|
فلسفة الوقت في حياتنا
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7472 - 2022 / 12 / 24 - 11:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قالت العرب قديما : الوقت كالسيف ، إن لم تقطعه قطعك . و هو تشبيه ، يبدو لي ، يعبّر عن مدى أهمة الوقت و قيمته في حياة الإنسان . و لو قمنا بعمليّة حسابيّة عن عدد الثواني و الدقائق و الساعات و الأشهر و السنوات التي يعيشها الإنسان ، لخرجنا برقم ينفي و يعاكس كل ما نعتقده من تقديرات لعمر الإنسان الحقيقي . فإذا كان عمر المرء قبل إهالة التراب على وجهه ، نصف قرن ، فلا بد من تقسيمها – على الأقل – إلى جزأين أو زمنين . زمن اليقظة و زمن النوم . هل يمكن حساب الزمن الذي يستغرقه الإنسان نائما ، بما أن النوم هو موت أصغر - زمنا حياتيا ، و هو زمن يكون في المرء غائبا عن عالم الإدراك و الشهادة و الوعي . قال تعالى في شأن أهل الكهف " كم لبثتم ؟ قالوا ، لبثنا يوما أو بعض يوم " ( الكهف / 19 ) . لكنّ الحقيقة أنّهم ناموا ثلاثة قرون و تسع سنوات . و هذا يعني أنّ النائم منفصل انفصالا كليّا عن الحياة و اليقظة و العقل و الشعور . إنّ الإنسان ، لا يعيش سوى نصف عمره البيولوجي .أو ربّما أقل مه ، إذا شخصا نؤوما ، أو أكثر منه قليلا إذا كان شخصا قليل النوم ، نشيط الفكر و الحركة . و هذه حقيقة ، نحن غافلون عنها في خضم سيرورة الزمن . إذن ، الوقت سيف على رقابنا . وحب علينا الحرص عليه ، و الاحتراس من نفاده في عوالم الفراغ . إن بناء الحضارات و رقيّها و اتّساعها ، قائم على عنصر الوقت . و هذا ما أدركه أسلافنا ، و استغلّه الغربيون في هذا العصر . فإذا كانت بعض المجتمعات المتخلّفة ، مازالت تقدر المسافات بين الأماكن بالمتر و الكيلومتر و الميل ، فإن المجتمعات المتقدّمة ، قد انتقلت – منذ زمن بعيد – إلى التقدير الزمني ، فصارت الأبعاد تُحسب بمقياس الزمن و حجم الوقت . أي بمقدارالسرعة و البطء ، في الحركة و الفعل ،و الإنجاز . كم من المرات ، عانيت ، كما عانى غيري ، من سرقة وقتي ، و إهداره دون إرادتي ، و دون رضا مني . لعلّها أكثر من أصابع اليدين . كنت أعشق السفر على متن القطار ، لأنّه – حسب قناعتي – يمنحني فرصا كثيرة ، لا أجدها في ركوب السيارة أو الحافلة ، لكنّني أستمتع بها في القطار ، و منها ، راحة نفسيّة و متعة بصريّة ، حين يعبر بي القطار الأنفاق و الفجاج و مناظر الطبيعة الخلاّبة . لكن ، كان هناك أمر يؤرقني دوما ، فأفكّر في هجر السفر بالقطار . مرات عديدة كنت في محطة القطار ، في بلدي السائر نحو النمو - بمنطق رجال السياسة - أنتظر قدوم القطار ، و أنا حريص على عدم تبديد وقتي الثمين في الشوارع المزدحمة بفوضى الناس و المركبات الصغيرة و الكبيرة ، و في محطات الحافلات و القطارات . فإذا بي أفاجأ بأنّ القطار – الذي أنتظره – قد يتأخر مدة من الزمن ، بأسباب كذا و كذا ، و هي أسباب غير مقنعة ، لأنها غير منطقيّة . و الأمر أيضا ، يحدث في مطاراتنا . تتأخر الطائرة عن الإقلاع ، بربع ساعة أو نصف ساعة ، و هذا يعني تأخر في الوصول إلى الوجهة الداخليّة أو الخارجيّة ، و الحجج ، غير المقنعة ، نفسها . أسباب تقنيّة أو لوجستية ، او مناخيّة أو غيرها من الأسباب الواهية . و لا يجد المسافر إلا كلمات اعتذار من المكلّفين بالإعلام في المطارات . معضلة الوقت ، عندنا - نحن العرب ، و معظم دول الجنوب - و كيفيّة التحكّم فيه و تسييره و استغلاله ، معضلة حقيقية ، شديدة التعقيد . رغم علمنا من الكتاب و السنّة و سيرة الأسلاف ، أنّ الوقت ركن أساسيّ و حاسم في بناء الحضارة . فقد علّمنا القرآن الكريم أنّ ترتيب شؤون حياتنا اليوميّة مرتبطة بالوقت . فأداء الفرائض و الأركان قائمة على وجوب مراعاة الوقت . " إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " ( النساء / 103 ) ، و كذلك أخذ الزكاة مرتبطة بدوران الحول ( السنة ) ، و كذلك الصوم فهو مرتبط بالزمن " شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن " ( البقرة / 185 ) ، و أيضا مناسك الحج ، فإنّها تؤدى في أوقات معلومة ، و هو شهر ذي الحجة من كل سنة . كما أقسم الله تعالى بالوقت ، " و الضحى * و الليل إذا سجى ." ( الضحى / 1 ، 2 ) و " الفجر* و ليال عشر .." ( الفجر / 1 ، 2 ) و " العصر * إنّ الإنسان لفي خسر .. " ( العصر / 1، 2 ) . و قد نبّهنا الرسول صلى الله عليه و سلم إلى أهميّة الوقت في حياتنا الدنيويّة ، و ما ينتج عنه من فوز أو خسران في الآخرة . فالمرء سيُسأل عن شبابه و عمره فيما أفناه و أبلاه ، لأنّه مكلّف و مسؤول عن الوقت الذي مُنِح إيّاه ، مادام عاقلا ، و راشدا و مميّزا و حرّ الفكر و الجوارح . حياة ابن آدم ، محصورة بين أزمنة ثلاثة ؛ زمانان أرضيّان ؛ هما زمن الميلاد و زمن الموت ، و زمن أخرويّ ، غير معلوم البداية و النهاية - عند الإنسان - هو زمن البعث و النشور . إنّنا نتعامل مع الزمن ( الوقت ) ، بأسلوب ، فيه الكثير من السذاجة و التواكل و الإهمال . و هذا صديقي ، قد حكى لي حادثة جرت له بألمانيا ، حين كان طالبا في إحدى معاهدها ، و كان حديث عهد بالمجتمع الألماني ، و اضطرته ظروفه الماديّة و الاجتماعيّة إلى العمل في وظيفة ما . فقد وبّخه صاحب العمل ، و هدّده بالطرد من الوظيفة ، لأنّه تأخّر دقيقة واحدة في المرّة الأولى ، و خمس دقائق في المرّة الثانيّة و عشر دقائق في المرة الثالثة . قال له صاحب العمل - و هو كهل ألمانيّ قحّ يسابق الزمن من أجل صون شرف ألمانيا و ازدهارها - أنّ الدقائق الضائعة هي بمثابة القطرات التي تفضي إلى الطوفان عند غزارتها . فتضييع الدقائق – حسبه – مقدّمة نحو تضييع الساعات . لأن تضييع القليل سيؤدي لا محالة إلى تضييع القليل ، و أنّ الطوفان يبدأ بقطرة ماء . و هذا ما سيفلس معمله ، و يعيّب أرباحه ، فضلا عن تآكل رأس ماله . و لم يكن صديقي ، كما اعترف لي ، يعلم أنّ حساب الدقيقة في ألمانيا - و ربّما أوربا و اليابان و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا – يضاهي حساب يوم أو بعض يوم في بلاده . فإنّ العامل في بلادنا – نحن أهل الجنوب العاشقين للتأخر و المتيّمين بالعطل المرضيّة و غير المرضيّة – يعامل الوقت حسب هواه . فسيّان عنده التأخر أو التقدّم . فقد أوتي من العبقريّة و الذكاء و الفطنة الشيء الكثير . عبقريّ و ذكيّ و فطن في تطبق نظريّة في الوقت على غير معناها الحقيقي و مقتضياتها ( في التأني السلامة و في العجلة الندامة ) . فقد تحوّل التأني ، الذي يعني الرزانة و الحكمة في إدارة الوقت ، إلى إهمال و تأخّر مشينين و تسيّب . فبات الموظف ، عندنا ، لا يلتفت إلى قيمة الوقت ، و لا يهمّه حجم استغراقه في إنجاز مشاريعه الفكريّة و الاقتصاديّة . فإذا بنا نجد أنّ مشروعا ما تحدّد مدّة إنجازه في الدراسة التقنيّة بسنة أو سنتين أو أكثر – مثلا – و لكنّه على أرض الواقع يمتدّ على سنوات إضافيّة أخرى . و قد رأيت ، بعض المشاريع الاقتصاديّة و الاجتماعيّة الهامة ، تُدشَن بعد خمس أو عشر سنوات من عمر إنجازها االمرسوم على لوح البيانات . هذه أمثلة ، رصدتها من واقعنا المعيش .. إنّ الوقت في حياة الإنسان رأسمال مال لا يعوّض ، كما قيل في الحكمة العربيّة : " الوقت من ذهب ، فإن فاتك ذهب " . " لا تؤجل عمل اليوم للغد " فلسفة الوقت في حياتنا المعيشيّة ، خاضعة – للأسف – لمنطق التعويض و التأجيل . فمهما حاولنا إقناع عقولنا بهذا المنطق ، فإنّنا لن نفلح . لنأخذ مثالا لذلك ، فلو أخذت مني حبّة برتقال ، ثم قيل لي : خذ أخرى بدلا منها و تعويضا عن فقدانك للأولى . هل ستكون مثلها في المذاق و النضج ؟ كلا ، لا يمكن ذلك ، و إن تشابهتا في اللون و الحجم و النوع . كذلك الوقت ، في حياتنا ، لا يمكن الادّعاء بأنّنا نعوّض الوقت الضائع منّا . لأن سلسة التدفق الزمني لا تعرف الفراغ ، و لا ترتدّ إلى الوراء ، و لا يوجد فراغ بين الماضي و ما نطلق عليه زمن المستقبل . لأن فلسفة الحاضر ، هي تلك نقطة الاتّصال بين ما مضى ، و ما هو آت .. مازلنا ، للأسف الشديد – لم ندرك قيمة الوقت في حياتنا ، و لم نعِ حقيقته و فلسفته و حكمته . نحن نتعامل معه الوقت بسذاجة . نحسِب طول المسافات أو قصرها ، و نهمل حساب حجم الوقت في قطعها . نلتحق بوظائفنا متأخرين عن الموعد المحدّد ، و نغادرها قبل نفاد الوقت المحدّد . نقضي مصالحنا الشخصيّة على حساب المصالح العامة . ننام أكثر من المطلوب . نجلس في المقاهي لساعات . فإذا مررت بمقهى ، اعتقدت أنّ روادها – الذين تركوا مكاتب العمل - في عطلة . يقول لك أحدهم ، انتظرني ، سأعود بعد خمس دقائق ، فيعود بعد ساعة أو أكثر ، و يتواعد معك أحدهم على اللقاء على الساعة الثامنة صباحا ، فيأتي بعد الظهر ، أو لا يأتي مطلقا . و عندما تسير بسيارتك في مدننا الكبرى ، تجد نفسك محاصرا من كي جانب بجحافل الزحام المروري ، و تضيع منك الدقائق و الساعات . و عندما تقصد مصلحة إداريّة ، تصدمتك سلوكات بيرقراطيّة لا طائل منها . و في أغلب الأحيان تجد نفسك ، أيضا ، منغرسا في طابور ، من أجل ابتياع ما يلزمك من أساسيات غذائيّة . و ذات مرّة ، سألت صديقا لي هذا السؤال : - هل فعلا ، نحن نعيش حياتنا حسب عمرنا البيولوجي الممتد من لحظة الميلاد إلى أجل الممات ؟ - قال متعجّبا : و هل عندك شكّ في ذلك ؟ - قلت ، بلى . نحن نعيش أقل من عمرنا البيولوجي . - كيف ذلك ؟ - سأحسبِها لك كالآتي : إذا كان عمرنا البيولوجي ثمانين سنة ، فنصفها ( أي أربعون سنة ) نقضيها في النوم . و تبقى لنا أربعين سنة ، و هي مجزأة بين الحزن و الفرح و الانتظار في المحطات و الطوابير و ربّما الاعتقال أو الإقامة الجبريّة . فلو قدّرنا مدّة حياتنا الحقيقيّة ، فلن تتعدى بضع سنوات . - هذه ، فلسفة جديدة ، لم أعهدها ، يا صديقي . هذا مثال ، أوردته ، لبيان ماهيّة الوقت و قيمته في حياتنا . و ليدرك المرء العاقل ، أنّنا في مجتمعاتنا الجنوبيّة و الشرقيّة ، المتخلّفة ، و السائرة نحو النمو ، نعاني من معضلة الوقت . و أعود ، و أكرّر ، إنّ الحضارة لن تقوم لها قائمة في أرضنا ، ما دمنا ننفق الوقت في توافه الأمور ، و نهدره دون وازع عقلي ، و نعامله معاملة الذكر للأنثى .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
-
التعليم قبل الديمقراطيّة .
-
أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
-
بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
-
أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 7 )
-
قمّة المناخ في شرم الشيخ وما تنتظره البشريّة منها .
-
أكتب لكم من الجنوب ( 6 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 5 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 4 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 3 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 2 )
-
أكتب لكم من الجنوب
-
ليلة إلقاء فاطمة بيدار في نهر السين
-
حديث عن أم ريفيّة ( 5 )
-
موسم الهجرة نحو الجنوب
-
متى تعتذر فرنسا عن تاريخها الأسود في الجزائر ؟
-
جوع في الجنوب و حرب في الشمال
-
ظاهرة العنوسة في المجتمعات العربيّة ... تلك القنبلة الموقوتة
...
-
حديث عن أم ريفيّة ( 4 )
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|