أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق















المزيد.....

في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1709 - 2006 / 10 / 20 - 11:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يكن قليلا عدد المثقفين العرب الذين دعوا إلى تغيير أساسي في المسار السياسي - القيمي العربي. تغيير ثقافي يعيد ترتيب علاقة العرب بالعالم وبذاتهم، كما وعيهم لهاتين العلاقتين. ولم يكن نادرا أن تعرضوا لاتهامات بالجحود أو الخيانة أو الكفر. وفي جذر هذه الأحكام ثمة موقع العرب المنفعل في عملية الحداثة العالمية، السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية...، الذي ينعكس انقساما ذاتيا وعنفا ماديا ورمزيا، داخليا وخارجيا. وهما عنف وانقسام يستوطنان الثقافة بقدر ما تعجز السياسة عن ضبطهما والتحكم بهما. وبينما قد يبدو التخوين والتكفير صيغتا احتجاج ثقافي على سياسة بلا قيم، فإنهما في الواقع مظهران لامتداد منطق الصراع على السلطة إلى ميدان الثقافة والدين، وآليتان لتسخير الثقافة والدين لحماية السلطة. فالتكفير لا ينبع من الدين من تلقاء ذاته، بل من مركب سياسي ديني تحتل السلطة غير التعاقدية فيه موقع المبادرة. وبالمثل لا ينبع التخوين من وطنية عربية أو وطنيات محلية متماثلة مع ذاتها دوما، بل من حاجة نظام الوطنية الاستبدادية إلى حماية وتأبيد ذاته. وإنما لذلك لا يمارس التخوين المثقفون الديمقراطيون والليبراليون، بل سلطات وتنظيمات تسعى لاستتباع الثقافة، ولا يجنح نحو التكفير رجال دين عقلانيون، بل منظمات وسلطات طامحة للاستيلاء على السلطة العمومية.
تخلط الاتهامات هذه بين الثقافة والنظام الثقافي. والتمييز بين هذين بسيط، ولا غنى عنه. فالثقافة تتكون من عناصر رمزية واعتقادية وأخلاقية وعملية.. يمكن أن تتشكل في نظم مختلفة باختلاف الأزمنة والبيئات والنظم الإنتاجية والسياسية. يستغل التخوينيون والتكفيريون الالتباس بين هذين المفهومين، من أجل عزل أو نبذ من يحتجون على النظام الثقافي القائم باتهامهم بالاعتداء على روح المجتمع وخيانة قيمه المكنونة في ثقافته. فالتخوين والتكفير آليتا دفاع ثقافة انتظمت على صورة معينة، ويهدد انتظامها على صورة مختلفة بالإطاحة بنظام المراتب الاجتماعية والسياسية والرمزية التي تثبتها الصورة القائمة وتضفي عليها الشرعية. ومن المنطقي والمنصف أن الخائن هو من ينتهك أو يدعو لتغيير النظام الثقافي السائد.
المشكلة أن "الخونة" قلما كانوا جديين في "خيانتهم"، وقلما تحلوا بالصبر والشجاعة من أجل إحداث تغيير ثقافي حقيقي. وأول مظاهر نقص جديتهم وضعف ثقتهم بأنفسهم هو سخطهم من الاتهام بالخيانة أو الكفر. أي بالفعل عدم وعيهم بما يفعلون. فالخيانة هي التهمة الصحيحة من وجهة نظر النظام الثقافي السياسي القائم لمن يعملون من أجل نظام جديد أو شرعية جديدة. إنها مظهر لنشاط وظيفته المناعية، التي تتولى حمايته وإبعاد المخاطر عنه. بقول آخر، الخيانة هي التعبير الطبيعي عن وظيفة تخوينية حيوية لنظام ثقافي سياسي. والرد الوحيد على تهمة الخيانة هو تعرية الآليات التخوينية للنظام الثقافي السياسي القائم، والعمل على بناء نظام جديد أكثر انفتاحا وأقل إقصاء واستبدادية. إن "الخيانة" المولدة للمعنى هي تلك التي تؤسس "وطنية" أو شرعية جديدة، يتعرف المُخوِّنون السابقون بالذات على تطلعاتهم الشرعية في نسقها القيمي الجديد.
ينزلق "خائنون" في ثقافتنا المعاصرة إلى اتهام مخوِّنيهم بالجمود والتحجر، وقد يجنحون إلى اتهام ثقافتهم بالفساد الجوهري والعقم، ما يحكم على جهودهم بالبطلان وانعدام المحصول، ويحكم عليهم هم بالذات بخارجية واغتراب مقيمين، ينتهيان بهم إلى الهجرة الدائمة في الخارج الغربي. ينتهون إلى "خيانة" مبتذلة لأنهم لم يضطلعوا بجد بفعل التآمر والانقلاب على السلطة الثقافية السائدة. فخيانة المثقفين هي فشلهم في النهوض بأمانتهم الخاصة: نقد ثقافتهم ونظامهم الثقافي، سواء بالجبن أمامها أو بالخروج منها وعليها. وقد نمضي إلى حد القول إن أمانة المثقف هي أن يخون السلطة القائمة، السلطة السياسية والسلطة الثقافية والسلطة الدينية..، تلك التي لا يكف السياسي عن رفعها فوق النقد. السلطة دين السياسي وليست دين المثقف.
هل، إذاًً، لا يمكن للسياسة أن تسهم في التغيير الثقافي؟ فيما عدا أن ما قد يمكن إنجازه بالسياسة ينبغي إعادة كسبه بآليات الثقافة كي يعاد إنتاجه ويستقر كثقافة، فإن ثمة مفارقة كبيرة تتربص بالدعوات السياسية إلى تغيير ثقافي أساسي يرتفع إلى مستوى "خيانة" مجددة للأمانة والشرعية: لا يستطيع أن يتخذ قرارا بالخيانة غير من (فرد أو نخبة) يتمتع بشرعية حقيقية كبيرة. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون المرء "بطلا" معترفا به، كي يستطيع أن يكون "خائنا" مؤسسا؛ أن يحوز مرتبة رفيعة من الشرعية على المقياس الثقافي الحالي كي يمكن أن يبادر إلى تغيير المقياس. يتعلق الأمر بتراكم شرعية أولي، إن صح التعبير، كشرط للإقلاع نحو نظام شرعية جديد. لم يستطع مصطفى كمال أن يؤسس شرعية جديدة في تركيا، ويخون الشرعية العثمانية، إلا لأنه جنى شرعية كبرى من انتصاراته العسكرية التي حافظت على كيان تركيا، أو بالأحرى ابتكرت كيان تركيا الذي نعرفه اليوم. لقد استحق لقب أبو الأتراك لأنه "خلق" وطنه. وإنما في الأزمنة التأسيسية، أزمنة إعادة التشكل، ينتهك منطق التمايز والاختصاص ويختلط السياسي بالثقافي بالاعتقادي.
نظم الحكم العربية لا تفتقر فقط إلى شرعية تمكنها من التدخل في الثقافة، وإنما هي تجد في تغذية الامتثالية الثقافية ومعاقبة الاختلاف الفكري والسياسي والمحافظة الدقيقة على رسوم الثقافة القائمة وأنماط السلوك والتفكير المستقرة المصدر الأوحد لشرعيتها. نخب السلطة العربية ضعيفة ثقافيا لأن شرعيتها السياسية معدومة. وهي لذلك بالذات غير قادرة على قيادة مجتمعاتها، وإن كانت تحكمها. ولذلك أيضا تفرط في توسل العنف في حكمها.
على أن واقع العلاقة بين الثقافة والسلطة أعقد من ذلك. ليست الثقافة القائمة في مجتمعاتنا اليوم هي "ثقافتنا الأصيلة" وخزان قيم شعبنا وما إلى ذلك من عبارات القاموس الشعبوي. إنها هي بالذات نتاج صنعي (سميناه النظام الثقافي) تشارك في صنعه النخبة السياسية والثقافية التي تضفي الثقافة تلك الشرعية والطبيعية على احتلالها أعلى مراتب السلطة. إن الشعبوية، سياسة تتحدث باسم الشعب وثقافة تحدد ما يريده ويفكر فيه الشعب، نتاج نخبوي لا علاقة له بالشعب. أكثر من ذلك الشعبوية تسهم في إنتاج "الشعب" وإنتاج وعي لذاته منفصل عن واقعه (والإكراه والعنف اللذان يتكفلان بطرد الشعب "النثري" من الحياة العامة يسهمان بدورهما في إنتاج الشعب الشعبوي، الذي "يقف صفا واحدا خلف قياديته التاريخية" حسب البلاغة الشعبوية السورية). حين اهتاج حشد من الناس في دمشق بسبب رسوم كاريكاتيرية دانمركية وأحرقوا سفارتين... كانوا يتصرفون بمقتضى صورة عن "الشعب" أنتجتها نخب (سياسية ودينية وثقافية وإعلامية) وجدت هذه الصورة مفيدة لها. وإنما عبر تنسيق "احتجاج" مدمر كهذا، وبالخصوص عبر تغطيته وعرضه إعلاميا وتأويله ثقافيا، تصنع النخب تلك "الشعب" المناسب لنظام سيطرتها.
ألا يتناقض ذلك معه ما قلناه من أن نخب السلطة في بلادنا ضعيفة ثقافيا؟ الواقع أن حرية النخب (تلك المسيطرة على السلطة السياسية وتلك التي تدير "الرأسمال الرمزي") مقيدة إلى اتجاه يصون نظام المراتب الذي تتسنم ذروته. أي أنها مشدودة إلى ممارسة سياسة ثقافية مرسخة للمراتبية القائمة. والنقطة الأساسية في هذا السياق أن نخبة السلطة السياسية لا تحوز شرعية ذاتية، أي شرعية سياسية، تقوي موقعها في وجه النخبة التي تحرك الدين أو الهوية. وتجد هذه في إنتاج تصور شعبوي للشعب، وتأويل متشدد للدين، ونظام صارم للهوية، ما يعزز هيمنتها على الجمهور العام ويقوي فرصها في الشراكة مع نخبة الحكم.
في المجمل، لا ينفصل نظام الثقافة العربية الراهن، ونزعتها الماثلة إلى المحافظة والتشدد في المجالات الدينية والرمزية (اللغوية بخاصة) والسلوكية، وميولها التخوينية والتكفيرية، عن نظم سياسية استبدادية . فالتشدد هو استراتيجية مجربة للحفاظ على سيطرة النظم هذه. وهذا ما يفسر أنها دوما أمتن إسلاما من أي مسلمين معارضين لها، وأكثر عروبة من أي عرب محتجين عليها. ما يفسر أيضا أن تاريخنا المعاصر اتسم على الدوام بانتصار الإسلام وهزيمة المسلمين.
نريد أن نظامنا الثقافي الراهن مسيس جدا ومعجون بالسلطة إلى درجة قلما نتخيلها. هذا (وليس أية "طبيعة أصيلة" لثقافتنا) مصدر التخوين والتكفير. وهذا، أعني استتباع السلطة للثقافة والدين وفقدان هذين لاستقلالهما، هو ما يجعل الإصلاح الثقافي والديني عسيرا ومسيجا بالتخوين وهدر الدم. نريد كذلك أن "الخيانة الثقافية" أو "الخيانة العليا" عملية ثورية تهدف إلى إعادة تأسيس السياسة والسلطة والشرعية في مجتمعاتنا، وهي تاليا أخطر بكثير من أن تكون محض دعوة حسنة النية إلى تغيير في القيم الثقافية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في مديح الخيانة
- نحو حل غير نظامي للمشكلة الإسرائيلية!
- -غرابة مقلقة- للإرهاب في سورية!
- في انتظام الطوائف وتبعثر الأمة
- في أصول -ثقافة الهزيمة-
- صراع حضارات أم طائفية عالمية؟
- من استكمال السيادة إلى عملية بناء الدولة الوطنية
- نصر نصر الله!
- في الحرب وتكوين الشعور العربي المعاصر
- فرصة لتجديد النقاش حول قضية الجولان
- في نقد الخطاب الانتصاري التخويني
- حرب لبنان بين الليبراليين والقوميين الإسلاميين
- -حب الدبب- والدول المضبوعة
- أقوياء، متطرفون، وقصار النظر
- حالة حرب: محاولة لقول كلام هادئ في وقت عصيب
- سورية والأزمة اللبنانية: حصيلة عامة أولية
- انتصار الدولة والمقاومة في لبنان ممكن!
- أهل بيت الموت!
- مصلحة لبنان والعرب منع هزيمة حزب الله
- بالمقلوب: متطرفون عموميون ومعتدلون خواص!


المزيد.....




- فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني ...
- إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش ...
- تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن ...
- الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل ...
- تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
- بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
- تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال ...
- -التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين ...
- مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب ...
- كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق