هاني جرجس عياد
الحوار المتمدن-العدد: 7533 - 2023 / 2 / 25 - 23:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اتجهت النظريات التي قامت بوضع أطر تصورية للجريمة إلى افتراض أن السلوك الإجرامي سلوك معاد للمجتمع وأنه يمثل خروجا ونزوعا على القيم المشتركة السائدة في ثقافة مجتمع ما, وأن هذا السلوك غير السوي يشكل اختلالا واضطرابا في الاستقرار الاجتماعي للمجتمع. واتجهت التفسيرات المتباينة لمثل هذا السلوك في إطار البحث عن الأسباب والدوافع التي فجرت مثل هذا السلوك, ولم تتطرق هذه النظريات إلى البحث عن ردود فعل المجتمع إزاء الجريمة على اعتبار أن هذه الردود يمكن أن تكون سببا في ظهور الجريمة ذاتها.
إلا أنه مع بداية حقبة الخمسينيات ظهر اتجاه جديد في نظرية علم الجريمة, وهو ما أطلق عليه "نظرية الوصم" أو "رد الفعل الاجتماعي", الذي يقوم على فرضية أساسية مفادها أن الانحراف ظاهرة نسبية غير ثابتة تخضع في طبيعتها إلى تعريف الجماعة وتتحدد من خلالها, إذ تقوم الجماعة بتحديد القواعد التي يجب الالتزام بها, ويعتبر الخروج عنها وصمة في تاريخ القائم بها, ولذلك فإن الانحراف ذاته لا يقوم على نوعية الفعل الذي يسلكه الشخص بل على النتيجة التي تترتب عليه أو على ما يطلقه الآخرون من صفة على الفاعل حيث يوصم بوصمة الانحراف.
وعلى هذا فالانحراف ينظر إليه باعتباره نتاج لما يعكسه فعل المنحرف ذاته, وكذلك لما يلصقه الآخرون به من صفات. فالفعل المنحرف في ذاته أو بمفرده لا يخلق الانحراف, وإنما يسهم في ذلك أيضا ميكانيزم الوصمة الاجتماعية للمنحرف والانحراف.
يعكس الإطار الفكري لـنظرية الوصم أو رد الفعل الاجتماعي مدى تأثرها بنظرية التفاعلية الرمزية التي تنتمي إلى مدرسة شيكاغو. فقد كان لمحاضرات وكتابات ميد وتوماس تأثير قوى على العديد من المفكرين اللاحقين, فقد استمر العديد من طلابهم الذين تخرجوا وعاد بعضهم للتدريس في شيكاغو في نشر نظرية التفاعلية الرمزية, وتطبيقها في دراسة مجالات عديدة من السلوك الانحرافي. ويعد هوارد بيكر من أبرز هؤلاء الطلاب تميزا فيما بعد, حتى أن هذه النظرية في صورتها النهائية تنسب إليه.
وعلى الرغم من أن هذه النظرية هي في حقيقة أمرها تعد أحد فروع النظريات القديمة, إلا أنها تستمد حداثتها من المنظور الجديد الذي تناولت به دراسة الجريمة والمجرمين. وهو الأمر الذي جعلها مختلفة عن التعريفات السابقة للجريمة والانحراف.
ويمثل كتاب "عصابة الأحداث" الذي ألفه فردريك زراشر عام 1936 الأساس الأول الذي تم من خلاله النظر إلى النتائج المترتبة على الوصم الرسمي, حيث أوضح هذا الكتاب أن الفرد الذي يتعرض للوصم الرسمي يعيش حياة العزلة والرفض الاجتماعي وعدم الاستقرار مع إفراد المجتمع, الأمر الذي يدفعه لأن يتبنى أيدولوجية فكرية تمنحه التبرير والاقتناع للانخراط في العمل الإجرامي هروبا من حياة العزلة الناتجة عن الوصم, وارتباطا بالفئات الإجرامية التي تتساوى معه في قضية الرفض الاجتماعي.
ولقد حاول عالم الجريمة الأمريكي فرانك تاننبوم أن يوسع من القوة التفسيرية للنظريات المفسرة للجريمة ولكن بشكل جديد, إذ ركز على العمليات الاجتماعية التي تحدث وذلك بعد أن يتم الحكم على الشخص بأنه منحرف. وقد سمي هذه العمليات (تهويل الشر) The Dramatization of Evil، فقد اعتقد أن المجرمين غير مختلفين أساسا عن غير المجرمين وذلك كما رأت التفسيرات المختلفة السابقة, ولكن أفعال أو سلوكيات بعض الناس يتم التركيز عليها ولفت الأنظار إليها بينما يتم تجاهل سلوكيات آخرين. ولعل الفقرة التالية توضح نظرية تاننبوم:
هناك تغير تدريجي من تعريف فعل معين على أنه شر إلى تعريف الشخص نفسه على أنه شر, وبالتالي فإن جميع أفعاله تصبح مريبة ومشكوكا بها, ومن وجهة نظر المجتمع, فالفرد الذي عادة ما يقوم بأشياء معينة يصبح شخصا سيئا وغير مرغوب, ومن وجهة نظر الشخص, سوف يحدث التغير نفسه فاليافع المنحرف يصبح شريرا لأنه لا يعتقد بأنه صالح.
ولقد أوضح تاننبوم في كتابه "الجريمة والمجتمع" عام 1938 أن عملية تشكيل المجرم عبارة عن عملية تلقيب, وتعريف, وتحديد, وعزل, ووصف, وتأكيد, وخلق للوعي والوعي بالذات, وأنها تصبح طريقة لتنبيه الخصائص الحقيقية موضع الاتهام, والإيحاء بها, وتأكيدها, وإثارتها حتى يصبح الشخص صورة مطابقة لما وصف به, سواء كان القائم بعملية الوصف هو من يقوم بالعقاب أو بالإصلاح, لأن التأكيد في كلتا الحالتين يكون منصبا على السلوك الذي يعتبر موضعا للاستهجان. كما أن الحماس المبالغ فيه الذي يبديه المسئولون(كالآباء, ورجال الشرطة, والمحكمة, وضباط المتابعة) ضد الفعل الانحرافي يؤدى إلى إبطال هدفهم, فكلما بذلوا جهدا أكبر من أجل الإصلاح, نما الشر على أيديهم, لأن الإيحاء المتواصل يؤدى إلى نتائج عكسية مهما كانت طبيعة النوايا التي تكمن وراءه, طالما أنه يؤدي إلى إبراز السلوك الذى ينبغي كبحه. وإذن كلما قل الحديث عن هذا الشر, كان ذلك أفضل.
ولعل ما ذهب إليه تاننبوم يتجه نحو التأكيد على أن الأفعال ليست في كونها جيدة أو سيئة, ولكن المهم هو الوصم أو التسمية والذي يقوم المجتمع بلصقه بالشخص نتيجة قيامه بالسلوك المنحرف, وهنا الوصم يعرف بالشخص كقولنا (هذا سارق أو قاتل... إلخ) أي إنه منحرف ومجرم, وهذا الوصف سوف يغير من نظرة الشخص لذاته ونظرة الآخرين له, فالآخرون يتعاملون مع معنى الوصم (السارق أو القاتل أو خلافه) وليس مع الشخص بحد ذاته, وعليه فإنهم يقومون بعملية عزل اجتماعي لهذا الموصوم بحيث إن أي نمط سلوكي يمارسه أو يحاول أن يمارسه فإن تلك الصفة دائما تلتصق به, ومن ثم يبدأ الموصوم في البحث عن مخرج اجتماعي لهذه العزلة يتحدد بمحاولته تشكيل وعى جديد لذاته ليتكيف مع هذه الصورة الجديدة ويتعايش معها ويندمج فيها وتصبح صورة مطابقة لما وصف به, وبالتالي فإن هذه العمليات (الوصم) للأفراد كمنحرفين ومجرمين تساعد في خلق الجريمة والانحراف.
و على الرغم من المجهود العلمي الذي بذله تاننبوم لمحاولة توضيح إطار تصوريا لـنظرية الوصم, إلا أن هذا المجهود لم يكن ذا أثر في ظهور نظرية جديدة في علم الاجتماع الجنائي تهتم بردود أفعال المجتمع بأفراده وجماعاته ومؤسساته تجاه الجريمة والمجرمين.
وأما التطور اللاحق الذي طرأ على منظور الوصم, فقد برز في كتاب أدوين ليمرت عن "الباثولوجيا الاجتماعية"عام1951 وتمثل في تحديد المنظور بشيء من التفصيل الذي له أهميته.
لقد عالج ليمرت موضوعات نظرية الوصم منذ فترة ليست بالقصيرة, حيث حلل طبيعة العمليات التي تصم بعض الأشخاص باللاانتمائية أو بعدم التوافق وكيف تدور حياة بعض الأشخاص المهنية حول الانحراف. فهو في الواقع لم يبحث في معدلات الانحراف أو البناء الاجتماعي الذي يسهم في نشأتها, ولكنه أكد على مدى التفاعل الاجتماعي الذي يحدث في عملية الوصم. حيث يرى أن الانحراف السلوكي هو صراع ثقافي وظيفي ينشأ داخل التنظيم الاجتماعي ذاته, ولكنه يرفض المقولة الخاصة بالوظيفة البنائية كالأنومى , ويؤيد مقولة تعددية القيم التي تؤكد على القيم الثقافية الفرعية والصراع القيمي كمصادر للانحراف.
ويرى ليمرت أن الانحراف ظاهرة نسبية غير ثابتة تخضع في طبيعتها إلى تعريف الجماعة وتنشأ بحكمها. إذ إن الجماعة هي التي تعتبر بعض أشكال السلوك خروجا كبيرا على قواعدها ومعاييرها التي ترتضيها. لذلك يوصم فاعلها بوصمة الخروج على المجتمع، أو بالأحرى الخروج على قواعد الجماعة ومعاييرها, ومن ثم فإن الانحراف ذاته لا يقوم ببساطة على نوعية الفعل الذي يسلكه الشخص, بل يبرز من النتائج التي تترتب عليه أو على ما يطلقه الآخرون من صفة على الفاعل يصمونه في ضوئها بوصمة الانحراف.
وعلى هذا فإنه ينبغي النظر إلى الانحراف على أنه عملية اجتماعية تقوم بين طرفين أساسين هما الفعل المنحرف الذي يصدر عن الفرد الجانح أو المجرم من جهة واستجابة الآخرين أو رد فعلهم تجاه هذا الانحراف من جهة أخرى. وبالتالي فإن عملية وصف السلوك بعدم السواء غير مرتبط بالفعل الإجرامي, وإنما مرتبط بردود الفعل المجتمعية لذلك السلوك.
ويميز ليمرت بين الانحرافيين الأولي والثانوي, إذ يرى أن الانحراف الأولي ظاهرة متعددة الأصول والمصادر, حيث ينشأ مثل هذا الانحراف عن مجموعة من المصادر الاجتماعية والنفسية والثقافية والفيزيولوجية, لأن مثل هذا الانحراف يمثل حالة من الاغتراب عن النفس الحقيقية للمنحرف. وأما الانحراف الثانوي فهو الذي ينشأ عن إدراك المنحرف لبعض الصفات الاجتماعية- النفسية التي تحيط بالدور الانحرافي ذاته، حيث إن الأفراد المنحرفين يبدؤون في الاستجابة الرمزية لبعض ما قاموا به من أفعال منحرفة ويحاولون تنسيقها في تركيب اجتماعي نفسي معين. ولكن الانحرافات تظل أولية أو ظاهرية أو ظرفية طالما تم إدراكها كذلك, ولكن إذا ما عوملت كوظائف خاصة للدور الاجتماعي فهي تدخل عندئذ في إطار الانحرافات الثانوية.
ويرى ليمرت أن التسلسل الذي يقود إلى الانحرافات الثانوية يمكن أن يأخذ الأشكال المتعاقبة التالية وهى:
1- انحراف أولي.
2- عقوبات اجتماعية.
3- انحراف أولي أكثر.
4- عقوبات و رفض أقوى.
5- انحراف أكثر يصاحبه السلوك العدواني والمقاومة خاصة نحو مطبقي العقوبات.
6- يصل المجتمع إلى نقطة عدم تحمل هذا السلوك أكثر ويطالب أفراده برد فعل رسمي لوصم هذا المنحرف.
7- يزداد السلوك المنحرف قوة كرد فعل لعملية الوصم والعقوبات.
8- القبول النهائي للمكانة الاجتماعية المنحرفة وتنصب على التكيف بناء على الدور المرتبط بتلك المكانة.
وهكذا فإن الانحراف الثانوي ينشأ غالبا نتيجة عاملين أساسيين هما:
1- المخالفات المتكررة للمعايير .
2- الخبرة الناشئة عن عملية الردود الاجتماعية والتي غالبا ما تقود إلى الانحرافات اللاحقة.
ويبدو الانحراف الثانوي وكأنه عملية أخذ وعطاء بين الفرد والمجتمع بمؤسساته حتى يصل الفرد إلى الوصم أو الدمغ. وتكون من أهم نتائج الوصم الاجتماعي الانخراط في مجتمع المنحرفين، كذلك ميل المنحرف ذاته لأن ينخرط في دور انحرافي، وأن يجد أن هذا الدور قد أصبح بارزا وواضحا في هويته الكلية أو مفهومه عن ذاته وأن سلوكه منتظما بشكل متزايد حول هذا الدور .
يلاحظ مما ورد أن ليمرت لم يهتم بالانحراف الأولي، ولم يحاول أن يجد له تفسيرا، وإنما أشار إليه باعتباره الشرارة الأولى التي يؤدى اشتعالها إلى استجابات مجتمعية تؤدي في معظم الأحيان إلى مضاعفة الانحراف واتخاذه شكلا احترافيا، بعد أن يصبح من المستحيل على الفرد أن يتخلص من الصفات الانحرافية والوصمات التي لصقت به.
وفي عام 1963 بدأت تتبلور نظرية الوصم بصورة أكثر تحديدا على يد هوارد بيكر في دراسته المشهورة "الغرباء" أو "الهامشيون"، حيث استطاع أن يستوعب اتجاهات كل من تاننبوم وليمرت، وقام بتقديم رؤية جديدة لنظرية عامة في الوصم الاجتماعي للانحراف تختلف عما سبقه من جهود في هذا المجال.
وقد انتقد بيكر الكثير من علماء الاجتماع الذين سبقوه، من منطلق أنهم لم يتشككوا في صفة "انحرافي" التي تطلق على السلوك، بل كانوا ينظرون إليها "كمعطي"، وبذلك يوافقون مسبقا على قيم الجماعة التي صنعت الحكم. وانطلاقا من هذا النقد، قام بيكر بتعريف الانحراف, والمنحرفين فذهب إلى أن الجماعات الاجتماعية تخلق الانحراف بواسطة صنع القواعد التي يمثل خرقها أو انتهاكها, انحرافا, وعند تطبيق هذه القواعد على من ينتهكونها أو يخرقونها, يصبح من الممكن إطلاق مصطلح "خارجون" outsiders عليهم, ولذلك فالانحراف لا يعتبر خاصية لفعل يقوم به شخص, وإنما هو نتيجة لتطبيق مجموعة قواعد وجزاءات, على شخص "مذنب" والمنحرف هو الشخص الذي طبقت عليه هذه التسمية بنجاح, والسلوك الانحرافي هو الذي أعطاه الناس هذا الاسم.
وفى هذا يرى بيكر أنه من المفضل أن نرجع في دراسة السلوك الانحرافي إلى رد الفعل المجتمعي تجاه السلوك, أي إننا ينبغي أن ندرس قضية الانحراف من خلال الإجابة على التساؤلات الآتية:
1- ما مفهوم أعضاء المجتمع عن الانحراف وكيف يحددونه؟
2- ما طبيعة النماذج السلوكية والخصائص الشخصية التي ينظر إليها أبناء المجتمع على أنها نماذج وخصائص انحرافية؟
3- ما رد الفعل المجتمعي إزاء السلوك المنحرف؟
بناء على ما سبق فإن المجتمعات هي التي تحدد الانحراف, وذلك من خلال إقرار بعض القواعد التي يعد انتهاكها انحرافا من منظور أبناء ذلك المجتمع, وبهذا فإن الانحراف ليس خاصية للفعل الذي يرتكبه الإنسان, وإنما هو مسالة تتعلق بثقافة المجتمع وبنظرة أبنائه. وبمعنى آخر, فإن الانحراف ليس صفة يوصف بها السلوك في ذاته, وإنما خاصية يخلعها المجتمع على سلوك معين في ضوء القيم والمعايير السائدة. وأن هذا السلوك يظهر خلال التفاعل بين هؤلاء الذين يرتكبون الفعل وهؤلاء الذين يستجيبون له.
أما عن كيفية حدوث عملية الوصم, فيذهب بيكر إلى أن المضمون الرئيسي لهذه العملية يرتكز أساسا على التأثيرات الهامة التي يحدثها التصاق صفة الانحراف على أفراد معينين, مثل: كيف ينظر إلى هؤلاء الأفراد من قبل بقية أفراد المجتمع ,وكيف تصبح نظرتهم هم لأنفسهم , وأخيرا أثر هذا الوصم على أنماط التفاعل اللاحقة بين هؤلاء الأفراد وبين الآخرين. لأن وصف فرد ما بصفة الإجرام أو الانحراف يعنى أن هذا الفرد والجماعة المحيطة به ينبغي أن يكيفوا أنفسهم على التعامل معا على اعتبار أن هذا الفرد ذو شخصية فاسدة أو غير سوية, وبالتالي تحدث عملية الوصم, وذلك يؤدى إلى إعادة تقييم هويته العامة عن طريق الآخرين, ثم يتعاملون معه على أساس هذا التقييم ومما يليه من وصف معين ,كذلك لن تقتصر آثار هذا الوصم على السلوك فقط وإنما على الوجود الكلى لهذا الفرد.
مما سبق يتضح أن هناك شرطين أساسيين لإلحاق الوصمة بالفاعل هما:
1- استجابة الجماعة لكل ما يتعلق بعملية الوصم.
2- أن يعيد الفرد الموصوم تقييمه لنفسه وفهمه لذاته مما قد يعتقد معه بأنه مجرم , وينتج عن ذلك حدوث تحول في شخصيته وفى قيامه بدوره الاجتماعي.
وأوضح بيكر أن تجربة القبض والإدانة والوصم تمثل الخطوة الهامة في استمرار الفرد في ممارسة العمل الإجرامي, ومن وجهة نظرة فإن عملية الوصم لا تحتاج لأكثر من جرم واحد. فالمجتمع ينظر لمن يقوم بأي عمل إجرامي بأنه سيكرر نفس هذا العمل مرات أخرى, ومن ثم يتم التعامل معه على هذا الأساس, ويؤكد هذا الفرض ما يقوم به رجال الشرطة من تصرفات حيال المشكوك فيهم من المجرمين السابقين ومن خلال استدعائهم المستمر. ويؤكد بيكر على أن هذا الأسلوب في التعامل يؤدي إلى تشكيل ذاتية الفرد وتصرفاته من خلال الصورة التي يتم التعامل بها معه.
فمن بين مشاكل الفرد الذي تم وصمه رد الفعل المترتب على ذلك. فالأفراد الذين تم وصمهم يصبح سلوكهم _ كسلوك منحرف_ أكثر وضوحا وجلاء أمام الآخرين, مما يجعلهم تحت ملاحظة الآخرين بصورة قوية. وبالتالي فإن أفراد المجتمع سرعان ما يكتشفون ما يرتكبه الأشخاص الذين تم وصمهم من أنماط سلوك المنحرف في المرة الثانية والثالثة... إلخ, وبصورة أسهل وأيسر من اكتشافهم لسلوك المنحرف عند وقوعه أول مرة. وبصفة عامة فإن هؤلاء الذين يعملون في مهن ترتبط أو تتعامل مع الانحراف (مثل هيئات العدالة الجنائية) يراقبون الأفراد المنحرفين لحظة أن يصبحوا محل اهتمام هيئاتهم. وبتعبير آخر فإن الأشخاص الذين تم وصمهم يصبحون عملاء (زبائن) نظام العدالة الجنائية ,وكما في أي عمل تجارى آخر فإن النظام يتميز بالمراقبة الشديدة لعملائه.
وهكذا فإنه بمجرد أن يتم وصم الشخص فإنه يصبح من الصعب عليه أن يهرب من اهتمام الجمهور به, ويصبح سلوكه بالتالي محل توصيف وإعادة وصم.
وقد أكد بيكر على أن علم المجتمع بطبيعة السلوك غير السوي يمكن أن يساعد على وجود ردود فعل متباينة تجاه الفرد المجرم ,تتمثل في فرض حصار من العزلة الاجتماعية تتباين بحسب ذيوع الموقف بينهم.
وضرب مثلا بذلك بالشواذ جنسيا أو مدمني المخدرات فقيام الفرد بمثل هذه السلوكيات دون علم الآخرين قد لا يؤثر على عمله الوظيفي, ولكن معرفة العاملين معه بذلك سيجعل من الصعوبة استمراره في العمل, مما يضطره لترك هذا العمل، ونتيجة لردود الفعل المتباينة تجاهه وبسببها تنعدم قدرته على تطبيق القواعد الاجتماعية الأخرى, والتي قد لا يكون في نيته الانحراف عنها, ومن ثم يعيش عزلة اجتماعية تجعله بصدد اتخاذ قرار بتوسيع دائرة انحرافه.
وعليه يؤكد بيكر أن المواقف السلبية تجاه المنحرفين من قبل أفراد المجتمع والمؤسسات الرسمية, وما ينتج عنها من عزلة ورفض تؤدي إلى اتجاههم لاستخدام أساليب ووسائل غير مشروعة في حياتهم, ومن ثم يتجهون إلى امتهان الانحراف للخروج من أزمة العزلة الاجتماعية, وعليه يؤكد اتجاه كثير من الموصومين المرفوضين اجتماعيا إلى محاولة الانخراط في الجماعات الإجرامية الاحترافية والمنظمة باعتبارها الوسيلة الوحيدة التي يجدون من خلالها مخرجا لعملية رفض المجتمع لهم, ومبررا لاستمرارهم في النشاط الإجرامي الذي يمثل مخرجا للحياة والمعيشة التي فقدوها في الأعمال الشرعية نتيجة للرفض الاجتماعي.
وقد قدم بيكر في نظريته عن الوصم الاجتماعي للانحراف مفهومين جديدين, هما مفهوم المكانة السيادية Master Status, ومفهوم التفسير التأملي Retrospective Interpretation. وتتضمن فكرة المكانة السيادية أن هناك سمة أساسية تحدد شخصية الأفراد بدرجة قوية حتى أنها تحجب الرؤية عن السمات الأخرى الموجودة فيهم. ويطلق على السمة الأساسية الأولية "المكانة السيادية, وعلى السمات الإضافية الأخرى "المكانة الثانوية". وحينما يكون السلوك الانحرافي _ باعتباره أحد السمات الأساسية في شخصية الفرد كمكانة سيادية_ هو موضع الاهتمام, فإنه عند وصم الفرد (كمجرم) يصبح من الصعب أن ينظر إليه الآخرون على أنه شخص جدير بالثقة, بالرغم من أن الفعل الإجرامي منفصل عن حياة هذا الشخص. أما "التفسير التأملي" فإنه يطرح فكرة أنه يمكن إعادة بناء السمات الشخصية للفرد من جديد حتى يتوافق مع التسمية الجديدة, وحيث إن مفهوم(مجرم) أصبح يمثل المكانة السيادية في شخصية المجرم, فإنه يصبح من الصعب على الناس أن يفهموا كيف أن مثل هذه الحقيقة الأساسية عن شخصية الفرد لم تكن موجودة قبل ارتكابه السلوك الإجرامي وبالتالي قبل تهمته، وحتى يمكن حل هذا التناقض يتم إعادة عملية الدراسة للحوادث والوقائع السابقة, وكذلك السلوك بهدف إعادة تفسيرها لتتلاءم مع الهوية الجديدة، وهكذا فإنه يتم التفكير في ماضي هذا الشخص من خلال سلوكه الإجرامي الحالي, أي أنه يتم تفسير سلوكه في الماضي، على أنه سلوك إجرامي أيضا، على الرغم من أنه لم يكن يفسر كذلك قبل ارتكابه للسلوك المنحرف وقبل تسميته.
وفى إطار ما تقدم فإن بيكر يرى أن نظرية الوصم تعتمد في دراستها للانحراف والسلوك الإجرامي على مدخلين أساسيين:
الأول: يهتم بمشكلة تفسير كيف ولماذا يتم وصم أفراد معينين بالإجرام .
وفى ذلك يرى بيكر أن الجماعة هي التي تخلق الانحراف وذلك بوضعها للقواعد التي يكون في خرقها انحراف وتطبيق تلك القواعد على أشخاص معينين ووصمهم بالخارجين. فالانحراف إذن ليس في صفة الواقعة التي يرتكبها الفرد, بل نتيجة لما يطبقه الآخرون عليه من القواعد, أي نتيجة وصم الشخص من قبل الآخرين (كمذنب)حيث يقع على الشخص ليكون منحرفا والفعل الذي ارتكبه انحرافا. فالأشخاص الذين يرتكبون الأفعال المخالفة للمعايير أو قواعد السوية الاجتماعية لا يصبحون منحرفين إلا بعد أن يتعرضون لوصمة الانحراف والخبرة الناشئة عن مثل هذه الوصمة.
الثاني: يتناول تأثير الوصم على الفرد الذي تم وصمه بوصمة الانحراف أو الإجرام, ومدى حدوث تحول في شخصيته وفى قيامه بدوره الاجتماعي .
وفى ذلك أوضح بيكر أن الفرد الموصوم يواجه العديد من المواقف السلبية من قبل أفراد المجتمع وجماعاته ومؤسساته الرسمية, والتي تؤكد دائما بأنه شخص مرفوض ومنبوذ اجتماعيا, مما يشكل لديه وعيا جديدا يؤدى به إلى الانخراط في دائرة احتراف الجريمة وابتعاده كلية عن مزاولة أي نشاط شرعي.
ويتمثل الإسهام المباشر الذي تم في نظرية الوصمة, فيما أثاره إيفرنج جوفمان في كتابه "الوصمة" عام 1963, حيث يشير إلى الانحراف باعتباره طريقة في تحديد موقف, أو أسلوبا للحكم على موقف محدد.
وأوضح جوفمان أن الشخص المنحرف هو شخص مصاب بوصمة اجتماعية. أو أنه متميز باختلاف غير مرغوب فيه يحرمه من التقبل الاجتماعي أو تأييد المجتمع له طالما لديه وصمة أو يظهر عليه اختلاف غير مرغوب فيه, عما يتوقعه الآخرون أو الأسوياء الذين يعتقدون _من الناحية النظرية على الأقل _ أن الشخص الذي يتسم بوصمة ليس بشريا كاملا, ويقومون بعملية تصنيف لنوعيات معينة, أو أنهم يمارسون التمييز الذي يقللون بواسطته _ وعلى نحو فعال _ من فرص الفرد الموصوم في الحياة, فيؤسسون بذلك نظرية في الوصمة, أو أيدولوجية لتفسير نقص هذا الفرد أو ضآلته, و تضع في اعتبارها الخطر الذي يشكله. كما يميلون في الوقت ذاته إلى إضافة عدد كبير من العيوب أو النقائص اعتمادا على وجود الخاصية الأساسية أو الأصلية. وفضلا عن ذلك, فربما ينظر هؤلاء الأسوياء إلى الاستجابة الدفاعية للموصوم تجاه موقفة, باعتبارها استجابة مباشرة لنقصه أو عيبه, أي إنهم يعتبرون كلا من "النقص" و"الاستجابة " كجزاء أو عقوبة إزاء فعلة هذا الفرد, وبالتالي يكون هذان العاملان بمثابة مبررين لمعاملة الأسوياء للمنحرفين.
ومن وجهة نظرنا فإن الاستجابات الدفاعية للموصوم تجاه موقفه لا تخرج عن كونها تتمثل في لجوئه إلى محاولة استرضاء الجماعة الاجتماعية التي تسيطر على اتخاذ القرارات في المجتمع الذى يحيا فيه, ولو انتهى بالفشل ورفضه المجتمع فإنه إما أن يعيش في حالة من حالات العزلة الاجتماعية أو يتضاعف الانحراف لديه ويتخذ شكلا احترافيا, وفى كلتا الحالتين فإن هذا الحل يمثل خسارة وتكلفة اجتماعية للفرد والمجتمع. أو قد يلجأ إلى حل ثالث يتمثل في الاتفاق غير المباشر أو الصامت بينه وبين الأسوياء يحاول المنحرف من خلاله أن يؤكد للمجتمع من خلال سلوكه المستقبلي أنه على استعداد لاحترام معاييره, وبأن الالتزام _ولو على حساب توازنه_ سيكون محور حياته وأن قضيته محصورة في رضاء وتقبل المجتمع له دون الرغبة من جانبه للمطالبة بأي حقوق مستقبلية.
ويضيف جوفمان أن الوصمة تؤدي إلى لصق مفهوم "العار" لدى الموصوم, وهذا العار يمثل العامل الحاسم الذي يدفع بالآخرين إلى الابتعاد عن صاحب الوصمة, الأمر الذي يعضد فكرة الرفض الاجتماعي للموصوم, وعدم القبول الاجتماعي له بصورة كاملة, حتى أقرب الناس إليه _ ونتيجة لوصمته_ لا يملكون القدرة على تصحيح مساره الاجتماعي أمام الآخرين. ويؤكد جوفمان على أن الفرد مع هويته الملوثة يعيش مرحلة اجتماعية بينه وبين ذاته, يفقد فيها الشعور بالثقة والطمأنينة, فهو في نظر نفسه (ملوث) ومن ثم فإن محاولات إصلاح نتائج الوصم تكمن في الصعوبة البالغة للوصول لهذا الإصلاح لأن حقيقة الوصم قائمة وموجودة.
وقد استنبط جوفمان من أفكاره وافتراضاته أن الوصمة تمتد من الفرد الموصوم إلى كل من ينتسب إليه بصلة قرابة أو صداقة, ومن ثم فإن هؤلاء المقربين والمحبين يحاولون تجنب آثار الوصمة السلبية بمحاولة الابتعاد عن الفرد الموصوم إما بالإعلان الاجتماعي أو بالسلوك الظاهر لعيان المجتمع, على اعتبار أن الموصوم (عار) وأن في ارتباطهم بهذا العار ستكون إدانتهم واردة, وعليه فإن الغالبية منهم يتجهون إلى بتر هذه العلاقة مع هذا الشخص.
ولعله يتضح مما سبق أن جوفمان في نظريته عن الوصمة اهتم بتناول موضوع الاستجابات المجتمعية ومدى تأثيراتها على الأشخاص الموصومين بالانحراف, في إشارة واضحة إلى علاقة التدني التي يتم فيها تجريد هؤلاء الأشخاص من أهلية القبول الاجتماعي الكامل, على اعتبار أن وصمتهم هذه تشير إلى اتصافهم بصفات بغيضة أو سمات تجلب لهم العار وتثير حولهم الشائعات وتدل على الانحطاط الخلقي لهم.
ولقد اتجه العديد من المفكرين وعلماء الجريمة إلى طرح مجموعة من الافتراضات والرؤى الفكرية التي تؤكد فكرة الرفض الاجتماعي للمجرم وردود الفعل الاجتماعية المختلفة تجاه العمل الإجرامي.
فهناك هربرت ميد الذي ذهب إلى أن العقوبات الصارمة المرتبطة بالمتابعة والمقاضاة, مسألة تتعارض مع إعادة تكييف المنحرف, كما أن الإجراءات العدوانية التي تتخذ نحو مخالفي القانون تؤدي إلى تدمير عملية الاتصال بينهم وبين المجتمع , مما يخلق روح العداوة عند المنحرف.
إذ إنه مهما كانت فداحة الذنب الذي يرتكبه شخص ما, فربما تكون هناك درجات من الإجرام لم يصل إليها بعد, ولكن إذا شعر _شعورا حقيقيا وعميقا_ بأن المجتمع يتصرف نحوه بطريقة طاغية وعنيفة, فإن النتيجة الطبيعية لهذا الإحساس هي اغترابه عن المجتمع, والنظر إلى زملائه من المجرمين باعتبارهم الأشخاص الذين يعاملونه باحترام ورفق. ولذلك فقد يترك السجين السجن وهو عدو للمجتمع, يتميز بأنه أكثر ميلا من ذي قبل إلى مواصلة الانحراف الإجرامي. وإذن فإن عملية التجريح تبرز عامل الإحساس بالظلم وتدعمه.
وفى إضافة أخرى لهذه النقطة يؤكد أدوين شور على دور السلطة في تسمية وتوصيف وإدراك الجريمة والانحراف, ومن ثم يدعو إلى ضرورة التزام معدومي القوة بأوامر وقوانين ذوي القوة.
والواقع أنه في ضوء رؤية كل من "ميد" و "شور" يمكن القول بأن الوصم يقوم على عملية تفاعل بين الفرد والجماعة التي اقترفت سلوكا وصف بأنه (منحرف), والجماعة التي بيدها سلطة اتخاذ القرار بشأن عمليات الوصم أو التسمية , وكذا صياغة وتنفيذ الجزاءات القانونية.
ويرى جون لوفلاند أن الجماعات الاجتماعية بقطاعاتها المتباينة مثل: الأسرة, الجيران، أصحاب الأعمال, الضباط المعنيون بمراقبة الذين أطلق سراحهم مع إبقائهم تحت المراقبة, والشرطة, وغيرها من الفئات الاجتماعية, تعطى ردود أفعال متباينة تجاه الموصوم, ولكنها برغم اختلافها إلا أنها تتفق على صورة جمعية وهى نبذ هذا العمل الإجرامي واحتقار صاحبة ورفض سلوكه.
أما ديفيد ماتزا فقد أكد على أن الفضيحة التي ألمت بالموصوم ينتج عنها الرفض الاجتماعي والطرد من القبول الاجتماعي.
بينما كي أريكسون فقد أوضح أن الإجرام ليس صفة ذاتية تلاحظ لدى بعض الأفراد ولا تلاحظ لدى غيرهم فتميز فريقا عن آخر, ولكنه صفة ألصقها بعض الناس بالبعض الآخر , من شأنها أن تحدث ثغرة بين الأفراد الذين يتصفون بها وبقية القطاعات الاجتماعية في المجتمع, وتتضح هذه الثغرة في المسافة الاجتماعية التي تتسع حدتها بين المجرمين الموصومين وبين من يتفاعل معهم سواء أثناء وجودهم بالسجن أو بعد خروجهم منه.
وأضاف كل من أريل روبينجتون ومارتن وينبرج حقيقة الوصم لدى المقربين من الموصوم, والمعايير الجديدة التي يتم من خلالها التعامل مع الهوية الجديدة لمثل هذا الشخص من قِبل أقرب الناس إليه.
وفي إطار مما تقدم من إسهامات نظرية قدمها علماء الجريمة والمهتمين بالوصمة الجنائية في مجال نظرية الوصم, فإنه يمكننا في هذا الصدد أن نؤكد على ما يلي:
1- يمثل مفهوم الوصم مشكلة ذاتية غير موضوعية, أي إن صفة الانحراف التي تلصقها الجماعة بالفعل موضوع الوصم, لا تتعلق بذات الفعل أو المشكلة, بقدر ما تتعلق بتعريفها الاجتماعي.
2- تشمل النظرية على مفهوم ونسق مزدوج: إذ من ناحية, هناك المجتمع الذي يمثل الجهة المحددة للأفعال المخالفة, وهى الجهة الواضعة للتعريف, وبالتالي فهي الجهة التي تحدد دور المؤسسات العامة (وأيضا الخاصة) الموكل إليها مهمة تطبيق وتنفيذ مختلف عمليات الضبط الاجتماعي. ومن ناحية أخرى, هناك الجانح أو الشخص المنحرف وما يأتيه من ردود فعل تجاه ردود فعل المجتمع ومؤسساته نحوه بعد قيامه بارتكاب الفعل المخالف, أو حتى من خلال الاتهام الباطل والوصم بناء على تمرير لإشاعات أو الاشتباه والأقاويل فقط, وما ينتج عن هذه المواجهة هو أن يتحول الشخص الموصوم إلى شخص مجرم بعد وصمه, ومن ثم انضمامه إلى جماعة المنحرفين الموصومين.
وعليه فإنه يمكننا إبراز النقاط الرئيسية لـنظرية الوصم, وذلك على النحو التالي:
1- يتسم المجتمع الإنساني بوجود العديد من القواعد التي تنظم السلوك الإنساني وتحفظ للمجتمع توازنه واستقراره.
2- تتحدد نوعية سلوك أي فرد من خلال تطبيق هذه القواعد المنظمة للسلوك عليه, وبالتالي فإن تحديد السلوك بكونه (منحرفا) يتم من خلال رد الفعل تجاه هذا السلوك, ولا يرجع إلى جوهر السلوك ذاته , فإذا لم يكن هناك رد فعل فإنه ليس هناك( انحراف).
3- عندما يدرك المشاهدون الاجتماعيون سلوكا ما, ويصمونه بالانحراف, فإن مرتكب هذا السلوك يوصم أيضا بالانحراف, ويكتسب صفة ( مجرم) أو (منحرف).
4- ينظر المشاهدون إلى الفرد _ بمجرد وصمه_ باعتباره يتصرف في ضوء ما وصم به, فالشخص الموصوم على أنه مجرم ينظر إليه بالدرجة الأولى على أنه مجرم, مع تجاهل السمات الأخرى التي يتسم بها.
5- عادة ما يراقب من صدر عنهم رد الفعل (الأفراد, الجماعات الاجتماعية, والهيئات القانونية) بصورة قوية هؤلاء الذين وصموا على أنهم منحرفين, ذلك لأنه من المحتمل قيامهم بارتكاب نفس السلوك الإجرامي مرات أخرى, وبالطبع سرعان ما تكتشف هذه المراقبة ما يرتكبه هؤلاء الأشخاص من أنماط سلوكية منحرفة في المرة الثانية والثالثة... إلخ، وبصورة أسهل وأيسر من اكتشافهم لسلوكهم المنحرف عند وقوعه في المرة الأولى.
6- غالبا ما يكون رد الفعل الاجتماعي تجاه الموصومين وما يصاحبه من مواقف واتجاهات سلبية في مواجهة هؤلاء الموصومين من قبل أفراد المجتمع وجماعاته ومؤسسات الرسمية معبرا عن الاستنكار والسخرية والرفض والصدود والنبذ الاجتماعي لهم ولأسرهم بصفة خاصة, مما يفرض عليهم نوعا من العزلة الاجتماعية.
7- يترتب على رفض المجتمع ونبذه للموصوم سلوك منحرف(انحراف ثانوي) يعد نتاجا لتقبل الوصم كهوية ذاتية, تؤدي بالموصوم إلى الاتجاه نحو امتهان الجريمة والانحراف والابتعاد كليا عن مزاولة أي نشاط مقبول أو مشروع, ويعتمد تقبل الوصم على مدى قوة تصور الفرد الأساسي عن ذاته, وقوة عملية الوصم.
وختاما، يمكن القول بأنه يمكن تقسيم مدخل الوصم في دراسة الجريمة والانحراف إلى جزأين, فالأول يهتم بالكيفية التي يتم من خلالها تجريم ووصم بعض الأفراد دون غيرهم بالجريمة والانحراف, وخير من يمثل هذا الاتجاه هو بيكر في كتابه "الهامشيون". والثاني وقد اهتم بأثر الوصم على السلوك اللاحق للشخص ونجد هنا ليمرت وجوفمان خيرا من يمثلا ذلك.
فكما يبدو من العرض السابق، فإن هذا المنظور يتميز بعدة خصائص أساسية ألا وهى:
1- إنه نظر إلى ردود الفعل المجتمعية باعتبارها تمثل قضية "إشكالية Problematic" أو مسألة جديرة بالبحث والدراسة، بينما كانت النظريات الأخرى، تنظر إليها على أنها "معطى Given" لا يحتاج إلى تفسير أو بحث.
2- إنه نظر إلى الانحراف باعتباره خاصية تخلع على بعض أشكال السلوك أو العمليات بواسطة الجمهور الذي يشاهدها بطريق مباشر أو غير مباشر.
3- ميز بين الأفعال بواسطة الرجوع إلى خاصية رد الفعل نحوها، ولذلك فإن وجود أية خاصية مشتركة بين الأفعال أو القائمين بالفعل(غير رد الفعل) لا يكون جديرا بتحديد الانحراف أو تفسيره.
4- إنه ينطوي على محو للفكرة التي تشير إلى أن بعض الأفعال يعتبر انحرافيا في كل المجتمعات، وأن الأفعال الانحرافية أفعالا "ضارة" أو "شاذة" في حد ذاتها، وهنا نلاحظ تأكيدا مبالغا فيه على مسألة "النسبية".
المراجع
• المراجع العربية
1- أحمد لطفي السيد، المدخل لدراسة الظاهرة الإجرامية والحق في العقاب، الجزء الأول، الظاهرة الإجرامية (الإشكالية البحثية – النظريات التفسيرية – العوامل الإجرامية)، عامر للطباعة والنشر، المنصورة، 2004.
2- دون. سي . جيبونز وجوزيف ف. جونز، الانحراف الاجتماعي (دراسة في النظريات والمشكلات)، ترجمة عدنان الدوري، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1991.
3- سامية محمد جابر، الانحراف والمجتمع (محاولة لنقد نظرية علم الاجتماع والواقع الاجتماعي)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1997.
4- عايد عواد الوريكات، نظريات علم الجريمة، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 2004.
5- عدلي محمود السمري، الاتجاهات السوسيولوجية الحديثة في دراسة المشكلات الاجتماعية، في محمد الجوهري وآخرين، علم الاجتماع والمشكلات الاجتماعية، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية، 1998.
6- غريب سيد أحمد وسامية محمد جابر، علم اجتماع السلوك الانحرافي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2005.
7- فرانك ويليامز الثالث ومارلين ماك شاني، السلوك الإجرامي (النظريات)، ترجمة وتعليق عدلي السمري، تقديم محمد الجوهري، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996.
8- محمد ياسر الخواجة، الانحراف والمجتمع (دراسة في علم الاجتماع الجنائي)، دار المصطفى للطباعة والكمبيوتر والنشر، طنطا، 2003.
9- محمود صادق سليمان، الرفض الاجتماعي للمجرم العرضي وأسرته (دراسة حالة)، في محمد الجوهري وآخرين، علم الاجتماع والمشكلات الاجتماعية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1998.
10- مصطفى عبد المجيد كاره، مقدمة في الانحراف الاجتماعي، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1985.
11- ناجي محمد هلال، الاتجاهات النظرية والمنهجية الحديثة في دراسة الانحراف الاجتماعي، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، المجلد (17)، العدد (33)، 1423.
• المراجع الأجنبية
1- Apple, M. W. , Afterward the Politics of labeling in a Conservative age, in: Hudak ,G.M. & Kihn, P. (Eds.) , Labeling (Pedagogy and Politics) , Routledge Falmer , New York , 2001.
2- Becker, H. S. , Outsiders (Studies in the Sociology of Deviance) , Collier-Macmillan LTD. , London , 1963.
3- Bilton, T. et. al. , Introductory Sociology , Palgrave Macmillan , New York , 2002.
4- Cohen, A. K., Delinquent Boys (The Culture of the Gang) , Collier Macmillan-limit-ed , London , 1971 .
5- Giddens, A. , Sociology , 2nd ed. , Blackwell Publishers , Oxford , 1993.
6- Goffman, E. , Stigma (Notes on the Management of Spoiled Identity), Prentic-Hall , Inc. , Englewood Cliff s, New Jersey , 1963.
7- Kassebaum, G. , Delinquency and Social policy , Prentice _ Hall, Inc. , Englewood Cliffs , New Jersey , 1974.
8- Lemert, E. M. , Social Pathology A Systematic Approach to the Theory of Sociopathic Behavior) , McGraw – Hill Book Co. , New York , 1951.
9- Lofland, J. , Deviance and Identity , Prentic-Hall, Inc. , Englewood Cliffs , New Jersey , 1969.
10- Reid, S. T. , Crime and Criminology , 9th ed., McGraw–Hill Higher Education , London , 2000.
11- Rubington, E. & Weinberg, M. S., Deviance (The Interactionist Perpective ) , 4thed. , Macmillan Publishing Co. , Inc. , New York , 1981.
12- Tannenbaum, F. , Crime and the Community , Columbia University Press , New York , 1938.
#هاني_جرجس_عياد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟