|
لِلنَّاسِ فِيمَا يُفكِّرون مَذاهِبْ..
زكريا كردي
باحث في الفلسفة
(Zakaria Kurdi)
الحوار المتمدن-العدد: 7548 - 2023 / 3 / 12 - 19:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
--------------------------- لِلْوهْلة اَلأُولى قد يَبدُو لِلْعيَان ، أنَّ أَنمَاط التَّفْكير الإنْسانيِّ كَثِيرَة جِدًّا ، وَلهَا دَرَجات مُتَعددَة مِن الوعْي والْإحاطة والْفَهْم ، رُبمَا يَصعُب على المرْء اَلحصِيف حَصرُها تمامًا ، أو تصْنيفهَا بِدقَّة . لَكن أَعتَقد ، إذا ما دقَّقْنَا النَّظر جيِّدًا في الأمر، يُمْكننَا أنْ نُميِّز نَوْعان منْ أنماط التفكير عند الناس بعامّة: - النَّوْع الأوَّل هُو : النَّوْع الشَّائع بَيْن النَّاس، اَلذِي أُسَميه " التَّفْكير العاديَّ " ، أو التَّفْكير المسْتكين اَلبسِيط ، أو غَيْر اَلنقْدي ، اَلذِي يَقبَل عادةً الحوادث والْمعْلومات اَلتِي تُواجِهه بِسهولة ، دُون أيْ تَمحِيص أو مُسَاءلَة ، ويلْتَهم الأفْكار أو الادِّعاءات أو اَلحُجج دُون التَّشْكيك فِيهَا أو تقْييمهَا . وقد أمْكنَني حَصْر ثَلاثَة مَلامِح مُتشابهة ومتداخلة لِهَذا النَّوْع مِن التَّفْكير العاديِّ : 1 - الملْمح الأوَّل هُو أَنَّه " تَفكِير اِنْفعاليٌّ سَاذِج " ، حَيْث يُمْكِن بِسهولة إِقنَاع صَاحبِه أو التَّلاعب بِه مِن قَبْل الآخرين ، دُون أن يَكُون لَديْه - غالبًا - أَيَّة شَجاعَة أو إِرادة ، لِلانْخراط جِدِّيا فِي غِمَار التَّحْليل المنْطقيِّ والْمدْروس ، لِلْأحْداث اَلتِي تَمُر بِه أو مِن حَولِه ، أو التَّبَصُّر فِي المعْلومات اَلتِي تَعرَّض عليْه ، سَوَاء دِينيًّا أو دِراسِيًّا أو إِعْلاميًّا . 2 - الملْمح الثَّاني هُو أَنَّه " تَفكِير مَسلُوب أو مغيب "، حَيْث اِعْتَاد أَهلُوه (رُبمَا بِسَبب الوراثة أو الخوْف أو . . إِلخ ، على قَبُول المعْتقدات الشَّائعة أو الأفْكار الرَّائجة بِحجَّة الأكْثريَّة ، والدِّفاع عَنهَا بِاسْتماتة، بِنَاء على الخرافات أو الخيَال أو التَّمَنِّي ، بدلا مِن تَكلِيف النَّفْس عَنَاء البحْث عن اَلدلِيل والْبرْهان ، أو اِسْتخْدام أيِّ مِن طُرُق التَّفْكير المنْطقيِّ . 3 - الملْمح الثَّالث هُو أَنَّه " تَفكِير عَقائِدي أُصوليٌّ " ( دُوغْمائي ) ، بِمعْنى أَنَّه يَنطَوِي على خاصِّيَّة الإيقان الصَّارم بِمعْتَقد مَا ، أو التَّشَدُّد العارم لِوجْهة نظر مُعَينَة ، أو التَّمَسُّك الأعْمى بِقوالب فِكْريَّة مُنجَزَة جَامِدة ، دُون أَدنَى اِسْتعْداد لِلانْفتاح على اَلأدِلة المضادَّة لَهَا ، أو نِيَّة مُحَاورَة الاسْتدْلالات اَلتِي قد تَتَعارَض مَعهَا . - أَمَّا النَّوْع الثَّاني مِن أَنمَاط التَّفْكير فَهُو " التَّفْكير اَلنقْدِي " . . الذي أُحبِّذ أن أُسَمّيه " التَّفْكير اَلسوِي " . . لِأنَّ بِه فقط - كمَا أَزعُم - سيكوِّن لَدى المرْء اَلقُدرة على التَّفْكير الفاعل المسْتقلِّ ، وَتطوِير أفْكاره ، دُون أن يَتَأثَّر بِالْآخرين بِشَكل ضارٍّ أو غَيْر مُلَائِم . وَلكِن هذَا النَّوْع مِن التَّفْكير اَلفطِين ، يَتَطلَّب - فِي تقْديري - اِسْتعْدادًا ذِهْنيًّا - على الأغْلب يَكُون وِراثِيًّا - لِلتَّعَلُّم وتحدِّي الفكْر السَّائد ، وَتقيِيم المعْتقدات المهيْمنة ، بِالْإضافة إِلى مَوهِبة خَلْق الافْتراضات الخاصَّة بِالْفَرْد فِي ضَوْء المعْلومات المتواردة والْأدلَّة الجديدة . وَلعَل أهمَّ سِمَات هذَا " التَّفْكير اَلنقْدِي " اَلسوِي : 1 - سِمة التَّفْكير المنْطقيِّ اَلمُنظم بِدقَّة : وَتعنِي - كمَا اِفْهمْهَا - أن يَتَمتَّع الذِّهْن بِالْقدْرة على التَّفْكير اَلمُنظم اَلعمِيق ، وامْتلاك مَزيَّة التَّجْريد والتَّعْميم ( التَّفْكير اَلكُلي ) ، أو بِمزيَّة الإحاطة اَلتِي تُمَكنه مِن خَلْق رَوابِط مَنطقِية بَيْن المعْلومات والْأفْكار والْأحْداث ، ضِمْن إِطَار مُنظَّم مُتسِق ، وَاضِح ومفْهوم . وأن يَكُون نَبِيهَا إِلى دَرجَة يَكُون بِاسْتطاعته فَهْم المعْلومات وتفْسيرهَا وَعرضِها بِدقَّة . وَمِن ثمَّ اِتِّباع مَنهَج مَا ، فِي تَتبُّع مسارَات التَّفْكير المناسبة لِلْوصول إِلى الاسْتنْتاجات الجديدة . 2 - وَرُبمَا الأهمُّ مِن ذَلِك كُلُّه ، الاتِّصاف ب سِمة الموْضوعيَّة ونقْد الذَّات : والْموْضوعيَّة لََا تَعنِي - بِالنِّسْبة لِي - إِطفَاء اَلمُفكر جَذوَة العواطف تمامًا أَثنَاء التَّعَلُّم أو التَّفْكير بتاتًا ، فلَا أَظُن أنَّ هُنَاك عِلْم جَيِّد أو مَعرِفة حَقيقِية أن تُوجَد مَا لَم يُرافقْهَا شغف مَا ، أو تَكسُوها عَاطِفة بِدفْء مَا . وَلكِن مَا أَعنِيه بِالْموْضوعيَّة ، أن يَكُون لَدى الفرْد اَلقُدرة على مُدَاورَة الأفْكار المخْتلفة ، بِمَا فِيهَا تِلْك الأفْكار اَلتِي لََا يُؤْمِن بِهَا ، أو تَضَاد يقينياته ، وأن يَعمَل جاهدًا ، على الفصْل بَيْن مَا يَعرِف وَيوقِن أَنَّه حَقِيقَة ، وبيْن مُجريَات الواقع ، اَلذِي يُواجِهه ويعيش فِيه ، بِكلِّ معْلوماته وأحْداثه وتغيُّراته . . بِالْإضافة إِلى أن يَكُون لَدى هذَا الإنْسان المقدَّرة على التَّفْكير فِي ذَاتِه ونتائج أفْعاله بِصدْق ، وتقْييمهَا بِوضوح ، دُون تَحيُّز أو أيِّ حُكْم مُسبَق ، مَهمَا بَلغَت قُدْسيَّته أو مهابَته . والْمفكِّر الموْضوعيُّ لََا يَكتَفِي بِذَلك فقط ، بل عليْه - فِي زَعمِي - أن يَسعَى دائمًا إِلى التَّعَرُّف على أَسبَاب تِلْك التَّحيُّزات والْقيود والافْتراضات ، وأن يفْهمَهَا جيِّدًا ، ويبْحث بِدَأب ومثابرة ، عن الطُّرق الفعَّالة لِلتَّعامل مَعهَا . 3 - الاتِّصاف ب " سِمة اَلشَّك " وَهذِه سِمة تُعزِّز السِّمَات السَّابقة : وَهنَا يتوجّب عليَّ التّنويه ، أنّي لا أَقصِد اَلشَّك اَلمُطلق ، أو اَلمُدمر لِكلِّ حَقِيقَة وَفِكرَة وَثَبات ، اَلذِي يَقُود الذِّهْن إِلى عَمَاء العدم وفوضى التفكير. بل مَا أَقصِده " اَلشَّك المنْهجيَّ " ، المتمثِّل بِالْقدْرة على النَّظر بِشَكل نَقدِي فِي الأحْداث والْمعْلومات والْأفْكار والْحجج ، والتَّشْكيك اَلعقْلِي فِي الادِّعاءات، اَلتِي لََا أَسَاس لَهَا ، أو اَلتِي لََا تَمُت إِلى الواقع بِصلة . قُصَارَى القوْل : يُمْكِن القوْل إِنَّ الاهْتمام بِمناهج التَّعْليم وَتطوِير مهارَات التَّفْكير اَلنقْدِي هِي اَلسبِيل لِوَقف التَّدهْور اَلعقْلِي فِي أيِّ مُجتَمَع . وَأزعم بذَلِك فقط ، سَيتِم تَحسِين قُدرَة الأفْراد على التَّحْليل والتَّقْييم بِموْضوعيَّة ، ويساعدهم على حلِّ المشْكلات بِفعَّاليَّة ، واتِّخَاذ القرارات المسْتنيرة ، بِمَا يُعزِّز التَّواصل والتَّعاون بَيْن الأفْراد ، ويزيد مِن فُرَص الإبْداع والتَّنْمية الحقيقيَّة فِي كَافَّة مَناحِي المجْتمع . بِعبارة وَاحِدة أَخِيرَة : أنَّ المجْتمع اَلذِي يَتَمتَّع أبْناؤه بِمهارات التَّفْكير اَلنقْدِي ، سَيكُون حتْمًا ، المجْتمع الأكْثر اِسْتنارة وإبْداعًا وتعاونًا وتقدُّمًا . . وَبكُل تَأكِيد سَيكُون مُجتَمَع لَه مَكانَة مَا ، فِي أيِّ مُسْتقْبَل إِنْسانيٍّ مُشْرِق وَذُو قِيمة . zakariakurdi
#زكريا_كردي (هاشتاغ)
Zakaria_Kurdi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أَحزان الشّاب - فارتر- .. ل غوته
-
حَدِيثُ اَلدِّيمُقْرَاطِيَّةِ . . ( 2 )
-
دِينُ اَلطَّبِيعَةِ عِنْد - جَانْ جَاكْ رُوسُّو -
-
سؤالٌ أكْبر مِنْ إجابَتهِ ..
-
كتاب - هَكذَا تَكلَّم زرادشْتْ -
-
كِتَاب - تَطوُّر مَفهُوم الإله -
-
لَسنَا وحْدنَا فِي هذَا الكوْن 2
-
لسنا وحدنا في هذا الكون ..!!
-
حَدِيثُ اَلدِّيمُقْرَاطِيَّةِ .
-
رسالةٌ إفتراضية..
-
أفكارٌ حول أهمية الإنسان -جبران خليل جبران-
-
رسالة حول التسامح ..
-
لإرهاب عدو الانسانية جمعاء..
-
هلْ يوجد لدى الإنسان إرادة حرّة أمْ أنّها مُجرد وهم.؟
-
الفرق بين التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي
-
نبذة بسيطة حول فلسفة إسبينوزا
-
أفكار أولية حول مفهوم الدّينْ..
-
آراءٌ بسيطٌة غير مُلزمٍة لأحد.. (17)
-
مداخلة حول -معنى وأهمية التفلسف-
-
آراءٌ بسيطٌة غير مُلزمٍة لأحد.. (16)
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|