|
مدخل إلى : “متاهات الشنق” للقاص المغربي شكيب عبد الحميد
هشام بن الشاوي
الحوار المتمدن-العدد: 1707 - 2006 / 10 / 18 - 04:36
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في كل مرة ، وفي كل حالة… أعيد فيها قراءة ” متاهات الشنق ” للقاص شكيب عبد الحميد ، أستعيد متعة أفتقدها في كتابات كثيرة… وتنفتح آفاق جديدة للتأويل ، إذ نهاية كل نص هي بداية جديدة ومتجددة لقراءة أخرى… لنصوص تتفاوت أحجامها ، وتتباين طرق سردها إذ لجأ الكاتب إلى تكسير خطية السرد ، وتفتيته.. كما تداخلت الأزمنة والأمكنة في نصوص أعادت صياغة الواقع اليومي ، بكل رداءاته وانكساراته… لشخوص سيزيفية ، غارقة في التيه ، والعطالة والشنق .. شنق الوقت ، واغتيال الفراغ بالعهارة والسكر… والكتابة أيضا !
حين يخفت صوت الأيديولوجيا في زمن سقوط الأيديولوجيات ، لا يجد السارد/الشارد ملاذا سوى البحر ، ليتطلع من بعيد إلى أنوار ” مسقط الرأس والقلب والجيب “.. مدينة أزمور، فتتداعى ذكرياته المشروخة … ويخيل إلينا أن الكاتب يعيش حالة (نوستالجيا ) ، وهو يلطخ بياض الورق ، باحثا عن النغمة المفقودة … ويذكرنا هذا النكوص الإبداعي الجميل بكتابات سعيد الكفراوي ، فأزمور تحضر في تضاعيف ” المتاهات ” بشكل لافت … ولا نعثر على ” الجديدة ” حيث يقيم حاليا شكيب عبد الحميد إلا كبرج مراقبة. فمن مقاهيها الشاطئية يرسل البصر إلى ملتقى النهر والبحر… وحين يمتزج الواقع بالخيال ، تتجلى له مدينة الأولياء والكرامات… كنيويورك في زحمتها ، حيث يتكدس أهاليها أمام الأوبرا ، ويقف السارد مشدوها أمام تمثال من فضة لأحد مبدعي مدينته القريبة – البعيدة … لكن هذه الأزمور الأخرى التي يحلم بها ليست كالبيضاء ، غابة الإسمنت والحديد ، التي هجاها في قصة : ” تراجيديا الأشياء والرحيل”، والتي وصفها أحد الكتاب ، لا أتذكر اسمه الآن أنها : ” الممر إلى الجحيم “.
لا تتجلى لنا براعة الكاتب في نسج حكاياه ، وإتقانه لصنعة الكتابة إلا مع حضور تيمة الكتابة المغايرة… حيث يراهن على البحث عن” أشكال جديدة … عن مجار حرة …و مسالك بكر …” (حكاية من ألف ، ص47 ) . لكن هذا لا يعني تجاوز تاريخ السرد العربي القديم، بل تتعايش عناصر القص الموروثة ، وتقنيات التجريب … لإفراز نص متناسق ، متناغم ، يعبر عن اللحظة الآنية … وبذكاء شديد ، يجرنا القاص إلى متاهاته … حيث استهل مجموعته بقصة الركح الثلاثي ، وختمها بقصة التنويعات على اللحن الأساسي ، والجدير بالذكر أن شكيب عبد الحميد يلجأ في قصصه إلى تقنيتي التقطيع والمونطاج .. تقطيع المشهد القصصي إلى لقطات، وإعادة تركيبها بشكل حلزوني …
- في قصة” أزمور … ولتحترق كل الأشياء ” : يمكن لأي قارئ عادي أن يدرك ماوراء سطورها ، فحين يقترن الضياع بالتيه ، بالسكر، لن نفاجأ مع بطل القصة وهو عائد من الحانة أن تقتنصه دورية ليلية … - في قصة ” عن السيدة أحكي ” : يحضر (البار) كفضاء للنسيان والتذكر .. نسيان خسارات اللحظة ،واستحضار لحظات منفلتة … فالسارد يمتح من أجواء الحكي الألف ليلي لبناء نصه ، حيث يحكي لرفيقه تفا صيل مغامرة عاطفية مع سيدة مخملية ، لكن هذا الأخير، ينام قبل أن تكتمل الحكاية ، ويعدنا ” شهريار” أن يستأنف الحكي في الليلة التالية .
- في قصة ” يوم عادي ” : ينتقل بنا المؤلف من فضاء الخمارة والليل إلى المقهى ، لكنه لا يشارك في صنع الحدث، وإنما يلتقطه بحاستي السمع والبصر، وهو يراقب السياح ونتلصص معه على شاب مغربي ، نعرف من خلال حديثه مع رفيقته أنه ” شاذ جنسيا ” ونراه ، وهو يشعل سجارة – بحذف الياء ، كما يحلو للكاتب أن يكتبها – ويقدمها لسائح .. طبعا ، كل هذه السلوكيات الغريبة اعتدناها ، لكن ماليس عاديا أن يحدث هذا في يوم رمضاني ، والشمس تصهل في كبد السماء .
- في قصة “الشارد والسارد” : يغيب الحدث وتحضر الذكرى ، ويتوقف الزمن ، ويصبح المكان هو الشخصية المحورية في النص ، ولو بالغياب … وقد لجأ السارد / الشارد في هذا النص الى تقنية التجريد والمونولوج ، فثمة حوار – ضمنيا – بين السارد وأناه ،لا بينه وبين القارئ المفترض …
- أما في نص ” الرجل الأبله … الراقد على حافة القبر …” يقتحم شكيب عبد الحميد عالم المجهول ، الذي يعد طرق أبوابه من الطابوهات … إذ يتخطى عتبة الميتافيزيقا ، ويبحر في اتجاه المجهول ،لمساءلة الوجود و المصير، ويخدش مرايا السكون … وتصدمنا لغته ببشاعة تصويرها ، وعنف تعبيراتها …
وفي ما يلي كتابة ثانية على هامش هذا النص المنفلت ، الذي يعد أقصر نصوص المجموعة و أروعها …
بعد تحطيم الجدار الكلاسيكي الذي وضعه السالفون بينهم وبين المتلقي ، يدعونا إلى المشاركة في كتابة هذا النص ، وذلك بإعادة قراءته في ضوء إضاءة هرمان هسه : ” لسنا نعلم ما يريد الرب منا…” ، لحل شفراته ، وفك طلاسمه … ونحن بدورنا نتساءل لماذا اختار أن نتصور رجلا راقدا على حافة قبر ؟ أليس في هذا إحالة على الشيخوخة ، ودنو الخطوات من القبر؟… لكن لم لم يختر امرأة ؟ ! ولماذا مجنونا بالضبط ؟ ألأن المجانين ، والسكارى والمشردين من يناموا بين القبور؟ ومن هذا الرجل المقذوف به في وجود النص ؟ وما سر جنونه … ؟ أهي عوادي الزمان؟ ! هل الحرمان من ملكة العقل نعمة يحسد عليها المجانين ؟ هل الانحراف في لعبة الحياة / الموت ضرب من البلاهة ؟ هل تحتاج الحياة إلى أن نفكر فيها أم نعرف كيف نعيشها ؟ هل العقل يحكم على حياتنا بالألم والشقاء ؟ أليس في إعدام العقل موتا رمزيا للكائن البشري ، ودعوة بوهيمية إلى العيش بإحساس القطيع؟ !
ثم يتحث السارد عن الرقاد / النوم / الاستراحة / الاسترخاء النفسي .. وفي النوم يستوي العاقل والمجنون إذ يبدو كلاهما نصف ميت ، لكن على حافة ماذا يرقدان … ؟ !
هذا سيجرنا إلى الحديث عن القبر / المثوى الأخير، حيث ننعم برقادنا الأبدي … هذا ما قد يجول في خواطرنا للوهلة الأولى ، بيد أن السارد يفاجئنا بوصف عذاب القبر ببشاعة … لكن لم يعذب هذا المجنون؟ ! أترك الجواب للفقهاء …
وحين نذكر الموت نستحضر – لا إراديا – الصرخة الأولى ، التي تعد تعبيرا مبكرا عن دهشتنا إزاء هذا الوجود ، وغموض المصير الإنساني … لكن ألا يجوز أن نعتبر الموت ولادة ثانية ؟ وهل يريد الكاتب أن يضع أصبعه على جرح وجودنا ، ينقلنا إلى عالم الأموات، ويصرخ في وجوهنا : إنكم موتى بلا قبور؟ ! لماذا انسقنا مع موجة الموت ، ونسينا أننا نعيش حياة تفتقد الحياة ؟ ألا ترون أننا نعيش موتنا باستمرار ،ونحمله في دواخلنا ؟ !
وما يضمن استمرار الكائن البشري ، والحفاظ على هذا النوع من الانقراض هو الشبق ، الذي يربط بين حالتي : الموت والولادة وتثير انتباهنا في الكروكي الذي رسمه عبارة ” انعدام الضوء ” / الظلام ، التي تحيل على الرغبة الدفينة في العودة إلى حضن الأم أو رحمها … ويتساءل : ” أولسنا مجرد كروكيات مظلمة تنتظر الملء؟ ” . (ص 39 ) ، ويفكر في تمزيق الكروكي الذي رسمه ، يتراجع عن الفكرة ، ويفتح النافذة المطلة على البحر ، ويسمع نباح كلب ، والشائع أن نباح الكلاب المتواصل، إشارة على حدوث كارثة طبيعية أو حلول عزرائيل بأحد البيوت … لكن على ما يبدو أن هذا الكلب الأبلق غير عابئ بما حوله … لا يهمه انهيار العالم أو ولادة لقيط بثلاثة رؤوس ، وهو يقضي حاجته على حافة البحر … وحين تمرق من أمامنا كلمة ” حافة ” يقفز إلى الأذهان هذا السؤال النزق : ألم يفعلها على حافة القبر ؟ !
استطاع شكيب عبد الحميد أن يرصد مختلف حالات شخوصه من خلال قصصه العشر، فجاءت لغتها واضحة ، مكثفة ، متوترة حينا ، ساخطة أحيانا … تسابق – أحيانا – وتيرة السرد المتسارعة ، فنلاحظ غياب الفواصل ، وقد يعود هذا إلى طبيعة هذا الجنس الابداعي ، التي لا تسمح إلا بالتقاط التماعات برق اللحظة ، في عالم يتغير كل يوم ، وكل لحظة تراجيكوميديا ،وهذا ما تدل عليه نقط الحذف ، كما نسجل شعرنة القاص بعض المقاطع السردية في قصتي : ” تراجيديا الأشياء والرحيل” و” آخر رسالة ” ، التي نقتطف منها هذا المقطع :
“… وأنظر في عينيك المتوحشتين آه منهما!! خراب تدمران كل قلب ” هشيش”، ووجنتاك والخمر صنوان” .
وعلى سبيل الختم ، فليسمح لي القارئ أن أثبت هوية هذه السطور، البعيدة - كل البعد - عن النقد ، هي مجرد قراءة عاشقة ، قد لا تعنيكم في شيء ، لكنها دعوة صادقة إلى ملء البياضات ، بياضات ” القراءات ” ، التي حاولت تسليط بعض الضوء على هذه المجموعة القصصية التي تحتاج إلى أكثر من قراءة ثانية أو ثالثة …
وما تبقى يؤسسه النقاد!!
#هشام_بن_الشاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية ” الوشم” للربيعي - حين يدخل المثقفون في التجربة (…) ال
...
-
فرح
-
الطيور تهاجر لكي لاتموت....
-
الطيور تهاجر لكي لاتموت...
-
حوار غير عادي مع الكاتب العربي المتألق سمير الفيل
-
عندما يحب الشعراء...
-
نصوص مفخخة جدا
-
رسالتان الى روح مليكة مستظرف...أميرة جراح الروح والجسد
-
وشاية بأصدقائي ( مرثية لزمن البهاء)
-
بيت لا تفتح نوافذه ...
-
الصفعة
-
*في بيتنا رجل
المزيد.....
-
-ساعد نساء سعوديات على الفرار وارتد عن الإسلام-.. صورة ودواف
...
-
ماذا تكشف الساعات الأخيرة للسعودي المشتبه به قبل تنفيذ هجوم
...
-
الحوثيون يعلنون حجم خسائر الغارات الإسرائيلة على الحديدة
-
مخاطر الارتجاع الحمضي
-
Electrek: عطل يصيب سيارات تسلا الجديدة بسبب ماس كهربائي
-
تصعيد إسرائيلي متواصل بالضفة الغربية ومستوطنون يغلقون مدخل ق
...
-
الاحتلال يقصف مدرسة تؤوي نازحين بغزة ويستهدف مستشفى كمال عدو
...
-
اسقاط مقاتلة أمريكية فوق البحر الأحمر.. والجيش الأمريكي يعلق
...
-
مقربون من بشار الأسد فروا بشتى الطرق بعدما باغتهم هروبه
-
الولايات المتحدة تتجنب إغلاقاً حكومياً كان وشيكاً
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|