أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام الحداد - محمود أمين العالم.. تاريخ من النضال والثورة والمعارك الفكرية















المزيد.....


محمود أمين العالم.. تاريخ من النضال والثورة والمعارك الفكرية


حسام الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 7521 - 2023 / 2 / 13 - 22:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تعد حياة محمود أمين العالم واحدة من الملاحم التي لم يكشف عنها النقاب بعد، فقد قضى الرجل حياة مليئة بالمعارك والنضال على كل المستويات، وتوجت حياته بكم هائل من الانتاج الفكري والمعرفي الذي يجعل منه فيلسوفاً وناقداً أدبياً ومفكراً سياسياً. فخلال مسيرة حياته كان معارضاً سياسياً قضى سنوات من شبابه داخل السجون، وبعد ذلك تعاون مع الدولة أملأ في دفعها نحو تحقيق المزيد من التحرر والتنمية؛ ثم منفياً في باريس يدرس في جامعاتها ويقوم في الوقت نفسه بواجبه كمثقف ملتزم بالدفاع عن قضايا أمته العربية.
يقول عن نفسه من خلال ذكرياته التي نشرها بمجلة الهلال عن سنوات الجامعة " كنت أتراوح فكريا بين نيتشوية ووجودية عبد الرحمن بدوي واشتراكية لويس عوض" . ونظرا لأن العالم لم يتناول الأفكار مغمض العينين فوجد في وجودية عبد الرحمن بدوي وجودية مغدورة، إذ صبها في قوالب ومقولات تجمد طبيعتها الوجودية . "وكان موقفي مشابها من اشتراكية لويس عوض كنت أراها اشتراكية ملتبسة غير علمية." في الجامعة نال درجة الماجستير في الفلسفة، عين مدرسا مساعدا لمادة المنطق. بدأ يعد لرسالة الدكتوراه عن الضرورة باعتبارها الوجه الآخر للمصادفة... " وفي عصر يوم من أيام صبف 1954 استدعيت لمقابلة د. يحيى الخشاب عميد الكلية . وجدت معه د. لويس عوض، أبلغنا بحزن عميق وتأثر صادق قرار فصلنا من الجامعة. وأتذكر الآن الطريق الذي أخذنا نقطعه بتمهل، لويس عوض وأنا من كلية الآداب حتى ميدان الجيزة، ما تكلمنا كثيرا، لا شك أن حزنا ذاتيا كان يملأ قلبينا. كنت أحس شخصيا بأن حلمي بالمشروع الفلسفي أخذ يتلاشى، وأشعر بتهديد غامض لمستقبل ابنتي الوليدة؛ لكنني أتذكر أننا، ونحن نفترق قلنا معا شيئا واحدا واتفقنا عليه بوضوح وحسم: سوف نغيب عن ساحة الجامعة، ولكن لا ينبغي أن نغيب أبدا عن هذه الساحة التي نمضي نحوها، ساحة شعبنا، بلادنا، ساحة مصر كلها. سنواصل فيها الرسالة التي يؤمن بها كل منا".
وبداية من مقدمة كتابه فلسفة المصادفة وهو الكتاب الوحيد الذي يأخذ شكل البحث التقليدي الأكاديمي، يحدثنا العالم عن سنوات القلق الفكري في شبابه حيث كان يتنقل بين مذاهب الفلاسفة الغربيين عند نيتشه وبرجسون وغيرهما فلا يجد ضالته. حتى قادته المصادفة إلى التعرف على الفلسفة الماركسية. ما يسترعي الانتباه هنا هو أنه منذ البدء يولي وجهه شطر الفكر الغربي، ولم يكن ذلك عن جهل بالتراث، فلقد نشأ في بيت عامر بالثقافة التراثية سواء من ناحية أبيه الشيخ أو أخيه شوقي العالم عضو مجمع اللغة العربية..
ويناقش العالم في كتابه مفاهيم وقضايا إشكالية ثلاثة مواقف متناقضة حول الثقافة العربية، ويؤكد من خلال هذه المناقشة أن كثيرا من المثقفين العرب عندما يعرضون للثقافة العربية وخاصة الحديثة إنما يعرفونها على نحو تجريدي ككتلة صماء معلقة في الفضاء خارج سياقاتها التاريخية والاجتماعية وهم بهذا إما يمجدونها جملة أو يدينونها جملة. وكلا الموقفين يؤديان إلى أمر واحد هو الغفلة عن الحقيقة، عن التاريخ فضلاً عن الاغتراب والعجز عن الفعل الموضوعي المؤثر.
ويضرب لنا عدد من الأمثلة التي يفتتحها بالشاعر أدونيس، وكتابه "الثابت والمتحول"، والمفكرين عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري فيقول عن كتاب ادونيس ".. هو دعوة إلى القطيعة المطلقة مع الذاكرة التراثية عامة، فضلاً عن إدانته لعصر النهضة ورفضه له جملة". ووكذلك يشير إلى المغربي عبد الله العروي وخاصة إلى كتابه "الأيديولوجية العربية المعاصرة"، ويتحدث عن مغالاته في الدعوة إلى اجتثاث الفكر السلفي والتوفيقي إلى حد الرضى" بأن تتميز عن الغير والغير هنا هو الثقافة الغربية بنبراتنا فقط، لا بمضمون ما تقول. رب معترض يقول : ستكون حينئذ ثقافتنا المعاصرة تابعة لثقافة الغير". ويجيب العروي: "وليكن" إذا كان ذلك طريق الخلاص"! ثم يقول: ولعلي أكتفي بالإشارة أخيرًا إلى مفكر مغربي آخر هـو محمد عابد الجابري، الذي يقرر في كتابه الخطاب العربي المعاصر" أن زمن الفكر العربي الحديث والمعاصر زمن ميت، أو قابل لأن يعامل كزمن ميت"، وأن "العقل العربي" قد فشل في بناء خطاب متسق حول أي قضية من القضايا التي ظلت تطرح نفسها طوال المائة سنة الماضية، فلم يستطع تشييد إيديولوجية نهضوية يركن إليها على صعيد "الحلم"، ولا بناء نظرية ثورية يسترشد بها على صعيد الممارسة والتغيير". وهو يرى أن الفكر النهضوي العربي الحديث والمعاصر مثل الفكر الإسلامي في القرون الوسطى؛ عبارة عن قراءة أو قراءات لفكر آخر ، وليس لتاريخه الخاص"، وهو يتهم العقل العربي بالجمود؛ بسبب أنه يركن دوما إلى نموذج سلفي، وإلى اعتماد القياس الفقهي (قياس الغائب على الشاهد)، وتوظيف الأيديولوجية للتغطية على النقص المعرفي، والتعامل مع الممكنات كمعطيات واقعية".
ويشير العالم إلى مثال آخر في النظرة إلى الثقافة العربية المعاصرة؛ وهو على نقيض المثال السابق؛ إذ يرى أن أزمة ثقافتنا العربية الحديثة عامة تكمن في تبعيتها للفكر الغربي - رأسماليا كان أو اشتراكيًا - وفي قطيعته مع أصالته التراثية؛ ولهذا فهو يدعو إلى رفض الثقافة الغربية عامة، باستثناء منجزاتها التكنولوجية فحسب، والعودة إلى التراث السلفي القديم عامة والديني بوجه خاص؛ تأكيدا لخصوصيتنا وأصالتنا الحضارية القومية، واستلهامه مصدرا للإبداع والتجديد في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عامة، وتتنوع الاجتهادات وتتفاوت داخل هذا المثال الثالث، وحسب العالم هناك الاتجاه السلفي المتزمت الذي ينظر إلى التاريخ نظرة تماثلية جامدة، ويسعى لاتخاذ الماضي معيارا قيميًا وعمليا ثابتا لصياغة الحاضر والمستقبل، وهناك الاتجاه السلفي الجديد؛ وهو أكثر واقعية وعقلانية، وإن غلب عليه الطابع الوسطي والتوفيقي والانتقائي والتعصب القومي.
ويقول العالم أن هذه الأمثلة من الثقافة العربية تتناول الثقافة العربية تناولا تجريديًا غير تاريخي، ينتزع الثقافة من سياقها الاجتماعي، ولا يبصر بما تزخر به من صراعات وتناقضات و اختلافات بحسب الملابسات الاجتماعية والتاريخية المختلفة. ولهذا فإننا لا نستطيع القول بما يقول به المثال الأول من أن الثقافة العربية على ما يرام، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا يعدو ما نحتاج إليه عن أن يكون مجرد مشروعات جزئية للإضافة والتحسين والتطوير. فهذا تسطيح وغفلة عن حقيقة واقعنا الثقافي. ولسنا نستطيع الدعوة إلى القطيعة المطلقة مع الذاكرة التراثية كما يدعو أدونيس. حقا إن كل مرحلة فكرية جديدة ينبغي أن تكون قطيعة مع المراحل السابقة، ولكن هناك فارقًا بين القول بالقطيعة المطلقة مع الذاكرة التراثية، وبين القطيعة الجدلية التي تعني الاستمرار الإبداعي، والتواصل النقدي الخلاق تعبيرا عن ضرورات موضوعية وذاتية جديدة. ويضيف العالم، يكاد أدونيس يذكرني بالعصفور الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه "نقد العقل المجرد هذا العصفور الذي كان يضرب الهواء بجناحيه كي يطير، ويتصور أنه لو لم يكن هناك هواء لكان طيرانه أكثر يسراً وسهولة ولا يعرف أنه لولا الهواء الذي يقاوم جناحيه لما استطاع أن يطير !! لا إبداع ثقافي بمعزل عن الذاكرة التراثية الحية، بفضلها وعلى الرغم منها في آن واحد. ولسنا نستطيع كذلك الموافقة على هذه الدعوة التي يدعو بها العروي إلى ما يشبه التبعية للفكر الغربي، أو على الحكم الإطلاقي المجرد الذي يسحبه الجابري على ما يسميه بالعقل العربي عامة، والغريب أن دعوة العروي وحكم الجابري يتناقضان مع ما تتسم به كتابات هذين المفكرين من عقلانية نقدية ومنهج تاريخي. ويستكمل العالم بقوله: لسنا نستطيع كذلك إقرار النزعة السلفية بشقيها المتزمت والجديد، فهي باسم الأصالة دعوة إلى تجميد الحياة، وإلى العزلة عن خبرات العصر وحضارته، فضلاً عن غفلتها عن الرؤية الموضوعية للواقع في مختلف ظواهره الصراعية.
وهنا يضع العالم يده على مشكلة هذه الاتجاهات الثقافية جميعًا على اختلافها، في أنها تعالج الثقافة معالجة مثالية متعالية خالية من الرؤية الاجتماعية والتاريخية. وهي لهذا ، وبرغم ما قد يتوفر لدى القائلين بها من جدية ونوايا طيبة وتطلع للتغيير بل للتنوير ؛ فإنهم يسهمون بشكل أو بآخر في تكريس واقعنا الثقافي الراهن، وبالتالي واقعنا السياسي والاجتماعي السائد. ولهذا يكثر بينهم الحديث عن أزمة ثقافية هي في الحقيقة أزمة مفهوم معين للثقافة، وأزمة ثقافة معينة.
ويؤكد العالم أن أزمة الفكر العربي ليست نتيجة لسيادة بنية قياسية فقهية كما يقول الجابري، أو بنية سلفية كما يقول أدونيس، أو توفيقية انتقائية لا تاريخية كما يقول العروي، أو اغترابية فاقدة للأصالة القومية والتراثية كما يقول السلفيون؛ هذه قد تكون بعض السمات في تجليات وممارسات الثقافة العربية السائدة نختلف أو نتفق في تقييمها . ولكنها ليست جوهر الأزمة أو سببًا لها.
إن الأزمة الثقافية مشروطة ومرتبطة بأزمة الواقع العربي أزمة تبعيته للإمبريالية العالمية، ويستكمل بقوله لقد سبق أن أشرنا إلى أن هناك أكثر من ثقافة متصارعة في المجتمع الواحد، هناك الثقافة السائدة المعبرة عن الفئات الاجتماعية السائدة، والثقافة المناهضة التي تسعى للسيادة تعبيرا عن إرادة تغيير البنية السياسية والاجتماعية القائمة، فأي الثقافتين هي المأزومة وأسارع بالقول: كلاهما ... وإن اختلفت طبيعة الأزمة وحدودها في كل منهما.

معركة أدبية كبرى
وتعد معركة العالم مع القطبين الكبيرين العقاد وطه حسين هي من ألقت به في قلب المشهد الفكري، فقد دخل معركته الأولى مع قطبي الأدب، والتي يخشى أي كاتب شاب من مجرد التفكير في الاقتراب منهما، فبعد أن نشر العالم دراسة عن الشعر المصري فوجئ برد من طه حسين في مقال بعنوان "الأدب بين اللغة والمعاني" يقلل فيه طه حسين من شأن النظرية الاجتماعية في الأدب، التي كان يتبناها العالم، ورفيقه عبد العظيم أنيس.
ورغم أن ردا من طه حسين كان من الممكن أن يسكت أي كاتب شاب خشية الدخول في حرب ضروس لا تؤمن عواقبها، فإن العالم ورفيقه دخلا في سجال قوي مع طه حسين ليبرزا وجهة نظريهما، ولم يثنهما عن ذلك رد الفعل القوي الذي قوبل به رأيهما من مؤيدي طه حسين.
ولم يكتف العالم وأنيس بذلك إنما أدخلا العقاد طرفا في المعركة ليعلقا على بيت من الشعر نشره في كتابه "في بيتي" واصفا إياه بأنه خير من رواية بأكملها.
وبكل ثقة رد الصديقان على العقاد، الذي عرف عنه النقد اللاذع، والاعتداد بالنفس، والتصدي بكل قوة، ودون رحمة لمن يخالفه.
هذه المعركة أنتجت لنا كتابا مهما "في الثقافة المصرية" والذي يعد ثورة، ليس فقط على تصورات طه حسين والعقاد، بل على كثير من الأدباء مثل المازني وتوفيق الحكيم وأغلب الشعراء، في ما عدا الشعراء الشبان الذين يكتبون في قالب شعر التفعيلة الذي رأى فيه العالم ارتباطه بالحياة الاجتماعية التي يتمثلها الشاعر من خلال تجاربه الذاتية.
هذا السجال، وإن كان قد أبرز لنا اسمين من الأسماء المهمة في الحركة الفكرية والأدبية، فقد ساهم أيضا في تحريك مياه الأدب، وفي فتح الباب لمحاورات ومناقشات كان من شأنها الدفع بالأدب نحو الأمام، ليتمخض عن تلك الحقبة نهضة أدبيه تعد هي الأعظم في تاريخ الأدب المصري، بل والعربي الحديث، هذه النهضة التي تمخضت عن جيل من الكتاب الكبار كان في طليعتهم الأديب العالمي نجيب محفوظ رائد الواقعية الاجتماعية، الذي مهد الطريق لجيل أدباء السبعينيات، الذي يعد الجيل الأبرز بين أجيال الرواية العربية الحديثة.
المثقف والسلطة
ومن بين أهم الإشكاليات التي ناقشها العالم سواء على مستوى الكتابة أو الحوارات والمحاضرات وخاض بسببها عدد من المعارك هي إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة، حيث يرى أن المثقفين ليسوا طبقة بثقافتهم، وليسوا فوق الطبقات أو عبرها بهذه الثقافة؛ وإنما يتنوع ويختلف انتسابهم كشرائح وفئات اجتماعية إلى هذه الطبقة أو تلك بطبيعة موقعهم من نظام الإنتاج الاجتماعي المحدد تاريخيًا، وعلاقة هذه المجموعة بوسائل الإنتاج، في إطار التعبير القانوني عنها، ودورها في التنظيم الاجتماعي للعمل وحجم الدخل، وأسلوب الحصول عليه. ولا يمكن تحديد الطبقة تحديدًا كاملاً بغير اجتماع هذه المعايير الأربعة.
كما يرى أن الدولة ما هي إلا مؤسسة سياسية معبرة عن علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع؛ ولهذا فهي مؤسسة طبقية؛ أي تعبر عن سيادة طبقة بعينها، أو سيادة تحالف طبقي بعينه. والدولة وإن تكن تعبر عن طبقة بعينها، أو تحالف طبقي بعينه وعن مصالح هذه الطبقة أو التحالف الطبقي الحاكم؛ فإنها تسعى إلى ممارسة سلطتها باعتبارها التعبير السياسي الرسمي عن المصالح العامة للمجتمع كله بمختلف طبقاته وفئاته. إنها التعبير السياسي الرسمي عن المجتمع المدني عامة.
وفي بنية الدولة أو السلطة تترابط وتتداخل وتتآزر الأجهزة القمعية والأجهزة الأيديولوجية مع مجمل العملية الإنتاجية الاجتماعية؛ ليتحقق بهذا الترابط والتداخل والتآزر إعادة إنتاج علاقات الإنتاج السائدة؛ أي تكريس الطبقة، أو تحالف الطبقات المالكة الحاكمة. وعندما نذكر الأجهزة الأيديولوجية فلسنا نقصرها على تلك الأجهزة التي حددها التوسير؛ الدينية والمدرسية والعائلية، والتشريعية والسياسية، والنقابية، والإعلامية، والثقافية بالمعنى التقليدي للثقافة؛ أدب وفن ورياضة وغير ذلك؛ وإنما تمتد بمفهوم الأيديولوجيا بحسب المفهوم الذي حدده من قبل للمثقفين، ليشمل مختلف مجالات الإنتاج والإبداع المعرفي والتقني والعملي والوجداني على السواء.
ويؤكد العالم أن الدولة بطبيعة الحال تدرك أن لا سلطة سياسية لها، ولا مشروعية ولا أخلاقية، ولا إخضاع للمجتمع المدني ولا تكريس لسيطرتها وامتلاكها لوسائل الإنتاج بغير امتلاكها للسلطة الثقافية؛ أي المعرفة الأيديولوجيا" ؛ ولهذا تسعى دائما إلى إنشاء المعابد والكنائس والمساجد، ودور البحث العلمي والتعليم، ووسائل الإعلام الجماهيري، والأجهزة الثقافية المختلفة، وتحرص دائما على تنشئة قوى المعرفة المعنوية والفنية والتقنية والإدارية، وتجنيدها واستيعابها وتوجيهها لتكريس سلطتها، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة السائدة.
ويبدأ العالم تحديد الإشكالية بين المثقف والسلطة في أن العديد من المثقفين داخل السلطة (المجتمع عامة) يدركون أنهم جزء من هذه السلطة المجتمع، وأنهم يسهمون بإنتاجهم وعملهم بمختلف أشكاله ومستوياته في تكريس وإعادة إنتاج هذه السلطة المجتمع. إلا أن الأغلبية منهم تعي كذلك بدرجات متفاوتة من الوعي الذاتي أو الموضوعي، المنظم أو التلقائي؛ بأنهم موضع استغلال واستبداد من جانب هذه السلطة المجتمع التي يكرسونها، وأنهم في مستويات دنيا من السلم الاجتماعي، رغم ما يقدمونه من إنتاج.
كذلك فإن العديد من المثقفين حسب العالم يعانون في كثير من الأحيان، وبدرجات متفاوتة كذلك من التناقض بين معارفهم وممارستهم العلمية والتقنية والإدارية وبين التوظيف الأيديولوجي لهذه المعارف والممارسات؛ هذا التوظيف الذي يرفضونه أخلاقيًا أو فكريًا بدرجات متفاوتة كذلك. (وما أكثر الأمثلة على ذلك، لعل أبرزها علماء الطبيعة الذين يشاركون في صناعة القنبلة الذرية أو النووية، ويرفضون ما ترتبط بها من سياسات عدوائية وتدميرية، أو أطباء السجون الذين يطلب منهم المشاركة في عمليات تعذيب سجناء الرأي، أو المدرسون – وخاصة في مدارس ما قبــل الجامعة، بل والجامعيون أحيانًا - الذين تفرض عليهم برامج تعليمية تتعارض مع ما يعرفونه من حقائق اجتماعية وتاريخية، أو العسكريون والدبلوماسيون الذين يفرض عليهم خوض معارك أو الرضوخ لمعاهدات صلح لا يوافقون عليها .. الخ.
ورغم المظهر الليبرالي في الممارسات السياسية والاجتماعية في بعض البلاد النامية عامة والعربية خاصة؛ فإن الطابع الجوهري الغالب هو انعدام الديمقراطية، وإهدار الحقوق الأساسية للإنسان، وسيادة القوانين الاستثنائية الباطشة وانعدام الحوار الاجتماعي، وعدم احترام التعددية الفكرية والسياسية بالمعنى الحقيقي لها، والتفرد في إصدار القرارات من أعلى السلم السلطوي، دون مشاركة شعبية ديمقراطية؛ مما يفضي إلى تجميد النشاط الفكري، وعزلة وسلبية المثقفين المتخصصين بوجه خاص. ولا تعبر هذه الصورة عن الوضع الاجتماعي فحسب؛ وإنما تعبر كذلك عن آليات العمل وطبيعة العلاقات داخل أبنية السلطة نفسها، وعن العلاقة بين هذه البنية والمجتمع عامة.
ومن خلال ما تقدم وغيره في اشكالية المثقف والسلطة يصل بنا العالم إلى أن الثورة الثقافية مهمة اجتماعية شاملة مرتبطة بالسلطة الثورية. وإنها التجذير الحقيقي للسلطة الثورية، ولكنها لا تتحقق بدونها. فلا ثورة ثقافية بدون سلطة ثورية؛ ولهذا ما أكثر ما ميز في دراسات سابقة بين الثورة الثقافية والثقافة الثورية.
فإذا كانت الثورة الثقافية لا تتحقق بدون سلطة ثورية؛ فإن الثقافة الثورية هي التمهيد الضروري لتحقيق السلطة الثورية، وبالتالي للثورة الثقافية.
واخيرا يتعرض العالم لمعركته الكبرى على صفحات كتبه إذ يناقش تيارات الفكر العربي، على اختلاف مشاربها ويوجه نقده اللاذع أحيانا لرموز ربما ينظر البعض لهم نظرة تقديس، مثل حسن حنفي أو طارق البشري، كذلك يواجه وضعية وبراجماتية زكي نجيب محمود، ولم يترك تيارا الاسلام السياسي أو الملتصقين بالسلف محاولا فك الاشتباك حول أسئلة النهضة التي يتم إعادة طرحها بين الحين والآخر دون إجابة ليقدم لنا ملاحظة مهمة تتمثل في أن "أسئلة النهضة العربية بقيت معلقة بسبب استمرارية الارتباط التبعي بمراكز الرأسمالية. توفرت إمكانية لثورة يوليو أن تواصل النهوض التقدمي، غير أن هزيمة يونيو وردة السادات التي عمقتها قد أعاد العرب إلى ما يشبه نقطة البداية بالنسبة لمشروعهم النهضوي.. إن كل الإجابات التي تتضمنها هذه الأسئلة تبقى قاصرة في تقدير محمود العالم عن تبيان الطريق الصحيح نحو نهضة عربية جديدة. "التراث هو قراءتنا له، هو موقفنا منه وهو توظيفنا له. ولهذا فالموقف من التراث ليس موقفا من الماضي وإنما هو موقف من الحاضر. توجد عمليات تحقيق علمية لعناصر من التراث؛ إلا انه ما أن يتم الانتقال من عملية التحقيق إلى عملية التقييم والتوظيف حتى ننتقل مباشرة إلى أفق الإيديولوجيا".
فالعودة إلى الماضي خديعة، كما يرى العالم لأنه ليس ثمة عودة ورفض الماضي كليا والتبني الأعمى للمشروع الغربي يعني الاغتراب الجماعي وفقدان الذات؛ "أما محاولة التوفيق فتظل محاولة فصامية دون كيشوتية ، والتركيز على المسألة الثقافية وحدها يعني تجاهل حقيقة أن التنوير الفعال لا يمكن أن يتم بغير المواجهة الحازمة لظواهر التخلف والتبعية ومن دون الدعوة إلى تحقيق تغيير جذري".



#حسام_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا تحدث فرج فودة (7): حول تطبيق الشريعة
- دير الأنبا صموئيل.. وفتاوى السلفيين والتحريض على قتل الاقباط
- الثقافة والحرف اليدوية
- جمال الغيطاني كما عرفته
- حالات.. بين الأنثى و الغياب
- بعد ان باعتهم الكنيسة رهبان دير الانبا مكاريوس يستغيثون بالر ...
- جائزة ساويرس ... الأقباط يمتنعون
- عالم من الغواية والعفة.. بين الواقع والأسطورة
- أحمد عبد المعطي حجازي وسؤال الثقافة!!
- الوقت.. المرأة
- إخوان الصفاء عصرهم ومراتبهم والموقف منهم
- محمد عمارة يتخذ مجلة الازهر منبرا لنشر التطرف وعدم قبول الآخ ...
- الشعر مسكون بالسياسة في فقه الغضب ليوسف مسلم
- السيسي وعودة رجال مبارك
- الرد على اليوم السابع واباحة البخاري ومسلم جهاد النكاح
- الخلق مصلوبة
- داعش وأفغانسان وبينهما فلسطين
- احاديث تؤسس لدونية المرأة (6)«لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَن ...
- فرج فودة ونقد الاسلام السياسي المعاصر 2-2
- فرج فودة و نقد الإسلام السياسي المعاصر 1-2


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حسام الحداد - محمود أمين العالم.. تاريخ من النضال والثورة والمعارك الفكرية