أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - في ضيافة بيت العنكبوت: من بيت من وهن إلى بيت من زجاج















المزيد.....

في ضيافة بيت العنكبوت: من بيت من وهن إلى بيت من زجاج


زكرياء مزواري

الحوار المتمدن-العدد: 7563 - 2023 / 3 / 27 - 08:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


استغرقتنا التّقانة ووسائلها السّاحرة بالكامل اليوم، عن الالتفات إلى ذواتنا، أو النّظر في العوالم التي تُحيط بنا، أو مساءلة الغاية من وجودنا، لدرجة بات حالنا يُثير التّعاطف والشّفقة أكثر من أيّ وقت مضى. فمنذ أن دخل الهاتف الذكي –السمارت فون- حياة الإنسان، أعلن حالة الطوارئ، وأطلق صافرة الإنذار، وقرع طبول الحرب.
في ساحة الوغى الجديدة، تدور حرب ضروس بين الإنسان والآلة، حرب تجاوزت النّسخ المألوفة السّابقة، حيث تتبارز الأطراف المتصارعة، وتخرج كلّ واحدة منها ما جادت به قرائح الإبداع من وسائل الفتك والدمار، لتعلن في النّهاية عن الفائز من المهزوم. معركة اليوم، معركة مع الآلة، مع هذه الأداة التي أنشأها الإنسان في تبسيط الحياة وتيسيرها، وفي التّعرف على الطبيعة وتسخيرها، والتي بفرط اتّحادها مع العلم وتحرّرها من القيمة، انقلبت على وظيفتها، وصارت لها ميتافيزيقاها الخاصة بها.
لم يعد النّقاش في التّقنية، وما رافقها من تطور هائل الآن، يقف عند الجانب المعرفي فقط، بل تجاوزه إلى طرح مسألة الوجود الإنساني كوجود بات يبعث على القلق، جرّاء السطوة الفائقة للتكنولوجيا، وما تحمله من هاجس التّحكم والهيمنة، وما تضمره من رؤية للكون.
إنّ التأمل في ماهية التقنية، يجعلنا نقف أمام لحظة انكشاف لروح العصر، بما هي روح ساعية إلى رقمنة العالم، وتحويل وقائعه المتعددة إلى أعداد، وجعله يتكلم لغة رياضية حسابية. هذا الترييض للطبيعة، وهذا التّكميم الصارم لظواهرها، سيواكبه منذ المرحلة الحديثة تطوّر فلسفي ميتافيزيقي مواز لها، بحيث تستظهر كتابات تمجّد الصّرامة الرّياضية وتطبّقها في بناء أنساقها النّظرية، ويكفي أن نذكر كلُاًّ من ديكارت واسبينوزا ولايبنتز حتّى تتّضح المسألة.
ويمكن الاقتراب من هذا الانكشاف، من خلال العديد من الأمثلة الشاهدة على سيادة هذه الصياغة الرياضية للواقع، كصياغة مسكونة بهاجس الضبط والرقابة؛ فالشبكة العنكبوتية اليوم، تحققت فيها ميتافيزيقا التقنية بشكل مكتمل، وعبرها انكشفت حقيقة العالم الرقمي، كعالم لا يفهم إلاّ لغة الحاسوب القائمة على الواحد والصفر (Binary Numeral System).
في هذه الشبكة العنكبوتية، المؤلفة من عدد من شبكات الحواسيب الموجودة في العالم، والمرتبطة فيما بينها سلكياً أو لا سلكياً، بغية تبادل المعلومات والبيانات بينها، يُعاد نسج خيوط العالم المكوّنة من الألياف الضوئية، كخيوط رغم تناهيها في الصّغر، إلاّ أن قدرتها على التّحكم في خريطة الكون متناهية في الكبر؛ ولا أدلّ على ذلك من حجم التّسابق والتّنافس بين الدول العظمى اليوم، على ربط كوكب الأرض بخيوط العنكبوت البصرية الجديدة هاته.
أمام هذا التحوّل في نظرة الإنسان إلى الطبيعة، بفضل ما حققته العلوم الدقيقة من نتائج باهرة في تشفير لغة العالم، سيعاد تعريف الإنسان، وسيضاف إلى سلسلة الحدود السابقة، حد جديد وهو "الرقمي"، وستصير أناه متحددة بهذا المتغير الوافد، الذي سيعيد تشكيل علاقته مع ذاته، ومع واقعه المحيط به؛ فإذا كانت الذات فيما سلف، تدرك أصالتها وتمايزها، عبر مكوّن الغير، الذي يشبهها ويختلف عنها في الوقت نفسه، حيث يكون وجوده بمثابة قنطرة تتعرف من خلاله الذات على ذاتها، فإننا الآن أمام وسيط جديد وهو الآلة، التي صارت تلعب دور الغير في وعي الأنا بنفسها، وبذلك ألحقت إهانة أخرى إلى سلسلة الإهانات التي أزاحت وهم سيادة الذات ومركزيتها، كما فعلت الثورة الفرويدية سابقاً، وأحدثت تحولات جذرية في هوية الإنسان بشكل غير مسبوق في تاريخه.
منذ أن ظهر الهاتف الذكي –السمارت فون- كآلة متعددة الوظائف، تجمع بين وظيفة الهاتف والشاشة والتصوير والحاسوب، تغيرت علاقتنا مع ذواتنا والعالم، وصرنا ننظر إليهما بواسطة الشاشة. وبمعنى آخر، صار النّقر بالأصبع على الشاشة، بمثابة فتح نافذة منزل على الواقع، ندرك به ما يجري في الخارج، ونعيد معه ترتيب ما يعتمل في الداخل؛ أي وكأننا أمام عملية جدلية جديدة للفكر والواقع، بطلها "الآلة-الإنسان"، وليس "الحواس-العقل" كما كان في نظرية المعرفة سابقاً.
إن خيوط الشبكة العنكبوتية المتشعبة في كل مكان، سرعان ما تناسلت عنها مجموعة من الخيوط التي نسجت بدورها جملة من الشبكات الأخرى، ويمكن الوقوف عند أكثرها تأثيراً اليوم، وهي شبكات التواصل الاجتماعي، باعتبارها تطبيقات شاهدة على مدى النفوذ العميق للتكنولوجيا على حياة البشر، من حيث إتاحتها الفرصة بشكل غير مسبوق للذات بغية التعبير عن نفسها، سواء بالتواصل أو التعارف أو نشر الصور والفيديوهات أو بمشاركة الأحاسيس والانفعالات.
في هذا البيت العنكبوتي الجديد، الذي صنعه مبرمجو التطبيقات على الهواتف الذكية بطريقة بارعة، يسقط الأنا الرقمي أسيراً بين خيوطها، تماماً كما تسقط الفرائس في فخاخ العنكبوت كما هي في الواقع؛ إذ المعلوم عند الدارسين المهتمين بدراسة سلوك الحيوان، أن أنثى العنكبوت حين تتم بناء بيتها، تضع مادة لاصقة على خيوط الشبكة، كي تشعرها باهتزاز النّسيج، ثم تنقض بعدها على الطريدة العالقة به. كما أن من عجائب هذا البيت وأسراره، أن العنكبوت حيوان فرداني، ولا يعيش حياة اجتماعية منظمة كالنّحل والنّمل، كما أن العلاقة بين أعضائه تتميز بالمصلحة والشراسة وغياب الأخلاق؛ ذلك أن أنثى العنكبوت تُسارع بعد تزاوجها إلى التهام ملقّحها، وأن الأبناء بعد كبرهم يقتلون أمهم، وفي بعض الأحيان يقتل الإخوة بعضهم بعضا. فهو بيت مبني على المصالح المؤقتة، وأن أعضاءه متى انتفت بينهم المصلحة، يتفكك البناء الاجتماعي، وبذلك يكون أسوء ملجأ يمكن الاحتماء فيه.
لقد صارت الذات في زمننا اليوم عالقة في خيوط شبكات التواصل الاجتماعي، وكلّما همّت بفكّ نفسها من هذه الأغلال، ازدادت صعوبة الخروج منها، نظراً لكثرة التواء الخيوط عليها، فوقعت بذلك أسيرة لهذا العالم الشبكي. وما يزيد من درجة التكبيل هذه، تماشي طريقة إبداع هذه الشبكات وهندستها مع كيفية اشتغال الدماغ البشري وأنظمة المكافأة لديه، ومن تم الإمساك بمراكز اهتمام الذات، وجعلها مُقيمة ومُدمنة لهذه التطبيقات. فالمتعاطي مثلا مع منصات التواصل الاجتماعي، سواء بالتغريد أو نشر الصور والفيدوهات، يكون دماغه في أعلى مستويات التحفيز والنشاط، حين يتلقى مكافأة تكون على شكل "إعجاب/لايك" أو "تعليق" أو "مشاركة/تقاسم" محتوى، وبالتالي يزداد هرمون "الدوبامين" لديه، وتزداد معه جرعات الإدمان على النشر المتواصل في هذه المواقع. كما أن هذا التحفيز العصبي، يوازيه تحفيز نفسي لاشعوري لدى المبحر الافتراضي، بحيث تتكوّن لديه بنية نفسية تمنحه الشعور بالثقة والارتياح في هذه الشبكة. لكن، ما غفل عنه المبحر العالق في خيوط الشبكة العنكبوتية، أنه صار مجرد لعبة في يد رأسمالية رقمية متوحشة، تقودها شركات كبرى مهمتها جمع المعطيات ومعالجتها، وبيع البيانات للشركات التجارية أو المصالح الاستخباراتية.
هذا الإنسان الشفّاف، الذي توهّم السيادة في الشبكة ونسي الدور الخفي للبرمجيات واللوغاريتمات في قيادة ذاته وتوجيهها، أمسى كائناً سطحيّاً يمكن رؤية كلّ شيء من خلاله؛ فسلوكاته وعلاقاته واندفاعاته وانفعالاتها وأذواقه ومزاجه، كلّها باتت مكشوفة، وقابلة للرصد والمعاينة، ممّا يجعلنا أمام ذاتية جديدة عنوانها الضحالة وغياب العمق وأفول الجوّانية وشذوذ الحياة الخاصة.
هكذا يكون حال إنسان السوشيال ميديا، إنساناً عالقاً في خيوط الشبكة العنكبوتية، فاقداً للحرية، ومُستلبَ الإرادة، يعيش حالة اغتراب عن ذاته وواقعه، لا همّ له سوى استجداء اللايكات، بحثاً عن تقدير الذات ونزع الاعتراف، وتسجيلاً دائماً للحضور، دفعاً للقلق وخوفاً من الفقدان والنسيان. فما أوهن هذا البيت لو كان سكان العالم الافتراضي يعلمون!!



#زكرياء_مزواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكَهْفُ الافتراضي: هل فكرنا يوماً في السوشيال ميديا أَمْ عَ ...
- الجنس البارد
- نوستالجيا -سيد لميلود-
- في الحاجة إلى تعليم ذكوري
- المدرسة والمتعلم وتزييف الوعي
- المدرسة سجن كبير
- مجتمع الهمزة... نحو نموذج تفسيري جديد
- الدين والطقسنة القاتلة
- مجتمع الحزقة.. نحو نموذج تفسيري جديد
- مفهوم القودة...نحو نموذج تفسيري جديد
- عيد المولد النبوي الشريف في حينا
- مجتمع -العطية-... نحو نموذج تفسيري جديد
- فصل المقال في تقرير ما بين العلم والعوام من انفصال
- مجتمع الحشية.. نحو نموذج تفسيري جديد
- في رحاب الزاوية
- رمضانُ في الذّاكرة (ج2)
- رمضانُ في الذّاكرة (ج3)
- رمضانُ في الذّاكرة (ج4)
- رمضانُ في الذّاكرة (ج1)
- حُبٌّ فِي زَمَنِ التُّيُوسِ


المزيد.....




- ماذا دار في أول اتصال بين وزير دفاع أمريكا مع نظيره الإسرائي ...
- ألمانيا تحتفل بالذكرى الـ 35 لسقوط جدار برلين بعرض فني في ال ...
- وفا: ترامب يجري اتصالا مع الرئيس عباس ويؤكد أنه سيعمل من أجل ...
- شاهد.. أكوام من السيارات المحطمة تعود إلى شوارع إسبانيا مع و ...
- مصر ترحب باعتماد مشروعها لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من ال ...
- -وول ستريت جورنال-: ماكرون استجدى ترامب للحصول على تنازلات ح ...
- زاخاروفا: زيلينسكي مستعد للتضحية بمواطني أوكرانيا من أجل الح ...
- تايوان تسعى إلى كسب ود إدارة ترامب القادمة
- بالفيديو.. ظهور شاهقة مائية في نابل التونسية.. ما هي وما تفس ...
- وزير الدفاع البولندي يعلق على خطط ترامب بشأن أوكرانيا


المزيد.....

- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - زكرياء مزواري - في ضيافة بيت العنكبوت: من بيت من وهن إلى بيت من زجاج