|
كتاب -من الإصلاح إلى النهضة- لعبد الإله بلقزيز: إضاءة على جذور ومآلات الحداثة العربية
صلاح الدين ياسين
باحث
(Salaheddine Yassine)
الحوار المتمدن-العدد: 7492 - 2023 / 1 / 15 - 14:31
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يُعد هذا الكتاب من أبرز إصدارات الكاتب المغربي المعاصر عبد الإله بلقزيز، والذي صدرت طبعته الثانية المزيدة في العام 2014، عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. في تصدير الكتاب، يكشف المؤلف عن دوافعه من وراء هذا الإنتاج الفكري، والمتمثلة في تسليط الضوء على خطاب الحداثة العربية، الذي شهد اندفاعة غير مسبوقة، منذ ما سُمي بعصر "اليقظة العربية"، قبل أن يدخل طور الانكفاء والانحسار، موازاةً مع انبعاث الأفكار المشدودة إلى التقليد. ومن هنا يكتسي الكتاب أهميته من إعادة الاعتبار للخطاب الحداثي العربي، الذي طاله التهميش في الساحة الفكرية. فما سياق التأسيس التاريخي لفكرة الحداثة في المجتمعات العربية؟ ما أبرز تصنيفات وأشكال الخطاب الحداثي العربي؟ ومن أي زاوية يمكن تقييم حصيلة وصيرورة الحداثة العربية؟
المسار التاريخي للحداثة العربية يشير المؤلف إلى أن اللحظة التأسيسية للحداثة في الوعي العربي، لم تكن بمعزل عن تأثير الحداثة الغربية. إذ شهد القرن التاسع عشر بداية احتكاك العرب والمسلمين بأوروبا وقيمها وثقافتها، في سياق موسوم بالمطامع الاستعمارية الأوروبية، التي دقت ناقوس الخطر في عدة بلدان عربية وإسلامية. واللافت أن دعاة الحداثة العربية، في شقيها الإصلاحي -الإسلامي والليبرالي على السواء، لم يجابهوا الخطر الاستعماري بالركون إلى السلبية، والتشرنق على الذات الحضارية المأزومة، على شاكلة ما نعاينه في راهننا، بمقدار ما انبروا للتساؤل عن الأسباب التي صنعت للمدنية الأوروبية شوكتها وغلَبَتَها، في مقابل تَخَلف أحوال المسلمين، ليتوصلوا إلى جملة من الأجوبة، من أبرزها تعطيل العقل النقدي، وانسداد باب الاجتهاد، والفقر العلمي والمعرفي، ناهيك بمعضلة الاستبداد السياسي... إلخ. وبعدما عرف الوعي الحداثي العربي اندفاعةً غير مسبوقة، طَوال الفترة التاريخية المسماة ب "اليقظة العربية"، التي امتدت إلى مطالع القرن العشرين، ما لبث أن مُنيَ بانتكاسة أولية، في أعقاب ميلاد أيديولوجيا "الإحيائية الإسلامية" ذات المنزع الأصولي، في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي نادت بإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية على إثر انهيار مركزها العثماني. وهكذا تَعَرض الخطاب الحداثي العربي إبان تلك الفترة لضروب من الحصار والتضييق، على مثال المحاكَمات التي خضع لها بعض رموزه، مثل طه حسين، بمناسبة صدور كتابه "في الشعر الجاهلي" (1926). ومع بزوغ المشروع القومي التحرري في بعديه السياسي والثقافي، إبان خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سيكتسب خطاب الحداثة زخما نوعيا جديدا، بالتوازي مع انحسار نقيضه (=خطاب الأصالة)، وخاصةً في حقول التعبير الأدبي والفني (ثورة الشعر الحر، والرواية العربية، والحداثة الموسيقية والسينمائية... إلخ)، دون إغفال أنماط الإنتاج الفكري والنظري، في ظل سطوع تيارات جديدة في الفكر العربي، من قبيل الماركسية، والوجودية... إلخ. إلا أن فشل واحتضار المشروع القومي العربي منذ سبعينيات القرن الماضي (لجملة من العوامل لعل أوضحها النكسة العربية لسنة 1967)، موازاةً مع صعود حركة "الصحوة الإسلامية" وتغلغلها في أوساط المجتمعات العربية، قد آذن بانكفاء الخطاب الحداثي العربي أمام سطوة دعاة الأصالة والتقليد.
تصنيفات وأنماط الخطاب الحداثي العربي طَوال عصر اليقظة العربية، الذي امتد من القرن التاسع عشر إلى غاية مطالع القرن العشرين، عرف الخطاب الحداثي تقاطبا بين تيارين ممثلين له: تيار الإصلاحية الإسلامية، والتيار الليبرالي العربي. أما الأول فقد جسده مجموعة من رموز الفكر الإصلاحي الإسلامي، وفي جملتهم رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي. ولعل ما يطبع هذا الصنف من الخطاب عدم جنوحه إلى القطيعة التامة مع الموروث الحضاري الإسلامي، من طريق استحضار الجوانب الحية في ذلك التراث (=عقلانية ابن رشد، اجتماعية ابن خلدون، مقاصدية الشاطبي... إلخ). كما لم يغفل دعاة هذا التيار الانفتاح على بعض مكتسبات المدنية الغربية، وتحديدًا ذات الصلة بالدولة الوطنية الحديثة، كنقيض موضوعي للدولة الدينية أو دولة الخلافة (كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، الصادر في العام 1925 كمثال). أما فيما يتعلق بدعاة الطرح الليبرالي العرب، فبوسعنا الإحالة هنا إلى بعض رموزه على سبيل المثال لا الحصر، كفرح أنطون، وأحمد فارس الشدياق، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد. لقد كان الليبراليون العرب، قطعًا، أقل صلة بالموروث التاريخي الإسلامي، مقارنةً بالإصلاحيين الإسلاميين. وفي المقابل، أمعنوا في الدفاع عن كونية الحداثة، والتماهي مع النموذج الحضاري الغربي، من منطلق أن النسج على منوال الحداثة الغربية، هو السبيل الأوحد أمام المجتمعات الإسلامية للحاق بركب العصر، والانخراط في عملية البناء الحضاري، والفكاك من أوضاع التخلف والانحطاط. وصولا إلى التيار الفكري الذي يسميه الكاتب ب "العقلانية النقدية" (من أبرز ممثليه محمد عابد الجابري، علي أومليل، هشام جعيط، إدوارد سعيد)، والذي أنهى حالة التقاطب التي عمرت طويلا بين الليبراليين والإصلاحيين الإسلاميين. وهكذا عُنيَت العقلانية النقدية بنقد العقلين (الإسلامي - الأصولي والغربي) على السواء، صدورًا من رؤية أكثر موضوعية ونسبية، إذ انصرف ممثلو ذلك التيار إلى نقد ومساءلة تراثنا التاريخي (مشروع الجابري في نقد العقل العربي كمثال)، من دون أن يحجموا عن نقد العقل الغربي، الذي نظروا إليه نظرة نسبية بعد تجريده من طابعه المطلق.
مآلات العقلانيات الحداثية العربية عند التمعن في حصيلة ومآلات تلك الأنماط الثلاثة من الخطاب الحداثي، ينتهي الكاتب إلى أن العقلانية الإسلامية - الإصلاحية كان تأثيرها وسلطانها أكبر من العقلانية الليبرالية ذات المنزع التبشيري، بحكم انتسابها (أيْ الإصلاحية الإسلامية) إلى المنظومة المرجعية الثقافية للإسلام، وبالتالي كانت أقل عرضة لسطوة ومقاوَمة قوى التقليد. غير أن مشروع الإصلاحية الإسلامية، سرعان ما دخل نفقا مسدودا لجملة من الاعتبارات، لعل أهمها انهيار الحاضنة السياسية لذلك المشروع (تجربة محمد علي في مصر على سبيل المثال لا الحصر)، إذ حاولت النخب الإصلاحية في بعض الدول الإسلامية (تركيا، مصر، تونس، المغرب)، إبان القرن التاسع عشر، المبادَرَة بإجراء إصلاحات لدفع الخطر الاستعماري، متوسلة بالإنتاج الفكري للإصلاحيين في مواجهة ممانعة القوى المحافظة. غير أن سقوط تلك الدول في قبضة الاحتلال أفسح المجال أمام ظهور مقولة دفاعية إحيائية متقوقعة على الذات الحضارية. وعليه يخلص بلقزيز إلى أن الحداثة الفكرية لم تُستَنبت بعد في تربة المجتمعات العربية والإسلامية، لجملة من الاعتبارات الذاتية والموضوعية. وهنا ينبه الكاتب إلى المفارقة التي سبق أن أشار إليها عبد الله العروي، ومفادها أن المجتمعات العربية، في الوقت الذي تقبل فيه بالتحديث (الذي يطال الجوانب المادية، كالإقبال بشراهة على استهلاك أفخم المنتجات الغربية الحديثة من هواتف وسيارات... إلخ)، فإنها ترفض الحداثة بما هي رؤية فكرية وفلسفية جديدة، تقطع مع اليقينيات السابقة إزاء جملة من المواضيع (النظام السياسي، العلاقات الاجتماعية، المعرفة، الأخلاق...)، بالرغم من أن التحديث هو في المحصلة ثمرة للحداثة، إذ يُعزى التقدم العلمي والتقني في الغرب إلى ظهور النظريات العلمية الحديثة، وإسهامات الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر. كما يشدد المؤلف على وجوب تَجَنب الخلط بين الحداثة والتغربن، الذي لا يتجاوز كونه محاكاة فجة للغرب ومرادفا للكسل المعرفي، ذلك أن الحداثة تفترض القدرة على الإبداع الذاتي، لا مجرد الاقتصار على استهلاك وتقليد حداثة الآخَرين.
#صلاح_الدين_ياسين (هاشتاغ)
Salaheddine_Yassine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب -السلطة الثقافية والسلطة السياسية- لعلي أومليل: المثقف
...
-
قراءة في كتاب -الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية- ل
...
-
قراءة في كتاب -الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في
...
-
قراءة في كتاب -فكر ابن خلدون: العصبية والدولة – معالم نظرية
...
-
قراءة في كتاب -غرق الحضارات- لأمين معلوف
-
كتاب -هجرة الأفكار-: التلاقح الحضاري كرؤية بديلة للصدام بين
...
-
قراءة في كتاب -نظام التفاهة- للفيلسوف الكندي آلان دونو
-
كتاب -معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا-: سبرٌ لأهم المر
...
-
قراءة في كتاب -سيكولوجية الجماهير- لمؤلفه غوستاف لوبون
-
كتاب -سوسيولوجيا النخب-: دليلك لفهم ظاهرة النخبوية ومرتكزاته
...
-
كتاب -التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي- لمؤلف
...
-
كتاب -تشريح الثورة-: دراسة للثورات وأسباب حدوثها
-
قراءة في كتاب المغرب قبل الاستعمار... المجتمع والدولة والدين
...
-
قراءة في كتاب -النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي- ل
...
-
قراءة في كتاب -الديمقراطية- للمؤلف تشارلز تيللي
-
كتاب -الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخل
...
-
كتاب -الحرب الهادئة: مستقبل التنافس العالمي- لصاحبه نوح فيلد
...
-
قراءة في كتاب -الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ- لها
...
-
الفكر السياسي عند فلاسفة اليونان
-
هل القوة القهرية هي الضامن الوحيد لبقاء الأنظمة السياسية أم
...
المزيد.....
-
كوريا الجنوبية.. المحكمة الدستورية تعقد أول جلسة تحضيرية لمح
...
-
لماذا تريد أمة المليار ونصف المليار المزيد من الأطفال؟
-
ما صحة ضرورة التخلي عن السكر؟
-
هل توجد حضارات خارج كوكب الأرض؟
-
OpenAI تبحث إمكانية تطوير روبوت ذكي
-
بوتين: التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية يلبي المصالح الأساس
...
-
دونالد ترامب وعد بوقف جنون التحول الجنسي في أمريكا
-
تركيا تُرتّب البيت السوري على طريقتها
-
إسرائيل.. إصابات وتعليق العمل في مطار بن غوريون بسبب صاروخ م
...
-
الجمعية الوطنية في كوريا الجنوبية تعتزم التصويت على عزل الرئ
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|