حازم إلياس
الحوار المتمدن-العدد: 1699 - 2006 / 10 / 10 - 08:10
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عندما قرأت ـ قبل عامين تقريبا ـ روايتها الأولى "بحر الصمت"، تفاجأت كثيرا بتلك اللغة الغارقة في الشعر و الثورة و الإدانة الصريحة و بذلك النفس الأدبي الذي فتحني مرة أخرى على عالم الأدب الجزائري الحديث المكتوب باللغة العربية. ياسمينة صالح من جيل الاستقلال. جيل لا "يعرف الاعتذار" كما تقول على لسان بطلها السابق في رواية بحر الصمت.. جيل يتيم جدا في وطن ينهار و يتكسر أمام أعين أبنائه، كما تقول على لسان بطلها الثاني في روايتها الجديدة وطن من زجاج. ياسمينة صالح لا تعترف بالمقدمات أيضا، و تعتبر التاريخ قالبا جاهزا للتزوير، بحيث ليس هنالك حقيقة مجردة داخل تاريخ يكتبه أولئك الذين يزيفون الوطن أساسا، و يضحكون على الشعوب و يقتلون أحلامهم بالجملة أو بالتقسيط. و التاريخ الذي يكتبه الشهداء لا يمكن قراءته خارج الشهادة التي يختارونها. بهذه التلميحات الثورية، و بلغة شاعرية و ثائرة تفتح لنا الأديبة الروائية الجزائرية ياسمينة صالح باب الدخول إلى الأدب الجزائري الراهن بعبارة: وطن من زجاج!
لعل القارئ العربي في المشرق العربي تحديدا التقى عبر الانترنت بنصوص متفرقة للكاتبة الجزائرية ياسمينة صالح، و لا أنكر شخصيا أنني توقفت كثيرا ذات مرة أما نصها الذي احترت أين أضعه ضمن التصنيف الأدبي بين الشعر و النثر، و هي التي أسمته لوحة أدبية كي لا تتورط في الدخول إلى معارك أدبية مجانية، و لكن نصها "رسالة اعتذار إلى الرئيس بوش" كان لوحة أدبية مدهشة، يعكس حالة الثورة و الصراع الداخلي بين ما هو كائن و بين ما هو مفروض، بحيث أنها صرخة امرأة في واقع سلبي و مستسلم و انهزامي أيضا.. كان ذلك النص الأدبي نافذة دخولي إلى عوالم ياسمينة صالح الأدبية قبل أن أقرأ روايتها بحر الصمت التي سمعت أنها ترجمت إلى اللغتين الفرنسية و الاسبانية. ما يجب التوقف عنده هو أن لياسمينة صالح حضور أدبي ملفت ومدهش، و غير صاخب في نفس الوقت. هي الأديبة الجزائرية التي تعي أنها تكتب في وطن استثنائي في انكساراته منذ الاستقلال السياسي إلى يومنا هذا. وطن يأكل مبدعيه بكل الأشكال و مع ذلك تصر على "لعنة الكتابة" و تعتبر أن البقاء داخل الوطن جزء من تلك اللعنة التي تشبه القدر و التي لا يمكن التخلص منها إلا بالموت! لهذا تبدو عناوين ياسمينة صالح مرادفة لكل تلك التناقضات التي تحاول أن تطرحها أمامنا. فبحر الصمت كان حالة صراع بين جيلين، جيل الثورة و جيل الاستقلال الجزائري. صراع نكتشف متعته في تفاصيل الرواية بحيث أننا لا نملك غير الانتباه إلى تلك اللعبة الخطيرة التي تمارسها أمامنا الأديبة حين تعلن أن لا مكان لغير الوطن، و أن الوطن سرقوه منا أيضا. فهي صورة تعكس الإسقاطات التي تحرق أصابع الكاتبة و تحرق أنفاس القارئ معا و هي التي تصر في كل رواية على عبارة "نحن أيتام هذا الزمن الكئيب". إنها العبارة التي تكررت في الكثير من النصوص التي كتبتها ياسمينة صالح. بحر الصمت صورة جميلة و حزينة لواقع الجزائر بعد الاستقلال، لصراع بين الأب و ابنته، و صراع بين جيل و وطنه، و بين حلم وسلطة قمعية لا تعترف سوى بالقوة و الإرهاب السياسي و ديكتاتورية البقاء في السلطة على جثث البسطاء و الفقراء. و لهذا لا أحد ينتصر في النهاية، بل يتحول المشهد إلى واقع بعينه ضمن خارطة مرادفة للجرح المزمن و تفاصيل ترسم ملامح البنت الجزائرية و الأب الثوري الذي التحق بصفوف الثوار لملاحقة حبيبة تشبه الوطن. ليجد نفسه قد خسر الحبيبة و خسر ابنته و خسر الوطن. هذه التراكيب التراجيدية في عالم الرواية لدى ياسمينة صالح نكتشفها بشكل مغاير اليوم في روايتها الجديدة: وطن من زجاج الصادرة عن الدار العربية للعلوم ببيروت. فالعنوان يبدو مركبا. الوطن و الزجاج. و لأن الراهن يميل إلى الاعتقاد أن العنوان واقعي إلى أبعد الحدود، نجد أنفسنا ندخل إلى ذلك الوطن الزجاجي لنكتشف ملامح جيل آخر. جيل تقول عنه ياسمينة صالح انه جيل المجزرة. جيل القتل اليومي و سرقة الأحلام و الإهانة الرسمية. جيل تعتبره السلطة" غاشي" و هو مصطلح جزائري يعني "قطيع من الأغنام" و لأن الضغوطات الداخلية كبيرة، حدث الصدام بين الحياة في قمة عريها من جهة و من جهة أخرى بين الوطن/ في قضية سياسية يحملها صحفي يتلمس حدود الجريمة اليومية في الجزائر. جريمة الدولة ضد الشعب، و جريمة الدولة ضد الثوابت و ضد التاريخ. لا شيء متروك للصدفة، كل شيء مهيأ مسبقا للقتل و للقتل المضاد بحيث أن المجزرة صارت المشهد الوحيد الذي يعبر عن صوت الجزائر و عن انكسار الناس. وطن من زجاج هي قصة حب جميلة و متشابكة بدأت في الطفولة، في زمنية الريف الذي صنع بداية الانكسارات الذاتية في نفسية البطل الرئيسي للرواية، إذ أن حبه ولد هناك، بسيطا و جميلا و عاديا. و لكنه انكسر بالرحيل. و للرحيل حضور عميق في تفاصيل الرواية ككل. رحيل الأم و رحيل الأب و رحيل العمة التي كانت انعكاس لكل انكسارات المرأة في تلك القرية الريفية النائية. قصة الحب تلك لا تعترف بالانكسارات اليومية و لا بالتناقضات المشهدية داخل الوطن. حب ولد ليبقى. لهذا على الرغم من مرور سنوات طويلة عاد و استيقظ من جديد. أمام انكسارات وطن. أمام كل الذين كانوا يسقطون فيه. أمام القتل اليومي. أمام سخرية الناس من حزنهم و أمام انتظار الآخرين للموت بالطريقة ذاتها (الاغتيال). الحب ظل حيا و نابضا يجر عربة أحلام جزائرية مستحيلة. حتى أمام الرحيل ظل يؤكد أنه باق. و أنه سيصنع انتصار الوطن برغم القتلة و المجرمين الرسميين الذين ساهموا في قتل الشعب و تحقيره و عزله و تهميشه.
هذه قراءة أولية لرواية غارقة في الحزن و الدموع و الرحيل و الغياب و اليتم الذي يجمع بين جيلين. جيل الثورة (عمي العربي) و جيل الاستقلال (النذير).. رواية تفوح منها رائحة الوطن المغتال، و نزيف الجرح الجزائري طوال سنوات الموت المجاني. هي رواية تستحق التوقف أكثر و تستحق القراءة من جديد، لأنها ترسم بأنامل كاتبة جزائرية مرحلة سوداء من مراحل الجزائر، و لأنها ـ و هذا الأهم ـ تؤكد أن ياسمينة صالح روائية مبدعة و جميلة.
#حازم_إلياس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟