|
كيف تقتلُ الأدبَ؟
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 7509 - 2023 / 2 / 1 - 11:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف تقتلُ مسرحية عظيمة لـ "شكسبير"، أو رواية رائعة لـ “نجيب محفوظ”، أو قصة قصيرة لـ "تشيكوف"، أو ربما قصيدة عذبة لـ "إبراهيم ناجي"؟ الإجابة باختصار: "اختصرها”. في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يُشرقُ هذه الأيام في شرق القاهرة، تأكدت لي تلك "الجريمة" في بعض الندوات الأدبية التي حضرتها لمناقشة بعض الأعمال الأدبية. يجلسُ الناقدُ على المنصّة ثم "يحكي الرواية"!! ولا أدري ماذا ترك للقارئ بعدما أحرق الأحداثَ، وأخمد الترقّب، وقتلَ الشغف، وخدَّرَ القلق، وأطفأ الدهشة، وألقى بلحظة انصهار القارئ بين شخوص الرواية في صقيع الكشف؟! كتبتُ مقدماتٍ وتصديراتٍ لروايات عديدة بناء على طلب مؤلفيها، وقمتُ بترجمة روايات عديدة لروائيين عالميين مثل "فرجينيا وولف"، و"فيليب روث"، و"تشيمامندا نجوزي آديتشي"، و"تشينوا آتشيبي" وغيرهم وكتبتُ مقدمات لتلك الأعمال، وفي جميع ما أكتب من مقدمات أحرص دائمًا على ألا "أحكي" الأحداث حتى لا أخدشَ غلالةَ الشغف التي سوف يتدثر بها القارئ حين يبدأ في قراءة العمل الأدبي. لستُ من أنصار تلخيص الكتب. الكتابُ إمّا يُقرأ، أو يُترك، في سلام. فالكتابُ، أيُّ كتابٍ، ليس وحسب، بما يحويه من أفكار وأحداث وشخوص، بل بالأسلوب الذي طُرحت به تلك الأفكارُ، وقُصَّت به الأحداثُ، ورُسمت الشخصيات. فالأفكارُ، كما قال "الجاحظ"، مُلقاةٌ على قارعة الطريق. ولكن ما يميّز كاتبًا عن كاتب هو طريقة وأسلوب عرض ذلك الشيء الذي يسبحُ مُهوَّمًا في خيال الكاتب، حتى يحوّله إلى حروف، تستقر على صفحة ورقة بيضاء، في كلماتٍ وتعابيرَ وفقرات وكتب ومجلدات! فتدخل، عبر عينيْ القارئ، إلى عقله وقلبه وروحه، فيخرج بعدما يغلق دفتيّ الكتاب شخصًا آخر غير ما كان عليه قبل ولوج الكتاب. في طفولتنا، كانوا يمنحوننا مسرحيات شكسبير "مُلخّصةً"، Simplified Shakespeare ، فتعرّفنا منها على "الملك لير" وبناته الثلاث، وخاصمنا "ليدي ماكبث" التي أودت بزوجها إلى التهلكة حين تآمر طمعُها مع طموح زوجها على مائدة الخديعة، غضبنا على "بروتس" الذي خان عرّابه "يوليوس قيصر" فأوجعه الغدرُ أكثر مما أوجعه الخنجرُ يُغمَد في ظهره، أحببنا "أوفيليا" وتعاطفنا مع "هاملت" الباحث عن هويته وثأر أبيه. بكينا مع "أوديب" يتعثّرُ في عماه، وحلمنا مع "روميو وجولييت"، احترمنا "ديدمونة" وحنقنا على "عُطيل”. عرفنا "مضمون" الحكايات، لكننا لم نعرف "شكسبير" حقًّا، ولم ننصت إلى صوته، إلا حينما قرأنا مسرحياته، كما كتبها قلمُه، قبل أن يبتسرها مقصُّ "التلخيص". قبل أعوام، أعطيتُ صغيري "مازن" رواية "الخيميائي" لـ "باولو كويللو"، في ترجمتها العربية الجميلة التي اختار لها الروائي الكبير "بهاء طاهر" عنوان "ساحر الصحراء". وعدتُ ابني بمكافأة بعد قراءتها، تشجيعًا له على اختبار "متعة" القراءة. دخل غرفته، ثم عاد لي بعد برهة قائلا: "رواية جميلة، وأجمل ما فيها أن سنتياجو وجد الكنز في السعي نحوه، وليس ذلك المدفون تحت الهرم!" وراح يحكي لي الروايةَ ويناقشُ الدلالةَ الفلسفية والرمزية حول رحلة سانتياجو وحُلمه! طِرتُ فرحًا! ابني صار قارئًا! وحين هنأته على موهبته في سرعة القراءة وبراعة التحليل، أخبرني بأنه اكتفى بقراءة مقدمة الأستاذ "بهاء" التي طرحَ فيها، مُلخّصًا للرواية ورؤيةً تحليلية لرمزها الفلسفيّ. اكتفى صغيري بالمقدمة لأن نظريته العبقرية تقول: "ليه تقرا أكتر، لمّا ممكن تقرا أقل؟!” وتعلّمتُ يومها أن على المترجم ألا يكشفَ العمل، حتى يُجبرَ القارئ على القراءة، ولا يقتل شغفه. تلخيص الكتب جريمة أدبية، ولكن في المقابل بوسعنا تشويق القراء وتشجيعهم على القراءة عبر نثر قطعٍٍ وومضاتٍ ولآلئَ من كنوز الكتاب من أجل اجتذاب القراء، خصوصًا الشباب العازف عن القراءة الأدبية والذي بدأ ينجرف نحو بوستات سوشيال ميديا منزوعة الأدب فقيرة الإبداع. فمتعةُ القراءة لا تضاهيها متعةٌ أخرى. شكرًا للشاعر المثقف الصديق "جرجس شكري"، أمين عام النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة على إصداره عشرين عنوانًا من كنوز الدكتور "طه حسين" في معرض الكتاب بسعر رمزي احتفالا بالذكرى الخمسين على رحيل عميد الأدب العربي العظيم، منها "مستقبل الثقافة في مصر"، "مع أبي العلاء في سجنه"، "مرآة الإسلام"، وكذلك الكتاب الإشكالي الخَطِر "في الشعر الجاهلي". ومن المبهج بحق أن كنوز "طه حسين" قد لاقت إقبالا جماهيريًّا حاشدًا، وكأن الشباب قد ضجروا من غثاء الكتابات الاستهلاكية منزوعة الدسم الإبداعي فقيرة القيمة الفكرية، فراحوا يفتشون بين أضابير أوراق الزمان الصفراء المتهالكة عن "الأثر" الخالد والإرث القيّم من الألماسات والدُّر والأحجار الكريمة التي تركها لهم السلفُ العظيم، ميراثًا خالدًا لا يذوي شبابُه ولا يخفت بريقه. صوموا تصحّوا جسدًا، اقرأوا تصحّوا روحًا وفكرًا. ***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معرض الكتاب … على اسم مصر .. وذكرياتي
-
سلاح التلميذ ... وكتابي الجديد
-
سؤالٌ مُفخَّخ … في امتحان!
-
مع عمر… أعيشُ طفولتي!
-
مَحو الأميّة المصرية في الجمهورية الجديدة
-
كلّنا واحد
-
نوال مصطفى… وسامُ الإنسانية من البحرين
-
حبيبتي 2022… رغم عذاباتكِ... أشكرك!
-
معلّمو الرهافة … المتوحّدون
-
إيه فيه أمل! عن الطفل شنودة
-
حينما الموسيقى … صوتُ السماء!
-
دولةُ الأوبرا تحتضنُ مليكتَها
-
اتهامات مفيد فوزي ... وهداياه
-
ذوو الهِمَم … أبناءُ الحياة
-
ياسين بيشوي … والأخلاقُ في اليابان
-
أخبرني الخيميائيُّ: عن طيف التوحُّد Autism
-
سرُّ إشراق السير مجدي يعقوب: PPHH
-
عيد ميلاد الرئيس … محرابٌ ومذبح
-
التنمُّرُ ... قاتلُ المستقبل
-
تجمَّلْ بالأخلاق
المزيد.....
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
-
سرايا القدس تبث فيديو للأسيرة أربيل يهود قبيل إطلاق سراحها
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|