بدا واضحا بغياب فيصل الاول في آب 1933، ان العراق دخل في طور سياسي جديد. فالملك الشاب، غازي، تملأ رأسه أفكار وأحلام تختلف عن أبيه الراحل، والقضايا التي كانت قابلة للتسوية عن طريق التفاوض اصبحت تحتاج الى القوة في تسويتها، ولعل مشكلة الآثوريين إحدى أبرز المشاكل التي واجهت العهد الجديد في أيامه الاولى. ومن خلال المعارك ونتائجها تتولد قوى جديدة. وكما أشرنا في مقال سابق، ان بداية صعود بكر صدقي كونه الذي قام بتأديب الآثوريين وإنهاء تمردهم. وإذ كان النصر الاول في معظم الحروب ينسب الى القادة السياسيين بالدرجة الاولى، ويكون العسكر في الغالب أدوات تنفيذ، فان الانتصارات اللاحقة، خاصة إذا حققها القادة العسكريون أنفسهم، يكون هؤلاء القادة شركاء، ثم لا تلبث ان تنسب اليهم، مما يجعل قاماتهم ترتفع وأسماءهم تملأ الاسماع والابصار، وهذا ما حصل لبكر صدقي على وجه التحديد، إذ بعد ان قام أيضا بالقضاء على تمرد العشائر في الفرات الاوسط، أصبح له رأي، صراحة او ضمنا، في من يكون رئيسا للوزراء، ومن هو الاكثر ملاءمة لوزارة الدفاع ورئاسة الاركان، وهكذا.
كما أن طبيعة العلاقة التي قامت بين بريطانيا والعراق، خاصة خلال الفترة الاخيرة من حكم فيصل، والتي كانت تتسم بالتوتر وتزايد اختلاف وجهات النظر، استمرت سلبياتها تتصاعد، وبسبب المواقف التي اتخذها غازي، إذ اضافة الى استمرار تأييده للقضية الفلسطينية، وتزويد المجاهدين الفلسطينيين بالدعم والمساندة، فان الاحداث التي وقعت في سوريا خلال هذه الفترة زادت العلاقات سلبية واحتداما. وكانت الاذاعة التي أقامها في قصر الزهور تهاجم الاستعمارين البريطاني والفرنسي بالاسم، وتدين تصرفاتهما، وتحرض على الصمود والمقاومة. أكثر من ذلك ساهم غازي بإمداد الثوار السوريين بالاسلحة والدعم.
في المقابل، وبعد ان كان الحوار هو السمة الغالبة في العلاقة بين الساسة العراقيين، فقد لجأ أغلبهم الى تكوين قوى خاصة بكل منهم بين العشائر أولا ثم في صفوف النواب من أجل الحصول على التأييد الذي يمكنه من تحقيق سياسته ومآربه، وأصبح الحوار، إذا جرى، غطاء للمواقف الحقيقية وتمويها لها، وبهذه الطريقة حصل أكثر من مرة اصطفاف مختلف للقوى السياسية، إذ تكونت أحزاب جديدة، او ظهرت الى العلن أحزاب كانت تعمل تحت الارض، كما أصبحت الصحافة يحسب لها حساب في المواقف والعلاقات.
ولا بد من الاشارة أيضا الى ان بعض الشؤون شغلت الملك غازي عن ممارسة دوره الكامل كصاحب سلطة، الامر الذي شجع أفراد الطبقة السياسية على ان تطمح وتعمل لإشغال أدوار سياسية أكبر وأهم، وهذا ما يفسر الصراع بين هؤلاء، وبالتالي سرعة تغير الوزراء والوزارات ومحاولة الوصول الى صيغة أكثر دواما واستمرارا.
كان من جملة التغيرات الكبيرة في هذه الفترة ان كلف ياسين الهاشمي بتشكيل الوزارة، وهذه الشخصية لها حضور مميز منذ وقت مبكر، إذ بعد ان اشترك في بعض معارك الحرب العالمية الاولى، وكان ضابطا مرموقا في الجيش العثماني، التحق بالثورة العربية التي قادها الحسين بن علي واستقر في دمشق، وقد شارك في إنشاء دولة فيصل واحتل فيها مراكز هامة ومرموقة، نظرا لما يتمتع به من كفاءة وإخلاص. وحين سقطت دولة فيصل وذهب الى العراق، منعت السلطات البريطانية ياسين الهاشمي من العودة الى موطنه الاصلي نظرا الى ما يحتمل ان يشكله من خطر على الاستعمار البريطاني هناك، لكن هذا المنع لم يطل، إذ توسط له فيصل الاول وسمحت له بريطانيا أخيرا بالعودة.
بمجرد ان عاد ياسين الهاشمي الى بغداد بدأ نشاطا مكثفا في شتى المجالات، وكانت سمعته الوطنية ونزاهته تشقان له الطريق أينما ذهب وأينما حل، بحيث لم تمض فترة قصيرة الا وأصبح أحد أبرز الرموز السياسية الوطنية وأقدر المعبرين عنها، خاصة ان كفاءاته لم تقتصر على الجوانب السياسية وانما تضافرت مع الكفاءات الاخرى في المجال المالي والحقوقي والشؤون البرلمانية وغيرها، الامر الذي أهله مبكرا لأن يتولى رئاسة الوزارة، وان ينشئ حزبا سياسيا، وان يستمر دون خوف في مناوأة السياسة البريطانية. ولقد تلاقى في هذا مع فيصل الاول، ثم غازي بعد ذلك.
وما ان اضطربت الحياة السياسية في منتصف عقد الثلاثينات حتى جيء بياسين الهاشمي رئيسا للوزراء، وكانت سياسته قد تحددت بوضوح، ومواقفه بمقدار ما تستقطب القسم الاكبر من الرأي العام، فانها تثير قسما غير قليل من الطبقة السياسية وبريطانيا، ومعهما محليا الجالية اليهودية الكبيرة والنشيطة، اضافة الى بعض الأقليات الاخرى.
كانت أبرز مآخذ بريطانيا، ومعها أتباعها، مناوأة ياسين الهاشمي للسياسة البريطانية ليس في العراق وحده وانما في المنطقة كلها، وبالتالي ضرورة حشد جميع القوى لمواجهة هذا الاستعمار ومنازلته بكافة الوسائل والاساليب. وينسحب الموقف ذاته على الاستعمار الفرنسي، خاصة في سوريا ولبنان، البلدين اللذين يكن لهما ياسين الهاشمي عواطف ايجابية وتقديرا خاصا، نظرا لانه عرفهما عن قرب وتربطه بقادتهما الوطنيين روابط وثيقة.
خلق هذا المناخ مواقف سلبية وإيجابية تجاه هذا الرجل؛ يضاف الى ذلك ان ياسين الهاشمي تبنى في هذه المرحلة، ومن أجل إنشاء جيش وطني وتقويته، شعار التجنيد الاجباري. هذا الشعار الذي قسم الرأي العام المحلي وألّب قسما كبيرا من العشائر ضده، وقد لعب السياسيون الخصوم لياسين دورا في هذه التعبئة المعادية. لم يقتصر الامر على ذلك فقد حصلت بعض أعمال التمرد والعصيان خاصة في الفرات الاوسط، وفي الشمال بين الاقليات، وكما ذكرنا لجأت السلطة الى العنف، والى الطيران في قصف مواطن التمرد.
صدف في هذه الاثناء ان دعي طه الهاشمي، الأخ الشقيق لياسين، وكان رئيسا للأركان، الى انكلترا لحضور المناورات هناك، ولكي يتم التباحث بشأن صفقة الاسلحة التي طلبها العراق من بريطانيا. وكلف طه الهاشمي بكر صدقي لكي ينوب عنه، وكالة، في رئاسة الاركان. وكلفه ايضا ان يقوم بالاشراف على مناورات الخريف التي يجريها الجيش العراقي كل سنة.
لم يُخف بكر صدقي غبطته بهذا التكليف الذي جاء له كهدية من السماء، وبدأ يعمل بإصرار وهدوء من أجل تنفيذ الخطة التي بيتها في ذهنه منذ فترة طويلة، فقد نقل القطعات الى القرب من بغداد، وأجرى تنقلات في صفوف القادة العسكريين المسؤولين، وأخذ يزور القطعات والقادة العسكريين في مواقعهم ليمتن العلاقة معهم ولمعرفة حقيقة مواقفهم تجاهه. كان يقوم بهذه التحركات بالتنسيق مع حكمت سليمان، وأصبح الاثنان شريكين بكل معنى الكلمة. وأصبحا يحشدان القوى ويعبئان الرأي العام بمواقف سلبية مناوئة لياسين الهاشمي، مستغلين المصاعب والتحديات التي كانت تنشأ بين الوزارة والقصر، وبين الوزارة وخصومها السياسيين.
ما ان اقترب موعد مناورات الخريف حتى صعّد بكر صدقي مواقفه ومطالبه تجاه القصر، بضرورة استقالة وزارة الهاشمي، لأن الرأي العام لم يعد يطيق استمرارها. كما لجأ الى استغلال خصومات بعض الضباط تجاه الوزارة وتجاه وزير الدفاع، جعفر العسكري بالذات. فالفريق عبد اللطيف نوري الذي كان ناقما على ياسين الهاشمي وجعفر العسكري لأنهما لم يوفداه الى الخارج من أجل المعالجة، أصبح الآن مؤيدا لبكر صدقي وهو يطالب بإقالة الوزارة. أما الضباط المناوئون له في الخط السياسي فقد جمد القسم الاكبر منهم حين وضعهم في المكاتب وأبعدهم عن قطعاتهم العسكرية. كما لم يتردد بتصفية ضباط آخرين لأنهم استعصوا عليه، او لكونهم يعرفون من المعلومات اكثر مما ينبغي.
في يوم 29 تشرين أول أعلن بكر صدقي زحفه على بغداد، كما أرسل ثلاث طائرات حربية ألقت مناشير تتضمن مطالب الجيش.
أرفق بكر صدقي المناشير بإنذار حول ضرورة استقالة وزارة ياسين الهاشمي خلال ثلاث ساعات، وإلا فسوف يلجأ الى القوة. وحين انقضت هذه الساعات الثلاث ولم تستقل الوزارة المذكورة هاجمت الطائرات بغداد وألقت قنابلها عليها، مما أدى الى تلاحق التطورات بسرعة كبيرة، إذ استقالت الوزارة الهاشمية، واتجه العسكري الى ملاقاة بكر صدقي، لكن ما لبث ان قتل العسكري من خلال كمين هيأه له بكر. وتشكلت وزارة حكمت سليمان التي اشترطت ان يتم تسفير نوري السعيد وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني الى خارج البلاد، فالتجأ نوري الى السفارة المصرية التي قامت بتسفيره الى القاهرة. اما الهاشمي والكيلاني فقد اتجها الى سوريا بحراسة مشددة.
لم يقتصر طلب المغادرة على هؤلاء الاشخاص الثلاثة، إذ طلب من آخرين، من وزراء وأقارب ان يغادروا أيضا، فغادر صادق البصام وزير المعارف، ورؤف البحراني وزير المالية، وعدد آخر من الاقرباء او المحسوبين على القادة المذكورين.
تلى ذلك تعطيل بعض الصحف وحل المجلس النيابي، وانتهاج سياسة معادية للخط السابق، والذي كان خطاً عربيا متميزا، ولجأ بكر صدقي ومعه حكمت سليمان الى الاعتماد بشكل متزايد على عناصر الاقليات واضطهاد القوميين، وأخذت التهديدات بالتصفية المادية توجه الى قادة البلاد ورموزها. أكثر من ذلك جرت أكثر من محاولة لاغتيال بعض الشخصيات الوطنية، فقد أطلقت النار على مولود مخلص، وقتل شقيق جعفر العسكري، ومنعت زوجته من الاقامة في العراق، وأرغم رستم حيدر على الاستقالة كوزير للبلاط واضطر الى مغادرة البلاد.
من الامور التي قام الكثير من الشواهد عليها: علاقة بكر صدقي الوثيقة بالسفارة البريطانية وتعاونها معه منذ وقت مبكر. كما ان بكر صدقي حرص على زيادة تعاونه مع الجالية اليهودية الكبيرة والواسعة النفوذ في العراق، ولعل علاقته بأحد أقطاب الجالية في بغداد، والذي كان وثيق الصلة بأكثر من مخابرات أجنبية، والذي يدعى جستن، وكان في البداية موظفا في الدوائر البريطانية ثم ما لبث ان فتح محلا تجاريا في بغداد يبيع فيه السلع النادرة وغالية الثمن للطبقة المترفة من العراقيين والاجانب... جستن هذا ما لبث ان فتح بيته للسهرات التي يُدعى اليها علية القوم، وكان من بين هؤلاء بكر صدقي وحكمت سليمان، وكانا يترددان على هذا البيت بشكل متزايد ويلتقيان فيه، بالاضافة الى الحسان، بإعداد من الجواسيس والطامحين للقيام بدور سياسي.
جستن هذا ما لبث ان غادر العراق في أواخر الاربعينات الى فلسطين، وهناك انضم الى إحدى المنظمات الارهابية الصهيونية وحارب في صفوفها الى ان سقط قتيلا.
ورغم تزايد مشاغل بكر صدقي، فقد وجد الوقت المناسب والكافي لكي يعقد قرانه على إحدى السيدات النمساويات، وكانت امرأة رشيقة القوام فاتنة الجمال ولها صلات وثيقة بدوائر المخابرات البريطانية. وانتهز اليهود مناسبة الزواج لكي يقدموا لبكر صدقي أغلى الهدايا وأثمن المجوهرات.
اما الاوضاع في داخل العراق فقد اتسمت بمعاداة حكومة بكر صدقي، وحين اتيحت فرصة للتمرد خاصة في الفرات الاوسط، فقد لجأت الحكومة الى قصف مناطق التمرد عن طريق الطيران، مما ادى الى خسائر فادحة في الارواح والممتلكات. وقد اعتبر بعض وزراء حكومة حكمت سليمان هذه القسوة المبالغ فيها سببا كافيا للاستقالة، فاستقال من الوزارة كل من جعفر ابو التمن وكامل الجادرجي وصالح جبر ويوسف عز الدين.
في ظل هذه الفوضى، وارتخاء قبّة حكمت سليمان على السلطة، وتزايد نقمة الرأي العام، خاصة في أوساط الجيش، وتحديدا الضباط ذوي الاتجاهات القومية، فقد أخذت تنسج المؤامرات للايقاع ببكر صدقي.
أما كبار السياسيين، خاصة المنفيين، مثل نوري السعيد وزميليه، الكيلاني وياسين الهاشمي، فقد لجأ بعضهم الى إيفاد الاقرباء والمخلصين الى بغداد لدراسة الاحوال واستطلاع الرأي العام، وايضا للقيام بالاتصالات وحمل الرسائل، خاصة نوري السعيد.
وفيما كانت تجري هذه التحركات والاتصالات حتى: <<طوى الجزيرة وجاء الخبر>>: لقد توفي ياسين الهاشمي في بيروت بأزمة قلبية.
كان لهذا الخبر وقع الصاعقة على كثيرين، وفي أكثر من قطر عربي، نظرا ما يتمتع به هذا القائد الفذ من سمعة حسنة وماض ناصع، واعتبر هذا الغياب، في هذا الوقت بالذات خسارة لا تعوض، خاصة للعراق.
وبعد ان زالت الصدمة المباشرة بدأ التفكير والعمل من أجل نقل الجثمان الى العراق لكي يدفن هناك، لكن الحكومة العراقية رفضت استقبال الجثمان، فتولدت مرارة مضاعفة نتيجة هذا الموقف، واتجه التفكير والعمل الى دفنه في دمشق، باعتبار سوريا وطنه الثاني، إذا لم يكن الاول. وتعبيرا عن الاحتفاء البالغ والاهتمام الكبير جرت للراحل جنازة لم تشهد دمشق لها مثيلا. لم يقتصر الامر على ذلك، فقد دفن ياسين الهاشمي الى جانب صلاح الدين تقديرا واحتراما.
والآن، فان أي زائر لدمشق، وبعد ان يفرغ من زيارة مسجد بني أمية، لا بد من ان يعرج على قبر صلاح الدين، القريب من المسجد، ليقرأ الفاتحة عن روحه. وسيرى اي زائر ان ثلاثة قبور حظيت بهذا الشرف: ياسين الهاشمي، والطيارين التركيين اللذين وصلا الى دمشق في أول رحلة جوية في أعقاب الحرب العالمية الاولى، وقد سقطت الطائرة حين كانت تهم بالاقلاع للمغادرة، بعد ثلاثة أيام قضتها في دمشق، سقطت الطائرة في مكان معرض دمشق الدولي الحالي.
وهكذا انطوت صفحة اخرى من تاريخ العراق والمنطقة، لكن لا يزال اريجها يملأ المنطقة العربية على اتساعها.
السفير