي، لا الاكتفاء بدراسة عناصره بمعزل عن تفاعلها مع الكلّ الذي يشكّله النسق. فليس للعنصر أو الجزء قيمة في ذاته بمعزل عن دوره ومساهمته في تحقيق غائية النسق أو المنظومة. ومن ثمّة فإن دراسة النسق منظوميا هو مقاربته باعتباره بمثابة كائن حيّ (اعتماد النموذج الحيوي بدلا عن النموذج الفيزيائي الذي ساد العقل العلمي منذ القرن السابع عشر)، فقد نشأت المنظوميّة في إطار انتقال الفكر من النموذج الميكانيكي الذي ينظر إلى الطبيعة وإلى كافّة الأنساق بما هي مكنة أو نسق آلي وهو النموذج الذي ساد العلم الكلاسيكي، إلى النموذج الحيوي. إنّ المنظوميّة على هذا النحو، تتجاوز حدود العقل الكلاسيكي بالاستعاضة عن الاختزالية بالشمولية والاستعاضة عن البداهة بالملاءمة والكفاءة والاستعاضة عن السببية والتفكير الخطّي بالغائية (سلوك النسق) وهي بحسب بارتلانفي، دراسة العوامل المتلازمة والمترابطة بين أنساق ترتبط بمجال محدّد، بقصد بناء الحلّ الأمثل من بين الحلول الممكنة والتخطيط لتنفيذه، بكفاءة ونجاعة وفعالية، وبأقلّ التكاليف، ضمن شبكة عمل تفاعليّة وباستعمال الموارد المتاحة.
إنّ المدخل المنظومي في إصلاح أيّ منظومة، بما في ذلك المنظومة التربوية، يشترط أن نتناول بالإصلاح كافّة الأنساق والأنساق الصغرى أو التابعة أو الفرعيّة، أي أن يكون إصلاحا شاملا لكلّ مكوّنات المنظومة، في آن واحد، باعتبار أنّ إحداث أيّ تغيير في مكوّن من مكوّنات المنظومة التربوية مثلا، له أثره على بقيّة المكوّنات، ولن يكون فعّالا، إلاّ في انسجام معها. وفي نفس السياق فإنّ الاكتفاء بإصلاحات جزئيّة، تكتفي بمعالجة بعض الأجزاء دون المساس بأصل الداء، غالبا ما تكون مخيّبة للآمال.
إذا كانت القراءة التحليلية الخطيّة والاختزالية، تقوم في دراستها للظواهر على عزل الظواهر عن كليّة الواقع، فإنّ القراءة المنظوميّة تميل إلى ربط الظواهر بكليّة الواقع من جهة اعتباره جملة من الأنساق المتداخلة، بالإضافة إلى اعتبار العلم أو العقل العلمي منظومة تفكير قائمة على نسق تعديل ذاتي يتمثّل في المنهج العلمي الذي يسمح له بالتحقّق من صحّة وصلاحية معارفه وقابليتها للنقل في مجالات أخرى مماثلة، بناء على مبدأ المماثلة، باعتباره محرّكا أساسيا للعقل العلمي. وتكمن القيمة العلميّة لهذا التحوّل في إرساء قطيعة ابستيمولوجية على أساس الوعي بمحدودية المقاربة الخطّية، وهو التحوّل الابستيمولوجي من اللامتناهي في الكبر (التلسكوب) إلى اللامتناهي في الصغر (الميكروسكوب)، إلى اللامتناهي في التركيب (الماكروسكوب)، الذي يلخّصه جوال روسناي في المقارنة بين الرؤية السكونية والرؤية الدينامية.
إنّ توضيح أهمّية المقاربة المنظوميّة لا تعني نفي أهميّة المقاربة التحليلية التي أثبتت نجاعتها في مستوى دراسة الأنساق المنسجمة والبسيطة، وإنّما الغرض من ذلك بيان محدوديتها في مواجهة الظواهر المركبّة، والتي تستوجب أن نفكّر وأن نتصرّف وأن نقرّر بشكل مغاير، حيث يغدو التحليل مرحلة من مراحل المعالجة العلميّة للظواهر. إذ يقتضي التفكير المنظومي في مرحلة أولى تحليل النسق بتحديد العناصر الأساسية الفاعلة وتحديد نوعيّة التفاعلات بينها وتصنيف التفاعلات وترتيبها. وتتمثّل المرحلة الثانية من المعالجة المنظوميّة لنسق ما حسب جوال روسناي ، في نمذجة النسق وذلك ببناء نموذج للتحليل وتحديد مجموع العلاقات بين العناصر وصياغة المعادلات التي تصف التفاعلات والروابط بين مختلف عناصر النسق، باعتماد لغة البرمجة الملائمة، انطلاقا من المعطيات التي توفّرها المرحلة الأولى. وتنتهي المعالجة المنظوميّة إلى لحظة المحاكاة المتمثّلة في دراسة كيفية عمل النسق وتطوّراته المحتملة وذلك بتغيير مجموع المتغيّرات في نفس الوقت، بدل تغيير متغيّر واحد، في كلّ مرّة، وذلك باستعمال الحواسيب أو أجهزة المحاكاة (جهاز فيزيائي تفاعلي يقدّم استجابة فورية لقرارت وسلوكات المستعمل)، وهو ما يسمح بتفحّص أثر عدد كبير من المتغيّرات على كيفية عمل النسق واعتبار النسق في بعده التطوّري وفي علاقة بمحيطه وبالملاحظ، من جهة أنّ الواقع لا يوجد في حدّ ذاته، وإنّما يوجد في علاقة بتصوّرنا له. ويقتضي ذلك مقاربة أيّ مشكل منظوميا، بوضعه في سياقه وتحديد مختلف العناصر التي يوجد في إطارها وطبيعة العلاقات التي تمنحه بنيته وأثارها المباشرة وغير المباشرة وأثرها الرجعي إلى جانب ربطه بالمتغيّرات أو العوامل الأخرى التي تدخّل فيه، مثل الزمن أو عامل الوقت أو المكان أو درجات سلّم القياس المعتمد أو الإطار الثقافي بما يحمله من معتقدات وتمثّلات وتصوّرات ووجهات النظر التي تؤثّر في كيفيّة مقاربتنا.
جلبت النجاحات التي حقّقتها العقلانية العلميّة في شتّى مجالات الحياة، جملة من الأخطاء والأوهام التي تفسّر في جانب منها الخيبات والمآزق التي يعيشها العقل اليوم سواء في مقاربته للطبيعة وللعالم أو في مقاربته للظواهر والوضعيات الإنسانية (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والبيئية...)، وذلك على مستوى علاقته بذاته أو علاقته بالآخر. وهي الأخطاء التي يحلّلها ادغار موران ، بدءا من الإشارة إلى أنّ السبب الحقيقي للخطأ لا يكمن في الخطأ نفسه أو الإدراك الخاطئ للأشياء والظواهر ولا في الخطأ المنطقي أي عدم انسجام الفكر مع ذاته، بل في طريقة تنظيمنا للمعارف في شكل نظريات وأنساق معرفيّة ومنظومات فكرية (أيديولوجية)، مرورا من الوعي بوجود ضرب جديد من الجهل يرتبط بتطوّر العلم ذاته والاستخدام المنحطّ للعقل، وانتهاء إلى اعتبار أنّ أخطر التهديدات التي تتربّص بالبشرية تردّ إلى التطوّر الأعمى واللامسؤول للمعرفة وللعلم حينما يمسي خادما مطيعا للسلطة. ويكمن القاسم المشترك بين هذه الأخطاء والأوهام، في أنّها ناجمة، عن طريقة تنظيمنا للمعارف وعن تجاهل الفكر للطابع المركّب والنسقي للعالم الذي نحياه، وميله حسب التقليد التحليلي والوضعي إلى التبسيط والتجزئة والاختزال. فقد قادت منظومة التبسيط التي سيطرت على العقل العلمي إلى النصف الأوّل من القرن العشرين، برغم ما حقّقته من نجاحات، إلى ما يسميه ادغار موران بباطولوجيا المعرفة أو العقل الأعمى، الذي دأب على وضع الذات العارفة في مقابل موضوع المعرفة والإنسان في مقابل الطبيعة والعقل في مقابل الجسد والواحد في مقابل المتعدّد، والمادّة في مقابل الحياة، ومن ثمّة الفصل بين مجالات المعرفة (الفيزياء، البيولوجيا، الإنسان). وتكمن باطولوجيا الفكر في إهمال العقل العلمي الحديث للطابع المركّب وللبعد المنظومي للواقع (وهو إهمال متعمّد)، ومن ثمّة، حاجة العقل إلى تجاوز منظومة التبسيط إلى منظومة الفكر المركّب والاستعاضة عن براديغم التبسيط ببراديغم التفكير المركّب (المنظومي) وهكذا أثمر تطوّر العلم ذاته عودة التركيب (الطابع المركّب للظواهر) إلى العلوم، من نفس الطريق التي اتبعته في إقصائه وطرده وتهميشه، خارج اهتمامه. فنفس التمشّي التبسيطي والآلي والسكوني، الذي هيمن على العقل العلمي، في إطار سيادة النزعة الوضعيّة، ينتهي إلى وضع حدود منظومة التبسيط والاختزال والتجريد، فقد أدّت الثورة الأكسيومية في مجال الرياضيات: إلى التخلّص من فكرة اليقين واستبدال الحقيقة بالصلاحية، ووضعت الفيزياء الكوانطية حدّا لوهم وجود تفسير حتمي وآلي وموحّد للكون، فحلّت قوانين اللايقين محلّ القوانين الحتميّة وانكشف الطابع المركّب للواقع وراء بداهة بساطة الذرّة، وتحرّرت البيولوجيا من النموذج الفيزيائي الذي اختزل الحياة في الآلة.
إنّ استبدال منظومة التجزئة والفصل والأحادية بمنظومة الوصل والتمييز دون فصل والتجميع دون مطابقة، أدّى إلى إدراج المركّب في صيرورة التفكير وإن بصور مختلفة، مثل جدلية الفكر والتناقض والنفي عند هيجل وتجاوز منطق الهويّة إلى المنطق الحواري وتجاوز منطق الوحدة الجوهريّة المجرّدة، سواء في بعدها الكلّي أو في بعدها الاختزالي (منطق الاستقراء والاستنباط والتمثل ورفض التناقض)، إلى الوحدة المتعدّدة أو المركّبة (الجمع بين مفهومين متعارضين وإدراج التناقض في قلب الهويّة) والمرور من السببية الخطيّة إلى السببيّة الدائرية ومن بداهة "الكلّ أكبر من الجزء" إلى حقيقة تضمّن الجزئي للكلّي، في ما يعبّر عنه ادغار موران بالمبدأ الهولوغرامي . إنّ تأكيد الحاجة إلى التفكير خارج الإطار الضيّق لمنطق التبسيط والاختزال، لا يعني تخلّي العلم عن تلك الأدوات والمفاهيم، التي أثبتت نجاعتها، بل هو الوعي بحدود هذه الآليات التي تستخدمها منظومة التبسيط. تجاوزا لذلك، يجمع التفكير المنظومي بين بعد عرفاني، يتمثّل في فعل التفكير بما يتطلّبه من تحليل وقدرة على إعادة تركيب المكوّنات بطرق عدّة وهو في هذا الإطار يجمع بين التحليل والتركيب، وبعد ميتا عرفاني يتمثّل في القدرة على التفكير في التفكير. وإجمالا يتأسّس هذا النمط من التفكير على جملة من المبادئ، تتمثّل في مبدأ الكلّية الذي يقرّ بأنّ الكلّ ليس مجموع أجزاءه ومبدأ المنطق الجدلي المتمثّل في الانتقال من منطق الهويّة والتماثل إلى منطق التعدّد والاختلاف ومبدأ التفاعل والترابط المتمثّل في الإقرار بأنّ فهم أيّ عنصر داخل منظومة ما يقتضي ربطه بالمجال الذي يتفاعل في إطاره؛ بالإضافة إلى مبدأ الأثر الرجعي والسببية الدائرية ومبدأ التعديل الذاتي ومبدأ شمولية الجزء للكلّ.
التربية المنظوميّة
تقود التحوّلات التي يعيشها العالم اليوم إلى إرساء تغيّر جذري في المعارف والقيم والممارسات ونوعية الحياة. فأي دور للمدرسة في إعداد المتعلّمين لمجابهة التحدّيات التي تواجهنا؟ هل بمستطاع التعليم التقليدي أن يجابه نوعية الإشكاليات التي يطرحها الراهن؟ وهل يمكن أن تكون المقاربة المنظوميّة مدخلا لذلك؟ فمثلما قام تنظيم العمل في المؤسّسات على تقسيم العمل، فإنّ التعليم التقليدي قام على تقسيم المعارف إلى مواد دراسية منفصلة عن بعضها البعض وضبط المعارف الواجب تعلّمها، قبل معرفة جدواها أو ماذا عسانا نفعل بها، ضمن منطق ضمان الحدّ الأدنى من المعارف والمهارات، وعلى أساس برامج خطّية، تنظّم المعارف وفق سلّم زمني يضمن نجاعة الاستيعاب في أقّل وقت ممكن. وينجم عن هذا التنظيم الخطّي وضع البعد العرفاني في مقابل البعد الوجداني وإهمال كلّ ما يفلت من القاعدة باعتباره شاذّا أو هامشيا.
إنّ المحاولات المتعدّدة في العالم، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، والهادفة إلى تطوير التعليم، بتجاوز عزل المواد والبحث في كيفية انفتاحها، إلى جانب تحديث طرق التعليم والوسائل التعليمية وإدماج الكمبيوتر والوسائل السمعية البصرية والتكنولوجيات الجديدة، داخل نفس المنظومة التعليمية، تظلّ محدودة الفاعلية، من جهة علاقتها ببقيّة مكوّنات المنظومة. فقد فشلت هذه المحاولات في إرساء التغيير المنتظر. إنّ فشل هذه المحاولات يعود إلى أنّ المعرفة ليست نسخة من الواقع يمكن تقليدها باعتماد شاشة الكمبيوتر، بل هي صيرورة فعّالة هادفة إلى تغيير الواقع. إنّ غياب الرؤية المنظومية، أفقد إجراءات هامّة مثل تداخل المواد أو تنافذها، قيمتها في معالجة مشكل مركّب، إذ يتوقّف الأمر عادة، في مستوى وضع بعض المواد بجوار بعضها في عائلات أو مجموعات، دون المساس بصرامة البرامج وانغلاقها بتعلّة الاختصاص. فكيف يمكن أن تكون التربية المنظوميّة تطويرا فعليا للمناهج التقليديّة؟
يقتضي ذلك اعتبار كافّة عناصر المنظومة التربوية انطلاقا من رسم ملامح المتخرّج إلى وضع البرامج وتخطيط السنياريوهات التعليميّة وتصوّر استراتيجيات التعلّم والتعليم والوضعيات البيداغوجية الملائمة وانتهاء إلى سياسة التكوين والتقييم، بناء على تصوّر شمولي لمفهوم التعلّم وذلك باعتباره في كافّة أبعاده العرفانية والوجدانية والاجتماعيّة والايتيقيّة، وربطه بمهارات الحياة، باعتبارها القاسم المشترك بين كلّ التعلّمات. إلى جانب تجاوز المقاربات الخطّية للبرامج التعليميّة عبر إدماج المواد في مشاريع تربوية أو وضعيات تربوية، تسمح بربط المعارف والمهارات وتوظيفها في معالجة إشكاليات ذات دلالة ومعنى لدى المتعلّم، ضمن مباحث إدماجيّة أفقيّة، متعدّدة المداخل، تسمح بإدماج مواعد تعليميّة مختلفة، واستنفار وتوظيف مهارات متنوّعة.
إنّ طبيعة الوضعيات التي يعيشها المجتمع البشري اليوم (معرفية، اقتصاديّة، سياسية، بيئية...)، تتّسم بالتركيب والترابط والتداخل، وتتطلّب حلولا منظوميّة أو سيستيميّة، ما يجعلها غير قابلة للمعالجة، بمعزل عن بعضها البعض، وذلك من جهة اعتبار المركّب نسيج من مكوّنات وعناصر متنافرة، مجمّعة بشكل بتعذّر معه التفريق بينها. يترتّب عن ذلك أن التربية الكلاسيكية القائمة على منطق التجزئة والاختزال وتراكم المعارف والفصل بين مجالات المعرفة، والقائمة على وهم اليقين والاكتمال، غير قادرة على تهيئة المتعلّم لمجابهة التحدّيات التي تطرحها مثل هذه الظواهر. لقد أمست التربية اليوم فعلا فاشلا، إذا لم تتوسّل أدوات تفكير قادرة على فهم الطابع المركّب للعلاقات والوضعيات التربويّة. ذلك أنّ الطابع المركّب للمنظومة التربوية وللوضعيات التربوية، تتطلّب تربية على التفكير المركّب. وأنّ اتّخاذ السيستيميّة أداة لفهم المؤسّسة التربوية ومعالجة الوضعيات التربوية، يقود إلى ضرورة تأسيس العمليّة التعليمية والتعلّميّة على بيداغوجيا التركيب، بما هي بيداغوجيا إدماجية، تخترق الحدود القائمة بين المعارف والمهارات وتضع مسّلمات وبداهات البيداغوجيا الكلاسيكية، موضع مساءلة. إنّها توقضنا من سباتنا البيداغوجي وتدفع بنا إلى التشكيك في بداهاتنا البيداغوجية الراسخة؛ من خلال التأكيد على ضرورة الوعي بمخاطر الاطمئنان لما نحمله وما نسكن إليه من مسلّمات وتصوّرات بديهية ويقينيات راسخة، تعكس صعوبة التخلّص منها، وهم الاعتقاد في تملّك الحقيقة والانفراد بها إلى جانب الخوف من التحرّر من سلطتها وخوض مغامرة فكريّة جديدة، وهو ما يجعل منها عائقا أمام كلّ تغيير؛ إلى جانب الإقرار بإمكانية أن نتعلّم نفس الشيء بطرق مختلفة وأنّ التربة أو السماد الذي ينمو فيه التعلّم يكون مختلفا بالنسبة لكلّ شخص وأنّ كلّ تعلّم يكون في ذات الوقت، معرفيا واجتماعيا ووجدانيا، ويمكن أن يؤدّي إلى نتائج لم نتوقّعها ومن ثمّة فإنّ عوائق التعلّم لا تكون ضرورة معرفية، بل ترتبط في الغالب بالمرجعيّة الاجتماعية والثقافية والتجارب النفسية اللاواعية، التي يجب أخذها بعين الاعتبار.
التفكير النقدي مبدأ دامج للتعلّمات
تركّز البيداغوجيا الكلاسيكيّة على المضامين المدرّسة ضمن رؤية تفصل مجالات المعرفة عن بعضها، في ظلّ هيمنة المدرسة الوضعيّة. في مقابل ذلك تقتضي المقاربة المنظومية التحرّر من هذه الرؤية التجزيئية نحو رؤية إدماجية للمواد الدراسية، تجتمع في إطارها كافّة المواد حول بناء الذات وتعلّم التفكير باعتباره الهدف النهائي للمدرسة. فكيف للمواد الدراسية المختلفة إلى جانب كافّة الأنشطة التي يمكن أن تحتضنها المدرسة، في انفتاحها على محيطها، أن تتآلف في خدمة هذه الغاية؟ إنّ المقاربة المنظوميّة للتعلّم لا تكتفي بانفتاح المواد على بعضها البعض أو بتداخلها ضمن مشاريع عابرة للمواد، بل تتجاوز ذلك إلى جعل كافّة المواد (الأنشطة الرياضية، الأنشطة الفنيّة، المواد الأدبية، المواد العلميّة) سواء من جهة المضامين أو التمشّيات المنهجية أو الوضعيات التعليميّة-التعلّميّة أو طرق التقييم، في خدمة هدف واحد، هو تعلّم التفكير الذي يقوم على وضع المساءلة والأشكلة والنقد في قلب التعلّمات، لما للتفكير النقدي، من جهة اعتباره بحسب هارفي سيغال، المبدأ الدامج للتعلّمات ومن جهة اعتباره حقّا فكريا، من دور هامّ في مراجعة تصوّرنا للتعليم وللتعلّم ولعلاقة المدرّس بالمتعلّم وفي إعداد المتعلّم لمجابهة تحديّات ووضعيات، أكثر فأكثر تركيبا، وباعتبار التفكير غاية تربوية قصوى.
يرتبط الرهان على أهمّية التفكير النقدي في التعليم بعودة التساؤل عن دور المدرسة في عالم متغيّر يزداد تشعّبا وتعقيدا يوما بعد يوم. فأيّ دور للمدرسة اليوم؟ دمج الفرد في المجتمع أم تهيئته للحياة العملية؟ إخضاع الفرد لإكراهات الواقع أم تطوير قدراته وبناء ذاته وشخصيته؟ إعادة إنتاج الواقع السائد أم بناء مواطنة فاعلة ومسؤولة قادرة على مقاومة الظلاميّة والتطرّف والدغمائية المعادية للعقل، من ناحية، وعلى تغيير الواقع الإنساني نحو الأفضل، من ناحية أخرى؟ ويتنزّل التساؤل عن التفكير النقدي وكيفية تطويره، في إطار الانتقال على مستوى النماذج التعليمية، تباعا، من السؤال: ماذا يجدر بنا أن ندرّس؟ إلى السؤال: كيف يجدر بنا أن ندرّس؟ إلى السؤال لماذا نتعلّم؟ وذلك في انسجام مع المقاربة السيستيميّة التي تؤكّد أهميّة التساؤل عن الهدف والغاية. إنّ الانتقال من براديغم التعليم إلى براديغم التعلّم واستبدال سؤال: ما هي المضامين التي يجب تعليمها وكيف يجب تعليمها؟ بسؤال: لماذا نتعلّم؟ يضع التفكير النقدي أساسا لكلّ منظومة تعليميّة ترنو إلى أن تكون فعّالة. فهل يمثّل استجابة لحاجة تعليمية بيداغوجية أم تلبية لحاجة اجتماعية، في مواجهة ما يشهده العالم اليوم من تنامي متسارع للدغمائية والتعصّب والعنف والجهل المؤَسَّس؟ يعدّ التفكير النقدي حاجة ضرورية للفرد وللمجتمع لمقاومة زحف جحافل اللامعقول واللامعنى وسياسة التضليل والتعمية والمظاهر الجديدة للتسلّط والرقابة وللتمييز ومخاطر الدعاية والتلاعب بالعقول، فدور المدرسة أن تعدّ إنساناً يستطيع أن يتكيف مع متطلبات القرن الجديد، بتنمية قدراته العقلية العليا، ولاسيما قدرته على الابتكار والتحليل والتجرّؤ على التفكير العلمي واكتساب مهارات التفكير العقلاني والنقدي والقدرة على الحكم وحلّ المشكلات والالتزام وتحمل المسؤولية بالإضافة إلى مهارات النجاح في العمل، كالتمكّن من مهارات التعامل مع الآخرين والتواصل معهم واحترام الرأي الآخر والاعتراف بالثقافات المغايرة والقدرة على العمل ضمن فريق. إنّ الحاجة إلى إعادة النظر في وظيفة المدرسة من التلقين إلى التفكير، إلى جانب تفاقم العنف والتعصّب واللامبالاة والانغلاق ورفض الآخر والحاجة إلى تربية الفرد وفق تمشّيات تضمن قدرته على التفاعل الإيجابي والقدرة على التغيير والقدرة على اتّخاذ القرار والقدرة على التفكير الحرّ، تجعل التفكير النقدي استجابة لحاجة اجتماعية دون السقوط في النزعة النفعية التي تختزل الحاجة إلى التفكير في حاجة المجتمع إلى قوّة عاملة كفؤة، ذلك أنّ تعزيز مهارات التفكير النقدي يعدّ ضروريا من أجل بناء مجتمع ديمقراطي ومواطنة فاعلة، وفق منظور مركّب يجعل التفكير النقدي بمثابة مثل أعلى تربوي ، يجمع بين بعد بيداغوجي وبعد ابستيمولوجي يتمثّل في تعزيز وتطوير قدرة المتعلّم على فهم المضامين المعرفيّة، بما يوفّره الموقف النقدي من قدرة على كشف الضمنيات والدواعي والاستتباعات، وبعد ايتيقي يتمثّل في ربط تعلّم المضامين والحقائق بتملّك قيم العقلانية والحياد والمسؤولية والالتزام، وهي رهانات تلتقي حول تصوّر منظومي للتعلّم يجمع بين التعلّم بهدف المعرفة والتعلّم بهدف العمل والتغيير والتعلّم بهدف تحقيق الذات والتعلّم بهدف العيش المشترك: أتعلّم لأعرف وأتعلّم لأفعل وأتعلّم لأكون وأتعلّم بهدف العيش مع الآخرين. فما هي الطريقة الأفضل في تعلّم التفكير النقدي؟ وكيف يكون التفكير النقدي دامجا للتعلّمات خاصّة على مستوى تجاوز الهوّة التي تفصل بين المواد التي يتعلّمها التلميذ دون إدراك تداخلها وترابطها؟ هل من شأن ذلك أن يطوّر مهارات المتعلّم سواء تعلّق الأمر باللّغات أو الإنسانيات أو العلوم؟ وكيف يمكن للتفكير النقدي أن يكون ضامنا لتملّك القدرة على التفكير العقلاني والذاتي والتفكير الحرّ والتفكير مع الآخرين وتجاوز هشاشة الاستيعاب الشكلاني والسطحي والأجوف للمعارف والمضامين؟ ذلك أنّ التعليم التقليدي في تركيزه على المضامين والمعارف دون اهتمام بمهارة التفكير والإبداع لدى المتعلّمين، ينتهي إلى تحويل المضامين المعرفية، على ما لها من أهمّية، إلى مجرّد واجب مدرسي، فيفقدها دلالتها ومعناها، "فالرؤوس المحكمة الصنع هي لسوء الطالع رؤوسا مغلقة" على حدّ عبارة غاستون باشلار. ذلك ما يفسّر من جهة ما، البون الشاسع بين ما يتلقّاه المتعلّم من معارف وعلوم من جهة، وشيوع التعصّب والدغمائية والتيّارات المعادية للعقل وللعقلانية العلميّة والعنف واللاعقلانيّة، من جهة أخرى. إنّ معالجة التباين الهائل بين الأهداف المعلنة على مستوى البرامج التعليمية وملامح المتخرّج وما هو متحقّق فعليا عند المتعلّمين، والذي يردّ إلى التركيز على المعارف والمضامين وإهمال القدرات الذهنيّة، يستدعي اعتماد بيداغوجيا التفكير النقدي التي تهتمّ بالتفكير في ماهيّة التفكير النقدي، ما إذا كان مجرّد مهارة أم أنّ المهارات المتّصلة بالتفكير النقدي تستمّد قيمتها من ارتباطها بالقدرة على اتّخاذ موقف، وما يتبع ذلك من مسؤولية إيتيقيّة، تضع إنسانية الإنسان في أن يجعل العالم الذي يعيشه أفضل وأكثر إنسانية، ممّا هو عليه.
تقوم بيداغوجيا التفكير النقدي حسب جاك بوازفار على ثلاثة محاور تتمثّل في تعليم مهارات التفكير النقدي وممارستها في مجالات متنوّعة وسياقات مختلفة واعتماد وضعيات تتيح للمتعلّمين ممارسة التفكير عمليّا. ويقتضي ذلك استثمار ما تتيحه المقاربات البيداغوجية الملائمة من إمكانيات عمل، مثل بيداغوجيا المشكل وبيداغوجيا الإدماج وبيداغوجيا المشروع وبيداغوجيا التفكير المنظومي والتفكير الاستراتيجي؛ وذلك بالتركيز على السؤال بدل التركيز على الإجابة كما هو الحال في بيداغوجيا التلقين والتركيز على تعليم المهارات في سياق مواقف حياتية ذات دلالة. ويرتبط تعلّم التفكير النقدي بهدف ثلاثي يتمثّل في تعلّم التفكير وتعلّم ما هو التفكير وتعلّم التفكير في التفكير (الأنشطة الميتاعرفانية)، وذلك بطريقة إدماجيّة، تؤلّف بين التفكير النقدي بما هو مجموعة مهارات والتفكير النقدي باعتباره موقفا هادفا إلى إحداث تغيير مثمر. وهو ما يجعل من التفكير النقدي تمشّ ذهني متعلّق بالنظر في القيمة أو بإصدار حكم قيمة في علاقة بفكرة أو مفهوم أو حدث أو ظاهرة أو شيء، والذي يتميّز عن الوصف أو التفسير، حيث يقف التعليم التقليدي، ومن جهة أنّه يتعلّق بإصدار حكم قيمة فهو يتميّز عن الظنّ أو الريبية. وهو حسب روبرت اينيس "تفكير عقلاني، واع بذاته وهادف بغاية اتّخاذ قرار في ما يتعلّق بما يجب فعله أو الاعتقاد فيه" . على هذا المستوى يعدّ التفكير النقدي، من جهة أنّه حصيلة تأليف منسجم بين المعارف والمهارات والمواقف والتوجّهات، مرحلة أساسية في الاشتغال على التمثّلات والتصوّرات المسبقة التي عادة ما تلعب دور العائق في التعلّم، وبصفة خاصّة ما تعلّق منها بدراسة العلوم، التي تطلّب تفحّصا عقلانيا وموضوعيا صارما ودقيقا لكافّة المعتقدات والفرضيات، ما يسمح بتحرير العقل والخيال من كلّ أشكال التعصّب والدغمائية. فأن أفكّر نقديا هو ألا أسلّم بأي فكرة أو موقف على أنّه صحيح دون فحصه عقليا ودون بيان مشروعيته العقلية، في مقابل التسليم العفوي أو الساذج، وأن أضع كلّ الآراء والتصوّرات والمعارف والمعتقدات بما في ذلك أفكاري الخاصّة ومعتقداتي الشخصية موضع مساءلة وشكّ. ويجد هذا الموقف الفكري أساسه في الشكّ بما هو تمشّ فكري تأمّلي وإرادي ومنهجي، يحفّز على التفكير خارج الأطر المألوفة ويقينا من الدغمائيّة التي تخنق العقل.
يندرج الرهان على التفكير النقدي باعتباره مبدأ دامجا للتعلّمات، في إطار مقاربة منظوميّة إدماجيّة، تتجاوز الفصل بين المواد التعليميّة، في ارتباط بغاية أساسية تكمن في تعلّم التفكير وتعلّم التعلّم، بناء على تصوّر سوسيو- بنائي للمعرفة العلمية، يستنفر جملة من المهارات والقدرات، مثل القدرة على الاستنتاج والقدرة على البرهنة والقدرة على بناء موقف أو حكم والقدرة على المفهمة والأشكلة والحجاج واعتبار الآخرين والتفكير في إطار التنوّع والاختلاف، لا في انفصال‘ هذه المهارات عن بعضها البعض، مثلما هو الحال في المقاربة التلقينيّة، بل في إطار وضعيات إدماجية وجدالية وتفاعلية، تجمع بين العرفاني والميتاعرفاني، وباتّباع استراتيجيات قائمة على المساءلة والصراع العرفاني الاجتماعي والجدل الملهم والمحفّز على التفكير خارج الصندوق والهادف إلى تنميّة روح المساءلة والحسّ الإشكالي، بدل الاكتفاء باستيعاب المعارف والمعلومات، والسكون إلى اليقينيات والبداهات المضلّلة والمعطّلة للتفكير، خدمة لمشاريع اجتماعية وسياسية كليانية معادية للعقل وللعلم وللتفكير.
وعلى خلاف طرق التدريس التي تستهدف التلقين والحفظ وحشو الأدمغة، حيث يكون على الأستاذ القيام بكلّ المهام دون اهتمام بكيفية تفاعل التلاميذ ودون اهتمام بالأفكار الطريفة والأسئلة التي تتجاوز حدود البرنامج وحيث يختزل مجهود المتعلّم في تذكّر المعلومات التي سيمتحن فيها، تتأسّس التمشّيات والوضعيات واستراتيجيات تعليم التفكير النقدي، على بيداغوجيا تحرّرية، محفّزة على التفكير وإعمال العقل، وفق ما تفترضه المقاربة المنظوميّة، في حثّ التلاميذ على التفكير انطلاقا من منظورات متنوّعة والبحث عن وجهات نظر جديدة تتجاوز المألوف وطرح أسئلة دقيقة تنفتح على فرضيات عمل جديدة وٍربط المعرفة بالسياق (الزمان، المكان، الملاحظ) و اكتساب المزيد من الاستقلالية في التعلّم والتحليل النسقي للتمثّلات الأوّلية والمعتقدات الموروثة والقوالب الجاهزة والصور النمطيّة، إذ "من الضروري أن نحمل تجويد قدرتنا على التفكير على محمل الجدّ، ذلك أنّ الأفكار السيّئة باهظة التكلفة، من جهة المال ومن جهة نوعية الحياة."

1) هارفي سيغال (1980Harvey Siegel. Critical thinking as an educational ideal. )
2) مارثا نوسباوم - ليس للربح لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الإنسانيات ترجمة فاطمة الشملان - 2016
3) بارتلانفي – نظرية الأنساق العامّة – نظرية الأنساق العامّة في التربية 1969– ص51
4) دانيال ديران – المنظوميّة - 2017 - الفصل الأوّل – العقلانية الكلاسيكية والمنظوميّة.
5) جوال روسناي – الماكروسكوب: نحو رؤية شاملة.1975
6) جوال روسناي – نفس المرجع – ص 251
7) ادغار موران – مدخل إلى الفكر المركّب -2005- – ص 13
8) ادغار موران – تفس المرجع – ص 100
9) جوال دي روسناي تفس المرجع – ص 549
10) جون مارك فارت التربية على التركيب (2011)
11) هارفي سيغال – نغس المرجع
12) "تكوين المهارات الحياتية عند التلاميذ ليس أقل أهمية من استيعابهم للمادة العلمية"(اليونسكو،1996، الألكسو 2003)
13) جاك بوازفار - تطوير التفكير النقدي في التعلم الإعدادي – مجلّة علوم التربية – المجلّد 26 العدد 3 – سنة 2000 ص 601-624
14) جاك بوازفار – تطوير التفكير النقدي في التعليم الإعدادي – 2004
15) روبرت اينيس – التفكير النقدي: تعريف مبسّط (Robert Ennis – Critical thinking – Streamlined definition - 1991)
16) دليل مختصر للتفكير النقدي – المفاهيم والأدوات- ريشار بول وليندا إلدار - The Foundation for Critical Thinking



#الطيّب_الجلاصي (هاشتاغ)       Taïeb_Jlassi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقاربة المنظوميّة: الأسس الإبستيمولوجيّة والتبعات البيداغو ...


المزيد.....




- العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500 ...
- ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
- حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق ...
- نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي ...
- اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو ...
- مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر ...
- بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
- لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
- الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
- تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الطيّب الجلاصي - المقاربة المنظوميّة: الأسس الإبستيمولوجيّة والتبعات البيداغوجيّة