|
فعلُ الخير ليس مشروطًا
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 7470 - 2022 / 12 / 22 - 06:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي
الإنسانيةُ غيرُ المشروطة منبعُ كلِّ خير يقدمه الإنسان لكلِّ مخلوق. طاقةُ الإنسانية غيرُ المشروطة تضيء العالَم بأجمل ما يمتلكه الانسان. الإنسانيةُ غير المشروطة على الضد من إنسانية مشروطة تحصرها بهوية أو معتقد أو دين أو أيديولوجيا أو قومية أو جغرافيا أو ثقافة محلية، وأمثالها من شروط وقيود وأوصاف تسجنُ استعدادَ الإنسان لفعل الخير وتضعه في حدودها. مَنْ هو محتاجٌ للإغاثة والحماية والدعم والرعاية والرحمة يستحقها، بغض النظر عما تفرضه الهويات الاعتقادية من حصر فعل الخير ووضع أسوار تحدده في اطارها. في الإنسانية غير المشروطة يُنظَر إلى حاجة المخلوق ويغاث تلهفه، ولا ينظر إلى مَنْ هو المخلوق ولا إلى هويته. مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحو لا يصدقُ عنوانُه وفقًا لمعتقده إلا على مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسان مختلف في المعتقد. فعلُ الخير في نظره يصدقُ على عنوان الهوية الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه وضميرُه الأخلاقي ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداة تُستخدم لأجل العقيدة، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرض معين. مَنْ يتمسك بمعتقد انحصاري يجعل الغايةَ معتقده، الإنسانُ ليس غايةً، الإنسانُ أداةٌ لتحقيق ما تفرضه عليه هويتُه الاعتقادية، لذلك لا يفعل خيرًا من أجل الإنسان بما هو إنسان، وإنما يفعل الخير من أجل المعتقد الذي يحدد له مَنْ ينطبق عليهم عنوانُ فعل الخير من البشر، وهم كلُّ مَنْ يعتقد بمعتقده خاصة من دون غيره من الناس.كلُّ شيء يفعله لا يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا موضوعًا للتكريم والاهتمام والاحترام، وإنما يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا يعتقدُ بمعتقدٍ معين موضوعًا، فالتكريم والاهتمام والاحترام يبدأ بالإنسانِ الذي يشترك معه بمعتقده، وينتهي عندما لا يكون الإنسانُ مشتركًا معه في الهوية الاعتقادية. يكتب ابن تيمية: (وأمّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلّ لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا"، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالُهم مملوكةً لهم ملكًا شرعيًا، لأنّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان.. والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها ملكوها شرعًا، لأنّ الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم) . الغريبُ أن الخطابَ في الآية القرآنية التي استدل بها "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا" يشمل كلَّ الناس، ولم يختصّ بالذين آمنوا، فكيف يُستدلّ بها ويحصرها بالمؤمنين خاصة. الاستدلالات من هذا النوع الغريب الذي يقرأ الآيات في ضوء معتقد المفسّر والفقيه في مدونة التفسير والفقه لمختلف المذاهب ليست قليلة. في ضوء مفهومي لـ "الإنسانية الإيمانية" يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في حماية كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا بغض النظر عن معتقده ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعى يعمل على بناء الحياة، باستثمار قيم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريس ما يسعد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقد أو الهوية أو الثقافة، وغيرها. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدق حينئذ على كلِّ مسعى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير. فعلُ الخير في "الإنسانية الإيمانية" موضوعُه الإنسانُ من حيث هويته الإنسانية لا غير، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفات إضافية أيديولوجية واعتقادية وعرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على هويته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هويته أو إثنيته، حينئذ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل عقيدة الإنسان. في "الإنسانية الإيمانية" العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه واسعاده. في "الإنسانية الإيمانية" يقترن الإيمان بالعمل الصالح، فقد وردت كلمة الصالحات 180 مرّة في القرآن الكريم، وجاء العمل الصالح ملازمًا للإيمان في 75 موردًا في القرآن، وذلك يشي بأن الأثر الطبيعي للإيمان هو العمل الصالح، ففي "المواضع التي يذكر فيها القرآن الذين آمنوا يقرن بينهم وبين العمل الصالح بشكل صريح، فيما يقرن الإيمان بألوان من الرؤى والقصد والسلوك في المواضع الأخرى، يجسد العمل الصالح روحها، ويمثل مادتها التي تتقوم بها، فإن أركان الايمان، وثمراته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، كلـها تأتلف مع العمل الصالح متواشجة في منظومة واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلى لنا ذلك بوضوح عندما نتأمل الآيات التي اقترن فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح، فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمعطى للإيمان" . الإنسان يكون صالحًا بقدر جهوده وأثره وثمراته الطيبة في الحياة، وبما يقدمه من عطاء يجعل العالَم أجمل. العمل الصالح معنى عام يصدق على كل جهد يعمل على بناء الحياة، وكل ما ينفع الناس ويحل مشكلاتهم ويسعدهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف معهم في المعتقد والهوية والثقافة، "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"، الرعد، 17.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي
-
مفتاحُ تفسيرِ الكتاب الكتابُ نفسُه
-
للإنسانِ في القرآن الكريم بُعدان
-
حدود الديني والدنيوي
-
مَنْ ينسى الفلسفةَ تنساه أعيادُ التاريخ
-
ايقاظ النزعة الإنسانية في الدين
-
الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم
-
اقتصاديات الكلام
-
مفهوم الاغتراب الميتافيزيقي
-
الخلاصُ من احتكارِ الخلاص في علم الكلام الجديد
-
يولَدُ الإنسانُ مُكرّمًا ولا يكتسبُ الكرامةَ بعدَ ولادته
-
الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم
-
الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)
-
هاني فحص: روحانية متسامحة في زمن الطوائف
-
مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش (2)
-
مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش
-
نسيان الله في تفسير حسن حنفي
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 8
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 1
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 7
المزيد.....
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
-
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|