بهلول الكظماوي
الحوار المتمدن-العدد: 1706 - 2006 / 10 / 17 - 08:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
( رمضانيات )
لم يمرّ على تواجدي في الشام الاّ ألاسبوع الأوّل , وما أن بدأ الاسبوع الثاني الاّ و توقّفت الحرب قبل أن تستكمل اسرائيل ما وعدت به في القضاء التام على حزب الله , وليسجّل بالمقابل مجاهدوا حزب الله ليس النصر في توازن الرعب على اسرائيل فحسب , بل و سيبقى يحتفظ ( حزب الله ) بما يضمن له انتصاره المستقبلي من خلال احتفاضه بالغالبية العظمى من ترسانته الصاروخية التي لم يستعملها بعد , وخصوصاً اذا علمنا بوجود صواريخ من نوع متطوّر جداً لم ينزل طيلة مدة الحرب التي دامت أكثر من شهر , لم ينزل للاستعمال الى ميدان المعركة , اضافة لطائرات تطير من دون طيار و مخصّصة لتحمل متفجرات موجهة .
و ما أن حلّ اليوم الثاني من توقف المعارك , وأنا أمرّ من امام باب مقام السيدة زينب ( ع ) و اذا بي اشاهد لائحة ( لافتة ) كارتونية ملصقة على الجدار بجوار باب المقام , كتب على هذه اللافتة عبارة :
على الاخوة العائدين الى لبنان أن يراجعوا مدرسة الست الثانية مستصحبين معهم الاوراق الثبوتية لسياراتهم لغرض تعويضهم بدل أثمان الوقود ( البانزين و السولار ) من أجل العودة .
و تكرّر المشهد عندما رغبت في شراء أقراص كومبيوترية مدمجة ( سي دي ) من مؤسسة الثقلين لأشاهد على جدار البناية نفس الاعلان مكرراً , بل شاهدت نفس الاعلان في عدة اماكن يدعوا الذهاب الى مدرسة الست الثانية والى أماكن اخرى لغرض قبض أثمان الوقود للعائدين الى لبنان .
الله أكبر ...! ... ماهذا الاستعداد و التكافل الشعبي و الضمان الاجتماعي لرفع المعانات عن كاهل المتضررين من العوائل اللبنانية .
ذهبت بعدها لحلاقة شعري عند حلاّق عراقي كان قد افتتح دكان حلاقته في حي السيدة زينب , وكان يجلس عنده صديقه العراقي المقيم في لبنان و النازح منها هو ايضاً بسبب القصف الاسرائيلي , وأخبرنا بانه هو أيضاً قد قبض ثمن وقود سيارته للرجوع الى لبنان حاله حال بقية اللبنانيين بدون تفربق .
و ما أن أتى الصباح الذي يليه واذا بسيارات نقل ( باصات ) متوقفة عند باب السيدة زينب ( ع ) و ما يقابلها , وفي أطرافها و ينادي مناديها بأعلى صوته ( حارة حريك .... حارة حريك ) و المنادي للسيارة الثانية ينادي ( برج البراجنة ) و ثالث ينادي ( بئر العبد ) ..........و هلمّ جرا .
تأتي امرأة تحمل طفلاً و تسحب ورائها طفلين آخرين لتسأل المنادي عمّن يوصلها للشيّاح ؟
ليدلّها المنادي بوجود سيارة تذهب الى الشياح متوقفة في مفرق الحجيرة , ثم تسأله عن الاجرة و كم يبلغ ثمنها ؟ فيجيبها : انها مجانية , دعماً للمقاومة !
كانت كلّ هذه المظاهر اشاهدها بامّ عيني , و كانت كلّ سيارة أو سيارتين يشرف عليها عالم دين معمّم ( أمّا يعتمر عمامة بيضاء أو سوداء ) و يراقب عملية اعادة النازحين العائدين بنفسه .
وقع نظري في عين أحد الشيوخ , حيّيته تحية اكبار و اعتزاز وتقدير , قلت له بارك الله بجهادكم و مقاومتكم التي رفعت رأسنا الذي طالما ظلّ مطأطئاً لزمن طويل ...!
أجابني بلهة عراقية لا تشوبها شائبة :هذا ما تعلّمناه منكم يا أبناء العراق ...! , ألستم أنتم الذين تقولون دائماً في هكذا مواقف : ( المن تريد الحيل يابو سكينه ) ؟ وهانحن مثل ابو سكينتكم كما ترانا قد ادّخرنا حيلنا لمثل هذا اليوم .
ماذا عساي أن اجيب قائلاً بعد سماعي من الشيخ هذا المثل العراقي الذي يستلهمه من شعبنا في موقفه هذا ؟
( و يبدو أن هذا الشيخ اللبناني كان قد درس العلوم الدينية في العراق مما جعل لهجيه العراقية واضحة , كما يبدوا أنه كان قد عرف الكثير من العادات و التقاليد العراقية و لذلك فهو يسوق اليّ مثل – ابو سكينه .
وابو سكينة هذا يضرب به المثل عندنا في العراق لكلّ من يدّخر نفسه و جهده و طاقته و قوته للوقت الذي يستوجب عليه أن يستعمل كلّ ما أدّخره من كل طاقته و حيويته و ماله الى حدّ التضحية بما غلى و ما نفس حتى وان كانت روحه و نفسه.
و كلمة المن تريد الحيل يابو سكينه تعني : لمن تدّخر كل هذه الطاقات يا ايو سكينه اذا لم تكن لهذا اليوم و لموقف كهذا ؟ ) .
أرجع لأقول : بعد سماعي من الشيخ اللبناني هذا المثل العراقي , تسمّرت في مكاني ....!
فماذا عساي أن أقول له ؟
هل أقول له : اننا جميعاً كنا مع ابو سكينه , بل كنا جميعاً ابو سكينة , لكن ابو سكينه هذا الذي تعرفه يا شيخنا الجليل الموقّر قد اعتلّت صحته و ( انهدّ حيله ) و قلّت حيلته امام الفتن الداخلية التي أفلح الاجنبي أن يغرسها في البعض منا , و ان لم يكن ابو سكينه مقصّراً ( وحاشاه ان يكون مقصّراً ) , الا انه قاصر , فحمله ثقيل امام جسمه العليل , فليساعده الله .
نعم .... لقد رأينا ابو سكينه في انتفاضة صفر , ورأيناه في رجب و هو يتقدم الجموع لبيعة الشهيد الصدر الاول .
رأيناه و هو يتحوّل الى ظاهرة مليونية متحديا الطغاة و هو يقف خلف الشهيد الصدر الثاني يسانده و يعاضده في ثورته الاجتماعية .
لقد رأيناه يقارع الطغاة في الانتفاضة الشعبانية , اذ انتفض شعبنا موحّداً بكل طوائفه و قومياته , و الذي اسقط فيها للطاغية اربعة عشرة محافظة من اصل ثمانية عشرة محافظة عراقية , و التي اشرفت فيها بقية المحافظات على السقوط لولا تدارك الطاغية من قبل سيدته اميركا و نجدتها له .
لقد رأينا ابو سكينة و هو يصعد اعواد المشانق في عراق الطاغية صدام حسين , رأيناه يتلقى الرصاص في صدره بكل رحابة صدر , رأيناه و هو يستنشق الغازات المميته جماعياً , رأيناه و هو يذوب في احواض التيزاب , رأيناه و قد وضعوا الديناميت في جيب قميصه عند صدره و بالقرب من قلبه النابض بالايمان و حب الوطن و المواطن , ولم نشاهده نحن العراقيون فقط , بل شاهده كل المتطلعين الى شاشات القنوات الفضائية العالمية .
و مع كل هذا نجيب على كل من يتسائل :
هل ما زال ابو سكينة قائماً فينا ؟
هل فقد العراق ابو سكينته ؟
و نجيب .... كلاّ والله ثم الف كلاّ والله ! لم يمت فينا ابو سكينة .
أجل و الله ما زال فينا ابو سكينة قائماً منتفضاً وان اعتلّت صحته و خفت بريقه , وان بهت تألقه لبرهة الا انه لم تغمض عينه بعد , وسوف لن تغمض ما دام فيه عرق نابض بحب العراق و العراقيين .
أننا جميعاً و معنا ابو سكينه على ثقة و قناعة تامّة في حتمية الشروق القادم على العراق ( كل العراق ) حيث سيبزغ الهلال الشيعي محتظناً النجم السني , منيراًً دروب العراق بتوهجه و بكل أطياف اشعته و الوانه المسيحية , الصبية , الكردية ,العربية, التركمانية , الشبكية , الايزيدية ......الخ .
نعم من شعاع هذه التشكيلة و من ظلال أطيافها سترجع الروح لابو سكينه و ستدبّّ فيه الحياة , وسيتعافى من سقمه و أعتلاله .
و كما كانت حروب الطوائف و المذاهب في لبنان التي وصلت الى حد تنصيب الحاكم في قصر بعبدا بداية الثمانينات , تنصيبه من قبل المحتل الاسرائيلي قبل ان توحّد كل هذه الاطياف المتناحرة , قبل أن توحدها المقاومة اللبنانية , سيوحد كذلك ابو سكينة كل أطيافنا الوطنية العراقية بأذن الله و بجهود الخيرين من أبناء الرافدين الغيارى على وطنهم و شعبهم .
أعود ثانية الى مسجد الزهراء (ع) في حي الامين , و كان وقتها الاسبوع الأخير من رحلتي , وأنا أنتضر الرد لحجز التذاكر لغاية الرجوع و العودة الى امستردام , حيث مطار دمشق الدولي قد تحوّل الى مطارين , فهو قد وقع عليه حمل مطار بيروت الى حمله بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان و اغلاق مطار بيروت , ولوجود سوّاح بعشرات الالوف غالبيتهم من الخليجيين التي بدأت لبنان تنتعش بهم سياحياً من جديد , و بسبب هذا الاغلاق لمطار بيروت تحوّل غالبتهم (سياح لبنان ) للطيران من مطار دمشق الذي هو بدوره أصبح حمله مرتين أكثر من الاول .
أرجع لأقول : وأنا أنتضر صاحبي بالرجوع بخبر تثبيت موعد حجز تذاكر العودة , واذا بالحاج علي طلبة , وهو من وجهاء الشام و ملاّكيها , اذا به يمسك بي و يدعوني للتوسّط بينه وبين السيد ( س ) حفيد المرجع الاعلى للشيعة الراحل في العراق .
و مشكلته مع السيد ( س ) : هي ان الاخوة في جمعية الاحسان في الشام عندما أحسّوا بالخطر يداهم المرجعية الشيعية في العراق ( نهاية سني السبعينات و بداية الثمانينات ) , اشتروا من أموالهم ( أموال جمعية الاحسان ) المتجمعة من الحقوق الشرعية ( الخمس و الزكاة و غيرها ) , اشتروا منها بيتاً عربياً كبيراً ضخماً يحتوي على سبعة عشر غرفة كبيرة اضافة للمنافع و الملحقات .
اشتروا هذا البيت العملاق و سجّلوه بأسم أحد وجهاء الشام على سبيل الامانة لصالح تملك هذا البيت للجمعية , حتى اذا تضايقت المرجعية أو الحوزة الدينية في العراق تجد هذه الحوزة التي ستهاجر في هذا البيت سكناً و ملاذا تنطلق منه لاعادة ترتيب أوضاعها من جديد منطلقة من الشام .
و يشكوا الحاج علي طلبة بأنّ السيد ( س ) حفيد المرجع الراحل قد استغل هذا البيت لصالحه و استحوث عليه و اغتصبه رغم انه لا يملكه , فهو يسكن فيه مع زوجته و طفليه , وان البيت كبير عليه , و لذلك عرضوا عليه بأن يسجّلوا بأسمه داراً هي ايضاً تسعه و عائلته و تزيد , اذ هي متكوّنة من سبعة غرف و منافعها , وتبلغ مساحتها سبعمائة متر مربع .
و عرض عليّ الحاج علي بأن اقنعه ( السيد _ س _ ) بأن جمعية الاحسان مستعدة أن تسجّل سند تمليك الدار الجديدة البديلة ( بدائرة الطابو ) بأسم السيد (س ) حفيد المرجع , و تصبح الدار الجديدة شرعاً و قانوناً باسمه لقاء أن يخرج من البيت الكبير و الزائد عن حاجته .
و الحقيقة انني اعتذرت من الحاج علي لعدم وجود الوقت الكافي لديّ للاقامة بالشام , فقد حان وقت مغادرتي لها , فلم يبقى امامي سوى يومين , وان هذه اليومين لا تكفي للتفاوض و الوساطة بينهم و بين السيد ( س ) .
الشيئ المؤلم و المحزن جداً الذي حزّ في نفسي و أنا أعتذر من الحاج علي هو : انني قد شعرت بالفرق الكبير بين ما تربّينا عليه حوزوياً في السابق و بين ما هو مفروض من حوزاتنا أن تقف فيه اليوم لأبناء شعبنا ( و خصوصاً المهجّر طائفياً في الداخل و الخارج ) و ممن لا يملك شبراً فضلاً عن بيت يأويه و عائلته , في حال ليست البيوت و الاملاك الحوزوية فقط , بل تكدّس الحقوق الشرعية في البنوك الاجنبية في الدول الاوروبية بأسماء مغتصبيها و بمبالغ و ارقام فلكية , و التي أنا في غنى ألآن عن الاتيان بالاسماء و الارقام التي اعرف الكثير عنها , و لست في معرض أن ادوّن هذه الخروقات الشرعية القاتلة .
بل كلّ ما هنالك شعوري بالحزن العميق بأن اعوّض ما أشعر به من نقص في حوزوينا , اعوّضه بما يسدّ هذا النقص عنّا أبناء الحوزة الشيعية في سوريا ولبنان الصمود و التضحية و العطاء , والتي هي ورثت الكثير من اعمالها التي سطّرتها آنفاً من خلال وصفي لابو سكينة , ورثتها من حوزاتنا التي سبق لهم أن درسوا فيها و استقوا الكثير من علمائها .
أعزّي نفسي مفتخراً بأن قادة حوزاتنا العلمية في العراق كانوا سبّاقين في البذل و العطاء والتفاني و الايثار و التضحية , بل حتى الى ميادين الشهادة , حتى خرق قادة حوزاتنا العلمية القاعدة التأريخية في التضحيات فكادت القيادة قد سبقت القواعد في التضحية و الاستشهاد كما برهن على ذلك الشهيدين الصدرين و الشهيدين العاصي و البدري و البصري ....الخ .
متمنياً من الله جلّ و على انّ ما النا اليه من اخلاق نفعية و براغماتية سرعان ما ستزول وسيؤول البقاء للاصلح .
الى هنا أستميح القارئ الكريم العذر لأتوقّف عن الاسهاب في شقشقتي التي هدرت وأرجو لها أن تقرّ امتثالاً لحكمة سيد البلغاء و باب علم مدينة رسول الله أمير المؤمنين علي ( ع ) و نحن نقف له اجلالاً و احتراماً له في يوم استشهاده حيث يقول :
ما كلّ ما يعرف يقال ,
و لا كلّ ما يقال جاء اوانه ,
و لا كلّ ما جاء أوانه حان قطافه .
و دمتم لأخيكم : بهلول الكظماوي .
#بهلول_الكظماوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟