مرة أخرى تنأى الثقافة في المنفى بنفسها بعيدا عن السياسة . فكم تمنينا ان تنهض هذه الثقافة بعبء السياسة لتنضبط السياسة بمعايير الثقافة وشروطها ؟! وكم انتظرنا المجلة السياسية المتبلورة في حقل الثقافة ، والتي لا يمكن ان تفصل الثقافة عن السياسة في الظروف الراهنة ، مع ان أزمتنا القاتلة - في ( العراق نموذجا ) - هي الهيمنة المطلقة للسياسي المتحجر على المثقف المتنور ، حتى إذا دخل العراق ، وشعبه ، ومستقبله في مرحلة كارثية بكل معنى الكلمة لم نعثر على الثقافة السياسية لا في الخطاب ، ولا في الممارسة ، باستثناء نسبي للشيوعي العراقي واليسار الإسلامي " كحزب الدعوة " وقد اكتشفنا بعد عقدين من الزمن خارج العراق ان خطاب المعارضة لا يستطيع الخروج من نمطه السائد ، الذي يتجنب الحوار والنقد ، وان الممارسة السياسية قد حرفت عبر كل الاتجاهات ، حتى كأن المعارضة التي تريد ان تكون بديلا للسلطة لا تزال تعتبر السياسة مصدرا للثقافة وليس العكس !! وإذا اعترف بحق الأدباء والكتاب والفنانين في المنتوج الثقافي المطبوع ، أو عبر وسائل الإعلام المختلفة ، فإنني أحاول الاحتجاج معرفيا معلنا ان معركة المثقف عامة ، والعراقي خاصة ، في ظروف المحنة القاسية الحالية ، هي اقتحام السياسة بقوة المعرفة والوعي في إطار مساهمة واعية لتطوير العقل السياسي العراقي ، الذي لا يزال وهو خارج السلطة يحاول قطع الطريق على أية محاولة للنقد ، أو الحوار !! فإذا كان تجاوز المرحلة الراهنة يعتمد أساسا على خلق وعي ذاتي ، هو بداية كل وعي ، ومبدأ كل ممارسة ، فلابد ان يكون السياسي مثقفا ليعترف على ذاته ويحل أولا تناقضات وعيه وتمزقاته الذاتية ، لأن الخروج من شقاق الواقع وفوضاه ، أو على الأقل من التخبط الأعمى في هذا الواقع " برهان غليون – اعتقال العقل – ص41 " .
ان منطق الحرب السجالية ، ومنطق التصفية المتبادلة ، والاتهام الجاهز ، ووسائل التسقيط والتشهير ، وفنون الادعاء والحيازة والتعالي ، المكدسة في خطاب المعارضة تقنع المثقف بصعوبة تجاوز أزمتنا السياسية في المستقبل ، بل تؤكد له استحالة الانتقال بالسياسة من حيز النزعة الغرائزية الى حيز العقل ، لأن هذه الأشياء تجسم وبشكل فاقع منهج إلغاء الثقافة كنبع للإبداعات والتجديدات الذاتية ، وهو إلغاء للعقل والحرية في آن واحد ، وهذا سيؤدي حتما الى إغلاق أفق أي تغيير فعلي ، ومن هذا فإن تحرير العقل وتوسيع دائرة النقاش والحوار العقلي هي سياسة لا يمكن صناعتها إلا في حقل الثقافة ، وقد حان الوقت لأن نسمي الأشياء بأسمائها ، ونستنكر السياسة التي تتشكل على طريقة تدمير الثقافة وتخريب مفهومها ، ان المثقف هو سياسي لأنه يمتلك وعيا متقدما ، لكنه عندما لا يمارس السياسة ، أو يقتحمها بسبب حالات العزل والتهميش والإقصاء التي تواجهه ، فان هذا الإلغاء ( شبه السائد ) لا يصح ان يكون مبررا نهائيا كي يكفر المثقف بالسياسة ، ويشتغل بأدواته المعرفية بعيدا عن مجال السياسة ، لأن هذه الحالة أدت لأن تكون السياسة مهنة سهلة للنفعيين ، والانتهازيين ، وبالتالي شجع جو الأزمة المتفاقمة على انحطاط السياسة ، التي سقطت بأيدي الفئات الخاصة لتستخدمها في تحقيق مصالح جزئية ، هي بالتأكيد ضد مصالح العامة ، على ان ارتباط الثقافة بالعقل والضمير هو الذي يرهن مصلحة المثقف بمصلحة وطنه ، في حين ان إبعاد المثقف سياسيا ، ونفيه بعيدا عن ممارستها ، هو الذي فتح لأصحاب المصالح الجزئية والأنانية أوسع المجالات لتحقيق أهدافهم ومصالحهم التي تتناقض مع المصلحة الوطنية ، ومن يدري فقد يؤدي انسحاب المثقفين المتزايد من مواقعهم الضرورية في الساحة السياسية ، تحت وطأة الضغوط المختلفة ، وأساليب النفي التي تبدأ بحملات التشكيك ، والطعن بالإنكار ، ولا تنتهي بأساليب التجويع المتعمدة ، قد يؤدي الى ان يخرج مصير الوطن من أيدي أبنائه ، ليصبح بأيدي أولئك الذين يظهرون مهارة فريدة في تغليب مصالحهم الخاصة ، قد يخسر المثقف حتى لقمة عيشه وهو في المنفى بسبب من هيمنة السياسي على الإعلام ، ومصادر المال ، وجواز السفر ، لكن هذه الخسارة ضرورية ، بل يجب ان يقبلها المثقف برغبة شديدة ، لكي يثق وبشكل مطلق ان الثقافة والضمير مرتبطان مع بعض ، كارتباط الذات بالتراب ، أو الهوية بالوطن فعندما تتحول الخسارة عند المثقف الى راحة ضمير ، وتتحول المصالح الخاصة للسياسي الى مواقف سلبية شاملة ، متجسدة في رفض العقل ، ورفض الآخر معا ، فعندئذ يكون المثقف قد انتمى بقوة الى ذاته ، وإذا اعتبرنا ان مبرر الثقافة ومحور نشاطها قبولها للتحدي ، فلا بد ان يخوض المثقف معركته التي تأخر كثيرا عن خوضها ، إذ ان ترك الثقافة وهي تسحق مرتين ، مرة من قبل السلطة ، وأخرى في المنفى ، ستضع المثقف وجها لوجه أمام ظاهرة خطيرة ومرعبة ما دامت السياسة قادرة على تدمير الثقافة مرة بالقوة ومرة بالحيلة .
السياسة العاقرة
السياسة هي الحقل الفكري والعملي ، الذي يقوم بإنتاج السلطة الشرعية ، ووضعها في التداول كتعبير عن إرادة الجماعة وسيادتها " السلطة ومضادها الذاتي ، سالم الشمري ، بحث في مجلة دراسات عراقية ، العدد 1 ، 1996 ، ص23 " فهي إذن تنطلق من آفاق الفكر ، والفكر من نتاج العقل ، وعندما تتحول السياسة الى فن المناورة والتلاعب عن طريق إنتاجها خارج حقل الفكر ، أي عندما تنعكس عن ردود أفعال ، ومواقف ، وتوجهات لا تتصل بالوعي والضمير ، فان هذه السياسة ليست بالأساس ، ولا بالضرورة ثمرة لتفكير عقلي ، ولا هي أيضا ناتجة عن تأمل أخلاقي ، مثلما هي كذلك ليست انعكاسا لتأمل أيديولوجي ، ولشدة طغيان هذا النوع من السياسة ، التي عملت على تدمير الروابط الوطنية ، وإمكانية الحوار والتسامح ، فقد تراجعت القيم والمبادئ الوطنية ، نتيجة استخدامها السوقي لغايات الصراع الفئوي ، وأدى هذا كله الى زوال العام ، وصعود الخاص ، وتحولت الأفكار والمبادئ التي يعلن السياسيون الانتماء إليها ، الى وسيلة لإضفاء نوع من العقلانية والشرعية على السياسة غير العقلانية وغير الشرعية ، ولهذا سادت ردود الأفعال اللاواعية في السياسة ، وفقدت الأخيرة أي معنى لها بسبب استمرار إنتاجها خارج إطار العقل ، وبعيدا عن نظم التفكير ، على ان هذا النمط من السياسة ، ظل يتمسح بها عندما تدعو الحاجة الى التشبث بالثقافة ، وفي نهاية المطاف استطاعت هذه السياسة تسويق ثقافتها الرثة ، التي هي حشد كبير من التبريرات الكاذبة ، التي تعمل على حجب الحقائق وتضييع جوهرها .
ان العقل الإنساني يطل من الثقافة ، فيما تعمل السياسة المتحللة من الثقافة على مصادرة العقل وتحطيمه ، ولما كانت عملية التغيير هي افتراض رفض الواقع ، فإن هذا لا يتحقق إلا باستفزاز العقل والاعتماد عليه ، وطالما ان عملية التغيير تتطلب أساسا إبداع حلول جديدة تعيد تركيب الواقع ، فإن الإبداع من اختصاص الثقافة ، ولهذا تجهد الثقافة في إطار وظيفتها الريادية ، على ان يكون لوعي الإنسان وإرادته ، سواء كان فردا أم جماعة ، دور في هذا التغيير ، بينما تلجأ السياسة الى استخدام الثقافة كخدعة لأجل إلغاء الديمقراطية ، وتحطيم ذاتية الإنسان وكرامته ، حتى إذا انكفأ هذا الخطاب في جانب كبير منه وترهل عاد ليهاجم قضايا عقلية وبديهية ويشكك بمسائل ثابتة .
ان السياسة التي تتماهى مع الشعارات ، فيما هي تتحايل على القضايا العادلة ، كالحرية ، والديمقراطية ، واحترام الرأي الآخر ، ومشروعية التعددية ، لهي سياسة تحتمي بذات المفهوم الذي تقف ضده ، وتعمل على تدميره لصالح منهجها الأحادي ، فيما شكلت هذه العملية إزاحة مستمرة للثقافة من ميدان السياسة ، ولهذا لا نستغرب إذا استمرت هذه السياسة في الانشغال بقضايا هامشية ، رغم شدة استهلاكها للشعارات الوطنية ، فسياسة لا تخدم ذاتنا الوطنية ، وأهدافنا العليا ، لا يمكن ان تتآلف مع ثقافتنا ، أو تنبع منها ، لأن ممكن هذه الذات وسلاحها هو الثقافة ، وطالما ان بناء الذات هو بناء الثقافة ، أي الوعي والعقل ، فمن المستحيل ان تكون هذه السياسة مع الوعي والعقل ، ولهذا نلمس من نتائجها هذا التمزق والتناحر ، لأن الاختلاف السياسي الحاصل ليس له صلة إطلاقا بقضايا الوعي الوطني .
إذن ليس التشبث بالشعاراتية المفرطة ( كما يحدث في الفترة الأخيرة ) هو محاولة للخروج من السياسة التي تنفي الثقافة ، كما ان المناورات التي تطالب بتأجيل النقد ، وتعطيل الرأي الآخر الى ما بعد سقوط النظام ، لم تستخدم هذه الحجة لتقديم الضروري على غير الضروري ، ولحد الآن ما تزال السياسة منشغلة بإلغاء المنافسة السياسية للمشروع عبر حيازة ( شرعية ) غير جائزة ، وغير ممكنة ، ان لم تكن مستحيلة ، على ان الانشغال الأعمى في المكاسب الفئوية ، والحصص الشخصية أدى الى نشوء بيروقراطية لقيطة ، تحاول قطع الطريق على أية محاولة لنقد ممارستها ، و( تاريخها ) لأن ذلك برأيها يكرس استمرار احتفاظها بالسياسة العاقرة التي تتواصل على قاعدة استمرار عجزها .
لا ثقافة لسلطة الموت
لم تكن السلطة في العراق سوى نكوص هائل نحو القرون الوسطى ، بل حتى نماذج القرون الوسطى قد تكون اقل دموية من بعض هذه السلطات المستبدة ، وهمجيتها المفرطة ، وسلطة تعتقد بالتصفيات الجسدية والمقابر الجماعية والإبادة الشاملة كحل نهائي ، من اجل ان يبقى الحكم متاحا للسفاح ، هذه السلطة لا يمكن ان تكون لها علاقة بالثقافة ، أو الحياة ولذا نستغرب جدا ان تنسب لهذه السلطة ( ثقافة ) .
الثقافة تعني الفنون المتطورة للموت الجماعي ، في حين ان الثقافة بمفهومها الرحب هي ابعد ما تكون عن الموت ، واقرب ما تكون الى الحياة ، والتجدد ، والإبداع .
فعقلية السلطة المغلقة على الموت ألغت كل مظاهر الحياة من حولها ، فأصبحت لا ترى شيئا في هذه الحياة الجميلة الكبيرة ، إلا ان تكون دكتاتورية مطلقة للسلطة بدون منافس ، ففاقد الثقافة لا يخدمها ، وفاقد العلم ضد العلم ، وفاقد الرتبة العسكرية عدو التدرج الأكاديمي العسكري ، ولهذا انتقم النظام من الذين يحملون مؤهلات علمية ، وأكاديمية ، لا لشيء إلا لأنه فاقد لكل ما يتمتع به الضحايا ، ومن يقلب سلوك هذا النظام ، وهو يدجج أكتافه ، وصدره بأعلى رتبة عسكرية في العراق ، والنياشين الحربية من الدرجة الأولى ، ويمنح نفسه شهادات القانون ، والحقوق ، فقد يلمس فورا مدى الواقع القاسي لعقدة الانحطاط حيث ظلت التصفيات الدموية منهجا ثابتا في سلوك شخصية معبأة بنزعة الإلغاء ، وان غياب مسؤولين كبار وقادة عسكريين ومفكرين وأدباء وفنانين ، وانكفاء السلطة على حلقة ضيقة من المتخلفين والأميين والجزارين هو النتيجة الطبيعية لواقع محكوم لعقلية متحجرة ، تحاول ان تصنع العسكري والسياسي وفق الأسلوب الذي قذف بالهارب من الخدمة العسكرية ورئيس عصابة الاغتيالات ليكون في أعلى هرم السلطة .
ان النظام يجد متعة شديدة في تعتم ذاته ، وإعادة إنتاج نموذجه في إطار مشهد يجسد انتصار التلف ، وهزيمة التطور انتصار العصابة ، وهزيمة الدولة غلبة الجهل واندحار الثقافة ، والعلم ( ان صفارة الإنذار تدق منذ اكثر منعقدين ولا تزال تدق ) هذه السلطة ليس لها صلة إطلاقا بالثقافة ، وكيف تكون لها ثقافة ؟ وأي ثقافة هذه التي تخترع ابشع أساليب الإرهاب والقتل الجماعي ( مجلة دراسات عراقية / سالم الشمري ) .
وباعتقادنا ان ثقافتنا الوطنية هي كتلة من الشعور المندفع نحو التغيير ، والتطلع الى وطن خال من الظلم ، وإذا لم تتوفر الفرصة لترجمة هذا الشعور سلوكيا ، عبر مظاهر الرفض المختلفة ، فانه يبقى رفضا مكبوتا داخل النفس ، وهذه أدنى مسؤولية يستطيع ان ينهض بها المثقف .
ان الثقافة كانت ولا تزال خارج السلطة ، ولا ثقافة لسلطة تلتهم البشر ، على ان خروج ثلة من رموز الفكر والثقافة الى الخارج أكدوا بشكل حاسم قدرة هذه الثقافة على البروز في الساحة العربية ، والدولية ، حيث فرضت نفسها بقوة ، كدليل على هويتها وثرائها واقترانها بالحرية ، وعندما تبرهن هذه الثقافة على استحالة تعايشها مع نظام الموت فإنها بالتأكيد لا تتشكل إلا خارج حدود هذا النظام ، وبعيدا عن مراقبته ، وإذا حدث ان استسلم أحد الكتاب ، أو الأدباء ، أو الفنانين ، للسلطة فلا يعني هذا أبدا استسلام الثقافة ، لأن الكاتب ، أو الأديب ، أو الفنان ، قد يصاب بموت الضمير ، لكن الثقافة هي الضمير الحي والعقل المنفتح .
مسك الختام
إذن ، عندما تكون السلطة ضد الثقافة ، وبعبارة أخرى عندما تكون سياسة الاستبداد نقيضا كليا للثقافة ، فإن المعارضة السياسية لهذه السلطة ستكون اشد التصاقا بالثقافة ، ان لم تتبلور من داخلها ، أي تنبثق من الوعي الذي يسعى الى تغيير الواقع ، وتركيبه بصيغة جديدة متآلفة ومنسجمة مع الانفتاح ، والتعددية ، وحرية الرأي ، والحوار .
وحتى لا نشذ عن القوانين الديالكتيكية التي تنظم سير الحياة والتاريخ ، فغياب الثقافة لن ينتهي إلا برجوعها ، ليس كما كانت بل بعد ان اكتسبت رؤى جديدة أخرى ، أقول لأجل هذا يفترض بخطاب الأحزاب وممارستها الآن ان يتضمنا قدرا كبيرا من هذا الانفتاح ، والحوار ، وقبول الرأي الآخر ، أي ان يكون الخطاب والممارسة نابعين من صميم الثقافة ، التي استمرت خارج حدود النظام ، وبعيدا عن مراقبته ، وعندما يتراجع الحوار ويحاصر الرأي الآخر في الوطن أو في المنفى ، فهذا يدعونا الى المطالبة الشديدة بان تكون الثقافة فوق السياسة ، وليس العكس ، لأن استمرار هيمنة السياسة سيؤدي تدريجيا الى إزاحة الثقافة .