كرم خليل
كاتب
(Karam Khalil)
الحوار المتمدن-العدد: 7492 - 2023 / 1 / 15 - 16:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن التطور الإنساني والفكري قائم على الوعي الفكري والانفتاح على الآخر, سواء أكان هذا الآخر شعباً أم فرداً أم ثقافة ً , وبالرغم من محاولاتنا الخجولة لذلك إلا أننا وللآن نرزح تحت نير الأفكار التي تنادي بها بعض الفئات المتطرفة للسيطرة على العقول سواء أكان ذلك عن طريق الدين أم سواه من المجالات الأخرى , وللأسف لازالت الغالبية العظمى في المجتمع العربي تعتقد نفسها مالكة للحقيقة , وأن الحقيقة منوطة بها فحسب , وهنا نتساءل إلى متى سيبقى هذا الفكر العقائدي المتطرف مسيطراً على عقولنا , وإلى متى ستبقى هذه الفئات القليلة تشتري العقول والأرواح بالمال والفردوس الموعود , هل وجد الإنسان على الأرض ليسحق وتهان كرامته , أم ليعيش ويتعايش مع الآخرين من أبناء جنسه , ما الذي أدى بهذه الفئات المتطرفة إلى الظهور ؟!وما الهدف من ظهورها ؟
تهدف هذه الفئات بالدرجة الأولى إلى الهيمنة وإبقاء سيطرتها على المنطقة , لأن في فقدانها للسيطرة انهيار لمصالحها ومصداقيتها التي تدعيها, وكشف لزيف الحقيقة التي تمتلكها, وتعرية لها أمام المجتمع بخلع قناعها ألازدواجي الذي يظهر الانتماء الديني ويبطن التطرف والحقد والكراهية لكل ما يخالف معتقداتهم وآراءهم , ولإبقاء سيطرة هذه الفئات سعت إلى الاستبداد والظلم والقتل والتكفير لكل ما يخالفها باسم الدين والشعارات الأخلاقية بظاهرها الزائفة في مضمونها , فكان الاستبداد والتسلط والإفقار وإحلال الجهل والتهميش ومصادرة حرية الإنسان وهدر كرامته ، ومن ثّم تشييئه و تحويله إلى أداة ووسيلة وموضوع للسلطة .. من أبرز العوامل التي ولدت التعصب والتطرف، فكان المتعصبون والمتطرفون ضحايا هذه الشروط اللاإنسانية، لذلك لا يمكن أن تُعالَج مسائلُ التعصب والتطرف والعنف والإرهاب إلا بالقضاء على أسبابها، لا بالقضاء على ضحاياها، على نحو ما نرى ونسمع اليوم.
هل هذا دفاع عن الإرهابيين؟! لا إنما هو دفاع عن الإنسان الذي أعمته هذه الجماعات فبات عاجزاً عن التفكير خارج إطار منظومتها الفكرية وعقائدها, فباتت الحقيقة لديه مجرد كلمات أو شعارات تخرج من فم القادة لتطبق على أرض الواقع ، حيث يتطبع بها هؤلاء وكأنها كتاب مقدس لا يمكن المساس بقدسيته , نعم عن هؤلاء أدافع لا عن الإرهاب.
فالمتعصبون والمتطرفون أبناء مناخ عصيب وسلطات متطرفة, و من أقبح مفارقات هذه الأيام محاربة الإرهاب ظاهراً ومناصرة من يصنعونه صنعاً وحمايتهم . هذه المفارقة لدى حكومات الدول الديمقراطية أكثر قبحاً منها لدى الذين يجهلونها , لأننا و بآلية بسيطة يمكننا بالأموال والجهود التي تبذل في سبيل كذبة "الحرب على الإرهاب"، منذ عام 2001تجفيف منابعه شيئاً فشيئاً على الأقل، فيما لو كانت معايير هذه الحرب إنسانية أو مدنية بحق على أقل تقدير.
فالتعصب والتطرف الديني ليس وليد المصادفة , ولم ينشأ دفعة واحدة , إنما هو رهن بالظروف الاجتماعية والفكرية والسياسية والنفسية , التي أدت إلى نموه وتقوية شوكته وترسيخ عقيدته , فما هي أهم المظاهر الفكرية للتعصب والتطرف الديني، وما هي نتائجه؟
هناك مظاهر كثيرة تنم عن المبادئ المعرفية والخلفيات الفكرية للتعصب والتطرف، سواء أكان دينياً أم لا ، من أكثرها وضوحاً اليقين المطمئن الراسخ بامتلاك الحقيقة، حيث يُعبَّر عن اليقين وامتلاك الحقيقة بالتصديق التام لكل ما يتصل بمرجعية المتكلم أو المتكلمة، والرفض التام لما عداها، ومن ثم القبول التام بكل ما توجبه هذه المرجعية وتقره من تصديقات ومعاملات، والرفض التام لما عداها.
ذلك أن المتعصب الفكري أو الديني ليس نتاجاً اجتماعياً فحسب إنما هو نتاج عقلي لعقل لاواعي سُيطر عليه , فلم يصل إلى مستوى النضج وبنى جداراً من الخرافات والحقائق المزيفة , فأصبحت هي الحقيقة ولا شيء سواها .
فالحقيقة عند المتعصب المتطرف مطلقة وثابتة، اجتُرحت مرة واحدة وإلى يوم الدين، وهي مستقرة في نص مقدس، دينياً كان النص أم غير ديني، كالنص الماركسي أو الماركسي اللينيني، على سبيل المثال، أو في "القوانين العلمية" حتى لدى العلماء أنفسهم، حيث أنهم لم يدركوا أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء كما بينه لنا كارل بوبر فكل حقيقة علمية قابلة للتكذيب وإلا لا يمكن أن تكون حقيقة .
ولعل أخطر المظاهر "الفكرية" للتعصب والتطرف أن المتعصبين والمتطرفين يمنحون أنفسهم حقاً مطلقاً في تقرير مبادئ الحق والأخلاق ويعتبرون ما دونها باطلاً وجب إلغائه، وفرض ما يرونه على الآخرين بالقوة.
وبالعودة إلى المظاهر الفكرية للتعصب والتطرف، تجب الإشارة إلى أن المتعصب لا يصير متطرفاً، وقابلاً لأن يصير إرهابياً، إلا حين يُقنع نفسه برسالته وقدسيتها ليسهل عليه أن يقنع الآخرين بأنه حامل رسالة لهداية البشرية وإنقاذ العالم من الظلم ,وذلك ليس إلا تعويضاً عن إنسانيته المهدورة وذاته الضائعة. فالمتطرف داعية ومبشر، متعهد بخلاص النفوس وحامل لمفاتيح الجنة, فالدعوة والتبشير هما لب التطرف وقوامه والمحرك الأساسي لنموه وانتشاره , حيث أن السعي الدائم للذات الإنسانية هو الخلاص ونيل السعادة سواء في الحياة الدنيا أو في جنان الخلد كما ترى المنظومات الدينية المطبعة لهم .
ولذلك فقد فشلت العقلية الأيديولوجية، بما فيها الإسلامية ، في تغيير الواقع العربي، بالرغم من تراجع الأيديولوجية القومية التقليدية و العلمانية، و الانتشار الأفقي للتيار الإسلامي الذي ينمو في ظل واقع الاشتباك المباشر و الميداني، فإن هذا التيار لم يتقدم على مستوى إنتاج الرؤى و التصورات و المشاريع السياسية. إنّ استمرار الحركات الإسلامية و فاعليتها وبروزها - و هي مرشّحة أكثر من غيرها لذلك- مرتبط أشد الارتباط بحقيقة أن المجتمع العربي هو مجتمع مسلم بالأغلبية، يتفاعل مع الإسلام و الخطاب الإسلامي، لكن هذا التفاعل والفاعلية و القدرة على الفوز في الانتخابات الديمقراطية ليست غطاءً و لا مبرراً لفقدان هذا التيار الإسلامي لرؤيته الجيوسياسية و بالتالي عدم القدرة على تحقيق هذه الرؤية على أرض الواقع.
ذلك أن قدرة هذا التيار على لعب دور مباشر و عملي في صنع مستقبل المنطقة مرهون بقدرته على تقديم هذه التصورات السياسية لمستقبل المنطقة و بقدرته على فك الترابط المتكلف بينه و بين الدين، فالإسلام هو دين المجتمع وهذا شأن يختص به العلماء و الفقهاء و من ثَمَّ أفراد المسلمين، أما شأن الأحزاب فهو السياسة.
إننا نتفهم الظروف التاريخية التي أدت إلى ظاهرة -الإسلام السياسي - و نقدر عالياً الدور الذي قامت به الحركات و الأحزاب الإسلامية في الحفاظ على هوية الأمة،و التضحيات الجسيمة التي قدّمتها ، لكن فهمنا للمبررات التاريخية لهذه الظاهرة لا يبرر استمرار عملها بالعقلية ذاتها و مستوى الأداء السياسي نفسه على صعيد الواقع و للآن.
لذلك على القوى الإسلامية السياسية أن تحسم خياراتها بين كونها إما جماعة دينية وإما حزباً سياسياً , فالجماعة الدينية هي المجتمع المسلم ولا يمكن لفئة قليلة مهْما عظمت أن تستبدل نفسها بهذه الجماعة ، خاصّة و أنّ ظاهرة العداء للدين قد تراجعت , و لم يعد حتى ممثلو التيارات الأيديولوجية الأخرى يجادلون في هوية المجتمع العربي ، إنما يكتفون بطرح بعض الإشكاليات الحقوقية و المدنية و الاجتماعية المترتبة على ذلك في ظل الظروف المعاصرة وعلى ممثلي التيار الإسلامي أن يقدّموا الإجابات حول هذه الإشكاليات.
ومن هذا نرى أن التعصب والتطرف الديني ليس حلاً شافياً لما يعانيه المجتمع اليوم , ولا الحركات والأحزاب السياسية الدينية هي الحل كذلك , إنما الحل يكمن في اللحاق بركب الدول المتقدمة والثورة على هذا الوضع القائم الراكد بالمجتمع والحائل دون وصوله إلى المستوى الأعلى لقدراته الكامنة وإبداعه الخلاق , ولا يكون ذلك إلا بالعلمانية .
فالعلمانية كفكر هي فصل الدين عن الدولة، وهذا لا يعني الرفض للدين , لأن من شأن العلمانية الحفاظ على الدين وممارساته العقائدية, لكن دون أن يدخل ذلك في إدارة شؤون الناس وفرض أي دين عليهم في معاملات وقوانين الدولة , ذلك أن الدولة متغيرة بتغير أوضاع الناس ومعيشتهم وليس الدين كذلك لأنه ثابت , ولا يمكن أن يحكم المتغير الثابت .
فالعلمانية هي الحياد الإيجابي للدولة تجاه جميع أبنائها، والمنظور العلماني في إدارة الدولة لا يتناقض مع رؤية الإسلام، لأن الدولة ليست شأناً دينياً في الإسلام بل هي منتج اجتماعي لحسن إدارة المجتمع وسياسة الأمر، "وأمرهم شورى بينهم" .
ومن هنا نرى و نتبين أن الإسلام كدين لمليار ونصف من البشر بريء من الإرهاب الممارس باسمه, لكن وللأسف كثيرا من شيوخ المسلمين سنةً كانوا أم شيعةً ليسوا بريئين من هذه الجرائم، وخاصة المشهورين منهم، نجوم الفضائيات والتحريض على كل مُخالف, فإن كانت هذه الفئة القليلة متطرفة ومتعصبة لمبادئ وأسس لا علاقة للدين والإسلام بها إلا بالاسم , فهل يجوز لنا ونتيجة لذلك اخذ مليار ونصف من البشر بجريرة مئات أو آلاف من المجانين، كلا وإلا لكان ذلك الجنون بعينه.
أما شيوخ التحريض و الجهاديين وفضائياتهم ومنابرهم فهم شركاء بالجريمة ضد الإنسان وضد الإسلام بحد ذاته, وهم من يجب أن يحاسبوا بالفعل , وتكشف المجازر والفتن التي يقفون وراءها, والثورة في وجه كل فكر متطرف يسعى لترسيخ الجهل واستعباد الشعوب , فلسنا أدنى من سوانا لا بالعلم ولا بالعقل ولا بالمعرفة , فكيف لا نستطيع أن نصل لمرحلة الثورة على الأفكار والعقائد والفئات والأشخاص الذين يربطون الدين بالدولة وشؤونها , لتبقى كما (الحمار يحمل أسفاراً ) فلا استفاد منها ولا استطاع إفادة الآخرين بها
#كرم_خليل (هاشتاغ)
Karam_Khalil#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟